رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل السادس
صُدم بهاء من صفعة أخيه،
شعور بالمهانة اشتعل في عينيه… لكنه لم ينبس ببنت شفة. اكتفى بالنظر إليه نظرة نارية،
ثم استدار وغادر الغرفة كمن يحمل نارًا في صدره لا تطفئها الكلمات.
لم تحتمل روح الإهانة التي وُجهت له بوجودها،
شعرت وكأن الكف لامس قلبها هي لا وجهه،فجرت خلفه، وأمسكت بيده، متلعثمة برجاء متألم:
حقك عليا… أنا السبب، بس بلاش تزعل… من أبيه ايهاب ، أنا هتصرف…
أخو صاحبتي ليلى كان كلمها عني، وبيقول عايز يتجوزني ويسافر بيا الوادي الجديد، لأنه لسه اتعيّن هناك، انا هكلمها، يجي يتقدّم لابية، ويطلبني منه وبكده تبقى خلصت من "بنت الحرام".
كلماتها لم تكن طوق نجاة، بل كانت كارثة كصبّ الزيت على النار… رمقها "بهاء" بعينين لا تعرف الرحمة، ثم جذبها من يدها بقوة خارج المستشفى،
وصاح فيها بغضب احترق من داخله:
آه يا حقيرة! هي وصلت لكده؟ وباتري خرجتي معاه؟ ولا يمكن رُحتي بيته؟
وصاحبتك كانت مرسال بينكم؟ علشان كده كنتي عايزة تسيبي البيت وتريحيني؟ دلوقتي فهمت…
اتفضلي! روحي، الشارع قدّامك… اتجوّزي، اتنيلي، بس بعيد عننا! يلا غوري… من قدامي مش طايق أشوف وشك، صحيح… العِرق دساس.
دفعها بقسوة، كادت أن تهوي على الأرض، لكنها تماسكت…
وقفت بصعوبة، نظرت إليه بحسرة ممزوجة بانكسار،
دموعها انهمرت كالسيل، لكنها لم تنطق بكلمة…
بل استدارت وعادت إلى المستشفى بصمت، كسيرة كغصن هش كُسر دون رحمة.
وقفت أمام مرآة دورة المياه، غسلت وجهها من أثر الدموع، ورسمت على ملامحها هدوءًا مصطنعًا…
ثم دلفت إلى غرفة والدتها بهدوء وهمس:
للأسف… ملحقتوش، بس ليه يا أبيه ضربته؟
أنا لسه صغيرة قوي على الجواز.
رمقها إيهاب طويلًا، تأمل ملامحها المشتعلة بالحزن،
ثم قال بغضب مكتوم:
واضح أوي إنك ملحقتهوش… اسمعي يا روح،
ماما لازم تسافر معايا، وانتي مش هتسيبي الشقة…
بهاء بقى يعيش في أي مكان يعجبه، لأن الشقة دي
هتبقى سكن شرعي ل،
لزوجتي أنا بإذن الله… وهتكوني انتي يا روح
هذا ما قاطع به بهاء أخيه حين دخل الغرفة بهدوء غير مألوف، ووقف أمام أخيه، واكمل بصوت خافت:
آسف يا إيهاب… اتهوّرت، وغلطت، انت عندك حق…
مدام أنا اللي هكون مسؤول عن روح وقت غياب ماما، يبقى لازم أتحمّل مسؤوليتها بالكامل…
وأتجوزها…علشان ماما تطمن، وضميرها يرتاح.
كان وقع كلماته كالمطر على أرض محترقة،
ابتسمت "ابتسام" بسعادة غامرة، مدت يدها وجذبته إلى حضنها، وبكت بفرح وهي تقول:
يا فرحة قلبي بيك، ابني وبنتي هيتجوزوا…
أحمدك يارب إنك عقلت، وعرفت قيمة النعمة اللي ربنا كتبها من نصيبك… إيهاب، اسمعني…أنا عايزة أخرج من هنا بسرعة، أجهز بنتي، وأعملها فرح قد الدنيا، كنت نفسي أفرح بيك الأول…
بس النصيب بقى، والنصيب فوق كل حاجة.
اعتدل بهاء في جلسته، تطلّع إلى والدته بريبة لم يحاول إخفاءها، وقال بنبرة جافة:
فرح إيه وجهاز إيه؟
أنا هتجوزها علشان أكمّم أفواه الناس، نكتب الكتاب وخلاص… لكن فرح وزفة؟ مستحيل! روح دي طفلة، هيقولوا علينا إيه؟
ربت إيهاب على كتفه، وقرّبه إليه بنظرة فيها شيء من الحنان والصرامة:
هيقولوا إنك راجل… راجل بيصون عرضه وشرفه،
والجواز لا هو عيب ولا حرام، اصغر منها اتجوزوا!
الجواز مش ورقة، ولا حاجة بتتفرض اشهار وقبول
وقبل أي خطوة… لازم ناخد رأي العروسة.
التفت إيهاب إلى روح وقال بصوت هادئ لكن حاسم:
ها يا روح؟ موافقة تتجوزي بهاء؟ ولا لأ؟
اسمعيني كويس… ما تخافيش، قولي رأيك بصراحة،
ده جواز مش لعب، ومفيش حد هيغصبك.
رفعت روح بصرها إلى بهاء، كلماته الجارحة لا تزال تطنّ في أذنها، لكنه في النهاية… هو بهاء حبيبها الذي هام به قلبها.رغم كل شيء. زواجها منه سيكون جواز العبور الوحيد لسفر والدتها، وسيصبح زوجها وولي أمرها، ربما… ربما يلمس قلبه حبها مع الوقت.
أطرقت برأسها، وهمست بصوت مرتعش لكنه مفعم بالأمل:
اللي تشوفوه…أتا موافقة، المهم ماما تقوم لينا بالسلامة… وتبقى بخير وصحة.
ضحك إيهاب براحة، وأردف بنبرة حاسمة:
يبقى على خيرة الله، وخير البر عاجله، أنا قدامي أسبوعين أجهز أوراق سفر ماما، انتي تخلصي امتحاناتك…يعني الفرح هيكون قبل سفرنا بيوم،
اتفقنا؟
ثم صمت لحظة،وعاد يوجه حديثه لأخيه بنبرة أكثر جدية، حادة كالسيف:
اسمع…صحيح هتبقى جوزها، ومسؤول عنها،
لكن أوعى تهينها، أو تقول ليها كلامك الخايب اللي قولته من شوية. انا مش هسمح بيه تاني…
ولا هرحمك لو كررته، فاهمني يا بهاء؟
هزّ بهاء رأسه بتفهم،ثم رمق "روح" بنظرة غامضة،
نظرة أربكتها… وأحرقت خديها بحمرةٍ مفاجئة،
ثم ردّ على أخيه بنبرة واثقة أكثر مما يجب:
متقلقش يا إيهاب،لا إهانة ولا كلام…علاقتي بيها هتكون أخوية بحتة، كأن ماما موجودة،
الفرق الوحيد… إن طاعتي هتبقى واجبة عليها، علشان تكسب رضا ربنا. وبعدين أنا كلها كام يوم وابدأ امتحاناتي، يعني لا فاضي ليها…ولا للشكل معاها.أظن كده موقفي واضح… جوازي منها هيكون… اسمي فقط.
اتسعت ابتسامة "إيهاب"، وقد شعر براحة تغمر صدره أخيرًا، وقال وهو يربت على كتف أخيه:
والله تبقى جدع يا بهاء، على الأقل… لو حصل وكملتوا مع بعض، تكون "روح" كبرت وفهمت يعني إيه جواز. خلاص، مدام اتفقنا،
أبدأ انا أجهز نفسي وماما للسفر.
أشارت "ابتسام" إلى "روح" أن تقترب منها،
فخطت نحوها ببطء، ودموعها تتساقط بصمت،
لا تدري أهي دموع الفرح لأنها ستصبح زوجة من تحب، أم دموع قهر… لأن هذا الحب لا يسكن قلبه.
ضمتها ابتسام" إلى صدرها بحنان،
وكفكفت دموعها بأنامل أمٍ لا تعرف غير العطاء،
ثم قالت مبتسمة، بعينين تبرقان حبًا وأملًا:
بتعيطي ليه يا خايبة؟ بكرة تبقي مراته،
بس إوعي تسكتي ليه، إوعي تنسي إن ليكي عليه حقوق، وأولها… ينزل يجيبلك شبكة تليق بيكي،
بنتي دي غالية… ولازم تفرحي زي البنات كلها!
ثم التفتت إلى "بهاء"، وأشارت له بنبرة حازمة ومُحبة:
اسمع يا بهاء… ادخل أوضتي، هتلاقي مفاتيح الدولاب فوق الكومود، افتحه، هتلاقي تلات جُوابات كل واحد باسمك و باسم أخوك. وباسم روح
خد الجواب اللي مكتوب عليه اسمك واسم "روح"،
وانزل. هات ليها شبكتها وفستان فرحها. ولو بتحبني فرّح قلبي،واعمل لها كل حاجة هي بتحلم بيها علشان ربنا يرضى عنك… وأنا كمان.
تنهّد "بهاء" بتضجّر، وقال بغيظ مكتوم:
إنتوا ليه عاملينها حكاية؟ صدقتم إنها جوازة بجد!
وبعدين الهدية دي منك… أنا كنت عايزها لعروستي.
لو عايزاني أجيب حاجة لـ"روح"، تبقى من هديتها… مش من عندي
قاطع إيهاب حديثه وقد ضاق ذرعًا بكلماته:
بطل كلامك اللي يوجع القلب ده، اقولك شبكة روح وفستانها وليلة فرحها… كلهم على حسابي، سواء اتجوزتك أو اتجوزت غيرك! يلا بينا نروّح…وبكرة نجهز نفسنا لفرحكم وسفر ماما،
وكفاية سهر… كمان علشان روح تذاكر، كويس إن النهارده كان أجازة.
وافق بهاء و روح ، لكن ابتسام أصرت أن تخرج معهم، وأمام إصرارها، طلب إيهاب من الطبيب أن يسمح لها بالمغادرة،
لكن الطبيب رفض، وأوضح أن حالتها لم تستقر بعد،
وطلب إرجاء خروجها يومين فقط… حتى يطمئن على استقرارها تمامًا.
رضخت "ابتسام" لكلام الطبيب، وغادر "إيهاب" وبهاءبصحبة روح المستشفى عائدين إلى المنزل.
********
في البيت، أعدّت روح وجبة العشاء لهم بهدوء،
ثم شكرها "إيهاب"، وطلب منها أن تدخل غرفتها وتراجع دروسها.
نفّذت ما طلبه منها، وابتسمت له بامتنان:
شكرًا يا أبيه ايهاب لإنك مهتم بيا كده.
ظلت تذاكر طوال الليل، تركّز في كل كلمة كأنها تهرب من ضجيج قلبها، وحين اقترب الفجر، فوجئت بالباب يُفتح وبهاء يدخل فجأة.
تطلّع إليها بتجهم وسأل بحدة، بصوت منخفض لكنه قاطع:
إنتي صاحية لحد دلوقتي ليه؟ مش عندك امتحان الصبح؟ لازم تنامي بدري علشان تعرفي تركّزي، في الامتحان؟
ارتبكت روح من حضوره المفاجئ، فهربت بعينيها بعيدًا عنه، وكأن نظراته قد أربكت عقلها. أجابته بتوتر، بينما ضمت كفيها فوق الكتاب المفتوح:
أيوه… بس كان لازم ألمّ المادة، بس خلاص… خلّصت المراجعة، بس هصلي الفجر وأنام، متقلقش عليا… ساعتين كفاية بيخلّوني أفوق.
تطلّع إليها بهاء بتمعّن، وعيناه لا تفارق ثيابها البيتية البسيطة. لاحت على وجهه حيرة مكتومة، كأن شيئًا ما يعجز عن الإفصاح عنه، وتمتم بتردد:
روح، أنا…
لكنه لم يُكمل. رفعت "روح" نظرها إليه، فرأت الحيرة تسبح في عينيه، فقالت له تشجّعه بنبرة يعلوها صدق موجِع:
قول يا بهاء، متقلقش…مفيش حاجة هتقولها ممكن تزعلني اكثر من اللي يا ما قلته. انت قلت كل اللي ممكن يوجعني ويهين كرامتي.
تلقى كلماتها كصفعة خفية، شعر وكأنها سحبته من وهم البرود إلى مرآة الحقيقة، فابتسم بتهكم كعادته حين يودّ إخفاء انكساره، وقال ساخرًا:
طيب، أنا بقى هكسفك ومش هقولك حاجة تضايقك.
خلي بالك من نفسك، وركزي في امتحانك، وكمان… حابب أطمنك، جوازي منك مش هيكون إلزام ليكي،
وقت ما تحبي تطلقي، هطلقك… من غير نقاش.
كل اللي عليكي… تطلبيه وبس........اتفقنا؟
هزّت رأسها بالإيجاب، لكن كلماتها اختنقت في حلقها.
هل كانت توافق حقًا على الطلاق؟
أم إنها توافق فقط كي تضمن بقاءه إلى جوارها، ولو كزوجٍ بلا قلب؟
قالت في سرّها، ساخرة من قدرها:
ده… أكبر أمانيي هيتحقق، وهشيل اسمه… كزوجة ليه، ولو حتى على الورق.
ظلّت تحدّث نفسها للحظات، حتى باغتها اقترابه منها، ففزعت حين خيّم ظله فوقها، وارتدت للخلف وقالت بقلق:
في إيه؟! هو أنا عملت حاجة؟
هزّ رأسه نفيًا، ثم قال بصوت هادئ غلب عليه دفء غريب:
روح...........آخر امتحان ليكي الأسبوع الجاي اعملي حسابك، أنا هعدّي عليكي نجيب الشبكة وفستان الفرح،. جهزي نفسك… لأني هختار ليكي كل حاجة على ذوقي.
لم تستوعب روح هذا التغيّر المفاجئ، فرجّحت أنه مدفوع بخوفه على والدته، لا حبًا فيها، فتمتمت بترددٍ حذر:
مفيش داعي تتعب نفسك… أبيه إيهاب قال إنه هيجيب كل حاجة، وخلي إنت هدية ماما.. لعروستك.
ظلت كلماتها تتطاير في الهواء… حتى تلبدت عيناه بغيمٍ أسود، وقبض على كفه بضيق ظاهر.
ثم أخذ نفسًا عميقًا ورد عليها بصوت ثقيل بالغموض:
لا وآله بجد، طيب خلاص…خلي إيهاب يتجوزك…
مدام هو اللي هيجيبلك طلباتك، يا عروسة!
ثم اندفع نحوها فجأة، وأمسك بذراعها وقربها منه بشدة، وصرخ بعينين يملؤهما التحدي:
لازم تفهمي! مدام وافقتي على الجواز مني، يبقى تخرسي خالص وتسمعي الكلام… وبس.وممنوع حد يجيبلك حاجة، لا حتى تقبلي حاجة من من حد،
إلا لو مش مالي عينك… مش شايفاني راجل قادر يصرف عليكي يا هانم،،
ترك ذراعها فجأة، وغادر الغرفة بخطى ثقيلة،
لكنه ما لبث أن وقف عند بابها، والتفت إليها وقال بنبرةٍ متحدّية:
جهّزي نفسك…الاثنين الجاي، بعد امتحانك، هعدّي آخدك… أنا وإنتي… وبس، اللي هنجيب كل طلبات فرحك. وعلي ذوقي فاهمه
ثم ابتسم ابتسامة باهتة، كأنها وميض من نار مشتعلة، وأضاف بصوت خفيض لكنه حاد:
وماتقلقيش… مش معنى إني هبقى جوزك وهنعيش سوا شوية، إني هلزمك بحقي، أطمني… أنا لسه قدامي جيش… ومشوار طويل أوي، قبل ما أدبس نفسي في جواز ومسؤولية بجد.
ثم التفت إليها، وابتسم فجأة وقد رقّ صوته على غير عادته، وقال بنبرة خفيفة كأنها نسمة آخر الليل:
يلا كفاية سهر عليكي لحد كده…قومي اتوضّي ونامي… يا عروسة.
وغادر الغرفة، مغلقًا الباب خلفه في هدوءٍ مباغت.
أما روح، فقد ظلّت عيناها تحدّقان نحو الباب المغلق، وكأن قلبها لم يصدّق ما سمع.
أخيرًا، ألقت بجسدها فوق الفراش، واحتضنت وسادتها بسعادةٍ غامرة، ثم همست لنفسها بمرحٍ طفوليٍّ لم تعهده منذ زمن:
يافرحت قلبك يا روح… كلها أيام وهيبقى اسمي مربوط ببهاء، هيبقى جوزي… وولي أمري… ومسؤول عني. ياااا رب…
يا رب اهديه عليا، وافتح عينه وقلبه على حبي…
وما إن ارتفع صوت أذان الفجر حتى نهضت من فراشها بخفة، وكأن قلبها يسبقها إلى الوضوء.
صلّت بخشوع، ثم عادت إلى سريرها ودفنت رأسها في وسادتها، وغفت قريرة العين، مطمئنة الفؤاد… سعيدةً بالغد، الذي سيحملها على جناحي الأمل، إلى قلبٍ تاقت إليه طويلًا.
**************