رواية ابتليت بها الفصل الخامس بقلم قطر الندي
كان الصباح قد حلّ على البيت الريفي بنعومة لا تشوبها حركة زائدة، ضوء الشمس تسلل عبر الضباب الخفيف الذي تلاشى شيئًا فشيئًا فوق التلال الممتدة لينثر خيوطه الذهبية فوق الحديقة والمروج، ويبعث دفئًا لطيفًا يوقظ التفاصيل رويدًا رويدًا.
في الحديقة الخلفية، كان فؤاد يسير ببطء بين الممرات الحجرية، طفلته الصغيرة مستندة إلى ذراعه. ابتسامة هادئة تلوّنت على وجهه وهو يراقب يدها الصغيرة تمتد بفضول نحو الأزهار البرية المتمايلة على وقع النسيم. ضحكاتها الرقيقة كانت تتناغم مع زقزقة العصافير فوق الأغصان، فتتسلل تلك الأصوات إلى أرجاء البيت كأنها لحن صباحي خافت.
رائحة القهوة الطازجة والمعجنات الدافئة بدأت تتسرب من المطبخ، حيث كانت مدبرة المنزل منشغلة في إعداد الفطور بعناية صامتة. يداها تتحركان بخبرة وهدوء، بينما بين حين وآخر ترفع رأسها نحو النافذة، تلقي نظرة خاطفة على الحديقة، وابتسامة راضية تعبر وجهها عند رؤية الشاب وابنته ينعمون بسكون هذا الصباح.
قرب النافذة المطلة على الحديقة، وقفت حنين، كتاب مفتوح بين يديها. لكن عينيها هجرتا السطور منذ وقت طويل.
كانت تتابع المشهد بهدوء: الأب وطفلته وسط الخضرة، ضوء الشمس يتخلل أوراق الشجر ويلقي على وجههما لمسات ذهبية خافتة. على الطاولة الصغيرة بقربها، كان كوب الشاي الدافئ ينبعث منه بخار خفيف، والهواء العليل القادم من النافذة يحرك خصلات شعرها بنعومة.
في ملامحها ارتسمت سكينة ناعمة، سكينة تشبه صباح الريف حين يغمره الصمت المطمئن، ذلك النوع من الهدوء الذي يجعل الأنفاس تنزل عميقة في الصدر، وكأن العالم خارج هذه اللحظة لا وجود له.
🌺🌺🌺
بينما كان الهدوء يعمّ المكان، متسللاً في كل زاوية من البيت الريفي، تفجرت اللحظة فجأة. أولى علامات الاقتراب هي صوت محركات السيارات الفاخرة التي زأرت عبر الطرق الضيقة المؤدية إلى المنزل الصغير، ثم تبعتها أصوات الإطارات تحتك بالأرض، تُعلن عن وصول ضيف ثقيل. في لحظات قليلة، تغيّرت الأجواء و اختفى الهدوء.
جلبة لم تكن معتادة هنا؛ رائحة العوادم التي اختلطت مع هواء الصباح، أصوات احتكاك أبواب السيارات الفخمة، خطوات حادة تتسارع على الرخام الخارجي، وتلك الحركات المرتبكة لبعض العاملين في البيت الذين هرعوا لتقديم الخدمة.
ثم، دخل الرجل الذي يتوجس منه الجميع.
السيد مراد، صاحب الهيبة التي لا يمكن تجاهلها. حتى الهواء نفسه بدا وكأنه توقف للحظة احترامًا لمروره.... كان في كامل أناقته، بدلة سوداء داكنة بتفاصيل دقيقة، حذاؤه اللامع يقرع الأرض بثقل، وكأن كل خطوة تزرع في المكان حضورًا لا مفر منه.
عيونه الداكنة كانت حادة كأنما قُدر لها أن تُسجّل كل شيء في محيطها، لكن لم يكن هنالك أي ملامح للترحاب في وجهه، فقط مظاهر قوة وحسم، كما لو أن المكان كان بحاجة إلى أن يعرف من هو صاحب السلطة هنا، حتى الريف بأسره بدا متسلّطًا بهيبته، فيما كانت نظرات العاملين تتبع حركاته باحترامٍ، لكن دون أن تخلو من الحذر.
في لحظة واحدة، اختفت كل مسحة من السكينة، وحلّ توتر غير مرئي في الجو.
اقتربت حنين من النافذة، وتوقفت لبرهة…لحظة مفاجئة، لكنها كانت تعلم أن مجيئه يعني بداية شيء مختلف.
شيئًا أكبر من هذا الصباح الهادئ، شيئًا قاسيًا، وقويًا، تمامًا كما كان يبدو في كل مرة يظهر فيها.
أما فؤاد، فقد ألقى عليه نظرة سريعة، ثم عاد نظره إلى الطفلة بين ذراعيه، وكأن محيطها هو الشيء الوحيد الذي يطمئنه.
في البيت، كان الهواء لا يزال مشبعًا ببقايا صباح هادئ لم يكتمل… حتى دلف مراد إلى الداخل. خطواته الرزينة تشق الأرض بخشونة محسوبة، ومع كل خطوة، بدا كأن الفراغ نفسه ينحسر ليُفسح له المجال. عبر الرواق الرئيسي واتجه صوب الصالة حيث تقف تلك الفتاة التي تسببت في هذا التوتر الذي يزعجه منذ الليلة الماضية.
حنين، التي كانت قد أغلقت كتابها وتقدمت بهدوء عندما سمعت جلبة السيارات، توقفت في مكانها حين وقعت عيناها عليه. و لرهة قصيرة… ارتبكت أنفاسها.
الرجل الواقف أمامها لم يكن مجرد شقيق مضيفها، بل كتلة صلبة من الحضور.... قامته الطويلة، ملامحه الحادة التي تتقاطع فيها قسوة التجربة مع جاذبية رجل الأعمال الواثق، و عيناه....
تلك العينان الداكنتان، اللتان استقرتا عليها بثبات بارد، وكأنهما تزيحان طبقات شخصيتها واحدة تلو الأخرى.
نظرات مراد لم تكن عابرة. في البداية، كانت نظرة تقييم دقيقة؛ مدربة، مدققة، كما لو كان يفكك ملامح وجهها بحثًا عن خيط خفي أو سرٍ مستتر.
ملابسها البسيطة، وقفتها الهادئة، تلك اليد التي تماسكت حول الكتاب بوعي لا إرادي…كل شيء فيها لم يشبه أي امرأة التقاها من قبل....كانت بعيدة كل البعد عن البهرجة المصطنعة التي اعتاد رؤيتها،لكن ذلك البُعد بالذات هو ما جعله يتوقف أطول من اللازم.
أحسّت بتلك النظرات تغمرها و أصابت خيطًا حساسًا في أعماقها. قلبها خفق خفقة مرتعشة، بينما في ظاهرها بدت ثابتة و متزنة لكنها لم تستطع منع نفسها من ابتلاع ريقها بصمت، كأن جسدها يتهيأ لمواجهة لا تدري أبعادها بعد.
في تلك الثواني القليلة، لم يكن بينهما أي حديث، لكن تيار خفي، لا مرئي، بدأ ينسج خيوطه الأولى. مزيج من الحذر، جاذبية غامضة وشعور مربك بالاختبار.
رغم صلابته، شعر مراد بوخز صغير لم يعرف مصدره، رجفة سرت عبر شرايينه… قلق مبهم، كما لو أن هذه الفتاة التي لا تشبه نساء عالمه قد تحمل خطرًا لا يفهمه بعد.
أما هي، فقد أحسّت بضعف مباغت أمام قسوة نظراته جعلها تستعد للدفاع عن نفسها دون أن تدري لمَ.
انحنى أخيرًا برأسه إيماءة مقتضبة،
ونطق ببرودة محسوبة:"أنتِ إذن… مساعدة أخي."
لم تجب على الفور، نبرته قاسية تحمل في طياتها كثيرا من الغرور. صوته العميق تردد في مسامعها أكثر مما ينبغي، لكنها تماسكت، رفعت ذقنها قليلًا… نظرة خفيفة من التحدي الهادئ عبرت عينيها، كأنها تقول في صمت:(لن أهرب من عينيك، مهما حاولت.).. احتاجت ثانية لتثبيت أنفاسها قبل أن تقول بهدوء خافت:"نعم، أنا حنين، مساعدة السيد فؤاد."
في أعماق مراد، لأول مرة منذ فترة طويلة، اهتز شيءٌ صغير.
قطعت خطواتٌ مألوفة ذلك الخيط المشدود بينهما. كان فؤاد قد دخل أخيرًا إلى الصالة، يحمل الطفلة بين ذراعيه،
لكن شيئًا في ملامحه تبدّل حين رأى شقيقه يقف قبالة حنين بتلك الهيئة.ملامح التوتر لم تخفَ عن عينَي فؤاد، الذي لم يكن بحاجة لأكثر من نظرة سريعة ليقرأ ما يدور في ذهن أخيه.
بابتسامة باهتة، أقرب إلى المجاملة منها إلى الود الحقيقي، تقدّم نحو شقيقه وقال بصوت خافت، لكنه حازم:
"مراد، جيد أنك وصلت… هل نتحادث على انفراد؟ لدينا أمور يجب مناقشتها."
تسلّلت نظرة سريعة من مراد نحو حنين، لم تدم أكثر من ثانية، لكنها كانت كافية لتُشعل شيئًا غامضًا في الأجواء.
كان كمن ينزع نظره عن مشهد غير مكتمل، أو كأن فضوله قُطع قبل أن يُروى.ثم، وبهدوء متعمد، أدار ظهره لها دون أن ينبس بكلمة إضافية، وسار خلف شقيقه باتجاه الجناح الداخلي للمنزل.
بقيت الفتاة واقفة في مكانها، يداها لا تزالان مستقرّتين على غلاف الكتاب،لكن أصابعها كانت قد انكمشت قليلًا،
كأن جسدها وحده كان يعبّر عن اضطرابها الذي رفضت أن تبوح به ملامح وجهها. في أعماقها، لم تكن متأكدة مما يُزعجها أكثر: قسوة تجاهله المفاجئ، أم التأثير غير المبرر الذي تركه فيها في دقائق معدودة.
🌺🌺🌺
في المكتب الخاص، كانت الأبواب قد أُغلقت خلفهما بإحكام. الضوء المتسلل عبر النوافذ العالية ألقى بظلال طويلة على الجدران المزينة بخشب داكن فاخر.
صوت خطواتهما الخافتة على الأرضية الخشبية كان يتلاشى تدريجيًا حتى استدار مراد بحدة، مواجهًا شقيقه.
نظراته كانت كحد السكين، لكنه لم يكن قاسيًا… بل مشحونًا بقلق متأجج."أتُراك جُننت يا رجل؟"
صوته انخفض، لكنه اكتسى بغضبٍ مضغوط لا يمكن تجاهله. ارتبك فؤاد للحظات، ثم تنحنح محاولًا الحفاظ على رباطة جأشه:
"اهدأ مراد، لست طفلًا كي تُلقي عليّ هذه النظرات."
تقدّم منه الآخر خطوتين، يده انحنت على ظهر أقرب مقعد، قبضته اشتدت حتى ابيضّت مفاصله، ثم قال بصوت خافت لكن مشحون بالتهديد المكبوت:
"لم أقل إنك طفل… لكن ما فعلته متهوّر، بل أخطر مما تتخيل."
سكت للحظة، عيناه الداكنتان تتقدان بوميض قلق خفي، قبل أن يضيف:
"من أين أتيت بتلك الفتاة؟ من هي؟ لماذا لم تُعلمني أنك أحضرت غريبة إلى هنا؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ حين نعلم جميعًا أن الأنظار علينا؟"
زفر فؤاد بصمت، كان واضحًا أنه كان يتوقع هذا الهجوم لكنه ظل محافظًا على هدوئه.
"حنين ليست غريبة كما تظن. إنها مساعدة موثوقة. عملها معي واضح، وأنا من اخترتها لأنها جديرة بالثقة. لم أخبرك… لأنني كنت أعلم أنك ستُبالغ في ردّ فعلك كما تفعل الآن."
استقام مراد بجسده، عبَر أصابعه في الهواء بإيماءة حادة، ثم قال بصوت أجش:
"بالغت؟ أنت لا تدرك بعد خطورة الوضع. أنا لا أعاتبك لأنني أتسلّى… بل لأن هناك تحركات خفية، هناك من يترصّدنا. كل شخص جديد في محيطنا نقطة ضعف محتملة أو عدو خفي."
ثم خفّت حدّة صوته قليلًا، لكنه ظل صارمًا: "أنا خائف عليك… أكثر مما تتصور. هذا كل ما في الأمر."
تطلّع إليه شقيقه للحظة طويلة، قرأ ما خلف تلك القسوة الظاهرة و في النهاية قال بهدوء:
"أنا ممتن لحرصك، مراد. حقًا. لكن هذه المرة… لست وحدي من يتحمّل المخاطرة. لقد اخترت بعناية."
بقي مراد صامتًا، وجهه ظل مشدودًا… لكنه لم يُكمل هجومه، فقط نظر بعيدًا،وكأن شيئًا داخله أربكه أكثر مما أغضبه.
الأبواب انفتحت بعنف، دفعة واحدة كسرت السكون الذي لفّ الممر الطويل.خرج مراد من الغرفة، خطواته عريضة وسريعة، كتفاه مشدودان كمن يحمل على عاتقه صخرة من الغضب المكتوم.
وجهه كان عبوسًا بحدة نادرة، عيناه الداكنتان تقذفان شررًا صامتًا.
في الجهة الأخرى من الرواق، كانت حنين قد همّت بالمغادرة بعد أن أنهت مطالعتها، لكن أنفاسها احتبست حين أبصرته يقترب منها كإعصار عاصف.توقف أمامها فجأة، المسافة بينهما بالكاد شبر. صوته حين نطق كان حازمًا… كحد السوط: "اسمعيني جيدًا…لا أعلم من ظننتِ نفسكِ، ولا بأي حق تخترقين حياتنا بهذه السهولة."
نظراته المثقِّبة غرست نفسها في عينيها، حتى كادت تشعر أنها تترنح أمام وطأتها،لكنها تماسكت، قبضت على طرف سترتها محاولة كتم ارتباكها.
"لا تقتربي من شقيقي مرة أخرى… لا منه ولا من طفلته. وجودك هنا انتهى. اجمعي حاجياتك وارحلي قبل أن أفقد صبري."
صوته لم يرتفع، لكنه كان مشبعًا بسلطة قاسية لا جدال فيها. ارتعشت حنين للحظات، جف حلقها… لكنها رفضت الانكسار. رفعت ذقنها بعناد، عيناها لم تهربا من عينيه رغم شدّة نظراته،
قالت بصوت واضح، وإن خنقه التوتر:
"مع كامل احترامي لك… لست أنت من جلبني إلى هنا ولا من يمنعني عن أداء عملي. أنا لم أؤذِ أحدًا، ولن أسمح بأن تتحدث إليّ بهذه الطريقة."
كلماتها سقطت كصفعة غير متوقعة على وجهه، لثانية قصيرة، ارتسمت دهشة غامضة في عينيه، لم يتوقع من تلك الفتاة ذات القسمات الرقيقة أن تردّ عليه بشراسة مكتومة، لكن تلك الجرأة لم تُثنه، بل زادت من احتدام الغضب في أعماقه.
تقدّم خطوة إضافية، صوته انخفض أكثر حتى بات كزمجرة متحكّمة:
"جرأتك لا تعنيني، ولن تغير من الواقع شيئًا. وجودك بيننا خطأ لا يمكن أن أتغاضى عنه فلا تتحديني…اغربي عن وجهي قبل أن أجعلك تندمين على كل دقيقة قضيتها هنا."
كلماته الأخيرة خرجت كالقصف و جعلتها تشعر بحرارة الإهانة، لكن لم تترك لعينيها أن تلمع بدموع الانكسار… التقطت أنفاسها بصعوبة، ثم أدارت ظهرها برأس مرفوع وغادرت بخطوات ثابتة، رغم أن صدرها كان يغلي من الغضب والقهر.
بقي واقفًا، عينيه تتابعان ابتعادها، و في أعماقه، لم يكن الغضب وحده ما يشتعل…بل ارتباك خطير من شراسة لم يتوقعها…
ومن تأثير لم يفهم مصدره بعد.
خرجت حنين من الرواق بخطوات متسارعة، لم تلتفت خلفها، ولم تجرؤ على إبطاء حركتها رغم أن قلبها كان يثقل صدرها كصخرة ضخمة. ما إن ابتعدت عن مجال رؤيته حتى اهتزت أنفاسها، وكأنها كانت تحبسها منذ لحظة المواجهة.
وصلت إلى غرفتها…أغلقت الباب خلفها بإحكام، وأسندت ظهرها إليه، عيناها الواسعتان كانت تتسعان أكثر، ليس من الخوف بل من الخيبة القاسية التي خنقت حنجرتها. أسقطت نفسها ببطء على حافة السرير، أناملها تشبّثت بحافة الغطاء، كأنها تبحث عن شيء يمسكها كي لا تنهار.
مرت لحظات ثقيلة… لم تكن دموعها تنهمر، بل كانت عالقة في مقلتيها، ساخنة ومتجمدة في آن، كلمات مراد الجارحة ترنّ في أذنيها كطعنة صدئة تتكرر بلا هوادة:"وجودك هنا انتهى… اغربي عن وجهي…"
شدّت على شفتيها، أغمضت عينيها بقوة في محاولة يائسة لصدّ الموجة التي اجتاحت صدرها. لقد بذلت جهدًا هائلًا خلال تلك الأسابيع، أثبتت كفاءتها… شعرت بانتماء صادق لأول مرة منذ زمن طويل، لكن في لحظة… انتُزِعت منها الفرصة، لا بسبب خطأ ارتكبته، بل فقط لأن رجلًا متغطرسًا قرر أنها فرد غير مرغوب فيه.زفرت بصوتٍ مكسور، ثم نهضت ببطء إلى خزانتها… يديها ترتجفان وهي تفتحها، بدأت تجمع أغراضها القليلة بعناية، كل قطعة تحمل ذكرى قصيرة من الأيام الماضية. يدها توقفت على وشاح صغير كانت قد نسيته في أحد النزهات مع الطفلة، عقدت قبضتها عليه بشدة…لم يكن الألم فقط بسبب خسارة العمل، بل بسبب فكرة مغادرة الصغيرة التي تعلقت بها بقلبها كاملًا.
همست لنفسها، بصوت لا يكاد يُسمع:
"لماذا… لماذا الآن…؟"
لكنها مسحت دموعها بعناد، عزة نفسها رفضت أن تبكي علنًا أو أن تهرب باكية كمن هُزِم. قررت أن تخرج مرفوعة الرأس، حتى لو كان قلبها ينزف بصمت.
لم تكد حنين تفرغ من جمع حاجياتها، حتى انفتح باب الغرفة بهدوء.رفعت رأسها بسرعة، وجدت أمامها السيد فؤاد، واقفًا بهيئته الأنيقة المعتادة، لكن مظلم الملامح، متجهمًا كما لم تره من قبل. كان يحمل في عينيه مزيجًا مربكًا من الانكسار والتعب.
وقف هناك، للحظة بدا وكأنه يبحث عن الكلمات بدقة… قبل أن يتقدم خطوة، صوته خرج منخفضًا ومحمّلًا بالأسى:
"حنين… أنا آسف بسبب ما حدث."
توقفت عن طيّ سترتها، نظرت إليه بجمود، أنفاسها مختلطة بين الخيبة والحذر. تابع، نبرته هادئة لكنها مرهقة:
"لقد طلب مني شقيقي أن أعود إلى القصر. تعلميني جيدًا… أنا لا أعارضه، ليس لأنه يرغمني… بل لأنني أعلم أنه لا يطلب شيئًا دون سبب.ثقته تعني لي الكثير… وأنا مضطر لاحترام رغبته، مهما خالفت رغبتي أنا."
اقترب أكثر، حتى أصبح مقابلها تقريبًا.عينيه، على خلاف نظرات شقيقه القاسية، كانتا صادقتين دافئتين، تحملان نوعًا من الحزن العميق.
"أنتِ كنتِ نعم العون هنا، وأنا أقدّر كل ما قدمته خلال هذه الأسابيع. ولأنني مدين لك بالكثير… لن أترككِ تخرجين هكذا. إن كنتِ بحاجة لأي توصية، لأي دعم، وظيفة… فسأكون مستعدًا لأفتح لكِ كل الأبواب الممكنة."
لم تتكلم فورًا، حلقها مشدود، وعينيها بحثتا في ملامحه عن أي ذرة كذب فلم تجدا. لأول مرة منذ ساعات، تشقق الجليد الذي طوّق قلبها. أدارت وجهها للحظة، تجمعت أنفاسها ثم التفتت إليه قائلة بهدوء:
"أشكرك سيد فؤاد… هذا لطف كبير منك. ليس من السهل أن أبدأ مجددًا… لكنني لن أرفض فرصة صادقة."
منحها ابتسامة هادئة لكنها مملوءة بالاعتذار: "أتمنى أن تتفهمي… أحيانًا هناك قرارات لا يمكننا أن نتجاهلها."
أومأت حنين برأسها، لم يعد الغضب في عينيها، بل قبول حزين.
بدأت تغلق حقيبتها بصمت، و بقي هو واقفًا للحظات، كأن قلبه يثقل بخسارتها هو الآخر.
🌺🌺🌺
مرّ أسبوع ثقيل منذ عودة الشقيقين إلى القصر، الأجواء استعادت شيئا من سكونها الظاهري، وكأن ما حدث في الريف لم يكن سوى غيمة صيفية عابرة.
مراد بات أكثر هدوءًا في تعاملاته مع شقيقه، لم يعد التوتر بادياً على محياه كما في الأيام الأولى، لكنه لم يفقد تلك الصلابة المتحفزة في عينيه… كان واضحًا أن اطمئنانه على سلامة شقيقه أعاد إليه جزءًا من توازنه.
في الأمسيات الطويلة، جلسا معًا أحيانًا، يتبادلان الحديث عن العمل، عن مستجدات الشركة، وحتى عن ذكريات الطفولة، لكن في خلفية المشهد، ظل الحذر خيطًا مشدودًا في صدره.
عقله لا يهدأ عن التفكير…كانت هناك قطع مفقودة في الصورة،أسئلة معلقة لم يجد لها جوابًا، ورغم رحيل تلك الفتاة البسيطة —حنين— عن المشهد، إلا أن شيئًا غامضًا ما زال يؤرقه… شعور غريزي بأن الخطر لم ينتهِ بعد.
كان يُكثر من جلساته مع رئيس الحراس، يناقش معه تفاصيل أمن القصر، تحركات رجال الشركة، ويراجع الخطط الأمنية بأدق تفاصيلها. لا يترك بابًا دون أن يغلقه بإحكام… فهو ليس من الرجال الذين يسمحون للمجهول أن يباغتهم مرتين.
أما في أحد الأحياء الهادئة في قلب إسطنبول،عادت حنين إلى روتينها البسيط، وكأن الأسابيع التي قضتها هناك لم تكن إلا حلمًا قصيرًا. شقتها الصغيرة بطابق ثالث تطل على الأزقة القديمة، صوت الباعة المتجولين في الصباحات، وضجيج الأطفال في المساء… كل شيء عاد مألوفًا ومريحًا.
كانت تستيقظ مبكرًا، تذهب لمكتبة الحي حيث تعمل مساعدة إدارية بدوام جزئي.
لكن الحقيقة؟ لم تكن تلك الفتاة نفسها كما قبل. لقد حملت في أعماقها ثقل التجربة الماضية، كلما انغمست في صفحات كتبها، كانت وجوه معينة تقفز إلى ذاكرتها — وجه الطفلة البريئة، وجه دكتورها بابتسامته الدافئة، و… نظرات مراد القاسية الصارمة.
ورغم أن الحياة حولها هادئة ورتيبة، قلبها ما زال يخفق بنبض مختلف، مزيج من حنين خفي و فضول غامض نحو عالم أدركت أنها غادرته قبل أوانه.كانت تجلس أحيانًا في مقهى الحي، تطالع بصمت خلف زجاج النافذة… وعندما تغفو لحظة، ترتسم في بالها ملامح الطفلة الصغيرة التي تعلقت بها. عندها، تبتسم بشجن وتهمس:"آه… لقد افتقدتكِ حقًا، صغيرتي…"
🌺🌺🌺
في قلب إسطنبول النابض، وتحديدًا في قاعة "تشيراغان" الأسطورية المطلة على مضيق البوسفور، احتشدت النخبة من رجال الأعمال، الدبلوماسيين، والشخصيات الرفيعة لحضور حفل اقتصادي دولي مرموق.
الأضواء المتلألئة انعكست على الجدران ذات النقوش العثمانية الذهبية، والثريات الكريستالية سكبت ضوءًا ناعمًا فوق الطاولات التي ازدانت بأفخر ترتيبات الزهور البيضاء والكريستالية.
كانت الموسيقى الحية تنساب برقة من ركن بعيد، أنامل عازف بيانو ماهر تُترجم أنغامًا كلاسيكية رفعت من فخامة الأجواء.
عند مدخل القاعة، توقفت الأنظار جميعها بحضور التوأم الشهير، مراد دخل أولاً، شامخًا، ببدلة رسمية فاحمة السواد ذات قصّة إيطالية دقيقة، قميص أبيض ناصع وربطة عنق حريرية أنيقة بلون الفحم.
خطواته محسوبة، نظراته صارمة وواثقة، كل من التفت نحوه رأى فيه رجل الأعمال الذي لا يُجاريه أحد: عقل حاد، حضور مهيب، وسلطة لا تنكر.
إلى جانبه، خطا شقيقه، أكثر ليونة في ملامحه، ذكاء هاديء لكنه لا يقل هيبة.
بذلته الزرقاء الداكنة أكسبته مسحة من الأناقة الهادئة، ابتسامته الدافئة وهدوءه الطبيعي خلقا توازنًا مدهشًا مع حدة مراد، وكأنهما وجهان لعملة واحدة.
تحركا بثقة وسط الجموع، يتبادلان التحايا مع كبار رجال الاقتصاد، خبراء الأسواق، وشخصيات سياسية رفيعة.
وفي قلب الحفل، كان ماركو بيلانوفا —
رجل الأعمال الإيطالي ذو السمعة العالمية — ينتظر بابتسامته الهادئة، بذلته الرمادية الفاخرة تُبرز وسامته الأوروبية الباردة. رغم لطف ملامحه، كانت عيناه الفولاذيتان توحيان بخبرة ودهاء لا يستهان بهما.
صافحه مراد بقوة مقصودة و رحب به بنبرة قوية،
«ماركو، أهلا وسهلا بك في إسطنبول.»
ابتسم الإيطالي وهو يربت على ذراعه:«تشرفت بوجودي هنا، مراد… كما توقعت، النجاح يُحالفكم كما العادة.»
احتدت الكؤوس من حولهم، نخبُ نجاحات الشراكات العابرة للحدود يُرفع بين الوجوه البلاسمة. ضحكات متأنقة تتناثر في الهواء، والحوارات بالإنجليزية والإيطالية والتركية تتشابك بلغة رجال الأعمال.
جلس الثلاثة لاحقًا في صالة جانبية مخصصة لكبار الضيوف، حيث الجدران المغطاة بالخشب المصقول والستائر المخملية الحمراء أضفت دفئًا كلاسيكيًا يليق بوزن الاجتماع.
كان سير الأعمال يتقدم بسلاسة، الصفقات تُبرم بلباقة، والخطط الاستراتيجية تُناقش فوق أنخاب النجاح.
وفي تلك اللحظة — بين وهج الأضواء وانسياب الموسيقى — كان واضحًا أن الأخوين باتا أحد أعمدة عالم الأعمال، ورجال مثل ماركو لا يقصدون إسطنبول عبثًا.
بينما كانت أنغام البيانو تعلو في الخلفية وضحكات النخبة تنساب كخيوط ناعمة،لم يلحظ معظم الحضور أن عيونًا أخرى تراقب من خلف ستارة مخملية ثقيلة تطل على صالة كبار الضيوف.
رجل ببدلة رمادية داكنة، ملامحه غير ملفتة عمدًا، شَعره المصفف بعناية لا يخفي قسوة قسماته، كان يحمل في يده جهاز اتصال صغير الحجم يلتصق بأذنه بإتقان خبير. صوته الخافت، بالكاد يُسمع، خرج ببرود: "ماركو اجتمع مع الأخوين. الخطة ستُؤجل الليلة. الأجواء صلبة و لا مجال للخطأ."
على بُعد خطوات، كانت سوزي — الشقراء الأنيقة — قد اندست بين المدعوين بحرفية. فستانها الأحمر الداكن، كتفاها العاريان، وضحكتها الرقيقة كانت تغلف دورها الحقيقي. بين لحظة وأخرى، كانت عيناها الحادتان تتسللان بذكاء نحو الزاوية التي يجلس فيها مراد وشقيقه وماركو. من بعيد، أومأت بخفة نحو الرجل خلف الستارة، إشارة مفهومة بينهما. ابتسمت بعدها برقة لصاحبة مجلة أعمال مرموقة، ثم همست وهي ترفع كأسها:
"ليلة طويلة… ومثيرة للاهتمام."
في تلك اللحظة، كان مراد يقطب جبينه للحظات دون أن يدري السبب…حدسه القديم، الذي لم يخذله يوما، ارتجف بشيءٍ خفي. نظرات ماركو — وإن كانت هادئة — لم تخلُ من لمحة غامضة وكأن المسرح الأنيق ما هو إلا غطاء لمسرحية أكبر لم يبدأ عرضها بعد.
مع اقتراب عقارب الساعة من منتصف الليل، بدأت الأنوار تخفت تدريجيًا في القاعة، إعلانًا غير مباشر عن اقتراب ختام الأمسية الفاخرة. الموسيقى تباطأت، والضحكات خفتت، بينما توزّعت النظرات بين توديعٍ مهذّب وتعبٍ خفي.
نهض مراد أولا و استقام بكامل قامته المنتصبة، معطفه الكحلي الداكن تدلى بثقلٍ فوق كتفيه العريضين، زرّه الأول أغلقه بحركة سريعة ومرتبة، ثم سحب كُم قميصه لينظر لساعة معصمه بحركة صارمة. نظره انزلق ببطء نحو شقيقه وقال بنبرة منخفضة لكنها حاسمة:"كفى لليلة، حان وقت المغادرة."
التقط فؤاد الرسالة دون اعتراض.ابتسامته الهادئة لم تفارقه، لكنه أدرك أن مراد — بطبيعته الحذرة — لا يُطيل المكوث حينما يهمس حدسه بشيء خفي.
"بالطبع"، أجاب وهو يسحب سترته برشاقة على كتفيه.
معًا، خطيا خارج صالة كبار الضيوف بخطوات منضبطة وهادئة، تبعتهما نظرات الفضوليين والمنافسين على حد سواء. عند مدخل القاعة، كانت فرقة من الحراس الشخصيين ببدلاتهم الداكنة تنتظر بانتظام مُبهر و في الخارج، موكب سياراتهم الفاخرة — سوداء لامعة، نوافذها مظللة بإحكام —كان مصطفًّا بجانب السجادة الحمراء تحت الأضواء الدافئة.
فتح أحد الحراس الباب الخلفي للسيارة الرئيسية بخفة. تبادل مراد نظرة سريعة مع شقيقه — نظرة صامتة حملت اتفاقًا غير منطوق: الأمسية انتهت لكن اللعبة لم تبدأ بعد.
ركبا السيارة معًا، و مع انزلاق الأبواب وغلقها بإحكام، تحرك الموكب بسلاسة تحت جنح الليل، عجلاته تشق طرق المدينة المبللة بندى المساء، تاركين خلفهم الحفل، و بعض العيون المراقبة
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم