رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل السابع
مرّ الأسبوع سريعًا كأنه لم يكن، خرجت خلاله ابتسام من المستشفى، وتمكّن إيهاب من إنهاء جميع الأوراق الرسمية لجواز سفر والدته، والتواصل مع أحد أصدقائه لتأمين حجز عاجل لها بأحد المستشفيات الكبرى تمهيدًا لإجراء الجراحة، ما إن تصل.
أما بهاء، فقد أوفى بوعده، وذهب في صباح أحد الأيام إلى مدرسة روح، واصطحبها مباشرة إلى أحد المولات الكبرى لشراء فستان الزفاف.
كان الفستان محتشمًا على نحو يليق بسنّها، غير أنه في غاية الرقة والذوق، وحين وقعت عينا روح عليه، انبهرت بجماله، وكأنها ترى الحلم يرتسم أمامها في صورة قماش أبيض وتطريز هادئ.
بعدها، مضيا معًا إلى أحد محالّ الصاغة.
اختار بهاء لها عقدًا ذهبيًا على هيئة ثعبان أنيق يلتف حول العنق، فأذهلها اختياره.
ثم جاء دور الدبل، فأصرّ على أن تكون دبلة Cartier مطعّمة بالذهب الأبيض والبلاتين، فخمة لدرجة أربكتها، خاصة حين طلب من الصائغ أمرًا لم تفهمه في البداية.
فسألهم الصائغ بلهجة ودودة:
تحبي تقيسي الدبلة، يا آنسة؟
جفلت روح ونظرت إلى بهاء بارتباك، ثم تمتمت بقلق: بلاش يا بهاء، دي غالية أوي… اخاف تضيع مني أو تتسرق، خلينا في حاجة دهب أو حتى فضة… أأمن!
ضحك البائع مطمئنًا وهو يشير إلى الدبلة: متقلقيش… إحنا بس بناخد المقاس، إنما الدبلة اللي هتلبسيه هتكون نسخة طبق الأصل بس من الفضة، مش هيبان، والمهم التصميم.
ارتاحت حينئذٍ، وهزت رأسها بالموافقة وهي ما تزال مذهولة من اهتمام بهاء بكل التفاصيل، وكأنه لا يقدم لها مجرد هدية، بل يرسم لحظات من حلمٍ كانت تظنّه بعيدًا.
بعدما أخذ الصائغ مقاسها، طلب منهم نصف ساعة لإنهاء الدبلة الفضيّة.
في هذه الأثناء، مدّ بهاء يده إلى البائع قائلاً: ــ لو سمحت، ممكن تجهزلي الفاتورة؟ وضمّ ليها كمان تمن الدبلة الفضة.
ناول البائع الفاتورة لـبهاء، الذي لم يحتفظ بها بل سلّمها مباشرةً إلى روح قائلاً بنبرة جادّة يغلفها الحنان:
أظن كده رضيتك… ورضيت ماما وإيهاب.
خدي، خلي الفاتورة معاكي.
اللي دفعت فيه ده هدية بابا وماما ليكي، خلي الفاتورة معاكي لو في يوم احتجتيها دي فلوسك، من حقك، مليش احكم ليكي تعملي ايه بيهم....
ثم أضاف وهو يبتسم بخفة:
بقولك ايه بما إن لسه فاضل وقت على ما الدبلة تجهز، تعالي نخرج بدل القعدة في المحل… نشرب عصير، ونشوف لك كام طقم حلوين تلبسيهم بعد الفرح… علشان الناس تصدق إنك عروسة بجد.
ابتسمت بخجل ووافقت، فخرجا سويًا من المحل بعد أن دفع الفاتورة واستلم العقد، على أن يعود لاحقًا لاستلام الدبلة الفضيّة.
تجوّل بهاء مع روح بين المحالّ، واشترى لها قطعًا أنيقة من الملابس تناسب ذوقها، ثم دخلا أحد المقاهي الهادئة، وتناولا معًا وجبة الغداء، تلاها كوبان من العصير البارد، تركت في نفسها أثرًا من الانتعاش، كأنها تتذوق للمرة الأولى طعم الأمان.
وبعد أكثر من ساعتين، عاد بها بهاء إلى محلّ الصاغة، طلب منها انتظاره في الخارج، وما لبث أن خرج إليها والدبلة بين يديه، وقال وهو يبتسم بثقة:
شوفي كده… وقوليلي رأيك، مش كأنها حقيقية بالضبط؟
فتحت روح العلبة ونظرت إلى الدبلة بدهشة صامتة، كأنها تخشى أن تصدق عينيها، ثم تمتمت بإعجاب:
مش ممكن! فعلاً اللي يشوفها يقول إنها أصلية…
شكرًا يا بهاء، بجد أي حد هيشوفها هيعرف إنك قدّرتني.
ابتسم بهاء، وأخذ منها الدبلة برفق، ثم أعادها إلى علبتها وقال بنبرة شبه جادة:
مفيش شكر بينّا يا روح… دي حاجة بسيطة.
وأنا فعلاً قدّرتك بحاجه تليق بيكي.
ثم وضع العلبة في جيب معطفه، وأردف وهو ينظر إلى ساعته:
يلا بينا نرجع بقى، أظن كده انبسطتي، وفرحتي، وادلعتي كمان…على ما أظن،انت أول مرة واحدة
من زمايلك يجيلها شبكة زي دي، صح؟
هزّت رأسها بالإيجاب وابتسامة خجولة تعلو وجهها، لكن رغم سعادتها الظاهرة، بقي شيء بداخلها يؤلمها…
كلمته السابقة عن أن الدبلة تقليد هي قيمتها،ما زالت ترن في أذنيها، وكأنها تجرح مكانًا خفيًا في قلبها، لا يعرف هو عمقه ولا مدى أثر كلماته فيه.
عادا معًا إلى الشقة، تحمل روح فستانها وشبكتها بين ذراعيها كأنها تحمل كنزًا، بينما بهاء يحمل باقي المشتريات.
وما إن فتحت الباب حتى هرعت إليها ابتسام واحتضنتها بفرحة غامرة، وقالت بلهفة:
شوفي يا ماما… بهاء جابلي إيه!
حتى الشبكة… وكمان الدبلة الغالية… بلاتين يا ماما!
أخذت ابتسام منها علبة الشبكة، ووقعت عيناها على العقد، فزغردت بفرحة وهي تنظر لابنتها، ثم سألت بنبرة حادة مازحة:
طب فين الدبلة اللي بتقولي عليها بلاتين؟
أنا شايفة دبلة فضة.هو البلاتين بقى فضة دلوقتي؟!
اخص عليك يا بهاء! كده تضحك على البنت؟
انتفضت روح سريعًا، ورفضت اتهام والدتها بنظرة ملؤها الدفاع، وقالت بإصرار:
لا يا ماما، هو اشتراها قدامي… وبفلوس كتير أوي!
وقاللي إنها هدية بقيمتي عنده، مش كده يا بهاء؟
أومأ برأسه، وابتسم ابتسامة مقتضبة وهو يرد:
ومدام دي هديتي ليها، محدش ليه يعرف قيمتها غيرها…ولا حد هيشوفها غيري وأنا بلبسها ليها.
ثم استأذن قائلاً بهدوء:
عن إذنكم… هدخل أرتاح شوية، يوم طويل.
اتجه إلى الغرفة التي يتشاركها مع شقيقه، وتمدد على الفراش، وأخرج العلبة الصغيرة من جيبه، فتحها وتأمل الدبلة للحظة صامتة، ثم قال بصوت منخفض يملؤه الأسى:
ياريت كنت أقدر أجيبلك اللي يساوي قيمتك بجد يا روح…بس مكنش ينفع أقلل سعرها أكتر من كده…
أعاد الدبلة إلى العلبة، ووضعها في جيبه، وأغمض عينيه، بينما ارتسمت على ثغره ابتسامة مريبة…
ابتسامة لا يعلم مغزاها سواه.
**********
مرّت الأيّام سريعًا، وها قد أتى اليوم الموعود…
اليوم الذي يشهد فيه الجميع زواج بهاء من روح.
تهيأت القاعة، وامتلأت بالأنوار والزينة، وتحركت أيادي المحبين لتجعل من ليلة العمر لوحة لا تُنسى.
في غرفة العروس، اجتمعت الفتيات حول روح لمساعدتها في التزيّن والاستعداد.
كانت الأجواء مبهجة، يمزجها بعض القلق والكثير من الدعوات، حتى دلفت إحدى الفتيات لمساعدتها في ارتداء فستانها،
وما إن لاحظت شامةً كبيرة على فخذها حتى علّقت بمزاح:
الله! الشامة دي كبيرة أوي…لو كانت في الكتف أو البطن كانت هتبقى مغرية أكتر!
ضحكت ابتسام، التي كانت تشرف بنفسها على كل تفصيلة في استعدادات ابنتها، وردّت وهي تنظر لروح بعين الرضا:
متقلقيش.روح عندها شامة تحت بطنها، مغرية جدًا،
محدش شافها غيري… صح يا روح؟
ضحكت روح بخجل، واقتربت من أمها تضُمها وتقول:
طبعًا… يا ماما أنا اتربيت على إيدك يا ست الكل.
ربنا ما يحرمني منك ويباركلي في عمرك.
قرصتها إحدى صديقاتها في فخذها، وقالت ممازحة:
أهو قرصتك في ركبتك… يمكن أحصلك في جوازك!
صدقِت أبلة سلوى لما قالت: أول واحدة فيكم هتتجوز هي روح.
ضحكت ابتسام وقالت بكل فخر:
طبعًا! هو في أخلاق وأدب وجمال زيها؟ ربنا يحميها ويهني جوزها بيها.
ابتسمت روح بدفء، ودعت من قلبها أن يكون بهاء زوجها، لا أحد غيره.
------------------
جهّزت العروس، واكتملت زينتها، فخرجت ابتسام لتُبلغهم بأن روح أصبحت جاهزة.
لم تمضِ دقائق حتى أقبل إيهاب، وبرفقته اثنان: أحدهما صديقه، والآخر جارهم، للسؤال عن وكيلها.
نظرت روح إلى إيهاب بعين مليئة بالمحبة والامتنان، ثم قالت بهدوء:
بإذن الله… أبيه إيهاب، ربنا ما يحرمني منه.
اقترب منها إيهاب، وقبّل مفرق شعرها بحنان أخوي وهمس:
ويباركلي فيكي يا أجمل وأحن أخت في الدنيا…
وما يحرمنيش منك يا مرات أخويا.
غادروا جميعًا، وبقيت روح وحدها، تجلس في سكون، ترتجف من التوتر الذي بدأ يتملكها.
وما هي إلا لحظات حتى ارتفعت الزغاريد في الخارج،
فاضت عيناها بالدموع…
فقد أصبحت الآن زوجة حبيبها رسميًا وقانونًا.
دخلت ابتسام عليها وهي تبتسم بفخر وسعادة، ثم ضمّتها إلى صدرها وقالت بانفعال:
ألف مبروك يا قلب أمك! كتبوا الكتاب خلاص وبقيتي مرات ابني رسمي…إن شاء الله تبقي أم أحفادي.
يلا يا عروستنا، يا قمر… علشان تتزفّي لعريسك.
ابتسمت روح لها، لكن قلبها لم يكن مطمئنًا…
كانت مشاعرها متخبطة، ما بين الفرحة والتوتر، والقلق من لقائها الأول مع بهاء كزوجته.
دخل إيهاب مجددًا، والبسمة لا تفارق وجهه، وتقدم منها برفق، ثم مدّ يده إليها:
يلا يا عروسة… تعالي معايا.
أمسك بيدها، وخرج بها إلى القاعة…
وكانت هي تسير كأنها تطير على سحابة من الأحلام،
كأنّ الضباب يملأ الأرجاء، والرؤية غائمة، والقلوب خافقة. تجولت نظراتها بين الحضور، تبحث عن بهاء…حتى وقعت عيناها عليه.
كان يقف هناك، في منتصف القاعة، وسيمًا في بدلته السوداء،عيناه تشعّان ببريق غامض لا تدري سره،
وابتسامته التي أظهرت غمازة ذقنه زادت من سحره،
حتى غدت جاذبيته ساحقة لأعصابها المرتجفة.
وقفت في مكانها، تتأمله بصمت…وقلبها يتراقص فرحًا، لا تصدّق ما تراه في عينيه من رضا وراحة…
فتساءلت في نفسها:
هل أتوهم؟
أم أنني أرى بعين التمني… ما كنت أحلم أن أراه؟
طالع بهاء روح بنظرة غامضة، ولم يستطع أن ينكر جمالها البريء الذي أبرزه فستان الزفاف الأبيض.
كانت تقف أمامه فاتنة في سذاجتها، آسرة في رقّتها… فجال بخاطرها سؤال يتردد، كيف ستصير حين تنضج، وتكتمل ملامح أنوثتها،
كيف سيتشكل جسدها ليُضاهي تمثال فينوس…
لا شك أنها ستغدو أُمنية كل عين تراها.
تنفّس اخيرا بعمق وهو يقترب منها، مدّ يده يتناولها من يد أخيها، لكنه صُدم حين لامست أصابعه يدها الباردة المرتجفة.
ضمّ يدها بين كفيه، وربّت عليها بحنان، ثم مال نحوها وهمس:
إنتي مرعوبة؟ ولا خايفة؟ دي كلها تمثيلية…
بعد الفرح هنرجع زي زمان… إخوات، فاهدَي كده يا روح، متخافيش.
ابتسمت له بخجل، وابتلعت ريقها، بينما بادلها بهاء بأبتسامة هادئة بددت شيئًا من ارتجاف قلبها.
--------------------
مضت الليلة بخفة حتى أتى وقت ارتداء الشبكة…
ألبسها بهاء الكوليه ثم السوار، ثم اقترب ليضع الدبلة في إصبعها، لكنها فوجئت بأنها ضيقة جدًا.
حاول إدخالها بالقوة، فضغط على إصبعها بشدة حتى تدخُّل إيهاب:
يا بهاء، بالراحة عليها! هتجرح صوابعها كده!
لكنه أصر، ففهمت روح من إلحاحه أنه لا يريد لأحد أن يمسك الدبلة أو يتحقق من حقيقتها،
فقالت برقة:
طيب يا بهاء… لو فضلت تدخلها كده بالعافية، مش هعرف أخلعها تاني إلا لما أقطعها.
غامت عيناه بضيق وقال:
مش مهم دلوقتي… المهم إنها تدخل! وبعدين يحلها حلال… بس غريبة! مش الصايغ أخد مقاسك؟
ولا إنتي وزنك زاد؟
قاطعتهم والدته وقد استشاطت غضبًا:
هتزيد منين يا حسرة؟ دي بقيت مسمومة! لا بتاكل ولا بتنام! الصايغ هو اللي غلط في المقاس… منه لله!
تنهد بهاء بعدما استقرت الدبلة أخيرًا في إصبعها، وقال بارتياح:
الحمد لله… مش مهم، هروحله بعدين أخليه يجيب واحدة أوسع… على حسابه!
بدأت روح تدلّك إصبعها الذي ما يزال يؤلمها من الضغط، فقال إيهاب:
خدي الدبلة الفضة ولبسيها لبهاء… خلينا نخلّص الليلة على خير.، الطيارة فاضل عليها ساعتين…
أمسكت الدبلة الفضية، وألبستها لـ بهاء بسهولة، فانطلقت الزغاريد من جديد،
وزُفّ العروسان، وأُغلق عليهما باب الغرفة.
-------------
هرعت روح إلى النافذة، تنظر بخوف وقلق إلى الخارج، تنتظر أن تودّع أمها وإيهاب.
لم يُقاطعها بهاء، بل اقترب منها، ولما رأى والدته تصعد السيارة، ناداها كي تودّع روح،
ثم تبعهم إيهاب، وانطلقت السيارة.
انفجرت روح في البكاء، فرفع بهاء وجهها بلطف، وكفكف دموعها، ثم ضمّها إلى صدره وهمس:
ادعيلها ربنا يشفيها وترجع بالسلامة. يلا بقى… زي الشاطرة، غيري فستانك، وتعالي نصلي ركعتين لله.
رفعت عينيها إليه، الحيرة تملأ نظراتها، وسألته بريبة:
بهاء… إنت هتفضل تعاملني كده كويس؟
ولا لحد ما ماما ترجع بالسلامة علشان خايف عليها تزعل منك قبل العملية؟
ابتسم بحنان غريب عليها، وقال:
لو سمعتي الكلام، وبطلتي تضايقيني، أوعدك…
هفضل كده على طول… حتى بعد ما ماما ترجع.
ممكن تسمعي الكلام بقى وتيجي نصلي؟.
لبّت طلبه على الفور، بدّلت فستانها، ارتدت إسدالها، توضّأت، ثم وقفت خلفه تؤدي صلاتها.
وبعدما أنهى صلاته، وضع يده على رأسها ودعا دعاء الزوجين، ثم حملها بخفة إلى الفراش، وقال برقة:
يلا نامي… أكيد اليوم كان مرهق عليكِ.
وحين همّ بالنهوض، أمسكت روح بذراعه بتردد وقالت:
وغلاوة ماما… ما تسبنيش، أنا خايفة أوي.
ابتسم برفق، ربّت على شعرها، وتمدد بجوارها وهو جالس،
أسند رأسها إلى الوسادة، وظلّ يملس على شعرها بحنان، وقال:
أنا هفضل جنبك لحد ما تنامي… يلا، غمضي عينيكي. انا جمبك اهوه مش هسيبك ...
أغمضت عينيها، والفرحة تعتصر قلبها…لا تصدّق أن من كان يهينها ويسخر منها، هو نفسه من يسهر الآن على راحتها.
ظلّت طويلًا تقاوم النوم، فقط كي لا تفقد لحظة من قربه… حتى غلبها النعاس.
لكنها أفزعت حين شعرت به ينهض من جوارها، فتحت عينيها فجأة، وقالت برجاء خافت:
بهاء، متسبنيش… ورحمة بابا خطاب، متسبنيش.
عاد إليها، وهذه المرّة تمدد بجانبها، ضمّها إلى صدره بقوة، وهمس في أذنها:
حاضر يا روح… مش هسيبك. وهقضي ليلتي جمبك بس وانت في حضني…
كأنه كان ينتظر منها هذا الرجاء… ليفتح قلبه لها، ويضمّ خوفها بين ذراعيه… لتبدأ ليلتهما........