رواية نجم الراضي الفصل الثالث 3 بقلم فاطمه النعيمي

 

رواية نجم الراضي الفصل الثالث بقلم فاطمه النعيمي

 

(#عجوز_الحي) 

كانت الحاجة سعادة تسكن احد الاحياء القديمة في وسط مدينة دير العذراء 
لوحدها في بيت قديم متهالك
كان سياج البيت الخارجي قد انهار جزء كبير منه وباب البيت الخشبي اكله النمل والمطر
ولم يكن لها احد يصلح اضرار بيتها القديم ولم يكن يهمها ان يتم اصلاحه أو لا
فقد بلغت من الكبر عتيا وبدأت شيء فشيء تتخلى عن الكثير من من مقتنياتها البسيطة التي كانت قد حصلت عليها عبر سنين عمرها الخمس والتسعين الماضية
 وقد كانت الحاجة سعادة فقيرة لاتملك الا اشياء بسيطة
مثل بعض الحلي الفضية التي اشتراها ابوها لها ذات يومن في زمن غابر
وبعض اثواب من القطيفة الاسود المطرزة بخيوط من حرير ملون كانت امها قد خاطتهم ونقشتهم لها قبل اكثر من ثمانين سنة حين كانت سعادة في الخامسة عشر من عمرها 
فقد ولدتها امها في هذا الحي الذي يطلقون عليه اسم شعيوتا 
وعاشت طفولتها وشبابها وشيخوختها هنا في هذا البيت حصرا وقد كبرت حتى لم يعد في الحي شخص اكبر منها
كان الناس يشفقون عليها
يحبونها ويحترمونها كثيرا 
لأن ربات البيوت المحيطة بها كلهم بعمر ابنائها واحفادها لو كان لها ابناء او احفاد
وكن نساء الحي يعتنون بها قدر استطاعتهم فتذهب احدى الجارات وتغسل فراشها وتذهب اخرى وتحممها وكل يوم يكون طعامها على احد الجيران حين تطبخ احدى جاراتها تخرج صحن للحاجة سعادة
تجلبه لها وتجلسها وتضع الصحن في حجرها لتأكل
صباحا وضهرا ومساءً
وقد وصل الحال بسكان الحي انه اذا ذبح احدهم بطيخة لابد ان يرسل للحاجة سعادة حز منها
كانت تاكل وتشرب وتعيش بين اناس طيبون يحبونها ويهتمون بها ويلبون لها طلباتها البسيطة وكانت في ايام الشتاء تخرج من بيتها متوكئة على عصا غليضة بخطى ترتجف وتجلس على دكة امام الباب لتشعر بقليل من الدفء في الايام المشمسة
وقد تراها حين تمر من أمام باب بيتها وقد نهضت بتثاقل تمشي ببطء متجهة الى غرفتها في صدر البيت وهي تضع احدى يديها خلف ظهرها وتمسك عصا تتكي عليها باليد الاخرى وحين ترى قطة تقفز على سياج بيتها وتسقط منه حجرة تتوقف وتنظر الى القطة والحجرة ثم تهز بيدها التي كانت خلف ظهرها هزات متكررة كمن يقول
(( اييييه ايتها الحجرة ارحلي مع من رحل فلم يعد مهما ان تبقي في مكانك كل هذه السنين وكأنها ترى نفسها هي التي طال بقائها كل تلك السنين في هذا المكان،

لم تتزوج الحاجة سعادة
ليس لانها لم تكن جميلة او بها اي عيب بل على العكس
كانت جميلة كجنينة مزدانة باشجار مثمرة بثمار شتى
 بل انها كانت اجمل فتاة في تلك البلدة بل إنها كانت جميلة للحد الذي يجعل الرجال والنساء يقفون احتراما لذاك الجمال الملائكي
ورغم هذا لم تتزوج!!!!!!
لأنها احبت رجلا لم يكن له من الرجال الا شكلهم
....... 
لكن حكايتها لم تبدأ بقصة حبها هي
بل بقصة حب ابوها وامها
لم يكن ابواها عراقيين او هكذا قيل
بدأت القصة في احدى المحافظات السورية
 حين.....
احب محمود ابو سعادة امها نعيمة وارسل امه تخطبها له فرفض ابو نعيمة طلبه رفضا قطعيا بل وطرد ام محمود طردا مخزيا لاسباب طبقية فمحمود فقير ونعيمة بنت المال والجاه
في ذلك اليوم بكت نعيمة بكاء من فقد ابن قلبه 
كيف لا وقد اقسمت لمحمود انها لن تكون لغيره لو مزقها ابوها شر ممزق
ولم يفقد محمود الامل بل حاول وحاول وارسل كل ذو مكانة في تلك البلاد ليخطب له نعيمة
لكن ابوها كان عنيد عناد البغال

وبعد عدة محاولات سلمية لم تجدي نفعا
قرر العاشقان الهرب من سوريا للعراق
وفعلا اتفق محمود ونعيمة ذات ليلة على الهرب 
باع محمود قطعة ارض كان قد ورثها عن ابوه واشتر حصان اصيل اسود اللون....
في تلك الليلة ودع امه وركب حصانه وانطلق الى قصر ابو نعيمة واطلق صوت الذئب الذي اتفق مع نعيمة عليه
وقفزت نعيمة من شباك غرفتها اليه واركبها محمود خلفه وانطلق لايلوي على شيء
بعد السفر المرهق لايام وصل الموصل.....

جاء بها الى الموصل وعقد عليها شرعا وتزوجها وسكن الموصل في البداية لكنه لاحظ ان الموصل مدينة كبيرة وهي طريق التجار السوريين لهذا بحث عن مكان بعيد وخفي فدلوه على دير العذراء الذي لم يكن يسكنه من المسلمين ان ذاك الا اربع عوائل عربية
وسكن فيها في الثمانينيات من القرن التاسع عشر وكانت كلما رزقت نعيمة بطفل يموت حتى وصلت سن اليأس
في بدايات القرن العشرين
وذات يوم وبعد انقطاع الطمث لسنتين شعرت بجنين يتحرك في احشائها وفرحت بهذا الحمل الذي جاء بعد يأس وفعلا رزقت بسعادة اسمتها سعادة لانهما سعدا بها غاية السعادة
وعاشت سعادة وحيدة بلا اخ او اخت
او عمة او خالة
كان ابوها يحبها حبا يفوق الخيال
وكان يلبي لها كل طلب مهما كان صعبا عليه كانت مدللته
كان فرق السن بين سعادة وابويها كبيرا 
حتى لكأنهما جديها 

كانت مدينة دير العذراء كلها تعيش على الابار فلايوجد نهر قريب ولا عين ماء جار
لهذا يذهبن النساء لملء جرارهن من البئر وكان في كل حي بئر

ذات يوم من ايام الصيف في بداية العشرينيات من القرن العشرين كانت سعادة ابنة السبعة عشر ربيعا تحمل جرتها متجهة الى البئر شاهدها اوسم شباب دير العذراء من المسلمين
اعجب بها وحاول التقرب منها لكنها رفضت ان تكلمه وبعد عدة محاولات استطاع ان يكلمها بل ويجلسان على البئر ويتحدثان طويلا
لم تخف سعادة عاقبة هذا الامر فقد كان كلام الشاب مع البنت امام الناس مباحاً

طالما لم تختبيء سعادة مع حبيبها عن عيون الناس بل كانت تكلمه امام الناس جميعا ظنا منها ان هذا سيحميها مثل الجميع في زمنها
كانت تعتقد انها مثل جميع بنات الحي 
لم تكن تعلم ان الفريد الشريد مثلها ليس مثل من خلفه اعمام واخوال يخذلون عنه ويدافعون عن سمعته
لم تكن تعلم ان الناس بلاء عظيم وان هناك من يكسر بك ليس لانه يظن انك سيء بل لإنه يريد ان يشغل الناس بك عن سوء نفسه.....
يريد ان يبرر فسقه ومجونه
اما حبيبها نسيم كان غارق بعالم من العشق والهيام
واخيرا كلم امه لتخطب له سعادة
جفلت امه من هذا الخبر
وقالت له باستنكار واستصغار هذه الفتاة التي تجالس الشباب عند البئر
انا حين ابلغني الناس انك تجالسها قلت لنفسي ليتسلى بها وانا اعرف ولدي سيتركها بعد ان يشبع منها
جن جنون نسيم وقال ماهذا الكلام يا امي كيف اشبع منها والله لم المس طرف اصبعها نحن نجلس امام الناس
قالت له امه مايقال عنكما
انهما هاكذا امام الناس الله اعلم بماخفي
واخيرا وبعد جدال وخصام واصرار من نسيم على خطبتها اخبرت زوجها برغبة ابنه لكن الزوج رفض وبعنف لكن ليس لنفس الاسباب التي ذكرتها ام نسيم بل لسبب اكبر بكثير
قال لها سعادة بلا اصل لانعرف من هم قد يكونوا من الغجر
كيف نخطب لابننا فتاة لانعرف اصلها وفصلها
واقسم إن لم ينتهي نسيم عن هذا الامر لأسجننه في سرداب البيت
وسمع نسيم صوت ابوه وهو يتحدث مع امه
وقرر خطبتها بنفسه لنفسه
في تلك الليلة ذهب الى بيتهم وحكى لوالدها كل شيء وطلب منه ان يزوجه من سعادة
لكن ابوها رفض
وقال له انا والله مع كل عاشقين لاني خضت هذه التجربة ودفعت ثمن عشقي حرمان من اهلي واخوتي وبلدي
لكني ياولدي لا استطيع ان اعطيك اغلى ماعندي بكل هذا الرخص
يجب ان ياتي ابوك بنفسه لخطبتها لا استطيع ادخال ابنتي لبيت اشخاص يكرهونها
رجع الولد واستسلم لقدره وتزوج احدى قريباته وترك سعادة.......
 لكن سعادة ابنة العشق الصادق غرقت في حزن كبير لم تخرج منه الا بعد سنين طويلة
وذلك يوم مرض والدها الذي سقط طريح الفراش
وبدأت رحلة عذاب طويلة لاسرة ليس لها معيل ولاولي حميم

في نهاية الامر اضطرت سعادة للعمل بالحقول لتأمن لقمة العيش لوالديها وجلست امها تعتني بوالدها
كان ينظر محمود لابنته حين تعود من الحقول متربة الوجه مشققة اليدين
 رائحة عرقها الممزوج بالتراب
كرائحة عجين مختمر منذ يومين
ترمي فأسها عن كتفها بارهاق واضح وتجلس قليلا قبل ان تنهض لتغتسل
فيموت أبوها من الحزن والحسرة علي جمالها الذي بدأ يذبل تحت حرارة الشمس والتعب والسهر والجوع وذل الوحدة
ولعن الحب الف الف مرة
وسفه العشق الذي اخرجه من بين اهله وجعله اسير الغربة وذل العوز والحرمان
وذات مساء اسلم الروح المعذبة لرب رحيم كريم يغفر الذنوب جميعا
ولم تنتظر نعيمة طويلا لتلحق به بل انها ركضت خلفه بعد اشهر قليلة كما ركضت خلفه قبل سنين وتركت خلفها كل شيء لكنهما هذه المرة 
تركا سعادة وحيدة شريدة في ارض ليس لها قريب او صديق الا جيران قلائل يحترمون ذكرى ابويها الذان كانا نعم الجيران
وبدأت سعادة تتنقل من بيت لبيت تغسل الصوف لهذه وتطبخ الحنطة لتلك وتنقي العدس لمونة اخرى تعجن وتخبز لتلك وتخرج لتجمع الحطب الذي ستخبز عليه غدا
لسيدة اخرى
 وانقضت ستين عاما وهي تخدم لتعيش وتأوي لبيت ابوها في المساء .....
ذلك البيت الذي كلما مرت عليه سنة اخذت من بهرجه واناقته شيء حتى اصبح مجرد كومة من الاحجار المسندة على بعضها برفق وما ان يقفز فوقها كلب او قطة حتى تسقط منه حجرة 
فتأتي سعادة بظهرها الذي كسرته ثقل السنين لترفع الحجرة وترجعها لمكانها فتسقط ثم ترفعها لتعيدها لمكانها وتسقط فتتركها وتمشي معتمدة على عصاها الغليضة ويدها الثانية خلف ظهرها
وهي تتمتم لنفسها
- عساك بالخراب (تقصد بيتها)

وذات صباح بعد اربع سنوات من حادثة محمد وبعد سنة من خروج نجم الراضي من السجن دخلت احدى الجارات على سعادة لتجدها ممزقة الثياب دامية الوجه محطمة اليدين والرجلين منتهكة العرض وهي بين الحياة والموت فخرجت تصرخ وتستنجد بالناس كي يتصلوا بالشرطة
وبعد عدة دقائق وصلت الشرطة والاسعاف ونقلوا الحاجة سعادة الى المستشفى وبعد الاطلاع على حالها وبعد ان استطاعت ان تتكلم بصعوبة بالغة وبكلمات مرتجفة متقطعة وصوت كانه قادم من بعيد....
قالت
-كانوا خمسة دخلوا علي وانتهكوا حرمة بيتي وداسوا عرضي اعتدوا عليا ضربا واغتصابا حتى الفجر وهربوا
ولم اعرف اي احد فيهم فانا بالكاد ارى في ضوء النهار فكيف على ضوء الفانوس.

ولم يمضي على الحاجة سعادة الا ايام قليلة في المستشفى
 لتسلم الروح وترحل عن عالمنا القذر الذي يسن القوانين الجائرة على ذوي النفوس العظيمة
 رحلت سعادة، كما رحل كل من أحبت، تاركةً وراءها حجراً يسقط من بيتٍ لم يعد له سقف وقطة تموء بحزن لفراق تلك السيدة الطيبة

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1