رواية من بعد خوفهم الفصل السادس بقلم حمدى صالح
"شتان بين القلب والعقل، القلب يُدمر بالأحاسيس، والعقل يتفتق كالطرق".
أفاقتْ علىٰ آذان الفجر؛ لتجد الغرفةَ فارغة، سمحت لنفسها بالدخول لشرفتها التي تطل علىٰ بوابة المسجد الأمامية.. الضوء خافت والرياح تهب عليها، عادت لغرفتها وهى تلج للمرحاضِ.. تضع المياه الساخنة علىٰ جسدها، ندبة "مؤيد" ونسيان وجعها، كتمتْ صراخها بقلبٍ مكلومٍ موصدٍ بقيودٍ حديدية خلفها، وردةٌ متساقطة تعلن الذبول والقطع، خرجت متوجهةً لغرفتها مجددًا، تقف علىٰ الأرضٍ ودموعها تنهمر، قطعت "رهف" عن أداء، طقوسها وفريضتها طيلة الأيام الماضية، انتكست وسارت في دربِ الهلاك المرير، وكأن وجهها به الكثير من التصدعاتِ خلف حائطٍ مسدود من الطين الأسود وكأنها تناست ذاكرتها، صوتها يسمعهُ جيدًا حينما عاد، رآها تضع كتبها على الأرض بعدما أخذت حاسوبهُ، مكث بجوارها يطمأنها بكلِّ ما أُوتي لكنها بعالمٍ آخر، لغا بجديةٍ:
-تحدثين لا تدعِ الصمت.
-أتحدث بماذا يا "مؤيد"، هل تتذكر ماذا فعلت معي؟! كدتُ أن تصفعني وتهين شقيقتك التي حملتُها، تخيلاتك وقسوتك، الدماء لم تجف بعد من يدي، بالمناسبة أنا المذنبة التي سمحت لنفسها بالولوج لعالمٍ ليس لها ولا تكون صدقاتٍ، تِلك الصور المعلقة أعلى الفراشِ، وكتبي التي أتعلم بها، كنت أشتهي شهوة الشهرة عبر مواقع جلبت ليِّ الصفع، الحديث البشع عليِّ، حينما حدثتني" شمس"تِلك الفتاة التي تعرفت عليها بعد إختبارات الشهر ونضجت في الرسم بعدما أخبرتُك بالمركز المتقدم ورؤية تطلعي تقربت مني وظننتُ أنَّها تريد التعرف كالبقية والمعرفة وهكذا.. ومع انتهاء النصف الأول أرسلت إليِّ مقاطعها ومشاهداتها العالية ومنذ ذلك فعلتُ مثلها، وتجاهلتُ تلك الصديقة التي نفرتها وأخبرتني بالحقيقة التي تغافيتُ عنها، بلهاء، بريئة لم ترَ إلا الخير في القلوب..أكنت تتخيل أن يصدر مني هكذا؟! أرقص، صورٌ قاسية، تعليقاتٌ سررت بها، أنا دُمية يا "مؤيد".
تضحك بقوةٍ؛ ليجذبها بين أحضانهِ، تضع يديها حول فمها، تُكبت طاقتها، أقسم بداخلهِ علىٰ رد حقها واعتبارها، أن يسكت لسانها ويخرس الجميع عنها، ستصبح أقوى وأفضل، مرحلةٌ وستمضي، والساعة ستتغير لأفضل أحلامها، تلك الرسامة سترسم طاقتها معهُ، طاقة بقوة الإيمان وحب ذاتها قبل أي شيءٍ، استكانت بين ضلوعه؛ ليضعها على الفراشِ.. بجوارها مصحفها الذي جلبهُ لها بمولدها.
" مِن الجيد الوقوف أمام العدو؛ كي لا يصفعك
مُجددًا".
علىٰ الجانب الآخر كانتْ تعد الإفطار بسعادةٍ وعلى ثغرها شماتةٍ الفرحة بابنة أختها، جنانٌ أسود يفتق جسدها، نادت عليهم؛ ليجلس"ياسر"بصحبةِ أبيه، تناول بهدوءٍ وهو ينصت لهما كالعادة، ولكنهُ فوجيء حينما سألتهُ عن" رهف":
-كيف حالها يا "ياسر"؟! أمازالت تنشر المقاطع ولمَّ حذفت؟!
-ستكون بأفضل حال ويسر عمَّ قريب، وستزهر وتسكتُ الألسنة الحاقدة، أتعلمين أنا أعلم ما بجوفكِ يا" أمي"، ولن أتحدث عن هذا الشيء لإنّكِ لم تحترمين شقيقتك حينما أخبرتُكِ ووثقت بكِ، سأغادر لعملي يا "أبي" فأصبحت الأيام مريرة في هذا البيت، أنا لن أنفذ خططتكِ تجاه "مؤيد"، هو أخي ومَن يمسهُ بسوءٍ سأخذ حقه كليًا.
تركها غاضبةٌ؛ لتنطق: أأنتَ تصمت على أفعال ابنك؟
-لإنهُ صوابٌ ويحب الجميع، استمري في أفعالك والله سيبطلها في كل مرةٍ، ليس صغيرًا؛ كي أصفع شابًا يبلغ السادسة والعشرين، وانظري للماضي كي لا تندمين.
غادر الجميع وهى تفكر في ابنها.. ولكنها تمسك بوعدها في تدمير الجميع.
" قلبان متحدان بينهما طرقٌ مفترقةٌ"
تقف أمام المتجر بترددٍ؛ فهي لا تأمن تصرفاته إن رآها، كان ممسكًا بإحدىٰ كتبه غير واعٍ بمَن حولهِ، استعانت بالله وهى تلج متمتةً:
-هل يمكنني التَّحدث معك قليلًا؟!
رفع"مؤيد" رأسهُ، هى المرة الأولى التي تأتي بها ويعلم ما يدور بخلدها، عاد لسنواتٍ وهو يتذكر ذكرياتهُ معها، كان يروي لها ما يحدث والعكس، حتىٰ أدرك ما بقلبهِ؛ ليبتعد عنها دون رجعةٍ، ابن عمه لا غير ذلك، توارثت صفاتهم فإن كان هو الكاتب هى القارئة، وإن كان هو العنيد هى المجتهدة، أغلق الكِتاب ناطقًا وهو ينادي بأدهم الذي صعد؛ كي يرتب النقود والميزانية الخاصة به.
-لمَّ تصمتْ؟!
-لا يصح وقفتك معي هكذا، ولا حديث بيننا، وما يدور برأسك لن أفعلهُ أبدًا.
"عنود":
- ولكنك لا تُخبىء عني ما يخصني، أعلم خطأي ولكن أريد الحقيقة التي تخفونها عني.
-لا حقيقة لدي ولا أعلم شيئًا، ومِن فضلك غادري الآن، هذا مكان عمل لا مكان حديث وشجار، وليس لدي طاقة؛ كي أردف بما يزعجك، يكفي إلى هذا الحد يا
"عنود".. لديكِ والديك فلمَّ تأتين إليِّ، لستُ"مؤيد"
الثرثار لكِ.
تركها ونظرات الانكسار تظهر عليها، تستنجد به وهو يتجاهل وجودها دائمًا، ذهبت بخيباتٍ بعدما وثقت به، وكأنهُ طريقٌ مسدود به شوائب كثيفة لا تمحو مهما فعلت، يخفي عنها من أجل سعادتها فإن علمت الجريمة الحقيقة لنتكست عن الجميع، دخل بوجهِ آخر.. لينظر لهُ بعتابٍ:
-أتنصت ليِّ مجددًا يا "أدهم"!
-لا أفهمك يا رفيقي، ولكن إن كنتُ ترىٰ الصواب فلا عليك، ليِّ طلبٌ عندك.. أن تحظى بها فإن تركتها الغير يريدها.
-هى ليِّ ولقلبي أقرب، أدعو لها ولشقيقتها بالحياة السعيدة، كانت صديقتي وأقرب إليِّ من أختي، أحببتها وتربيتُ معها ولكن لا تعلم ما بيِّ، تراني كائن آخر ولو فهمت قلبها ستدرك ما بيِّ، أخشىٰ عليها دروب الدنيا.
ابتسم لهُ ليكملا عملهما، مِن الجيد المثول أمام رجلٍ يخشى نساء عائلتهُ، يفتخر"أدهم" به وبحياته ومَن ألمهُ وخسرهُ خسر رفيقًا جيدًا، مواقفهُ تثبت هذا، ورؤيتهُ كل يومٍ يعلمهُ شيئًا دون علمهِ، يشتاق لأبيَّ ولرمي هموم العالم عندهُ، أن تعوض وتصبح مميزًا لأحدهم شيئًا عصيب للغاية، ففي وقتٍ قد لا يهتم إنسانًا لأمرك، وتصبح صورةً لا أكثر.. فبعض الأقاويل لا تزال تقهر، أن يشبهك الغير دون مراعاةٍ لمشاعرك، وإن تحدثتُ بكلمةٍ يحاسبها عليك في إرهاقك وألمك حينها تخسر قلبًا أحبك ولا تعد العلاقات كالسابق.
"النقود في بعض الأحيان كالحديد المطلي بالصدأ، لا يُعالج، تالف ومتكبر، هكذا طباع البشر يومٌ تتميز، ويومٌ تحوم حولك الأفاعي"
-ماذا تُعني؟! أفشلت الخطط التي رسمناها مبكرًا لها؟!
صوت "شمس" يخترق جسدهُ بإختناق مريرٍ، إثناهما أرادا تدمير "رهف" وإيذائها بقسوةٍ كي تغيب عن العالمِ، الحقد مليء قلبها بعدما تغيبت عن حضورها، تكره تميزها ونجاحها المستمر فيمَّ تحب، رسوماتها التي تمليء مسرح الجامعة، وذهابها لصلاتها كل آذانٍ، تُدبر المكايد وتنهزم، رد "حسين" بحقدٍ:
-فشلت بجدارةٍ يا حبيبتي، فالهاتف الذي حمل الكثير أصبح محروقًا، ولكن لا تنفجرين هكذا ستأتي وسنفعل الأكثر.
-أنَّها أحلام، كادت الانتهاء لتحيا من جديد، ما هذا التشبث!
-لأنها قويةٌ ولن تنهزم أمامكِ يا حبيبتي، أنتِ خبيثة للغاية وأنتَ لا تقل قدرة عنها، نكرة ستصبحين علىٰ الرف أمام هذا، أتظنين أنَّكِ تقفين مع رجل يا فتاة، الرجل هو مَن يدخر الحماية للغرباء، أن يحمي القريب فيخشى الجميع، النكرة نكرة أيضًا، احترقين كُليًا وسأجعلها تأخذ بحقها، وحيدةٌ أنتِ يا "شمس"، إياكِ ثُم إياكِ أن تريني وجهك أمامي مرة أخرى، وأنت حديثك على هاتفي القديم به كل شيء ولن تقدر عليِّ؛ فلتعلم اسم"زينب" والصفعة القادمة ستُدمرك كالتربة.. بل التربة أفضل منك..!
تركتهم والقلق يحتل عقلهم، ثقةٌ وإيمانٌ تتشبث بهما وإن كانت غائبة فستأتي بحقها دائمًا، خرجت متجهةً لبيتها، أدارت المفتاح؛ ليضيء وجهها كليًـا:
-ياسر!
-وهل يدخل أحدٌ غيري يا فتاة؟! ما هذه الصدمة يا زينبي!
هرولتْ إليه ببشاشةٍ:
-بالطبع "أبي" يا شقيقي، هل أنتَ بخير؟!.. انتظر أنتَ تأتي حِينما تغضب، سأبدل ثيابي سريعًا؛ كي أعد الطعام.
-اشتقتُ لطعامك حقًا، علىٰ راحتك فسأكمل عملي.
هرولت كطفلةٍ اشتاقت لموطنها، دقائقٌ وهى تفعل أفضل الأكلات إليه حتىٰ انتهت، زُينت الأطباق وتناولا بصمتٍ وهى تقص عليه أيامها المعتادة، صامت لا ينطق بكلمةٍ واحدة، قررت انهاء أشيائها واندست علىٰ فراشهِ بعدما خصصتْ غرفةٌ له:-هلمِّ سريعًا بما يحتويه قلبك.
-قلبي حجرٌ لا ينفجر، والنوائب تتطاير حولي..
هتفت بجديةٍ: أتقصد أنَّني مصيبةٌ، اسمعني يا "أخي" لولا خطأ أبانـا في الماضي لكنتُ بمفردك، أنا لا أسيء الظن أبدًا بك وبوالدتك، أنت علىٰ حافة الانهيار وأقاويل أمك تردد في ذهنك حول الجميع، ولكن من لطف الله أنك تشبه أبي كثيرًا وربما غضبها من زواج والدنا مرة ثانية وإنجابي، هى فرحةً حينما استمعت لوفاة أمي ولا أعاقبك أو تفكر كهذا، لو كنتُ مكانها لفعلتُ الكثير.
-أنتِ غبية يا "زينب"، الماضي قد انتهى وهى تعلم أين أنا! ستفرحين حينما أكرهك وأشعل النيران بيني وبين الآخر.. ربما حديثك منطقيًا ولكن قلبي يرفضه، الأمر أن ابنه خالتي دمرت نفسها بيدها حينما سارت وراء تلك الفتاة التي تدعى"شمس"، ولا أعرف ماذا أفعل!.. أتتذكرين تلك الفتاة التي أحبذ رؤيتها هى يا شقيقتي، أتألم عليها وأكره فعلتها، دمي يحترق.
تراجعت"زينب" للوراء وهو يرفع حاجبيه من فعلتها.. إنّها هى صديقتها التي حذرتها، تكذب شعورها بشيءٍ ناحيتها؛ لتقع أمامها.. أشار بيديه:
-أين ذهبتِ؟!
-أرهقتُ قليلًا فقط، أنصت إليِّ يا أخي.. أصلح بين والديك فأنت ستتزوج وتذهب لحياتك ولن يتبقى إلا جدران بها أمك وأبيك، ولتتذكر قول الله سبحانه وتعالى: { وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِیلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَیَّۚ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ }.. كنتُ أودُّ إخبارك بأن "رهف" ابنه خالتك تِلك مَن نصحتها في مرات عديدة ولكنها فضلت السير وهى مثلي، ربما أخطأتُ ولو وضعت نفسي مكانها لن أجد الأمان، صدمتك غالية عليِّ ولكن لن أكذب عليك، أحببتها وشعرت بالألفة بيننا، سأبتعد عنها فيكفي أن والدتك أخفت السر علىٰ الجميع، لا أودُّ كَسِرك.
أخذها بأحضانه وهو يربت عليها، تغيرت نبرتها وهو مَن وقف بجوارها، هدر بجديةٍ يخبرها بعدم النقاش:
-ستكونين بجوراها وتأخذي بيديها، والجميع سيعرف أنِّك أفضل فتاة حول الجميع، لن أتركك تعيشين بمفردك، سأرتب لكِ غرفة مميزة بالمنزل، أعدك بأن الجميع سيفتخر بكِ يا فتاتي الجميلة، سآخذ بحديثك وأنتِ هكذا.
-الأمر صعبٌ عليك؛ فلتدعَ الأمر لله وحده، عليِّ النوم فغدًا سأذهب مبكرًا للجامعة، أودُّ إخبارك بأمرٍ لقد وقفت أمام تلك الفتاة والشاب ولا أخشاهم، ولكونه أمر مشترك اجعل هاتفك مفتوحًا دائمًا؛ لإنهم لن يتركوني بسلامٍ!.