رواية لطيفها عاشق الفصل الخامس بقلم سميه راشد
"ربما يهفو القلب أن ينغمس في وعاء مُليء من عشق بعدما أرهقته وحشية الاشتياق"
جحظت عيني دنيا وكادتا تخرجان من مكانهما وهي تستمع إلى كلمات أبيها الغير موزونة؟ كانت تخشى أن يفاجئها بخطبتها لمن لا يستحقها ولكن أيخبرها الآن بأنه خطبها لعبدالرحمن؟ ذاك الأخ الأكبر المفقود، صديقها الوحيد الذي بات بين ليلة وضحاها لا يطيق النظر إليها! لماذا الآن يبتغي قربها، بل كيف يريدها زوجة؟ أتتزوج بمن هو مثل أخيها؟!
مشاعر مختلطة ونظرات مصعوقة، كلمات تقف في حلقها دون القدرة على التحليق بعيدًا خارج إطار شفتيها، شعرت من نظرات شقيقها أنه يترقب رد فعلها على ما قيل أمامهما ولكن ماذا تقول؟ أحقًا هي قادرة على القول أو اتخاذ القرار في الوقت الحالي! هل فكرة زواجها من عبدالرحمن يجاب عليها بين يوم وليلة؟ بل تلك الخطبة تحتاج أعوامًا وقرونًا إلى التفكير وبالنهاية لن تصل مع عبدالرحمن ذو الشخصية المعقدة إلى قرار.
تركت أبيها الذي لم يبالِ بموقفها بعدما أخبرها بما أراد وشقيقها الذي يوزع نظراته بينها وبين أبيها يندهش من موافقته على عبدالرحمن وهو الذي قد عقد معه شجارًا لا يستهان به قبل أيام قلائل.
عدة ساعات قد تنصلن من عقدهن الواحدة تلو الأخرى حتى اقتربت الرابعة والعشرون على الانتهاء وهي مازالت تقبع بمحلها دون أن يجرها عقلها جرًا إلى فكرة تريحها، عبدالرحمن! عبدالرحمن يبتغيها! ولكن كيف تحولت مشاعره الأخوية إلى أخرى متغايرة لا تجتمع معها أم أن مشاعره لم تكن كذلك منذ البداية؟!
ألهذا السبب لفظها بأسوأ طريقة وأهانها؟ ولكن إن كان هذا الدافع لفعلته أيحق له أن يلتقط كرامتها من مقدمة ثوبها ويقذفها إلى أحقر مكان ممكن أن يُحتفظ بالكرامة فيه؟
لا.. ليس هذا مبررًا لفعلته، فحتى وإن أراد الابتعاد رهبة من مشاعره التي داهمته فور علمه ببلوغها فطريقته خاطئة، قاسية لن تطمسها مشاعره من عقلها ولو بمقدار الواحد في المائة.
سافرت بعقلها على سفينة الخيال إلى محل عودة علاقتهما لطبيعتها مرة أخرى، أن تظل تلتصق به إلى أي مكان تطئه قدماه، وتشاركه حديثها، ألعابها، أفكارها، حتى مخاوفها التي كانت تحاول الاشتعال بقلبها كانت تشاركه بها فيُخمد من اشتعالها ولا يجعلها تخشى سوى أن يذهب إلى أحد الأماكن منفردًا دونها إلى أن لفظها نهائيًا ولم تعد تراه سوى في أضيق الحدود.
ابتسمت بألم حينما رفض عقلها الاختباء خلف جدار السعادة حينما حاولت إقناعه بالسماح والنسيان، ولكن أي نسيان هذا ودفعته لها تتجسد أمام عينيها بمشهد تمثيلي كلما صغت أذنيها إلى صوته!
صداع الرأس داهمها بقوة معلنًا عن نفور العقل من كثرة الأفكار المتزاحمة بداخله، نهضت تنفض الغبار عن فراشها تتمنى أن تنحل عنها الأفكار كما الغبار عن الفراش لترتمي فوقه بقوة قبل أن تلتقط الهاتف بيدها وتدون على تطبيق الملاحظات
" إنه الشعور بالتيه، ذاك الذي يلتصق بالشخص كلما طرأت عليه إحدى القرارات المصيرية، لا أدري لما أكتب إليك الآن وأنت الذي من المفترض ألا أدعه يشم رائحة ما أفكر به، فما أدونه هذه المرة لا يتعلق بسواك، تشعر بالاندهاش؟ لك الحق فأنا لم أخبرك يومًا أنني استبدلتك بالكتابة في هذه المذكرات منذ تلك الليلة التي كسرت قلبي بها وهجرت روحي، ذات الليلة التي لفظتني من حياتك بها لخطأ لم أقترفه"
خرجت من التطبيق ولكن قبل أن تفعل نسخت النص كعادتها وكادت أن تلصقه بالتطبيق الخاص بها ولكن فكرة انتقام غير موفقة قد راودتها وجعلتها تفعل مالا تحمد عواقبه فاستبدلت المجموعة الخاصة بها بذاك الشاب الذي أخطأت في مراسلته تلك الليلة، ولكن هذه المرة تختلف فالذنب لا يُعاقب عليه من لم يتعمد فعله بل لم تصاحبنا الجرأة لنطلق عليه ذنبًا أما تصنُّع الجهل فهو إثم لا يستهان بعقابه.
أي خطأ هذا وأي هجر تتحدث عنه؟ هكذا ردد المندوب بعقله وعيناه تأكل الرسالة التي لم يصدق قدومها حتى الآن أكلًا، أمن الممكن أنه أخطأ في تعبيره برسالته التي أرسلها لها لتفهم من حديثه أنه يعاتبها أم أن خطأه كان بعدم مراسلته لها مرة ثانية فاعتقدت أنه هجر روحها!
عند هذه الفكرة أمسك بهاتفه جيدًا وبدأ في الرد عليها قبل أن تندم على مراسلته وتحذف ما بعثت ليكتب
" عن أي هجر تتحدثين وكلماتك لا تتوقف عن جذب قلبي كلما حاول الابتعاد لتعاونها تلك البرائة التي اتسم بها وجهك بذاك اليوم الذي قابلتك لأقع صريعًا لعيناك إلى المرة التي لا أعلم عددها"
انتظر ردها كثيرًا وفراشات الأمل تتراقص بصدره ولكن الأقدار لا تكون دائمًا وفق إرادتنا فقبل أن تصل رسالته إليها انقطعت شبكة الإنترنت عن هاتفها لتظلّ كلماته معلقة تائهة بين غياهب الطريق بينه وبينها فأعتقد أنها ندمت على رسالتها إليه ووضعته على قائمة الأرقام السوداء مرة أخرى.
_______________________
أمام غرفته بمركز الدروس الخاصة قدماها تبدلت إلى قدمي سلحفاة جرَّاء احتلال التردد لقلبها وكيف لا وهي ستقابله للمرة الأولى بعدما أعلن عن رغبته في الزواج منها.
منذ سنوات عديدة بعد الخصام الكبير الذي نشب بينهما لم تعد تعبأ بمقابلته فقد كانت تسلك سبيل التجاهل لتنتهجه في علاقتهما بعدما خطى هو الخطوة الأولى إليه ولكن أمازال لها الحق في متابعة السير بهذا الطريق بعدما جبَّ بطلبه جميع الخطوات التي سلكتها!
رسمت الجهل بالأمر على وجهها فور دخولها ليستند خجلها بجذعه على نقابها من جهة وغض البصر الذي ينتهجه من جهة أخرى ولكنها لم تحسب للنظرة الأولى العفوية حساب لتتقابل عيناه الدافئتان بعيناها قبل أن يشيح بنظره إلى الناحية البعيدة عنها.
رفعت حاجبيها بمكر يصحبه بعد الاندهاش من أمره، أيُصر على غض بصره عنها بعدما أعلن رغبته بها؟
جلست على المقعد الذي اعتادت الجلوس عليه وانتظرت المساعد الشخصي له بأن يعطيها ورقة الامتحان الذي قد أخيرهم سابقًا بأنه سيُعقد اليوم ولم يطل انتظارها فمحمد مساعده قد أعطاها ورقتها فور إدراكه لقدومها.
مضت أربعون دقيقة والجميع بدأن في المغادرة بعد انتهائهن من الحلّ إلا أنها مازالت تجلس هي وبضع فتيات وليس معهن في الغرفة سوى عبدالرحمن، الفتيات تذهبن شيئًا فشيء وهناك سؤالان مبهمان أمامها تريد منه توضيحًا أكثر عليهما إلا أنها تصارع منذ عدة دقائق وتأبى الانصياع لرغبتها كطالبة تريد أن تنتهي.
طالبة أخرى خرجت من الغرفة ولم يبقَ معهما سوى فتاة واحدة فماذا ستفعل إن انصرفت هي الأخرى! سبَّت في سرها ريهام التي جاءت قبل الموعد واختبرها المساعد لتحججها بموعد مع والدتها، في الحقيقة لن يصح أن يُطلق على الوضع الذي يضمهما بعد مغادرة الفتاة خلوة فباب الغرفة مفتوح على مصراعيه والمساعد يجلس أمامه والفتيات تأتين وتذهب غير ذلك الشباك الذي يطل على غرفة أخرى بها معلم آخر وتلاميذه ولكن أيضًا لن يمنع هذا من حديثه بشيء خاص إن أراد فلن يستمع إليهما أحد إن أخفض صوته.
قدم تحثها على التقدم منه وسؤاله على ما تريد منه التوضيح له والقدم الأخرى متشبثة بالمقعد كالمغناطيس وترتجف بقوة لتنتصر أخيرًا قدمها الأولى وتجبر الثانية على السير بحجة أن الفتاة الأخيرة قاربت على المغادرة
اقتربت من جلسته بخطوات هادئة تتصنع اللامبالاة لينتبه على قدومها ذاك الذي انتفض قلبه واقفًا ليتجلى صوته الخشن يسألها
-خلصتِ
علت أنفاسها وكأنها خارجة من سباق عنيف لتجيبه بصوت استمع إليه بصعوبة
- فاضل سؤالين عايزة لهم توضيح
تماسك أمام نبرتها التي لا يستمع إليها كثيرًا ولم يقدر سوى على أن يوميء إليها بإيجاب وعيناه تتعلق بالورقة المسكينة التي عذبتها أظافرها لتشير على الأسئلة وتستفسر عنها بارتباك وصل إليه فأوضح إليها ما أرادت بسلاسة قبل أن تعود إلى مقعدها مرة أخرى.
ما لم تكن تريده حدث لتنهض الفتاة وتعطيه ورقة الإجابة الخاصة بها وتذهب لتترك من خلفها قلبان يعانق أحدهما الآخر بينما الأجساد ترتجف بارتباك.
لم تستطع التركيز بل كان عقلها خائفًا من أن يباغتها بإحدى الكلمات إلا أنه فاجئها وهو ينهض واقفًا ليرافق مساعدة أمام الغرفة ويتركها بمفردها إلى أن تنتهي.
تنفست الصعداء فور خروجه، أجابت أحد السؤالين وبدأت التفكير بالآخر بينما هو وقف يمرح مع محمد بعقل منشغل بتلك التي أدرك معرفتها بطلبه من انفعالات جسدها ولكن ماذا تظن هذه المجنونة! أتراه بتلك الدرجة البدائية من التعقل حتى يفعل هذا التصرف الصبياني ويستغل انفراده بها ليحدثها بشيء خاص كهذا وينتهك حرمة حيائها ضاربًا بكرامتها عرض الحائط إذا حدثها دون اعتبار لحرمات البيوت التي لابد أن تُدخل من أبوابها دون أن ينتهكها سارق!
لم تقدر على الإجابة عن آخر أسئلته فاستسلمت لرغبتها في المغادرة ونهضت بعدما لملمت أشيائها وأعطته الورقة بينما كان مساعده منشغلًا بالحديث مع أحد المعلمين فسألها بنبرة تفيض اهتمامًا
- في حاجة تانية محتاجة توضيح
هزت رأسها بنفي ثم رمت الورقة عليه سريعًا دون أن تعبأ بالتقاطه لها وأسرعت تهرول من أمامه فقد نفذت قدرتها على تحمل كل هذا الضغط ليمسك الورقة قبل أن تطير في الهواء ويبتسم عقله على هذه المجنونة التي قذقت الورقة ورحلت.
____________________
قرأت"رقية" بأحد منشورات الفيس بوك فتاة تسأل عن تطعيم للأطفال يؤخذ عند إتمام العام والنصف لتنتبه على لمار التي كما قيل أنها بذات العمر بل يبدو أنها تعدته بقليل ولم يذكر أباها عن هذا التطعيم شيء. أخذت تفكر بهذا الأمر وتبحث إن كان مهمًا أم لا لتجده من التطعيمات الأساسية بل إن تجاهله يعد جريمة بحق الطفل.
تنهدت بقوة لتنظر إلى زوجة عمها الجالسة بجوارها تسألها
- هو في يا خالتي تطعيم المفروض لمار تاخده دلوقتي؟
لتجيبها عفاف بعدما عقدت حاجبيها قليلًا بتفكير
- اه تصدقي.. دا في تطعيم عند السنة ونص بس مش عارفين خدته قبل ما ييجوا من السفر ولا إيه
نطقت رقية وهي تطالع الفتاة بتفكير
- طب وبعدين دا بيقولوا مهم
أجابتها عفاف بتروي
-خلاص إما ييجي أبوها نسأله أكيد عارف
أومأت إليها رقية بإيجاب لتتابع الصغيرة التي تلهو أمامها بمرح مع طفلة صغيرة لإحدى الجيران تركتها والدتها برفقتهم إلى أن تنتهي من تجهيز الطعام لزوجها، مرت عدة دقائق قبل أن يدلف أحمد برفقة عمه رفيق ثم جلسا ليقول رفيق موجها حديثه لرقية
- ما تقومي تعملي لي كوباية شاي حلوة من بتاعتك يا رقية.
ابتسمت إليه وهمت بالنهوض لتستمع إليه يوجه حديثه لأحمد
- عايز شاي يا أحمد؟
لتأتيها إجابة الآخر التي استفزتها
- آه ياريت من غير سكر خالص.
لم يصدر عنها سوى أن اتجهت إلى الداخل ليلتفت ناظرًا إلى أثرها بعقلٍ يتراقص الندم بين دمائه.
عادت بعد قليل لتضع الشاي بين جلسته وعمه ثم عادت إلى مكانها مرة أخرى.
نظرت إلى زوجة عمها ثم غمزتها لتسأله عن تطعيم الفتاة إلا أن الأخرى لم تفهم وأشارت إليها بالسؤال لتحرك رقية رأسها قليلًا تجاه أحمد مرة أخرى لكن لا حياة لمن تنادي.
نفذ صبرها من عدم فهم زوجة عمها المتعمد كي تسأله هي لتهمس لها
- اسأليه عن التطعيم.
تصنعت الأخرى عدم الفهم لتكرر رقية همسها بإصرار غير منتبهة لذاك الذي يتابعها بابتسامة تمتليء بها شفتيه فتنازلت عفاف قليلًا بعدما تحقق بعض من مرادها وانتبه أحمد لما تفعله رقية فسألته
-لمار يا أحمد عندها تطعيم السنة ونص زي ما اللي في سنها بياخدوه متعرفش خدته ولا لأ
ليرمق رقية قبل أن يجيب
- لأ معتقدش إنها خدته ولا خدت اللي قبله
لينظر الجميع إليه بفضول وشفاهم تكبت أسئلتهم التي يعانون كي لا يرهقون قلبه بذكرياته الغير سارة كما يبدو.
______________
ارتجفت يدي رحمة بترتر وعيناها تمر على رقم والدة خطيبها الذي يظهر على شاشة الهاتف أمامها، لا تريد الإجابة ولا تريد التأخير عنها أكثر مما فعلت كي لا تذمها كما يحدث بكل محادثة مقيتة تحدث بينهما، كما الظاهر حماتها تحادثها كل عدة أسابيع كي تطمئن على أحوالها ولكن بباطن الأمر تشعر أن محادثات هذه المرأة ما هي إلا محاولات لزعزعة علاقة رحمة بابنها وإخبارها بطريقة ما أنها ترفض هذه الزيجة التي لا تلائم أحلامها.
فتحت الهاتف كي لا تتأخر عليها أكثر من ذلك ليأتيها صوت الأخرى تسألها بانفعال
-عملتي إيه في ابني يا رحمة؟ عملتي إيه؟ كل يومين تنكدي لي عليه كدا يا بنتي! أنا قلت له من الأول بلاش دول بنات ملهمش كبير بس هو اللي مصمم وأدي النتيجة.
كلماتها لم تدل على شيء سوى أنها تنوي على فسخ الخطبة، فما به كريم وهو الذي كان يحادثها قبل ساعة وأنهيا المحادثة وهما يمرحان بالأحاديث! لتجيبها بهدوء بعدما جعلتها تنهي وصلة الإهانة التي بدأتها
- حضرتك خلصتي كلامك؟
- ايه البرود اللي أنتِ فيه دا بقولك عملتي إيه في ابني جاي تعبان ومش راضي ياكل خالص وأنتِ باردة كدا إزاي؟!
صمتت رحمة تحاول استدعاء بعض من الهدوء كي لا تقول ما ستندم عليه فيما بعد لتتابع الأخرى
- ومبترديش عليا كمان! تمام أن ليا تصرف تاني معاكي.
لتقول رحمة بعدما استكفت من نافورة الإهانة
-تمام.. سلام.
أغلقت دون أن تعطيها الفرصة لتوبخها على عدم تفاعلها معها ومساعدتها في إشعال الفتيل كي تتكاثف النيران بينهما فتفقدها إحدى النقاط أمام كريم ليعيد النظر في هذه العلاقة الغير مناسبة مرة أخرى.
تساقطت أولى دمعاتها وعيناها ترتفع إلى الأعلى تدعو بقلة حيلة، لا تدري ماذا عساها أن تفعل مع هذه المرأة التي تكدر صفو علاقتها بكريم، فالآخر رائع، حنون ولا ينقصه شيء بكل المقاييس ولكن ماذا يفعلون بوالدته؟ هي لا تريد شكوتها له وهي تعلم أنه يبذل أقصى ما عنده كي يبعدهما عن شر والدته، بل كان صريحًا معها منذ البداية وأطلعها على حقيقة والدته وأخبرها أنها صعبة التعامل بل قاسية كما وصفها بذاك اليوم فلم تعبأ هي بكلامه واعتقدت أنها ستستطيع استمالتها بالمعاملة الطيبة وخاصة وأنه وعدها بأنهما سيستقلان بالعيش في مدينة أخرى قريبة من عمله فلن يتقابلان معها سوى بالمناسبات فقط ولكن الأخرى يبدو أنها وجدت الهاتف وسيلة لتعويض لقاءاتهما النادرة بل وأثبتت لها بأنها إن حاولت إصلاح العلاقة بينهما فستنحت في جبل صلب لا أمل في اهتزاز جزء منه، فلماذا ستشكو الآن بعدما طمأنته وبددت من مخاوفه التي تعلقت بوالدته؟ لن تنكر أنها فكرت العديد من المرات بفسخ الخطبة بل وأخبرت كريم ذات مرة بإحدى نوبات حزنها إلا أنها عجزت أمام حبها الشديد له وشفقت عليه من أن تعاقبه دون أن يكون له ذنب، فكيف تعاقب المرء فقط لأن فلانة أمه أو لأن فلان يكون أبيه؟!
لم تقدر أمام التفكير به أن تخمد من ضيقها كما كل مرة، فهذه المرة تختلف، فتلك عايرتها بيتمها، عايرتها بفقدها لأبيها وحبيبها وهذا ما لم يتقبله فؤادها.. لن يتقبله أبدًا وإن كانت النتيجة التخلي عن جزء من روحها.
________________
وقف عبدالرحمن أمام المرآة بحماس شديد وعيناه تدوران على تفاصيله بإتقان، تمعن في خصلات شعره السوداء التي طالت قليلًا لتصل إلى خلف أذنيه لينتقل إلى لحيته المشذبة بطريقة تتناغم مع شاربه الحليق، نظر إلى شفتيه المكتنزة وأنفه الذي يميل إلى الارتفاع قليلًا بطريقة لم تزد ملامحه الرجولة وبشرته السمراء سوى جاذبية أكثر، ابتسم بثقة وعيناه تدور على قميصه الأبيض الخالي من الرسومات والذي لائم بشدة بنطاله الجينز القاتم وخاصة حينما ترك القميص حرًا دون أن يدخله قسرًا في البنطال. سافر عقله إلى تلك التي يجب أن تكون بانتظاره بالأسفل بمنزل العائلة الذي تمكث فيه حاليًا، فكر هل ستُعحب بهيئته التي يراها حسنة أم ستشعر بعدم الرضا.
فاق من شروده على والدته التي ارتفع صوتها تزغرد فور رؤيتها لهيئته ليهرول تجاهها في محاوله منه لمنعها عما تفعل إلى أنها ابتعدت عنه بقوة وظلت تزغرد بسعادة امتلأت لها عيناها من الدموع.
ضرب جبهته بيده لقلة حيلته أمام أفعال والدته لترتفع ضحكة أبيه الذي قدم هو الآخر قائلًا وهو يربت على كتفه بسعادة
- فرحانة بيك يا حبيبي.. أنا هنزل تحت أستناك يلا عشان العروسة مستنياك يا عريس
ارتسمت على شفتيه ابتسامة زينها الحياء ليبتسم أبيه ويسبقه إلى الأسفل فنثر هو القليل من العطر على مناطق النبض ببدنه بعدما ابتعد عن والدته كي لا يمسها ثم ألقى نظرة أخيرة بالمرآة واتجه برفقتها إلى الأسفل بقلب عاشق يهفو إلى السكينة بعدما أرهق قلبه الإحتراس.