رواية يوميات دكتور نفسي الفصل الثالث بقلم صبحى المصري
(الشيخ… والبلاء اللي رجله دخلت فيه)
انا طبيب نفسي شفت حالات كتير، من فوبيا للهلوسة، من الاكتئاب للإدمان.
بس الحالة دي؟
هي اللي غيرتني.
كان يوم حر، والمكتب شبه فاضي… دخل عليّا راجل كبير في السن، لابس جلابية رمادية، باين عليه التعب، بس عينه… كانت زَيّ اللي شايفة نار.
قعد قدامي وقال:
> "أنا كنت معالج شرعي.
بس اللي حصل لي خلاني أبعد عن المصحف شهور… مش خوف منه، لا…
خوف عليه."
اتنفست بهدوء وسألته:
> "ممكن تحكيلي من البداية؟"
شد نفس عميق… وابتدى.
من ثلاث سنين، جاله اتصال من أمّ، بتبكي وبتصرخ…
بنتها "فاطمة"، ١٧ سنة، فجأة بقيت بتتكلم بصوت رجّالي، تقول كلام مرعب، وتتصرف بعنف.
الشيخ راح البيت… دخل أوضة البنت، لقاها قاعدة في الركن، بتضحك بصوت خشن، تقول له:
> "اللي دخلتيني فيه… مش هتخرجني منه."
سأل الأم:
> "عملت إيه قبل كده؟"
ردّت:
> "لعبت هي وصحبتها لعبة اسمها نداهة المقبرة… في مقابر مهجورة زمان،
كانوا بيقولوا أساميهم بصوت عالي عند قبر قديم.
من يومها وهي بتتغير."
الشيخ حس إن فيه حاجة غلط…
فتح المصحف، وابتدى يقرأ:
> "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ…"
فاطمة صرخت، ووشها اتغيّر…
باين إن فيه كيان بيحترق جواها.
قال لي:
> "كنت شايف دخان بيطلع من مناخيرها، جسمها كان بيتشنج…
وبعد شوية، سكنت.
حسيت إن الجني اتحرق… وخرج."
بس قبل ما يختفي…
سَمِع صوته بيقول:
> "رجلي التانية لسه ورا الباب… واستناك."
من يومها، حياته ما بقتش طبيعية.
كل يوم، قبل الفجر بشوية، كان يسمع طرق على الباب…
ولما يفتح… مفيش حد.
سجادة الصلاة كانت تتقلب لوحدها.
كل ما يبدأ يقرأ ورد الليل… يحس إنه بينسى الآيات.
بس المصحف؟
كان محفوظ، وما حصلهوش حاجة.
لكن هو نفسه… كان كل ما يفتحه، يلاقي عينه تزوغ من السطور…
لسانه يتلخبط… قلبه يتقل.
> "أنا اللي كنت بعالج… بقيت عاجز. كل يوم كنت بحس إن البلاء داخل جوايا… مش حواليا."
🧠 دور الطب النفسي…
جالي العيادة، وابتدينا نمشي خطوة بخطوة…
أدوية بسيطة تساعده ينام شوية…
جلسات نحاول فيها نفك العُقد اللي جوه…
سألته مرة:
> "أنت حاسس بذنب؟"
رد عليا:
> "أنا السبب… فتحت باب النار وأنا مش مستعد.
غلطتي إني استعجلت في الحرق… ومراعتش إن الشيطان ما بيموتش بسهولة."
قلت له:
> "إنت مش لوحدك، وإنت ما عملتش حاجة غلط.
لكن محتاج تفتكر إن كلام ربنا أقوى من أي كيان.
محتاج ترجّع تواصلك معاه… بصدق."
قال:
> "أنا عايز أرجع… بس المرة دي وأنا فاهم المعركة.
.....
بعد شهور من الجلسات…
رجع يفتح المصحف من غير ما يرتعش.
رجع يصلي قيام الليل.
وبعد فترة، جاله تليفون…
فاطمة رجعت زي الاول يا شيخ.
البنت بدأت تصرخ تاني… تقول نفس الكلام اللي قاله الجني:
> "رجلي التانية لسه… ورا الباب."
الشيخ قرر يروح… بس طلب مني أروح معاه.
قال لي:
> "هتعرف لما تشوف… إن في معركة، لازم العقل والدين يكونوا سوا."
دخلنا بيت فاطمة…
البيت كان فيه برودة غريبة، كأننا مش في الدنيا.
البنت كانت نايمة… بس صوت راجل كان بيخرج من صدرها.
ابتدت تضحك، وتقول:
> "المرّة دي… مش هتعرف تطلعني."
الشيخ مسك المصحف، وابتدى يقرأ من سورة البقرة، بصوت قوي.
أنا كنت شايف بعيني…
كل ما يقرأ آية، جسم البنت يرجّ…
الستارة تتنفض… لمبة تنوّر وتطفي.
قال:
> "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"
"فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ…"
"قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا…"
وفجأة… صوت الجني اتغيّر.
بقى ضعيف… يبكي ويقول:
> "كفاية… دا نور بيولع فيا…!"
والشيخ كمل… لحد ما البنت اتنفضت… وسكنت.
---
بعد الجلسة، البنت فاقت…
أول كلمة قالتها:
> "أنا كنت ماشية في نفق… بس لقيت نور،
والشيخ كان واقف فيه، بيقرأ قرآن."
الشيخ سجد… وقال:
> "أنا مش انتصرت لوحدي… ده فضل ربنا،
وسلاحي هو القرآن، والعقل كان الدرع."
الرسالة اللي اتعلمتها
أنا كطبيب، تعلمت إن مش كل حاجة علاجها دوا…
وفي ناس، أوجاعهم مش في المخ…
بل في القلب، الروح، والضمير.
الدين مش ضد الطب…
ده بيسنده.
وكل مس؟
مش شرط يكون من شيطان…
ممكن يكون من غفلة.
