رواية ابتليت بها الفصل السادس بقلم قطر الندي
وسائل الإعلام التركية – صباح اليوم التالي، في العناوين العريضة لمختلف القنوات الإخبارية والمواقع الرقمية، تصدّر الخبر المشهد:
"حادث غامض يطال رجل الأعمال الشهير مراد طوروس قرب ضواحي إسطنبول، مصادر أولية، لم تؤكد ان كان حادث سير أم محاولة استهداف؟"
في قناة إخبارية رصينة، ظهرت المذيعة بنبرة مشدودة، تقرأ من أمام الكاميرا:"وردنا الآن خبر عاجل يفيد بتعرض السيد مراد طوروس، أحد أبرز رجال الأعمال في تركيا، لحادث مروري خطير ليل أمس. الحادث وقع على الطريق السريع المؤدي إلى فيلات طوروس الخاصة خارج المدينة.
المعلومات الأولية تشير إلى اصطدام عنيف بسيارة أخرى، وسط تضارب حول إن كان الحادث بفعل فاعل و لا يزال مصير رجل الأعمال الشاب مجهولا."
داخل مكاتب مجموعة طوروس القابضة، هواتف لا تتوقف عن الرنين، موظفون مذهولون، حيرة على وجوه الجميع.
فؤاد، شقيق مراد، وقف أمام نافذة مكتبه في الطابق العلوي، وعيناه تتابع بث الخبر على الشاشة الضخمة.
في الشارع
مواطنون يتابعون المشهد عبر هواتفهم، بعضهم يتساءل، وآخرون يتكهنون.
شائعات تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي:
"كان مستهدفًا!"
"الشاحنة ظهرت فجأة واختفت!"
"تورط سياسي؟ أم انتقام تجاري؟"
في مكان مجهول – بغرفة مظلمة
رجل بملامح أوروبية باردة يطالع الشاشة ببرود و على طرف فمه ارتسمت ابتسامة بالكاد تُرى.
"المرحلة الأولى… نُفذت بدقة."
⚡⚡⚡
صباح رمادي – صوت المطر الخفيف يطرق زجاج النوافذ، في شقة حنين البسيطة كان الصمت يخيّم على المكان، لا يُكسره سوى صوت تقليب صفحات كتاب قديم كانت حنين تطالعه، جالسة على أريكة رمادية مهترئة بعض الشيء، وكأنها تحاول أن تشتت نفسها عن التفكير.... لكن الهدوء لم يدم طويلاً.
دخل علي على عجل، وجهه مشدود، وعيناه تائهتان تبحثان عن طريقة لإيصال الخبر دون أن ينهار صوته:
"حنين…لدي خبر جئت أبلغك به…"
رفعت رأسها ببطء، متوجسة من نبرته المضطربة.
"علي!!!! ما الأمر ؟"
تردد، ثم قال بصوت مبحوح:
"مراد طوروس…تعرض لحادث سير خطير…يقال انه توفي."
اتسعت عيناها بهلع، ثم انكمشت ملامحها في لحظة كأنها تلقت صفعة مفاجئة.وقع الاسم عليها كان كالقنبلة... الرجل الذي أرهق أعصابها، الذي اصطدمت به ذات مرة كحائط صلد، لكنه أيضًا الرجل الذي.... دائمة التفكير به.
"مات؟ مستحيل… مستحيل!" همست، والكتاب سقط من بين يديها.تقدم منها علي، جلس قربها وهو يقول بحذر:
"الخبر منتشر في كل المواقع... حادث سير مروّع. لكن لا أحد أكّد رسميًا."
وضعت يدها على فمها، تخنق شهقة خرجت من أعماق صدرها.
تذكرت صوته، نظراته الثاقبة، الحدة التي كانت تخفي شيئًا أعمق، ذلك الغرور النادر، تلك الهيبة التي قلما رأت مثلها...به سحر خاص، شيئًا جعل قلبها يخفق رغم كل الصدامات.
"لم يكن مجرد رجل قاسٍ... كان جدارًا يخفي خلفه شيئًا مكسورًا."
لكن الألم الحقيقي لم يكن له وحده... بل لتوأمه فؤاد الذي لم يتجاوز بعد وفاة زوجته. ذلك الرجل الهادئ، الذي احتضنها حين كانت تائهة، الذي منحها فرصة للحياة رغم كل شيء.
"فؤاد..." تمتمت وهي تنهض، تتلفت حولها كأنها تائهة في شقتها الضيقة.
"علي، لا أصدق ما حدث."
لم يقل شيئًا، فقط أومأ برأسه، وهو يرى تلك الصدمة وقد زرعت في عينيها بريقًا من الحزن والقلق معًا. حنين لم تكن تحب مراد… لكنها الآن، لا تنكر أنها فقدت شيئًا لم تفهمه حتى فُقد.
⚡⚡⚡
في مقبرة خاصة – يوم غائم، مهيب السكون اصطفت السيارات الفاخرة على طول الطريق المؤدي إلى المقبرة في ضواحي إسطنبول، بعضها يحمل أرقامًا دبلوماسية، وأخرى تابعة لشركات كبرى. رجال ببدلات سوداء، ووجوه جامدة، يحاولون التماسك أمام عدسات الصحافة التي اكتظ بها المكان، رغم منع التصوير الرسمي.
وقف فؤاد طوروس في المقدمة، ملامحه منهكة لكنها ثابتة، وقد ارتدى معطفًا داكنًا فوق بدلته السوداء، كانت عيناه حادتين تحدقان في الأرض كأنهما ترفضان التصديق. إلى جانبه وقف رئيس الحرس الشخصي، وصديقه المقرب كامل، الذي لم يفارقه منذ سماع النبأ الحزين.
كلّ من في المكان التزم الصمت، سوى آيات تلاها شيخ يرتدي عباءة رمادية، صوته شجِيّ يلفّ المكان كندبة قديمة انفتحت من جديد.
نُقل النعش المغطى بعلم البلد إلى مثواه الأخير، وسط طابور من الرجال الصامتين. زهور بيضاء نُثرت فوق التابوت، وأكفّ مرفوعة للدعاء، وأعين لا تجفّ، ولا تفصح.
اقترب أحد رجال المال المعروفين من فؤاد، وهمس باحترام:
"رحمه الله، لقد خسرنا قائدًا لا يُعوَّض."
أومأ فؤاد بصمت، لكنه لم يرد، فقد كانت الكلمات تنكسر داخله ولا تجد سبيلًا للخروج.
وقفت حنين في الخلف، بعيدًا عن الصفوف الأمامية، متخفية بوشاح داكن، تخفي نصف وجهها. كانت تنظر نحو الجموع، وعيناها تتسربلان بالدموع بصمت. لم تكن جزءًا من عالمهم، لكنها كانت شاهدة على ما لا يعرفه الآخرون.
تمّ الدفن بصمت مهيب، ثم بدأ الناس بالانسحاب، بينما بقي فؤاد واقفًا في مكانه بعدما انفضّ الجمع.
اقترب كامل منه وقال بهدوء:
"لقد حان وقت الرحيل، سيد فؤاد."
أجابه بصوت خافت:
"لن أرحل… إلى أن أوقن أنه يرقد بسلام."
وقف صديقه غير بعيد عنه بصمته المهيب، واحترم ذلك الحزن النبيل الذي يليق برجلٍ ودّع شقيقه، لا فقط شريكه.
لم يكد صباح اليوم التالي يبزغ على شاشات الأخبار، حتى كانت صورة مراد طوروس تتصدّر العناوين الكبرى.
"حادث مروّع يودي بحياة رجل الأعمال الشاب والناجح مراد طوروس!"... "خسارة موجعة للسوق الدولية!"
"هل تهتز الإمبراطورية المالية لعائلة طوروس؟"
في مكاتب الشركات الكبرى، وعلى طاولات الاجتماعات الطارئة، خيّم الذهول. كان مراد أحد أعمدة السوق الأوروبية و يُحسب له ألف حساب. رؤساء تنفيذيون، شركاء أجانب، مستثمرون كانوا على وشك توقيع العقود الأخيرة... الكل صُدم، الكل تساءل عن مصير الصفقات، عن الفراغ الذي سيخلّفه غيابه.
في الظاهر، كانت المجاملات والبرقيات تنهال من كل حدب وصوب، لكن خلف الستار، بدأ الطامعون يسنّون أسنانهم، ينتظرون اللحظة التي تتزعزع فيها إمبراطورية "طوروس القابضة".
في شقتها المتواضعة الواقعة عند أطراف المدينة، جلست حنين على طرف سريرها، يداها متجمدتان حول هاتفها، بينما عينها تطالع العنوان الصادم على الشاشة:“وفاة مراد طوروس، الرئيس التنفيذي لمجموعة طوروس القابضة، في حادث غامض”
لم تكن تعرفه جيدًا… بل كانت لحظاتهما معًا مشحونة بالتوتر، مليئة بالاحتكاك والصدام. لكن رغم ذلك، شعرت بصدمة غير مبرّرة، وكأن أحدهم اقتلع شيئًا من مكانه داخلها دون إنذار.
همست بصوت مبحوح:
"لا يُعقل…السيد مراد؟"
كان علي، يجلس قبالتها، لم يكن يعرف كل ما حدث بين أخته وذلك الرجل، لكنه شعر بما يسكن عينيها من ارتباك وألم خفي.
أطرقت برأسها، واستعادت في ومضة وجه فؤاد، كيف ستكون حياته بعد المصيبة التي ألمت به؟
غصة حارقة خنقتها فجأة… لم تستطع أن تحدد: أكان الحزن على مراد؟ أم على فُقدان فرصة إصلاح مسارها في تلك العائلة التي لفظتها؟
زاد إحباطها حين لمحت انعكاسها في مرآة الخزانة…وجه شاحب، وشعر منكوش، و… اكتشفت للمرة الأولى أن ملامحها قد تغيّرت، وكأن الحزن رسم ظلاله الثقيلة عليها.
تأملت نفسها لحظة، ثم تمتمت ساخرة بمرارة:"كأنني أعيش أكثر من حياة… ولا أنجح في أي منها."
ثم غاصت في صمت طويل، لم تقطعه إلا همسات الريح عبر النافذة… كأن الحياة من حولها تواصل الركض، بينما هي عالقة في مكانها.
⚡⚡⚡
سكنت أروقة القصر أجواء من الصمت المهيب، كأن الجدران نفسها تنعى غياب الرجل الذي كان القلب النابض للمكان. الحرس يبدون أكثر يقظة، لكن أعينهم متعبة، وملامحهم توحي بثقل الغياب. مدبرة المنزل تتنقل بخطى حذرة، توزّع الأوامر بصوت خافت وكأنها تخشى أن تزعج طيف الفقيد.
في الجناح الرئيسي، لا تزال الزهور التي أرسلتها الشركات الكبرى تتراكم، تفيض عطراً صامتاً لا يوازي مرارة الفقد. أما فؤاد، فقد انزوى في مكتب شقيقه، يتأمل مقعده الفارغ طويلاً، يعبّ من قهوته دون أن يشعر بمذاقها. الحزن لم يُظهره ضعيفًا، بل جعله أكثر صمتًا، وأكثر صلابة من أي وقت مضى. عيناه تقرأان الملفات التي لم تُستكمل، وأذناه تسمعان صوت شقيقه بين السطور.
ساد الظلام أرجاء القصر إلا من أنوار خافتة تسلل وهجها عبر نوافذ الطابق السفلي. خلف أحد الجدران في جناح نائي، فُتح الباب السري بانزلاق ناعم، ودخل فؤاد بخطى حذرة لكن حاسمة، يرافقه رئيس جهاز الحماية الشخصية وضابط الأمن السابق.
الغرفة ذات الإضاءة الصفراء والهواء الثقيل، تضم طاولة مستديرة من الخشب الداكن وشاشة كبيرة على الجدار الخلفي، تنبض برسوماتٍ بيانية وخطوط حمراء متقاطعة.
جلس فؤاد على رأس الطاولة، نزع سترته ببطء، ووجهه يحمل قسوة رجل لا وقت لديه للألم. قال بنبرة منخفضة لكنها قاطعة:"لا مزيد من الأخطاء. الحادث لم يكن عشوائيًا، والشاحنة لم تكن صدفة. سأقتص من الفاعل مهما كانت صفته."
أشار كامل إلى شاشة عرض خريطة بالأقمار الصناعية قائلاً:
" الشخص الذي دبّر هذا يعرف تحركاتنا بدقة، ويملك شبكة مراقبة قوية."
تقدم أحد رجاله وألقى ملفًا على الطاولة:
"وجدنا جثة السيد نذير، المحامي، في شقته بروما. كل شيء يوحي بانتحار... لكننا نعلم أن الأمر لم يكن كذلك."
مطّ فؤاد شفتيه بغضب مكتوم، ثم نظر إلى الجميع بحدة:
"لن ننتظر الضربة القادمة. من هذا المساء نبدأ المرحلة الثانية من خطتنا. أريد لائحة بجميع من اقترب منا في الأشهر الأخيرة... موظفين، شركاء، وحتى من يدّعون الصداقة."
سادت لحظة صمت، قطعها كامل بصوت خافت:
"هل سنتحرك بمفردنا ام سننسق مع الجهات الرسمية؟"
لم يجب فؤاد فورًا. نهض من مقعده، أدار ظهره للحاضرين وحدّق في صورته مع شقيقه المعلقة على الجدار.
ثم قال بنبرة لا تحتمل النقاش:
"الوقت ليس في صالحنا كما اننا في وضع يجعلنا لا نثق بالآخرين."
صمت الجميع، أدركوا أن اللعبة بدأت، وأن ما كان مجرّد انتقام شخصي، تحوّل إلى حرب خفية لن تُبقي على أحد في مأمن.
في غرفة أنيقة بأحد فنادق روما، كانت ديلارا تجلس متربعة على أريكة فاخرة، عيناها تدمعان بحزن عميق لم تقدر على إخفائه. فجأة، رن هاتفها، وظهرت على الشاشة صورة ماركو.
نهضت بتردد، لكنها قررت المواجهة. دخلت غرفة ماركو بخطى ثابتة، تتملكها مشاعر مزيج من الألم والغضب. وجّهت له نظرات حادة وقالت بصوت مرتعش:
"لم أعد أستطيع التحمل، ماركو. موت مراد قلب كل شيء. لقد خنتَ اتفاقنا، وعدتني بأنك لن تؤذيه."
ماركو، بهدوء لكن بثقة، رد:
"ديلارا، لم يكن الأمر بيدي. كل شيء أصبح خارج نطاق السيطرة. موت مراد لم يكن متوقعًا، وخطتنا تغيرت بالكامل."
تقدمت نحوه، ووجهها صارم:
"هذا ليس عذرًا. إن لم تستطع السيطرة، فأنا سأتصرف. خسارتنا اليوم تعني أن العدو يقترب أكثر من كل ما نخطط له."
نظر إليها ماركو للحظة، ثم أومأ برأسه قائلاً:"حسنًا، لن أسمح لأي شيء أن يوقفنا. عليك أن تكوني مستعدة. المعركة القادمة ستكون حاسمة."
خرجت ديلارا من الغرفة، عاقدة العزم على اتخاذ خطوة لم يخطر على بال ماركو، خطوة ستغير مجرى الأمور.
⚡⚡⚡
تمر الأيام كئيبة، بدأ نظام القصر الداخلي يعجّ بفوضى غير متوقعة. العمال والخدم بدأوا يتكاسلون بعد أن صار السيد الجديد هو فؤاد، بسبب لطفه وهدوء طبعه الذي يختلف عن صرامة مراد فيجعلهم ذلك في مأمن من حدة لسانه. مما أشاع جواً من الارتباك بين الخدم، الذين وجدوا أنفسهم غير متأكدين من الأوامر التي يجب تنفيذها، خاصة مع اختلاف أسلوب القيادة.
هذه الفوضى الصغيرة بدأت تنذر بتغييرات أكبر، حيث بدأت حدود السلطة تتلاشى شيئاً فشيئاً داخل جدران القصر الفخم. الا انه رغم ملامحه الهادئة ولطفه الظاهر، بدأ جانب عصبي خفي يظهر في السيد فؤاد. مع بكاء الطفلة المستمر، كان صوته يرتفع أحياناً، وتتكشف فيه توترات لم يكن يود أن يراها الآخرون فذات صباح في الأسبوع الثاني لوفاة شقيقه، اقتربت إحدى المربيات بحذر من الطفلة لمحاولة تهدئتها لكنه رد عليها بقسوة غير معتادة و نهرها ان تبتعد عنه مما دفعها إلى التراجع مترددة، أثارت تصرفاته هذه موجة من القلق بين الخدم. لم يعد ذلك الرجل الهادئ فقط، بل بدا وكأنه يحمل ثقل أسرار وأوجاع تخنقه من الداخل.
بدا وكأن العذابات التي تختلط بصمته تدفعه للتعامل بعنف، رغم حبه الظاهر للطفلة، مما خلق جواً مشحوناً من التوتر في أرجاء المكان.
حالة التخبط التي يعيشها فؤاد لم تغب عن صديقه الوفي، الذي لم يملك إلا أن ينصحه بضرورة اللجوء إلى أشخاص موثوقين، خاصة بعد حادثة وفاة المحامي نذير التي زادت من ثقل الأجواء المحيطة به.
قال له بصوت هادئ لكنه حازم:
"فؤاد، لا يمكنك أن تواجه كل شيء وحدك. الآن أكثر من أي وقت مضى، تحتاج إلى سند، إلى من تثق بهم حقًا. هذا الوقت ليس للضعف، بل للتماسك. هؤلاء الأشخاص الذين يمكنهم أن يكونوا عونًا حقيقيًا، عليك أن تفتح لهم بابك."
تردد فؤاد قليلاً، لكنه أدرك في أعماقه أن النصيحة صائبة، وأن استمرار العزلة قد يكون كارثياً في هذا الوقت الحساس.
طلب فؤاد من كامل، بلهجة صارمة ملؤها التوتر، أن يبقي الجميع في أماكنهم، دون أن يسمح لأيٍّ منهم بالتحرك أو التحدث، خشية أن تزداد الفوضى أو يُثار شكّ أحدهم.
لم يكن الحديث قد بلغ نهايته، إذ قطع صمت الغرفة فجأة صوت بكاء الطفلة الذي صار لا يتوقف فأشعل نار غضب والدها من جديد. انتفض فجأة، وبتعبيرٍ صارخٍ على وجهه، توجه إلى المربية التي كانت تحاول تهدئة الصغيرة، وطردها بعنف دون أي رحمة، كأنه يُحارب شيطانًا داخليًا لا يهدأ.
تجمّع الصمت في المكان، وكأن الهواء توقف، وعمّت حالة من الرهبة والارتباك بين الحاضرين. كان فؤاد قد وصل إلى حافة الانفجار، وقلّ من يجرؤ على الاقتراب من الطفلة بعد ذلك، بينما ظلّت أنفاسه الثقيلة تتردد في أرجاء الغرفة.
تمالك أعصابه فجأة، احتضن الطفلة بين ذراعيه برقة غير متوقعة، وصعد بها إلى غرفتها الخاصة. هناك، جلس على الأريكة الوثيرة، يحاول تهدئتها بصوت هادئ وملامح يملؤها الحنان، وكأنه يعوضها عن غياب من فارقوهم.
لم يكن مجرد أبٍ مشغول بمهام كبرى يقضي وقتًا عابرًا مع ابنته، بل أصبح يكرّس لها معظم يومه، يحتضنها حين تبكي، يحملها بين يديه في جولات طويلة في الحديقة، يراقب نومها بنفسه، بل ويُصرّ على إطعامها أحيانًا، رافضًا تدخل المربيات أو مدبرة المنزل.
كان أحد الحرس يهمس لزميله قرب البوابة:"ألم تلاحظ؟ منذ الجنازة، السيد فؤاد بالكاد يغادر القصر… والطفلة معه في كل خطوة."
فيرد الآخر، بنبرة شبه مشفقة:"موت السيدة مرام ثم السيد مراد جعلاه يشعر أنها كل ما تبقّى له."
لكن في أعماقهم، كان هناك شيء غريب... شيء لا يمكن تفسيره بسهولة. وكأن تعلقه بالطفلة لم يكن فقط منبعًا من حب أب لابنته، بل هروب من واقع أثقل قلبه و ملأه حزنا.
⚡⚡⚡
تتوالى الأيام بطيئة، كئيبة، يثقلها الصمت وتغلفها غلالة من الحزن المقيم. القصر، الذي كان ينبض ذات يوم بالحركة والخطط والطموحات، بدا كأن الزمن توقف داخله. لم يعد هناك من يضحك، أو يرفع صوته في الممرات، أو يتحدث عن المستقبل بشغف.
فؤاد، الذي اعتاد أن يكون رمزًا للثبات، بدا كمن فقد بوصلته. يتنقل بين أروقة القصر كظلٍ لنفسه، يحمل الطفلة على ذراعيه كأنها طوق نجاة، ينظر من النوافذ طويلاً دون أن يرى شيئًا، وكأن العالم خارجه بات بلا معنى.
أصبح الخدم أكثر حذرًا في خطواتهم، لا يرفعون أبصارهم حين يمر، يتحدثون همسًا ويتجنبون المواجهة. حتى دقات الساعة في الصالة الكبيرة أصبحت ثقيلة على القلوب، كأنها تذكر الجميع بأن الحزن ما زال مقيمًا، وأن شيئًا لم يعد كما كان.
في جناحها الصغير، كانت الطفلة تبكي أكثر من المعتاد، كأنها هي أيضا تستشعر الحزن يحيط بها من كل جانب. لم تنجح أي مربية في التخفيف عنها، ولم يهدأ روعها إلا حين تضمها ذراعي فؤاد – الأب الذي لم يعد نفسه.
أما في الحي البسيط، كانت حنين تمر بنفس الموجة الكئيبة، لا تزال صورة الجنازة ووجه فؤاد الحزين تطاردها في كل لحظة. تحاول أن تنشغل بعمل جزئي، بقراءة كتاب، لكن الألم صامتًا وعنيدًا، لا يزول. كأن الحزن غلّف الجميع بلون واحد، رمادي لا يتغير، وظلت الأيام تتكرّر على ذلك النحو... ثقيلة، طويلة، وموحشة حتى بلغت الشهرين.
ذات مساء، وبينما كانت ظلال الغروب تنساب بهدوء على نوافذ القصر العتيق، جلس فؤاد في مكتبه غارقًا في صمت كثيف. الأوراق مبعثرة أمامه، القلم بين أصابعه دون حراك، والنظرات شاردة لا تلتقط شيئًا من الواقع. في عينيه خدرٌ ثقيل، وفي صدره فراغ لم تملأه حتى ضحكات الطفلة الصغيرة.
طرق الباب طرقًا خفيفًا، ثم دخل سامح، مساعده الخاص، بخطوات مترددة. وقف لحظة يتأمل سيده، يزن تعبه بعين الخادم الوفي، ثم قال بهدوء وهو يقترب:
"سيدي... أعتذر عن الإزعاج، لكن... هناك أمر أظنه يستحق أن يُطرح."
لم يجبه فؤاد، فقط أشار له بالحديث دون أن يرفع رأسه. تابع سامح، صوته ينخفض شيئًا فشيئًا وكأنه يخشى إيقاظ جرح دفين:"إنها الفتاة، حنين... كنتُ أراقب من بعيد لكن أرى حيرتك تزداد يوما بعد يوم ولأكون صادقًا معك، تلك الفتاة هي الوحيدة التي نجحت في تهدئة الصغيرة. بل وحتى حضرتك، كنت أقل توترًا بوجودها."
رفع فؤاد عينيه إليه أخيرًا. كانت نظرته ثقيلة، مشوشة، كمن تذكّر فجأة أنه يتنفس. ساد صمت مشحون، ثم همس بنبرة بدت وكأنها خرجت من مكان بعيد داخله:
"كنت أظنني منقطعًا عن كل شيء... لكنك الآن، وكأنك ألقيت لي طوق نجاة."
ظلّ فؤاد لحظة في صمته، يراقب الأفق الغارق في العتمة من خلف زجاج النافذة. بدا وكأن الليل يهبط على صدره لا على الأرض، لكنه حين تحدّث، خرج صوته حادًا، قاطعًا، لا يحتمل النقاش:
"تدّر الأمر، أريدها هنا في القصر قبل نهاية الأسبوع."
تفاجأ سامح قليلًا، تردد لحظة كمن يحاول أن يتأكد إن كان ما سمعه حقيقيًا، ثم قال:
"أحضُرها؟ هل أخبرها بسبب محدد؟"
استدار فؤاد ببطء، وقسمات وجهه استعادت صلابتها المعهودة. قال ببرود مدروس:
"قل لها إن العمل ينتظرها... وظيفة دائمة، مقابل أجر عادل. أما التفاصيل... فستعرفها عند وصولها."
ثم أضاف بنبرة أخف، ولكنها مشحونة بما لا يُقال:"ولا تلمّح بشيء. إن سألت، أخبرها أن القصر بحاجة إلى شخص تثق به الصغيرة."
أومأ سامح مطيعًا، لكنه لم يخفِ الحذر في عينيه. غادر المكتب بصمت، بينما بقي فؤاد واقفًا في مكانه، يحدّق في اللاشيء.
في تلك الليلة، وبينما كانت أضواء القصر تخفت شيئًا فشيئًا، جلس في صالون جانبي مع صديقه كامل. كان المكان يلفّه هدوء ثقيل، تقطعه أحيانًا أصوات خافتة من الأجنحة المجاورة.
رفع فؤاد عينيه عن فنجان القهوة الموضوع أمامه وقال بلهجة لا تقبل الجدل:"حنين ستعود إلى القصر. أعطيت الأمر لسامح كي يحضرها إلى هنا."
تغيرت ملامح كامل، انعكست على وجهه علامات التحفظ والقلق، لكنه تريث قبل أن يتحدث، ثم قال بحذر:
"أأنت متأكد من هذه الخطوة؟ نحن في مرحلة حساسة جدًا، وهناك من يراقبنا عن كثب. أي هفوة قد يكون ثمنها غاليًا… والفتاة ما تزال خارج حساباتنا الأمنية."
نظر فؤاد إليه مباشرة، بعينين يشع منهما يقين لا يشوبه تردد، ثم أجاب بنبرة منخفضة ولكن حاسمة:
"أعرف تمامًا ماذا أفعل. لن أسمح لفوضى الداخل أن تبتلعنا، وهي الوحيدة التي قد تُحدث التوازن في هذا المكان، إنها ذكية و مخلصة. أما الباقي... فدَعْه لي."
صمت كامل لحظة أخرى، قبل أن يلوّح برأسه إشارة للقبول، رغم بقاء القلق عالقًا في نبرته:
"سأضع خطة للمراقبة من بعيد... لكنك وحدك ستتحمل نتيجة هذه الخطوة، إن لم تكن محسوبة."
ابتسم فؤاد بسخرية خفيفة وقال:
"منذ متى كانت خطواتي عشوائية، يا كامل؟"
⚡⚡⚡
في صباح رمادي تخلله ضوء خافت من شمس خجولة، توقفت سيارة سوداء فاخرة من طراز ليموزين بهدوء أمام المحل الصغير الواقع على ناصية شارع شعبي مزدحم. أثارت السيارة الفارهة اهتمام المارة، الذين تباطأوا في خطواتهم لينظروا بفضول إلى النوافذ المعتمة.
خرج منها السائق أولًا، رجل خمسيني يرتدي بذلة رسمية وقبعة أنيقة، فتح الباب الأمامي بكل وقار، نزل السيد سامح، المساعد الخاص للسيد فؤاد، بملامحه الجادة ونظرته الهادئة الحاسمة.
كان المحل ضيقًا، بسيطًا، تفوح منه رائحة القهوة الممزوجة برائحة الورق القديم. وقفت حنين خلف الطاولة، ترتب بعض الأوراق والدفاتر، حينما ارتفع صوت الجرس المعلّق فوق الباب.
رفعت نظرها بتلقائية، ثم تجمدت في مكانها للحظة عندما وقع بصرها على السيد سامح. لم يتغير كثيرًا، بنفس أناقته وهدوئه، لكن حضوره الآن بدا أثقل، كأنما يحمل معها خبرًا غير متوقَّع.
تقدم نحوها ببطء، ثم قال بلغة رسمية ودودة:"صباح الخير، آنسة حنين. السيد فؤاد يطلب حضورك إلى القصر."
اتسعت عيناها بدهشة، لم تكن تتوقع شيئًا كهذا، قلبها بدأ يخفق على نحو غير مفهوم، بين الخوف والفضول والدهشة. نظرت إليه بشك وقالت بصوت متردد:
"الآن؟ ولماذا؟"
أجاب بثقة دون أن يفسر الكثير:
"هو وحده من يستطيع الإجابة عن ذلك. مهمتي أن أُبلغك... والسيارة بانتظارك."
نظرت إلى أخيها من الرضاعة، الذي كان واقفًا في الزاوية يتابع المشهد في صمت. قرأت القلق في عينيه، لكنه لم يمنعها، بل اكتفى بإيماءة خفيفة كأنه يقول: "افعلي ما ترينه صائبًا."
وقفت عند عتبة الباب، يدها تمسك بمقبضه وكأنها تستمد منه ثباتًا مفقودًا. لم تخطُ بعد. نظرت إلى السيارة اللامعة في الخارج، إلى الرجل الذي ينتظرها بصبر، ثم إلى علي الذي رمقها بنظرة مشجّعة.
راودها شعور ثقيل، ليس خوفًا، بل شيء أقرب إلى الحذر من عبور عتبة قد تغيّر كل شيء.همست كأنها تحدث نفسها:
"لماذا الآن؟ ولماذا أنا؟"
تراجعت خطوة صغيرة، تشبّث قلبها بلحظة تردد، فكرت في كل ما مرّ، في الخسارة، في الصدمة، في الحياة التي حاولت أن تعيد بناءها بهدوء بعد كل ما حدث. لم يكن سهلاً أن تُنتزع من واقعها مرة أخرى لتُلقى في حضن المجهول.
قال علي بهدوء، وكأنه يقرأ أفكارها:
"قد تكون هذه فرصتك لتغلقي أبواب الماضي، أو تفتحي بابًا جديدًا... الأمر عائد إليكِ، حنين."
رفعت عينيها نحوه، وفي داخلها صراع لا يظهر على ملامحها الرصينة. استقامت، تنفست بعمق، وعادت تنظر إلى سامح الذي لم يزح نظره عنها، ينتظر قرارها دون ضغط.
ثم، بخطى بطيئة لكنها واثقة، تقدّمت أخيرًا نحو السيارة. فتح لها السائق الباب، ودخلت دون أن تنظر وراءها. المقاعد الوثيرة استقبلتها بصمت، فيما أُغلق الباب خلفها بإحكام، حابسًا ترددها في الخارج.
انطلقت الرحلة ومعها بدأت حكاية جديدة.
توقفت السيارة الفاخرة أمام القصر المهيب، وفتحت الأبواب كاشفة عن عالم من الرقي والترف لم تعهده حنين من قبل. نزلت بتردد، ووقفت لحظة تتأمل الواجهة الشاهقة والبهو الرحب الذي بدا كصالة عرض فنية، تعكس تفاصيله فخامة تنتمي لعالم آخر. رغم محاولتها التماسك، لم تستطع إخفاء نظرات الدهشة التي غزت وجهها. قادها سامح بصمت حتى وصلا إلى الردهة الداخلية حيث كانت مدبرة المنزل تنتظرها، حاملة بين ذراعيها طفلة صغيرة تلفها بطانية وردية ناعمة.
وما إن اقتربت منهما حتى رفعت الصغيرة رأسها بخفة، وحدّقت بعينيها الواسعتين في وجهها. مدت حنين يدها بتردد لتلمس خد الرضيعة، فما إن فعلت حتى مدت الطفلة يدها الصغيرة نحوها، ممسكة بإصبعها بقوة غير متوقعة.
تسارعت أنفاس حنين للحظة، وكأن لمسة الرضيعة أيقظت شيئًا غافيًا في قلبها. ضمّتها برفق إلى صدرها، وراحت تداعب خصلات شعرها الناعم وهي تهمس:
"كم أنتِ صغيرة وضعيفة..اشتقت لك"
لكن الصغيرة لم تبكِ، بل هدأت بين ذراعيها، كأنها وجدت أمانًا كانت تبحث عنه دون وعي.
من بعيد، راقب بعض الخدم المشهد وهم يتبادلون النظرات، والدهشة ترتسم على وجوههم. لم يكن هذا الاستقبال عاديًا. Something was shifting.
أما حنين، فرفعت عينيها إلى السقف العالي، قلبها يرتجف بمزيج من الخوف والتساؤل: هل دخلت حياة جديدة... أم هي دوامة لا عودة منها؟
حلّ المساء ببطء على القصر، تتسلل ظلال الغروب عبر النوافذ الواسعة، فيما الأضواء الداخلية بدأت تنبض دفئًا صامتًا. كانت حنين قد قضت يومها بين محاولة التكيف مع الأجواء الجديدة والعناية بالصغيرة، التي تعلقت بها منذ اللحظة الأولى، دون أن يُستدعاها أحد أو تُكلّف بأي مهمة محددة.
حين دقّ سامح باب غرفتها وأبلغها بجملة مقتضبة:
"السيد فؤاد يطلب حضورك إلى مكتبه."
شعرت برعشة غير مفهومة تمرّ في أوصالها لكنها لبت طلبه دون تردد. سارت خلفه في الممرات الطويلة، قلبها يخفق بإيقاع متسارع، وذهنها يفيض بتساؤلات لم تجد لها إجابة منذ عودتها. حين توقفت أمام باب خشبي داكن، انفرج ببطء، ليظهر خلفه مكتب فخم تغمره هالة من السكون والسلطة.
كان واقفًا هناك، أمام النافذة، بثيابه الداكنة ونظرته التي حملت شيئًا أقرب إلى الجليد. التفت ببطء حين دخلت، فالتقت عيناها بعينيه لأول مرة منذ زمن بدا لها بعيد. تجمدت مكانها للحظة، ثم تخطّت المشاعر كلها ومالت بعينيها إليه بعاطفة مكبوتة، حيث ارتسم الحزن على ملامحها، وقالت بصوتٍ مكسور:
"كنت أتمنى أن يكون الأمر غير حقيقي… خسارتك كانت صدمة لنا جميعًا."
نظر إليها برقة مفاجئة، مكتفياً بنظرة صامتة تشي بألم دفين، لكنه لم يبح بكلمة.
ثم أشار لها بالجلوس على المقعد المقابل، وقال بنبرة حانية، تخفي صرامة قائده:
"أعلم أنني اقتحمت حياتك الهادئة، لكن هذه المرة أعدك أنك ستأخذين فرصتك الحقيقية."
شعرت حنين بارتياح غريب، هذا الرجل الذي أمامها هو ذلك الأخ الحنون الذي فقد شقيقه، فسمحت لدموعها أن تنساب دون خجل.
قال بعد لحظة: "سامح أخبرني أنكِ نجحتِ في كسب ثقة الصغيرة من جديد وهذا مهم للغاية بالنسبة لي ."
أومأت، ثم همست:
"هي بحاجة لمن يحبها، أكثر مما تحتاج إلى أي شيء."
ابتسم بشكل بسيط، ثم أنهى اللقاء:
"اعتمدي عليّ، وسنعمل معًا كي تكملي ما بدأناه."
خرجت حنين من المكتب والقلب مليء بالأمل، دون أن تدري أن وراء هذا الوجه الحنون أسرارًا خطيرة ستغير مجرى حياتها.
مع مرور الأيام في القصر، بدأت حياة حنين تأخذ منحىً جديدًا مختلفًا عن كل ما عرفته من قبل. لم تعد مجرد مساعدة أو مربية، بل صارت جزءًا لا يتجزأ من هذا العالم الفخم الذي كان في السابق بعيدًا عنها كليًا.
كان حضورها بين أروقة القصر بمثابة نسمات هادئة تُخفف من صخب الأيام، وابتسامتها التي تشرق مع كل لقاء مع الصغيرة، تزيد من رصيدها في قلب فؤاد – الذي بدأ يثق بها ويعتمد عليها في مهام أكثر حساسية.
حنين لم تكن فقط مسؤولة عن العناية بالطفلة، بل بدأت تتلقى تعليمات خاصة لإدارة بعض الملفات الصغيرة التي تعني العائلة، وتنسق مع سامح ومساعدي فؤاد في شؤون القصر.
كل ذلك كان يسير بخطى هادئة، حيث كانت تتعلم أسرار هذا العالم المترف، وتحاول الحفاظ على توازنها النفسي وسط بحر من التحديات غير المرئية.
تلك الأيام الهادئة كانت بمثابة نافذة أمل في حياتها، نمت فيها ثقتها بنفسها، وأخذت تدرك أن مكانتها في القصر قد تغيرت جذريًا، ولم تعد فقط ضيفة عابرة، بل محور حياة جديدة كلها مسؤوليات وتحديات.
⚡⚡⚡
ذات يوم، جلس فؤاد في مكتبه، يغمره صمتٌ ثقيل صار يرافقه منذ رحيل شقيقه. كانت عيناه تحدقان في صورة مراد على الطاولة، وقد انكسرت عبرته بين همسات الحزن المكبوت. جاءته حنين تحمل ملفات العمل، وضعتها أمامه بحذر، تتعامل معه كما لو أنه مديرها في إحدى شركاته الكبرى.
رفع رأسه نحوها، وعينيه تنطقان بألم دفين، لكنه تمالك نفسه، وقال بصوت منخفض: "شكرًا، حنين. أنتِ دائمًا هنا عند الحاجة."
ابتسمت بحذر، ثم قالت: "أنا هنا للعمل، سيد فؤاد. وإن احتجت لأي مساعدة، سأكون جاهزة في أي وقت."
لكن قلبه، رغم كل محاولاته، لم يستطع كبح موجة المشاعر التي اجتاحت داخله، فتردد ثم قال بهدوء: "أحيانًا، أجد في وجودك هذا الهدوء الذي أحتاجه... تكونين فيه رفيقة أكثر من مجرد مساعدة."
رفعت حاجبيها باستفهام: "هذا واجبي، وسأظل أؤديه بأفضل ما لدي."
نظر إليها مطولا، وكأن كلمات كثيرة تملأ قلبه لكنه يخشى أن تفسد علاقة العمل، فأكتفى بنظرة تحمل الحنين والخوف من الاقتراب أكثر.
وفي لحظة صمت صغيرة، ابتسمت حنين بهدوء، دون أن تعلم أن تلك النظرة كانت بداية قصة غير متوقعة. يقف أمامها تهدل كتفاه من وطأة الاعباء، يكتنفه الحزن العميق الذي لا يزول، عينيه تترقرقان والوجوم يثقل صدره، قال بصوت منهك:"التظاهر بالقوة قد يتعبنا أحيانًا فنحتاج إلى من نلجأ إليه.
قبل أن تستوعب كلماته، لم يستطع فؤاد مقاومة موجة الضعف التي اجتاحته، فقام ببطء ثم ألقى بنفسه بين ذراعيها دون سابق إنذار، مظهراً هشاشته التي ظن أنه أخفاها طويلاً لكنها انهكته أكثر. تفاجأت حنين، ترددت للحظة، ثم ربّتت على ظهره برقة، محاولة تهدئته.
قال وهو يتنهد متقطعًا: "لم أعد أحتمل هذا الفراغ...أنا أفتقده أكثر مما توقعت."
وقفت حنين ساكنة، تشعر بمدى الألم الذي يكتم أنفاسه، لكن قلبها لم يسمح لها إلا أن تبقى هناك، تعطيه بعض الدفء، رغم المسافة التي حرصت على إبقائها في حدود علاقة العمل.
بينما كان فؤاد يستمد قليلاً من الحنان بين ذراعي مساعدته، انفتح باب المكتب فجأة، دخل كامل وهو يحمل بعض الملفات، ليتوقف فجأة مشدودًا لما رأى.
نظر إلى المشهد بذهول، فؤاد يحتضن حنين، وحنين تربت عليه برقة، صورة لم يكن يتوقعها من رجل مثل فؤاد. تجمدت الكلمات في حلقه لوهلة قبل أن يستعيد رباطة جأشه و يقول بصوت منخفض، حذراً: "فؤاد... هل أنت بخير؟"
ابتعد فؤاد عن حضن حنين، مسح على وجهه بهدوء، وأجاب بنبرة خافتة: "كنت أشعر بالضياع... تفهم ذلك."
انسحبت حنين بخجل إلى الخارج، متجنبة أن تزيد من ارتباك فؤاد، وتركته مع صديقه في المكتب.أغلق الباب خلفها بهدوء، ثم التفت إلى فؤاد بنظرة جادة وقال:"فؤاد... أنت تضع نفسك في موقف هش، مشاعرك تنمو أسرع مما تتوقع."
تنهد فؤاد، وأجاب بصوت خافت:
"أعلم، لكن في هذه اللحظات الوحيدة أشعر أنني ما زلت إنسانًا...كنت أحتاج إلي ذلك و ليس مع أي أحد."
اقترب كامل منه، ووضع يده على كتفه قائلاً:" كن حذرًا، هشاشة المشاعر قد تكون أخطر عدو لك الآن. لا تترك قلبك يسيطر على خططك."
أومأ فؤاد، وعيونه تشع بعزيمة متجددة.
في الحديقة الغنّاء التي تناثرت أزهارها تحت وهج شمس العصر الهادئة، جلست حنين على المقعد الحجري تحت شجرة ياسمين، تطوي بين يديها قلقًا لم تستطع الإفصاح عنه. كانت ما تزال تستشعر دفء اللحظة التي باغتها فيها فؤاد... ذراعيه، أنفاسه المرتبكة، حاجته الموجعة للقرب. وها هي الآن تهرب إلى الحديقة، كمن يخشى أن يُغمر بما لا يستطيع مقاومته.
دوّى وقع كعب عالٍ على البلاط الحجري خلفها، فاستدارت بغريزة متوترة، لتجد امرأة شقراء تقترب منها بخطى واثقة. كانت أنيقة، متأنقة أكثر من اللازم لحياة القصر اليومية. نظرتها الماكرة سبقت ابتسامتها.
قالت سوزي، وهي ترفع نظارتها الشمسية على رأسها:
"إذن، أنتِ هي؟ المساعدة الجديدة... والمُقرّبة من السيد فؤاد."
تجمدت نظرات حنين للحظة قبل أن تقف بأدب وتقول بهدوء:
"أنا أعمل هنا... في رعاية الطفلة فقط."
ضحكت سوزي ضحكة قصيرة، فيها نفَس من التعالي:"رعاية؟ عجبًا كيف تتحول بعض الوظائف المتواضعة إلى مناصب حساسة بسرعة مذهلة."
ارتبكت حنين، لكنها تماسكت وردّت بهدوء فيه بعض الصرامة:
"الاحترام لا تحدده المناصب، بل النوايا."
تقدّمت سوزي أكثر، وكأنها تريد اختبار صلابة خصمتها الجديدة:
"نوايا؟ حسنًا... لا بد أن النوايا في هذا القصر كثيرة، وبعضها شديد الخطورة."
أدارَت حنين وجهها، غير راغبة في الاستمرار بهذا الحوار المسموم، فأضافت سوزي بنبرة ناعمة خبيثة:
"أرجو ألا تأخذي الأمور على محمل شخصي، عزيزتي. أردت فقط أن أتعرف على من تشغل وقت فؤاد مؤخرًا."
ثم استدارت وغادرت، تترك خلفها عبق عطر نفّاذ، وحذرًا جديدًا يتسرّب إلى قلب حنين، لم تعرف مصدره… أهو من المرأة الشقراء؟ أم من نفسها التي بدأت تخاف على ما لا ينبغي التعلّق به؟
بينما كانت نظرات حنين ما تزال مشوشة من كلمات سوزي المسمومة، ويداها ترتجفان خفية في حجرها، اقترب منها ظل طويل بخطى ثابتة وصوت هادئ رخيم قال:
"مرحبا انستي؟"
رفعت عينيها بسرعة، لتقابل نظرات آدم، رئيس الحراس، بملامحه الصارمة المعتادة، لكنها اليوم بدت أقلّ قسوة، وكأنها تخلّت قليلًا عن انضباطها لتمنحه لمسة من الإنسانية.
"أهلا بك..." همست حنين وهي تحاول استعادة تماسكها.
وقف إلى جانبها دون أن يلتفت إليها، بل نظر نحو الأفق أمامهما حيث تتراقص أوراق الشجر في نسيم ربيعي هادئ. بعد لحظة صمت قال:
"لا تأبهي لكلماتها."
فاجأها بصراحته، فردّت بارتباك:
"أتعني السيدة سوزي؟"
هزّ رأسه بإيجاز، وقال:
"أعرف هذا النوع من النساء جيدًا. يحيكن بحديثهن سمًّا لئيمًا. القصر مليء بالعيون، لكن القلوب الصادقة نادرة."
نظرت إليه حنين مليًّا، تساءلت عما يدفع هذا الرجل الغامض للتحدث معها بهذه الأريحية. فقال وكأنه قرأ أفكارها:
"أنا مسؤول عن أمن هذا المكان، وهذا يشمل سلامة من يقطنونه... وأنتِ الآن من بينهم."
سكت قليلًا، ثم أضاف بصوت منخفض أقرب للهمس:"إذا شعرتِ يومًا أن أحدًا يهددك، أو إنك في حاجة لشيء... تعالي إليّ مباشرة. لا تنتظري طويلاً."
شكرته حنين بنبرة خافتة، لكنها صادقة، ثم التفتت إليه وسألته بتردد:
"ولماذا تفعل هذا؟"
ابتسم آدم تلك الابتسامة الخفيفة التي لم تراها من قبل، وقال دون أن ينظر إليها:
"لأن بعض الطيبين لا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم… ولأن هناك من لا ينسى كيف كان فؤاد الحقيقي ينظر بعين الاحترام لا الخوف."
ثم نهض، وتركها تفكر بكلماته، مزيج من الغموض والطمأنينة… كأنها تلقت وعدًا خفيًا بالحماية في عالم لم يعد مأمونًا.
في جناح مراد – الذي بات يُعرف اليوم بجناح فؤاد، أرخى الليل سدوله على القصر، وسكون ثقيل يخيّم على جدرانه المهيبة. جلس فؤاد، وحده في ركن مكتبه، أمام المدفأة المتوهجة، وقد بدا شاحب الوجه، منكمش القلب. الأوراق مبعثرة على طاولته، لكن نظره شارد، لا يقرأ ولا يكتب. صوت خافت على الباب أعاده إلى واقعه. فتح الباب فدخل آدم، رئيس الحرس، بانضباطه المعهود، يتقدّم خطوات محسوبة قبل أن يقف بهدوء قائلًا:"هناك أمر، سيدي."
رفع فؤاد عينيه إليه، يشي فيهما ثقل رجل فقد أخاه وفقد نفسه، لكنه تمسّك بالتماسك الزائف.
"تفضل، آدم."
"الآنسة حنين كانت في الحديقة، وقد التقت بسوزي هناك. بدا عليها الارتباك. لم تتحدثا كثيرًا، لكني خشيت أن يُثار شيء قد يُربك الوضع، فتدخلت. وتحدثتُ قليلًا مع الآنسة حنين. بدت... ضائعة بعض الشيء."
لم يعلّق فؤاد، لكنه أومأ برأسه بتثاقل، ثم قال بصوت منخفض كأنه يحدّث نفسه:
"هي لا تعرف شيئًا... لكن أي كلمة غير محسوبة قد تجرّها نحو أسئلة لا ينبغي أن تطرح."
صمت قليلًا، ثم تابع:
"ابقَ قريبًا منها يا آدم. لا تتدخل في قراراتها، لكن إن بدت لك في حاجة إلى دعم أو حماية، لا تتردد."
انحنى آدم باحترام:
"أمرك، سيدي."
خرج رئيس الحرس، بقي فؤاد وحيدًا. حمل نظراته نحو صورة قديمة له مع شقيقه، وضعها على الرف منذ أسابيع، في عينيه شوق دفين، ونار لم تخمد. تمتم:
"لن أسمح لأحد بأن يعبث بإرثه... مهما كلفني الأمر."
بداية يوم جديد، في غرفة الطعام الرئيسية، امتزج دفء الصباح برائحة الخبز الطازج والقهوة العطرة. الشمس تسللت بخجل من النوافذ العالية، ترسم خيوطًا ذهبية على مفرش الطاولة الفاخر. جلس "فؤاد" في صدر المائدة، مظهره كما اعتاده الجميع: مهيب، هادئ، ذو حضور يفرض نفسه دون جهد. لكن شيئًا ما تغيّر.
على يمينه، جلست حنين وهي تحمل الطفلة في حضنها، تحاول إطعامها بلطف بينما تهمس لها بكلمات هادئة، تتخللها ابتسامات ناعمة. نظرات الرجل الجالس أمامها لم تكن صارمة كما عُهدت، بل بدت أكثر ليونة، مراقِبة، وكأن بينه وبين تلك الطفلة حديثًا صامتًا لا يسمعه سواهما.
أجواء حميمية طغت على المكان، حتى أن الخدم الذين اعتادوا على صمت مهيب يرافق وجبات السيد، تبادلوا نظرات خفية متفاجئة، ومنهم من تمهل عن قصد في الحركة ليتابع هذه اللحظة العائلية النادرة.
آدم، رئيس الحراس، كان واقفًا قرب الباب بظهره المستقيم وملامح جامدة، لكنه لم يُخفِ انشداده لما رآه. أما الطفلة، فقد راحت تثرثر بلغتها الطفولية، تمسك بأصابع والدها وتضحك، فيبادلها ابتسامة لم تُرَ على وجهه منذ زمن.
رفعت حنين بصرها إليه للحظة، فالتقت عيناها بنظراته العميقة. شعرت بارتباك طفيف، لكنها لم تبعد عينيها هذه المرة، بل ردّت بابتسامة خجولة قبل أن تتابع إطعام الصغيرة.
لحظة بسيطة، ولكنها زلزلت شيئًا في أعماق من شهدوها. كأنها مشهد من حياة لا يعرفونها. حياة رجلٍ ظنوه قتله الحزن، فإذا به يُبدي ملامح أبٍ مُحب، وسط عائلة صغيرة بدت، رغم الغموض، كاملة.
⚡⚡⚡
في قلب مدينة ميلانو، داخل برج زجاجي شاهق يعكس شمس الصباح الباردة، اجتمع رجالٌ في الظلّ حول طاولة مستطيلة، يتصدرهم ماركو دي لاروسي، ببدلته الفاخرة وعينين تحملان برود رجل لا يعرف الشفقة.
ألقى نظرة حادة على الشاشة أمامه حيث تُعرض بيانات السوق وأسهم الشركات التابعة لعائلة طوروس، ثم قال بنبرة حاسمة:
"لن نقتله مرتين... لكن يمكننا دفنه حيًّا."
أجابه رجل مسنّ كان إلى جانبه، بشعر فضي وصوت خفيض:
"كنا نظنه الأضعف... لكنه عاد أقوى. مشروع الدمج الأخير بين شركاته أعاد الثقة للسوق."
لوّح ماركو بيده:"الأسواق لا تعرف القوّة، بل تعرف الرهبة والشك."
ضغط على زر في جهازه اللوحي، وظهرت ملفات تحمل أرقامًا ووثائق داخلية سُرّبت من أحد شركاء مراد السابقين، ثم تابع:
"سنهز صورته بثلاث ضربات:
أولًا، سننشر تقريرًا مزيّفًا عن فساد مالي داخل إحدى شركاته.
ثانيًا، سنُطلق حملة إعلامية توحي بوجود صراع داخلي على الإرث.
ثالثًا، سنتحرك بسحب استثماراتنا من فرعه الأوروبي، ومعنا من نستطيع التأثير عليه."
تبادل الحاضرون نظراتٍ صامتة. ثم سأل أحدهم:
"وماذا عن الحلفاء الذين قد يلتفّون حوله؟"
ابتسم ماركو ابتسامة جانبية وقال:
"الحلفاء يبحثون عن الثقة. حين تهتز الأرض من تحت أقدامه، سيبتعدون كما تفعل الغربان من سفينة تغرق."
أغلق الشاشة ونهض، ثم أضاف بنبرة متعجرفة:
"هو يظن أن بوسعه وراثة كل شيء، حتى مكان أخيه. لكنّه نسي من نحن."
قصر آل طوروس – صباح رمادي بعد العاصفة، في الصالون الكبير، جلس فؤاد متأملاً شاشة تلفاز تُعرض فيها نشرة مالية عاجلة. المذيعة تتحدث بلهجة درامية عن تحقيقات محتملة في ملفات ضريبية تتعلق بإحدى الشركات التابعة للمجموعة. على الطاولة أمامه، تقارير مطبوعة وأوراق متناثرة، تحمل عناوين مقالات ساخنة تُنذر بعاصفة إعلامية ومالية.
دخل كامل مسرعًا، يحمل ملفًا ويبدو عليه القلق:"بدأت الضربة، وصلتني تأكيدات أن شركاءنا في سويسرا علّقوا المفاوضات. والأسوأ أن حملة التشكيك آخذة في الاتساع."
رفع فؤاد نظره إليه، لم تكن في عينيه ذرة دهشة، بل جمرة متّقدة من الغضب الهادئ.
"ماركو..." تمتم بصوت متهدّج. "يعرف من أين يضرب. يريد زعزعة الثقة."
فتح كامل الملف بسرعة، يشير إلى نسخ من التسريبات ويقول:
"بعضها حقيقي، لكن كثير منها تم التلاعب به. لا يمكن أن يكون هذا عمل فردي. لديهم مخبر في الداخل، أو حليف سابق خانك."
نهض فؤاد ببطء، ووقف أمام النافذة. خارج القصر، كانت الحديقة غارقة في الضباب. صمت للحظات ثم قال:
"ليظنوا ما يشاؤون... سأدع العاصفة تهب، ثم أُخرج لهم الحقيقة كالسيف. لكن قبل ذلك..." التفت إلى كامل بعين حاسمة،
"ارصد كل تاجر بدأ في التراجع، كل اسم بدأ يشك. سنعرف من معنا ومن علينا."
اقترب كامل وقال بصوت خافت:
"والرأي العام؟ وسائل الإعلام تنهش صورتك.."
قاطعه فؤاد بصرامة:
"حملة مدفوعة الثمن."
تنفس كامل بصعوبة، ثم أومأ برأسه، في أعماقه، شعر بأن المعركة القادمة لن تكون مالية فقط، بل معركة وجود وهوية... ودم.
في صباح اليوم التالي، ما تزال سحب الأزمة تظلل القصر، كانت حنين تقف قرب النافذة الواسعة في رواق الطابق العلوي، تحمل في يدها ملفًا صغيرًا جمعته طوال الليل بعد أن قرأت بإمعان بعض المقالات المنتشرة حول "فضيحة آل طوروس".
همّت بالنزول حين لمحته في الحديقة، جالسًا بهدوء مريب على المقعد الحجري، يحتضن فنجان قهوته وكأن العاصفة لا تعنيه، أو كأنه يخطط لعاصفة مضادة.
جمعت شجاعتها، وخرجت لملاقاته. حين اقتربت منه، رفع رأسه وحدّق فيها للحظات. لم يكن كعادته الباردة، بل ظهرت في عينيه بادرة انتظار.
قالت بنبرة محترمة:
"سيد فؤاد... أعلم أني لا أملك خبرة كبيرة في الأعمال، لكنني قرأت كثيرًا الليلة الماضية، و... وجدت شيئًا قد يُفيد."
مدّت الملف نحوه. أخذه بتأنٍ، وفتح أوراقه، يقرأه بتمعن. لم يعلّق، لكن حاجبيه ارتفعا بشكل خفيف. كانت الأوراق تتضمن تحليلاً دقيقًا عن نقاط الضعف في حملة التشويه الإعلامية، مع اقتراحات للتواصل المباشر مع جمهور الشركات الصغيرة.
قال بعد صمت ثقيل:
"هذا... لم يكن متوقعًا، فكرة رائعة."
ابتسمت بخجل:"أعرف أني لست من هذا العالم، لكنّي أراقب. وأحيانًا، من يقف على الحافة يرى الصورة أوضح."
أغلق الملف ببطء، وحدق فيها بعمق:
"تبدين أقرب إلينا مما تظنين، يا حنين."
ثم وقف فجأة، ودعاها للمشي معه:
"هيا، سنعرض هذا على أعضاء الفريق. إن نال إعجابهم كما نال إعجابي... ستكونين قد فتحتِ لنا نافذة وسط الدخان."
تبعته حنين بخطى هادئة، وقلبها يخفق بشعور جديد... ليس فقط بالفخر، بل بشيء آخر غامض بدأ يتسلل خلف صرامة هذا الرجل الغريب.
اندفع آدم، رئيس الحراس، نحو حنين بابتسامة عريضة وهو يرفع يده لتحية ودودة، لكن عيني فؤاد الثاقبتين وجهاه ببرودة لا تخطئها العين.
توقف آدم فجأة، وشعر بثقل النظرة التي كادت تجعله ينسحب فوراً، بينما وقفت حنين مندهشة أمام هذا التوتر المفاجئ.
قال فؤاد بصوت منخفض وحاد:
"احترم النظام هنا، آدم. لا مجال للتراخي."
تراجع آدم خطوة إلى الوراء، وأومأ برأسه معتذراً، ثم تراجع بصمت بينما ظل فؤاد يراقب الموقف بعين صارمة، كأن ما حدث كان اختبارًا صغيرًا لمستوى الانضباط في القصر.
ظل فؤاد يحدّق في آدم حتى اختفى من أمامه، ثم حوّل نظره فجأة نحو حنين، كانت لا تزال واقفة في مكانها، تتأمل الموقف بتعابير حائرة.
قال بصوته الهادئ الذي تسلل إليه جفاف واضح:
"عودي إلى لوجي، هذا وقتها."
رغم أن كلماته لم تحمل إهانة، إلا أن نبرته الحادة المباغتة أرعبت السكون من حولها، وجعلتها تتراجع خطوة إلى الوراء، وقد ارتسم على وجهها مزيج من الدهشة والانكسار.
رمشت بسرعة، وكأنها تطرد دمعة لم تكتمل، ثم أومأت برأسها بخفة دون أن تنطق، واستدارت متجهة نحو جناح الطفلة، بينما ظلت أنفاس فؤاد تتردد في الأجواء، حاملة معها صدى رجل يقاتل من أجل الحفاظ على تماسكه.
في تلك اللحظة التي ظل فيها فؤاد جامدًا تحت ظل الشجرة، دخلت ديلارا الحديقة من البوابة الجانبية. بدت مختلفة، أنيقة كعادتها، لكن في عينيها حنين موجع، وشوق منكسر على عتبة الكبرياء. لم تنتظر أن يُستقبلها أحد، فقط مشت بخطى ثابتة حتى وصلت إليه، كانت خطواتها مترددة، تحمل بين طياتها ألمًا مكبوتًا، وعينان دامعتان ما عادتا قادرتين على إخفاء الحزن. وبمجرد أن وقفت أمامه، لم تنطق بكلمة، فقط ارتمت على صدره باكية، كأنها جاءت تلقي بثقل غياب مراد على من بقي له ظلًا وصوتًا.
تجمد فؤاد لوهلة، تفاجأ من حضورها بهذه الحالة، لكنه ما لبث أن خفّف من صلابته المعتادة، وأسند يده على ظهرها بحنوٍ خافت. تركها تبكي كما تشاء، ولم يقاطعها. كأن دموعها منحته شرعية جديدة لحزنه، وذكّرت قلبه المتخفي بمراد الذي ما زال حيًا داخله.
قالت بصوت متهدّج، "لم أودّعه... لم أصدق حتى الآن أنه رحل..."
همس وهو يضمها بخفة:
"ولا أنا... رحل قبل أن يقول شيئًا... رحل دون أن أسمع صوته للمرة الأخيرة."
في تلك اللحظة، لم يكونا مجرد رجل وامرأة يربطهما الماضي، بل روحان جمعهما الأسى، ودفء الحنين إلى من لم يعد موجودًا. لحظة إنسانية خالصة، لم يكن فيها مكان للأقنعة ولا للشكوك.
ومن نافذة الطابق العلوي، رأت حنين المشهد كله. كانت تحمل الطفلة بين ذراعيها، نظراتها ساكنة، وشيء ثقيل انغرس في صدرها، كما لو أن الهواء من حولها قد أثقل فجأة. لم تفهم تمامًا ما شعرت به، لكنّ دقات قلبها تسارعت دون إذن مسبق، وكأن شيئًا غامضًا انكسر أو تغيّر.تدرك أن في قلب ذلك الرجل حزنًا عميقًا، وجروحًا لم تندمل بعد، لكنها لم تستطع منع نفسها من الشعور بالضيق. نظرت إلى المرأة السمراء التي كانت متشبثة به كما لو أنه خلاصها، وراحت تتأمل ذلك العناق الطويل، الخالي من كل حدود. لماذا انزعجت؟ لم تكن تعرف... لكنها شعرت بالضيق، بالغيرة ربما، أو بالخذلان. كانت تعلم أن لا مكان لها في قلب رجل مثله، رجل يحمل على كتفيه حزن العالم، لكنه ألقى حزنه في حضن امرأة أخرى. شعرت بالطفلة في حضنها تتحرك، وكأنها أعادتها إلى الواقع، فخفضت بصرها، وربتت على الصغيرة برفق.همست وكأنها تواسي نفسها: "لا شأن لي... لا شيء يخصني فيما رأيت."
لكن الوجع في قلبها كذّب كلماتها، وتركها تائهة وسط شعور لم تعرف له اسمًا.
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم