رواية هجوم عاطفي الفصل الخامس بقلم هاجر عبد الحليم
كان مالك يقود سيارته بسرعة ثابتة، لكن شيئًا ما استوقفه... لم تكن الزحمة هذه المرة، بل تلك السيارة السوداء التي انعكست في مرآته الجانبية، تتابعه بخطى ثابتة منذ وقت ليس بالقصير. نظر إليها مجددًا ليتأكد، فشعر بالقلق يتسلل إلى أعماقه.
أدار المقود فجأة، انعطف في أحد الشوارع الجانبية، ثم تابع السير في اتجاهات متباينة، محاولًا التمويه. تعمد التوقف عند إشارات فرعية، والانطلاق بشكل غير متوقع، إلى أن شعر بأنه تخلّص أخيرًا من الملاحقة.
تنهد بعمق، كأن صدره كان يضيق بشيء لم يفهمه بعد، وبينما يمد يده ليفتح هاتفه، وصلته رسالة.
فتحها دون اهتمام في البداية، لكن ما إن قرأ كلماتها حتى تجمدت ملامحه كليًا.
"يا ترى، إيه أخبار بنتك الصغيرة؟ مش هي عندها توحد برضو؟ بس تصدق؟ أول مرة أشوف طفلة صهباء بالجمال ده كله."
شحب وجهه، واتسعت عيناه في ذهول لا إرادي. قبض على الهاتف بيده بقوة، بينما دقّ قلبه بعنف...
من هذا؟ وكيف عرف عن ابنته؟
......
ضربات عنيفة على الباب أيقظت القلق في قلب سيدة، فهرعت تفتحه وهي تتمتم بذعرٍ مكتوم:
سيدة (بقلق):
– "في إيه؟ مين بيخبط كده؟!"
ما إن أدارت المقبض حتى انفتح الباب بعنف، ودخل مالك، شاحب الوجه، مبلل الجبين، وعيناه تلمعان برعبٍ واضح.
سيدة (مصدومة):
– "مالك يا ابني؟ وشك عامل كده ليه؟ حصل إيه؟"
لم يجب، بل اندفع داخل البيت وهو يلهث، ثم صرخ:
مالك:
– "فين بنتي؟ فين اسيا؟!"
سيدة (بصوت متهدج):
– "في أوضتها يا حبيبي، من الصبح وهي بتعيط وبتندهلك، ادخل شوفها."
اتجه مالك نحو الغرفة بخطوات متسارعة، قلبه يضج بالفزع، ويداه ترتجفان. فتح الباب بسرعة، وعيناه تسبقانه بالبحث.
كانت "اسيا" جالسة على الأرض، تحتضن ألعابها الصغيرة، وجهها البريء مشوب بالحزن. وما إن رأت أباها حتى أضاءت ملامحها، وقامت تجري نحوه وهي تصرخ بفرح:
اسيا:
– "باباااا!"
انحنى مالك بسرعة، وفتح ذراعيه، فاندفعت إليه واحتضنته. ضمها إلى صدره بقوة وكأنه يخشى أن تُنتزع منه، بينما تردد صوته المرتجف في الغرفة:
مالك (بهمس يرتجف):
– "الحمد لله... الحمد لله إنك بخير يا روح بابا..."
.....
في غرفة سيدة، كانت الإضاءة خافتة والهدوء يعم المكان، لكن قلب مالك كان مليئًا بالاضطراب والقلق. اقترب من السرير، حيث كانت اسيا نائمة، وركع بجانبها. وضع رأسه برفق على رأسها وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعرها.
سيدة (وهي تراقب الموقف بحذر):
– "نامت؟"
مالك (بصوت منخفض، وهو ينظر إلى ابنته بقلق):
– "أمي... أنا لو جرالي حاجة، خلي بالك من بنتي، هي ملهاش غيرك بعد موت أمها الله يرحمها."
سيدة (باندهاش وخوف):
– "ياستار يارب! اي الكلام الوحش دا؟ لا، اوعي تتكلم بالطريقة دي تاني... أنا مش هسمح لك بكدا، بنتك انت اللي هتربيها، وهتعيش وتشوفها عروسة حلوة، وتسلمها للي يصونها. ماتقلقش، كل حاجة هتكون تمام."
لكن مالك لم يهدأ، ودموعه تكاد تنهمر. نظر إلى ليلي مرة أخرى، ثم قال بصوت يملؤه الحزن:
– "خايف عليها، البنت ظروفها مختلفة عن باقي الأطفال اللي في سنها. ومراتي كانت أكتر واحدة بتفهمها، وبترتاح في حضنها."
ظل ينظر إلى ليلي بحزن عميق، ثم سأل سيدة بصوت مهزوز:
– "تفتكري... أنا السبب؟"
سيدة (بتعجب وحزن، وهي تضع يدها على كتفه لتمنحه بعض الراحة):
– "تاني يبني؟
مالك (وهو يحاول كبح دموعه، ويفكر بصوتٍ عميق):
– "ومليون يا أمي، مش عارف أنام من تأنيب الضمير... شعور إن مراتي راحت قدامي وأنا ما قدرتش أعمل حاجة... شوفتها بتموت قدام عيني كان ممكن انزل من العربية وانقذها قبل الحادثة."
سيدة (تنهدت ثم قالت بصوتٍ هادئ لكن مليء بالطمأنينة):
– "اللي حصل كان حادثة،يبني.. لو كنت تقدر تمنع نصيبها، كنت هتمنعه لا والله لا انت ولا مليون يمنع قدر ربنا؟"
مالك (بصوتٍ حزين، وقد امتلأ قلبه بالندم):
– "بس كان ممكن تبقى ف وسطنا دلوقت... دلوقتي مشيت وسبتني أتحمل أمانة كبيرة أوي في رقبتي."
سيدة (بابتسامة هادئة وهي تضع يدها على قلبه):
– "وليه متقولش سبتلك حتة من الجنة؟ بنتك هي اللي هتخليك تشوف الحياة بشكل مختلف، وهي هتكون خير تعويض ليك عن كل الألم اللي عشته."
توقف مالك عن الكلام، وظل صامتًا لحظة، وكأن الكلمات التي قالتها سيدة لمست قلبه بشدة، وأعادت له بعض الراحة في هذا الوقت العصيب.
......
في القسم، كان الصمت يلف المكان. فجأة، سُمع صوت خبطات على الباب، ثم دخل يوسف بسرعة، وعيناه تعكس توترًا واضحًا.
يوسف (بصوت متعجل وهو يغلق الباب خلفه):
– "شوفتي اللي حصل النهاردة؟ المديرية مقلوبة، والكل عمال يجري!"
رودينا (تتوقف عن عملها وتنظر إليه بقلق، ثم تسأله بتوتر):
– "خير؟"
يوسف (بتنفس سريع، وكأنّه يحاول استيعاب ما حدث، ثم قال بسرعة):
– "قضية الطفل المفقود، يا بنتي... اللواء ف المكتب وقاعد معاه مالك."
رودينا (ترتجف، وتسحب نفسًا عميقًا قبل أن تعيد السؤال بصدمة):
– "بتقول مين؟!"
.........
رودينا أخذت نفسًا عميقًا، ثم تقدمت نحو باب غرفة المكتب. كانت مشاعرها متناقضة، لا تعرف كيف ستواجه مالك بعد الموقف الأخير بينهما. كيف سيكتشف أنه كانت هي نفسها التي تسببت في الموقف الغريب؟ حادثة الشرطي، والسيارة، وحالة الإغماء التي تظاهرت بها أمامه. كانت تتساءل إن كان سيصدق أنها كانت تمثل عليه، أم أنه سيعتقد أن هناك شيئًا آخر وراء ما حدث ؟
قبل أن تتمكن من دخول الغرفة، شعرت بشيء غير متوقع. يد قوية أمسك بها فجأة من معصمها، وشدها بقوة مرة أخرى نحو مكتبها.
رودينا (بدهشة، وهي تحاول الإفلات):
– "في إيه؟!"
يوسف (بصوت حاسم، وهو ينظر إليها بجدية):
– "متدخليش دلوقتي."
رودينا (مستفهمة، وهي تقف في مكانها):
– "ليه؟ مالك جاي ليه يايوسف؟"
يوسف (بجدية، وهو يشير إلى الباب):
– "عشان يبلغ عن الأوراق اللي في الأرشيف، والمعلومات ممكن تودي صاحبها وراء الشمس، بس لسة ما فيش تفاصيل واضحة."
رودينا (بتحدي، وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالحيرة):
– "دي عايزة كلام! أكيد المستشفى كانت فعلاً مكان لجرايم تجارة أعضاء الأطفال، والولد اللي اتخطف كان هيتقتل لولا ما لحقناه. الفكرة بقى أن أكيد في أرواح تانية ماتت، وفي أرواح تانية هتموت لو مقبضناش عليهم في أسرع وقت."
يوسف (بنبرة هادئة ولكنه حازم):
– "الأوامر جتلي إنك لازم تخبي هويتك عن مالك عشان تقدري تحميه لو فعلاً بريء."
رودينا (بتفكير سريع، وهي تحاول تحليل الموقف):
– "وممكن يكون بيعمل كده عشان يضللنا، ويخلينا نركض وراء خيط غلط."
يوسف (بثقة، وهو يضغط على كلماتِه):
– "وعشان كده لازم تكملي لعبتك لآخرها، عشان تكشفي ورقة اللواء. بيقولك هو هيخرج كمان ساعة، بعدها نفذي."
......
خرج مالك من القسم متثاقلاً، كأنّ أثقالًا قد رُفعت عن كتفيه لتُلقى على قلبه. سار ببطء، يتفادى نظرات الفضول من المارة، يسترجع في ذهنه تفاصيل التحقيق، وكل ما مرّ به. الهواء الليلي كان باردًا، لكن قلبه كان أكثر برودة.
وفجأة، شقّ سكون الليل صوتٌ مألوف، أنثويٌّ، دافئ رغم خفته:
رودينا (من خلف الأشجار):
– "ماااالك!"
توقف فجأة، تسارعت ضربات قلبه بشكل مفاجئ. ذلك الصوت… كم من مرة تردّد في ذاكرته، في ضحكاته القليلة التي يختطفها من بين ألمه. البنت الغريبة التي اقتحمت يومه منذ فترة، وتركت فيه أثرًا خفيفًا لكنه حيّ.
استدار سريعًا، لتلتقي عيناه بعينيها، تلك النظرة نفسها، وذلك الجنون اللذيذ.
رودينا (بابتسامة شقية):
– "مكنتش متوقّع تشوفني تاني، صح؟"
مالك (وهو يعقد حاجبيه بدهشة):
– "إنتي تاني؟! إنتي بتطلعي منين ؟!"
رودينا (وهي تقترب منه بخفة):
– " فجاه! لما بطلع بطلع فجاه دي انا ودايما بسيب اثر ف القلوب تقدر تنكر؟
مالك (يحاول يخفي ابتسامته):
– "إنتي عارفة إنك شبه الكوابيس اللي بتفزع الواحد؟."
رودينا (بضحكة خفيفة):
– "لا كوابيس إيه… أنا حُلم، بس أنت اللي مش عارف تعيشه صح!"
ابتسم رغماً عنه، ونظر لها نظرة طويلة… نظرة هزت كيانها بالكامل
....
أمام الكوبري، في وقت متأخر من الليل، حيث يعم الهدوء وتنفرد الأضواء البعيدة على الطريق. رودينا جالسة بجانب مالك، تتحرك قدمها في الهواء بشقاوة بينما يواجهها بنظرات مشوشة.
رودينا (بابتسامة خفيفة، تنظر إليه بعينيها المترقبتين):
– "أنا مش حرامية يامالك ع فكرة ولا عو تجري منه ولا غرضي اوقعك؟."
مالك (بدهشة، يلتفت إليها بسرعة):
– اللي يقول كدا يبقي نيته عمرها م كانت خير!"
رودينا (بثقة، وهي تضحك قليلاً):
– أنا إنسانة عادية يامالك."
مالك (يرتشف نفساً عميقاً، غير متأكد مما سمعه):
– "لكن إنتِ قولتي إنك مش حرامية دلوقت وتبرير لحاجات عمرها م جت ف دماغي."
رودينا (تلتفت إليه بجدية، تومئ برأسها):
– "جايز عشان أطمنك قولت كدا."
مالك (بتردد، يحاول تهدئة أعصابه):
– "مش خايف منك عشان اللي بتعمليه دا طيش وسذاجة."
رودينا (بابتسامة ساخرة، تلعب بقدمها في الهواء):
– "مش خايف اه بس انت عندك فضول ناحيتي."
مالك (يحدق فيها بتركيز، يحاول معرفة نواياها):
– "عرفتي مكاني منين؟"
رودينا (تنظر إليه نظرة قاطعة، وهي تجيب بكل هدوء):
– "براقبك."
مالك (بدهشة، يلتفت نحوها):
– "وليه ىقا؟ عجبتك ولا اي؟"
رودينا (تبتسم بخبث، عيونها تتسع قليلاً):
– "أوي، الصراحة."
مالك (بخوف بسيط، يحاول الفهم):
– "لينا سابق معرفة ولا حاجة ممكن اكون فاقد الذاكرة ونسيت انك بنت الحيران مثلا؟"
رودينا (تضحك بشكل غير متوقع، تنظر له بخفة):
– "مع إنك بتتريق، بس هجاوبك. أنا بحبك من زمان قوي. من قبل حتى ما تتجوز مراتك. وع فكرة، حبي ليك خسارة، بقالى أربع سنين بشوفك من بعيد. فيهم، هو دا بردو نفس عمر بنتك الصغيرة. هي عاملة إيه دلوقتي؟"
مالك (يتنفس بعمق، يجذبها نحوه بعنف، وبفزع يبدو على وجهه):
– "مستحيل!" (يشدها بحركة مفاجئة، وهي تصرخ قليلاً ثم تبتعد عنه.)
رودينا (تبتعد عنه، وترتجف قليلًا، وعينيها تتسع للدهشة):
– "في حاجة اسمها بق؟ ليه اللمس حرام كدا؟"
مالك (بغضب، يحاول السيطرة على نفسه):
– "امشي من قدامي."
رودينا (بتوتر، تبتعد خطوات، وتوجه له نظرة جادة):
– "الكلام دا ليّ أنا؟"
مالك (بصرامة، يحاول الحفاظ على مسافة):
– "لو عديت من واحد لتلاتة ولقيتك واقفة قدامي، مش هتردد ثانية، وارميكي من هنا. أنا مش باقي على حد."
رودينا (تنظر إليه بتركيز، عيونها تحمل تحديًا غير مسبوق):
– "لو عايز توصلي، هتلاقيني أقرب ليك أكتر مما تتوقع."
(تشير إلى قلبه من بعيد، ثم تضيف بابتسامة ساحرة.)
رودينا (بصوت هادئ، مليء بالثقة):
– "دا هيدلك عليا. أنا مش وحشة، يا مالك. أنا دواء لوجعك. وأكتر شخص هيرشدك وقت ما تكون تايه."
سلمت عليه بيدها، وهو ينظر إليها، قلبه يدق بسرعة. مشاعر متناقضة تعصف به. مش مصدق تصرفاتها، وفي الوقت ذاته، يشعر بالعجز أمام حضورها وتحدياتها.
...
داخل المنزل – منتصف الليل
كان الظلام يغلف المكان، إلا من بعض أضواء خافتة تتسلل من تحت باب الغرفة. سكونٌ ثقيلٌ يلفّ الأرجاء، لا يقطعه سوى صوت بكاء متقطع... بكاء يُمزّق القلب قبل الأذن.
دخل مالك وهو يلهث، عيناه تفتشان عن صغيرته، وجسده منهك من يوم طويل، لكن صوته المرتبك جاءه من والدته تقف عند باب الغرفة، متعبة، شبه منهارة:
سيدة (بوجه متوتر وعينين محمرتين):
– "كويس إني شفتك، البنت وشها زي الكبدة، أنا غلبت معاها يا مالك… كل شوية تقوم تصوت وتخبط نفسها ع السرير، ويغمى عليها خمس دقايق وتقوم تصرخ وتجز على سنانها أكتر من الأول… عمالة تنادي ع أمها، وشوية تانية عليك… صحيتني مفزوعة عليها… خايفة عليها أوي…"
لم يردّ مالك، بل اندفع إلى داخل الغرفة، كأن قلبه سبقه بخطوتين.
كانت آسيا جالسة على طرف السرير، منكفئة على نفسها، شعرها مبعثر، وعيناها تنتفضان بالبكاء. كانت ترجو شيئًا لم يعد بين يديها... أوهام طفولية تبحث عن صدر أم رحلت.
آسيا (تصرخ، تئن بصوت مبحوح):
– "لاااا... ماماااا... لاااااااااا..."
مالك (اقترب منها ببطء، جثا على ركبتيه أمامها، مدّ يديه بخفة):
– "اهدي يا روحي… بابا جمبك اهو، متخافيش..."
آسيا (تبتعد عنه، تدمع عيناها أكثر):
– "لأ… مامااا… أنا عايزة مامااا… مش عايزاك!"
مالك (يحاول الابتسام، رغم الانكسار في عينيه):
– "كده يعني؟ مفيش حب لبابا خالص؟"
آسيا (بصوت مخنوق، ترفع رأسها وتنظر إليه بوجع):
– "إنت مش بتحبني… سبتني لوحدي… مفيش أب بيخلي بنته وحيدة في أوضتها مدة طويلة… العابي زهقت منها… أنا عايزة حد جمبي… مش كلام وبس…"
كان مالك يبلع غصته، يراها تتكلم كأنها أكبر من عمرها، كأنها توارثت الوجع عن والدتها… حتى صدى الكلمات كان يشبه صوت أمها.
مالك (يحاول التماسك، صوته يتهدج):
– "وسبتك ليه؟ ده شغلي… وبعدين ستك معاكي، وبتحبك!"
لكن آسيا لم تتوقف عن الصراخ، كانت تنادي… وتنادي… وجسدها الصغير يرتجف.
وهنا… لحظة مرت كالكهرباء في عروقه، تذكّر.
تذكّر كيف كانت والدتها تفعل حين تصيب آسيا الحالة…
كانت تمسك بها من كتفيها، تقرّب وجهها منها، تهمس في أذنها بحنية، تردد دعاءً تحبه الصغيرة، تمسح على شعرها…
ثم تحتضنها حتى تهدأ…
اقترب منها كما كانت أمها تفعل. وضع يده بخفة على كتفها، لم تقاوم، ثم سحبها برفق لحضنه…
وانهارت فيه.
بكت… وبكى معها.
كان حضنه لها مكسورًا، وصوته مبحوحًا، وهو يهمس:
مالك (يبكي، يدفن وجهه في شعرها):
– "معلش… حقك عليا… أنا آسف يا روحي… آسف على كل لحظة سببتلك فيها وجع اكبر منك اسف…"
آسيا أخيرًا هدأت، وصوتها تلاشى وهي تحتمي بضلعه، وكأنها وجدت وطنها أخيرًا… بعد غربة.
وكان هو، في تلك اللحظة، أكثر احتياجًا لهذا الحضن
.....
ليلٌ هادئ يلف المدينة... قلبان يسهران على طرفين متباعدين من الوجع.
في غرفتها المعتمة، كانت رودينا جالسة على السرير، ظهرها مستند إلى الجدار، وعينيها معلّقتان بالسقف كأنها تبحث عن إجابة من بين شقوقه. كانت تشعر بشيء لا تُسميه، لكن قلبها يضجّ بالأسئلة.
رودينا (بهمس مرتبك):
"هو إزاي بيدخل القلب كده؟! أنا المفروض أكون في مهمة... أكون واقعية... مش ضعيفة
ابتسمت بمرارة.
"ولو طلع متورط؟! قلبي هيحتمل؟ أنا شفت اللي ملفه مخبّيه، بس اللي جواه... مش مكتوب. وجعه باين في عينه... وأنا عايزة أعرف أكتر... يمكن علشان أطمن؟ يمكن علشان..."
سكتت، وكأنها تخاف تنطق بالكلمة.
في الجهة الأخرى من المدينة، في بيت صامت إلا من صوت أنفاس ناعمة، كان مالك نائمًا على جانبه، يحتضن أسيا، التي هدأت أخيرًا بعد عاصفة من الألم. كانت نائمة على صدره، ويده تلف كتفها كدرعٍ بشريّ، وعيناه مفتوحتان، شاردهما معلق بالسقف.
مالك (بصوت داخلي، يهمس دون حراك):
"البنت نامت... بس أنا؟ أنا قلبي مش نايم. ليه كل ما أفتكرها ألاقي نفسي بضحك؟! جنانها... طريقته صوتها وهي بتقولي إنها بتحبني..."
ضحك بخفوت، ثم عض شفته بقلق.
ممكن تكون مزقوقة عليا من حد عشان
ضم أسيا بقوة كأن الخطر على بابه.
"أنا مش هاسمح لحد يقرب منها... دا انا اقتلهم كلهم"
ثم تنهد وأغمض عينيه، لكن فكره كان سابحًا معها، بكل تفاصيلها.
وفي اللحظة نفسها...
كلاهما كان يحدق في السقف، في توقيت متزامن كأن قلبيهما على خيط غير مرئي، يتنقل بينهما دون استئذان.
انتي مين؟
واسمك اي؟
ماشية ليه ؟
رايحة فين؟
ارجعي
ارجعي
دا الغنا والكلام
مش مكفي اللي انا حاسس بيه
دي بيحصل مرة ف ميت سنة
مش شايف غير انتي وانا