رواية هجوم عاطفي الفصل السادس بقلم هاجر عبد الحليم
في غرفة رودينا
وقفت نصيرة عند باب الغرفة تراقب الفتاة التي تستعد على عجل، وقالت بقلق:
– يابنتي، هتنزلي من غير فطار ليه؟
رفعت رودينا رأسها سريعًا وهي ترتب حقيبتها، وأجابت بتوتر:
– متأخرة يا دادة.
اقتربت منها نصيرة وهي تعقد ذراعيها بقلق:
– لا، مينفعش! إنتي امبارح جاية تعبانة، وخسيتي واتعدمتي، والله لو ما كلتي بزعل كبير بينا.
ابتسمت رودينا رغماً عنها، وقالت بدلال:
– كدا يا دادة؟ بتلوي دراعي عشان بحبك؟
ضحكت نصيرة وهزت رأسها:
– أيوة، يلا كلي، وبعدها روحي شوفي نَصايبك دي.
أومأت رودينا باستسلام وهي تتجه نحو المائدة:
– حاضر يا دادة، إنتي تؤمريني.
ربتت نصيرة على كتفها بحنان، وهمست بدعوة صادقة:
– يجبر بخاطرك ربنا يا بنتي
...
في منزل مالك
كان مالك مستغرقًا في نومه، طفلته الصغيرة تحتضنه كأنها تستمد الأمان من دفء صدره. قطع سكون الليل صوت رنين هاتفه، فحرّك ابن العزايزي يده بتثاقل، وأجاب بصوتٍ متهدّج:
– ألو؟
جاءه صوت غريب، مموّه، لا يُمكن تمييزه، قال بلهجة تنذر بالخطر:
– فضولك هو اللي حرّكك، وخلاك تدور ورا ناس... لو بس عرفوا إنك مش همك وهتروح تبلغ، هيزعلوك بالقوي على أكتر حد يفرق معاك.
جلس مالك فجأة، وقد اشتعل القلق في عينيه:
– مين اللي بيتكلم؟
أجابه الصوت المجهول ببرود:
– تقدر تقول... شخص قلبه عليك ومش عايزك تتوجع. فاعمل خير، وهات الورق... ويا دار ما دخلت شر.
لكن مالك شدد نبرته وهو يقبض على الهاتف بقوة:
– بقولك إيه؟ قول للي بعتك... إن مالك العزايزي بلّغ بالفعل. وكلها ساعات وهتترموا واحد ورا التاني ورا قضبان السجن. واللي عندهم يعملوه، أنا قادر أحمي عيلتي كويس.
ساد صمت قصير، قبل أن يختم المتصل المكالمة بكلمات باردة، حملت تهديدًا مبطّنًا:
– يبقى كدا... خلي الدار يدخلها شر، يا ابن العزايزي.
.....
في زاوية معتمة من شرفته، وقف مالك ممسكًا بهاتفه، قلبه يخفق كطبول حرب، والخوف على أحبّته يخنقه. ضغط على زر الاتصال، وبمجرد ما سمع صوت اللواء، خرج صوته مرتبكًا، تتخلله نبرة رجاءٍ وغضبٍ مكتوم.
– ألو، يا فندم؟
جاءه الرد بنبرة ثابتة:
– أيوة يا مالك.
– اسمعني يا فندم... واسف اني بتكلم بانفعال، وأتمنى تسامحني، بس أنا أعصابي مشدودة، وخايف قوي على أهلي. أنا دنيتي كلها عبارة عن أمي وبنتي... مراتي توفت في حادثة عربية، ووصّتني عليها. أنا لو مت، البنت هتضيع، ومش هتلاقي حد يحنّ عليها.
سكت اللواء لحظة، ثم سأله بهدوء العارف:
– جالك مكالمة تهديد، مش كدا؟
مالك.. حصل، يا فندم... وكنت متوقع ده. الورق كله بقى معايا، بس أنا مش مأمن عليه عندي، شايله عند محامي ثقة. لازم تحموا عيلتي... أنا مش عارف ممكن يعملوا إيه، وإلا
رد اللواء بنبرة صارمة:
– مفيش "وإلا يا مالك. إحنا هنزوّد الحراسة على البيت، وهنراقب الخط. بس بلاش اندفاع، وتتصرف من دماغك... إنت فاهم؟
تنهد مالك، ثم قال بصوت محمّل بالعزم والقلق:
– أنا مستعد أدفع تمن إني خدت الورق، ولعبت مع شبكة كبيرة... يا عالم آخرتها فين. بس مش مستعد أدفعه في بنتي، يا فندم. أنا لو جرالها حاجة، مش هيهمني لا قانون ولا حكومة... وهاخد حقي بإيدي. أنا جيتلكم وبمد إيدي ليكم... لو حد سابني، مش هسمي عليهم.
صمت اللواء للحظة، ثم أجابه بحزمٍ صادق:
– إنت مش في حرب معاهم يا مالك... خلي بالك من بنتك، وسيب الباقي علينا
أغلق اللواء المكالمة مع مالك، ثم التفت نحو رودينا التي كانت واقفة تسترق السمع. كان قلبها يخفق بعنف، كأن كل نبضة تؤكد لها ما لم تكن واثقة منه من قبل... مالك بريء.
الآن فقط، شعرت أن واجبها تعدى مجرد تنفيذ الأوامر. أصبح عليها أن تحميه، أن تقف في ظهره، وتواجه معه تلك الشبكة التي تحيطه بالخطر.
همست لنفسها:
"يا رب يعرف إني كنت بأنفذ أوامر، وإنّي ما كنتش حرة أختار. بس بعد اللي سمعته، مستحيل أسيبه لوحده."
تمنت من أعماقها أن يسامحها حين يكتشف أنها شرطية، وأن وجودها في حياته ما كانش صدفة... بل مهمة.
.....
كان مالك واقفًا أمام الشبابيك الزجاجية، ينظر إلى الخارج بشرود. وفجأة، وقعت عيناه عليها... فتاة تجلس على أحد المقاعد، تحمل كوبًا من الشاي بالنعناع، وسماعة في أذنها، بينما عيناها معلّقتان به بنظرة هيام واضحة.
شدّه المشهد. دقّ قلبه بعنف، وكأن الزمن توقّف للحظة. ركّز في ملامحها جيدًا...
يا الله، معقول هي!
نعم... هي نفسها. الفتاة "المجنونة" التي اقتحمت حياته فجأة، وبدأت تظهر له في كل مكان يذهب إليه، تلك التي عايش معها مواقف لم يكن ليصدقها لولا أنه عاشها بنفسه.
فتاة غير متوقعة، وكأنها من عالم آخر... ومع هذا، تركت أثرها في قلبه.
رودينا كانت تنظر إليه مباشرة، ابتسامة خفيفة على وجهها، ثم رفعت يدها ولوّحت له بإشارة هادئة.
داخله كان في صراع رهيب... بين غضبه، ودهشته، وشيء أعمق بكثير لم يستطع تسميته.
وفجأة، وكأنه لا يتحكم بنفسه، أغلق الباب بعنف.
ضحكت رودينا لنفسها، وكأنها كانت تتوقع ردّ فعله.
– "أكيد دلوقتي هييجي عندي انا واثقة اوي ف نظرته دي لازم استعد كويس"
قالتها وهي تنهض من مكانها، تتجهّز للقائه،
ركض مالك نحو الباب، ثم خبطه بعنف. فتحت رودينا الباب بسرعة، وحينما رآها، ابتسم قليلاً.
رودينا: "إيده مالك، ليك وحشة يا راجل." قالتها بصوت منخفض، وكأنها كانت تضحك رغم التوتر.
كان مالك على وشك الدخول، لكن رودينا منعت دخوله بيدها، موجهة له نظرة حازمة.
رودينا: "لا، عيب. ما ينفعش تدخل كده، أنا في بيت لوحدي. مش مناسب، شكلك جاي عشان تتخانق. بعد إذنك، استنى خمس دقايق لحد ما أغير، وننزل مع بعض نروح أي كافيه، على الأقل في مكان عام. عشان لو مديت إيدك عليَّ أو عقلك قالك حاجة، ما ألقاش حد أتكئ عليه غيرك." قالت الكلمات بسرعة، مع ملاحظة نبرة من الاستهجان في صوتها، مما جعلها تظهر أكثر قسوة.
مالك: "بت ملاوعة! ملكيش ملكة، وشكلك واحدة سايبة، وما ليكيش كبير." قالها وهو يرفع حاجبيه، صوته كان مليئًا بالاستفزاز والغضب، وعينيه تلمعان بالحقد.
رودينا: "الله يسامحك، مش هرد عليك. هتفضل واقف كده؟ ولا هقفل الباب في وشك؟ وبرضه مش هتعرف تتكلم معايا." قالتها بحزم، مع تقطيب حاجبيها، وكأنها تضع حدًا للكلام.
نظر مالك إليها بغضب، ثم خبط بيديه على الباب بعنف، قبضتاه كانتا شديدتين لدرجة أن عروقه ظلت بارزة. هي نظرت إلى يده فوجدت الدم ينزف منها، فتراجعت قليلاً، ثم مسكت نفسها بسرعة، متماسكة رغم الارتباك الذي شعرته.
ابتسمت ضاحكة، ثم توجهت لإغلاق الباب ببطء.
مالك: "لو اتأخرتي عن خمس دقايق، هطلع أجرسك في العمارة دي." قالها وهو يضغط على أسنانه، وعينيه تتوهج بالتهديد.
رودينا: "لا، أنت راجل. متعملهاش، وعندك بنت. وأنت أكتر واحد فاهم في الأصول، يا مالك." ردت عليها بنبرة هادئة ولكن حاسمة، وكأنها تضعه في موقف محرج.
شعر مالك بقلبه ينبض بسرعة، ثم ابتعد مسرعًا وهو لا يستطيع كبح نفسه. بينما كانت رودينا تستعد لما هو قادم، كانت تفكر في كلماتها، عازمة على الاستعداد للعبة التي باتت على وشك البدء.
...
في أحد المقاهي الهادئة المطلة على البحر، جلس مالك أمام رودينا، وعيناه تتفحصان المكان بحذر. كان الجو مشحونًا، ورغم هدوء الواجهة، إلا أن التوتر يزحف في الظلّ.
مالك (وهو يعبث بملعقته بملل): "إيه؟ واكلة سد حنك؟"
رودينا (رفعت حاجبيها بدهشة): "الله! مش بفكر في الكلام اللي بقوله!"
مالك (تمتم وهو يشهق من الضيق): "يا رب... الصبر من عندك."
رودينا (ابتسمت بخفة، تحاول كسر الحاجز): "هو أنا متعبة أوي كده؟"
مالك (نظر لها بتركيز): "مش متعبة... بس لا، إنتي تخلّي الواحد يِتجنن."
رودينا (بثقة مرحة): "مش بس كده، أنا أقدر أوقع أي حد ف حبي كمان!"
تغيرت ملامح مالك قليلاً، وصوته صار أكثر جدية.
مالك: "عايزة مني إيه؟"
رودينا (نظرت في عينيه مباشرة): "بحبك يا مالك."
مالك (تفاجأ، صوته منخفض): "من إمتى؟"
رودينا: "من أول ما فهمت يعني إيه حب... إنت يمكن عمرك ما شفتني قبل كده، لأني كنت بحبك من بعيد. بس أول ما جات الفرصة، لقيت نفسي بظهر قدامك... عشان أقولك على مشاعري. أمنيتي نتجوز... وأكون معاك، وأسعدك، رغم كل الظروف."
تجهم وجه مالك، نظر حوله بشك، ثم عاد بنظره إليها.
مالك: "إنتي شكلك كده معاهم ولا إيه؟ بتّ إنتي؟ حد بعتك ليا؟"
رودينا (بانفعال): "مع مين؟ مش فاهمة! وبعدين بلاش كلمة 'بت' دي، أنا اسمي—"
توقفت فجأة. عيناها اتسعتا وهي تلمح شيئًا من بعيد. كان هناك رجل يقف على سطح مبنى مقابل، يثبت بندقية طويلة، وكأنه... قناص!
فجأة، أمسكت بيد مالك بقوة.
رودينا (بصوت خافت مرتجف): "قوم!"
مالك (متفاجئ): "في إيه؟"
لكنها لم تمهله. سحبته فجأة، وركضت به قبل أن تصفر رصاصة بالقرب من رأسه. تعالى صراخ الناس من حولهم، وبدأوا في الهرب.
رودينا (وهي تركض): "بطل تبصلي كده! بص قدّامك!"
واصلوا الجري، وعيناها لا تتوقفان عن المسح السريع للمكان. لمحت رجلين يتقدمان نحوهما من الجهة المقابلة، يحملان شيئًا خفيًا تحت المعاطف.
مالك (همس بقلق): "شايفة اللي أنا شايفه؟"
أومأت رأسها بسرعة، ولم تنتظر. أحدهم أخرج مسدسًا. التقت عيونهما، صمتٌ خاطف مرّ بينهما.
رودينا: "تعالى معايا."
مالك: "رايحين فين؟!"
لم ترد، هرولت نحو حافة الرصيف المطل على البحر، نظرت إليه لحظة.
رودينا: "بتـ... بتهزر؟"
مالك (بصوت عالٍ وهو يراقب الأعداء): "يلا!!!"
وفجأة، قفزا معًا في البحر في لحظة واحدة.
في ذات اللحظة، انطلقت الرصاصات خلفهما، وزادت حدة الصراخ من رواد المقهى. الناس يركضون، الأطفال يبكون، الكراسي تتطاير.
وقف الرجلان فوق الرصيف، أطلقا عدة رصاصات تجاه الماء، ثم ركبا دراجة نارية واختفيا بسرعة بين الزحام.