رواية ابتليت بها الفصل السابع 7 بقلم قطر الندي

 

رواية ابتليت بها الفصل السابع بقلم قطر الندي



وقفت حنين أمام مرآتها الطويلة في الغرفة التي خصصت لها في القصر، تتفقد مظهرها بدقة لم تعهدها من قبل. 
اختارت بذلة رسمية بلون كحلي هادئ، تعكس جديتها دون أن تجرّدها من أنوثتها. 
رفعت شعرها على عجل في تسريحة بسيطة، ووضعت لمسات خفيفة من المكياج، لكنها لم
 تستطع إخفاء توترها.

لم يكن مجرد اجتماع عمل. 

كان أول خروج رسمي لها برفقة "فؤاد"، رجل يحمل في حضوره 
ما يكفي لإرباك من هم أكثر خبرة منها.
 تفكر في المهمة التي أوكلها إليها: مرافقته لمتابعة عرض مشروع تطوعي بالتعاون مع مؤسسة ترعاها شركته، وقد أبدت فيه رأيًا نال إعجابه.

تناهى إلى مسامعها صوت خطوات خفيفة في الرواق، فالتقطت حقيبتها، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم خرجت.

 في بهو القصر، كان فؤاد واقفًا بكامل أناقته المعتادة، يقلب بين يديه أوراق ملف جلدي، ملامحه جامدة كالصخر. 

وحين لمحها قادمة، رفع عينيه ببطء، وتأملها دون أن يقول شيئًا.

"صباح الخير، سيد فؤاد"، قالتها بنبرة مهذبة تخفي خفقان قلبها.

"جاهزة؟" سألها باقتضاب، لكنه لم يُخفِ نظرة خاطفة سريعة مرّت على مظهرها.

أومأت برأسها، فسار أمامها بخطوات واثقة نحو الباب.
 وبينما لحقت به، شعرت أن شيئًا ما يتغيّر، وكأنها تودّع النسخة الخجولة منها، وتخطو بثقة نحو عالم جديد... 
عالم محفوف بالرهبة، لكنه لا يخلو من الحلم.

ترجّلت من السيارة الفاخرة أمام الواجهة الزجاجية اللامعة للشركة الأم، فرفعت بصرها بدهشة، تتأمل المبنى الشاهق الذي يعكس ضوء الشمس كمرآة عملاقة.

 كان كل شيء أمامها يعكس الفخامة والحداثة: الأبواب الدوّارة، الردهة الواسعة ذات الأرضية الرخامية اللامعة، الموظفون بأزيائهم الرسمية يتحركون كأنهم تروس دقيقة في آلة متقنة.

سارت خلف صاحب المكان الذي كان يتقدّمها بخطى واثقة وسرعة منضبطة، بينما قلبها يخفق برهبة هذا العالم الجديد. 

المصاعد الزجاجية تصعد وتنزل في صمت، شاشات إلكترونية تبث أخبار السوق وأسعار الأسهم.

 رائحة العطر الرجولي الخفيف الذي يستعمله رب عملها كانت دليلها في تتبّعه، تشعر بالأمان والارتباك في آن واحد.

توقف فؤاد أمام باب خشبي كبير، فتحه دون تردد، ودخل.

 لحقت به فورًا إلى غرفة الاجتماعات الرئيسية، لتجد نفسها في قلب فضاء أنيق، تحيط به نوافذ عريضة تطل على المدينة.

 طاولة مستطيلة ضخمة تتوسّط المكان، وعلى جانبيها مقاعد جلدية فاخرة، بينما على الجدران شاشات تعرض شعارات الشركات التابعة.

كان هناك عدة أشخاص ينتظرون، وما إن دخل فؤاد حتى وقفوا احتراما له، فتبادل معهم التحيات الرسمية بصوته الهادئ الصارم، ثم أشار بيده نحو المقعد المجاور له، فنظرت حنين إليه بارتباك، ثم جلست بصمت وهي تُخفي توترها بابتسامة باهتة.

 تدرك الآن أن هذه اللحظة تمثل بداية جديدة، وأن وجودها هنا لم يعُد مجرد صدفة…

 بل مسؤولية، وربما أكثر.
انتهى العرض التقديمي بانسيابية لافتة، وخيّم الصمت لوهلة في قاعة الاجتماعات الواسعة، قبل أن يقطعه تأييدٌ جماعي من الحاضرين. 

تبادل أعضاء مجلس الإدارة النظرات فيما بينهم، وقد بدا على وجوههم أثر الانبهار.

همهم أحدهم قائلاً: "يبدو أن
 السيد فؤاد... 

قد ورث الحنكة ذاتها التي اشتهر بها شقيقه، بل وربما شيئًا أكثر حدة وثقة."

أومأ آخر من زاوية القاعة و غير بعيد عنه:

"قيادة رزينة، حديث مباشر، واستراتيجية مدروسة... 
لم نكن نتوقع أن يكون بهذا الوضوح والحسم."

كان فؤاد يحتل مكانه برباطة جأش يحسد عليها، عيناه هادئتان لكن فيهما بريق لا يغيب عن عيون من يعرفون دهاء رجال الأعمال. 

لم يعلّق على المديح، بل اكتفى بإيماءة صغيرة تُفهم على أنها شكر رصين.

أما حنين، الجالسة بصمت قربه، فقد لمحت للمرة الأولى جانبًا جديدًا في هذا الرجل... 
لا هو ذاك المتألم على شقيقه، ولا ذاك الأب الرقيق لطفلة، بل قائد شرس يعرف كيف يستحوذ على الأنظار، وكيف يفرض احترامه.

 شعرت بنبض غريب في صدرها، وشيء من الفخر، كأن وجودها في هذه اللحظة يشهد على تحوّل لا يُستهان به.

أما ديلارا، فجلست في الظل، تتابع المشهد وهي تتساءل: من هذا الرجل الجالس أمامهم؟ وهل حقًا بقي من فؤاد الهادئ شيء... أم أن شبحًا آخر يتلبّسه؟
✨✨✨

في الردهة الواسعة المؤدية إلى مكتب فؤاد، كانت خطوات حنين مترددة بعض الشيء. 
رغم محاولتها ضبط نفسها، لم تستطع أن تُنكر ارتباكها بسبب الخطأ الذي وقعت فيه أثناء الاجتماع، حين قلبت عن غير قصد وثيقة مهمة على الطاولة، مما أحدث فوضى طفيفة بين الأوراق والعروض التقديمية. كانت نظرات البعض كافية لتشعرها بالخجل، أما ديلارا، فقد اكتفت بابتسامة جانبية، مائلة، لا تحمل سوى الشماتة. لكن فؤاد، بتماسكه المعتاد، أدار الموقف برشاقة مدهشة. التقط الأوراق، رتّبها بسرعة، وأكمل عرضه دون حتى أن ينظر نحوها نظرة عتاب. كانت تلك اللحظة كفيلة بجعلها تزداد إعجابًا به... وامتنانًا.
طرقت باب مكتبه بخفة قبل أن تدخل، تحمل في ملامحها مزيجًا من الندم والتوتر.
قالت بصوت خافت:
"أعتذر منك... لم أقصد أن أُربك العرض، لقد كنت مشتتة قليلاً، وكان يجب أن أكون أكثر حذرًا."
رفع رأسه من خلف المكتب، عيناه تنظران إليها بهدوء عميق."لا تقلقي،" قال بنبرة دافئة، "الخطأ وارد، وقد عالجناه في لحظته. ما يهم الآن هو أن تتعلمي، لا أن تنهاري."
أومأت برأسها، وفي قلبها امتزجت الراحة بالإعجاب. لكن اللحظة المميزة لم تكتمل. 
فُتح الباب فجأة دون استئذان، وظهرت ديلارا بكامل أناقتها ووقفتها الواثقة، ابتسمت وهي تدخل، وكأنها لم تقاطع شيئًا.
"عذرًا على المقاطعة، ظننت أنك وحدك، فؤاد."
ثم نظرت إلى حنين، نظرة عابرة لا تخلو من التفوق المتعمد.
"كنت أرغب في مناقشة بعض النقاط التي أثارها الاجتماع، وأعتقد أنه من الأفضل ألا نؤجلها."
فأشار فؤاد بيده نحو المقعد دون أن يظهر انزعاجه، لكن عينيه لامستا حنين بهدوء، كأنما يطلب منها ألا تهتز.

بعد دقائق من بدأ النقاش، تصاعد رنين هاتفه فخرج إلى الشرفة المتصلة بمكتبه، وقد بدت على وجهه علامات الجدية والتوتر. أمسك بهاتفه المحمول وضغط على زر الإجابة بسرعة، أدار ظهره للداخل، متعمّدًا الابتعاد عن أي أذن تسمع، حتى عن ديلارا. كانت كلماته مقتضبة، متوترة، فيما نظراته انشدّت إلى الأفق البعيد وكأن في صدره ما يعجز عن احتوائه بين الجدران.

داخل المكتب، ساد صمت خفيف بين ديلارا وحنين، لم يدم طويلاً. تقدّمت ديلارا بخطى واثقة وجلست على طرف الطاولة، تتفحص حنين بنظرة فاحصة لا تخلو من تصنع الود.
قالت بصوت خفيض، ناعم في نبرته، لكن فيه حدّة مغلّفة:"أتعلمين، لقد كنتُ أعمل مع مراد لسنوات... كان دقيقًا للغاية، لا يمرر أي خطأ مهما كان بسيطًا. لو كنتِ ارتكبتِ ما ارتكبتِه اليوم في أيامه، لما وُجد لكِ مكان هنا في الغد."
رفعت حاجبًا وهي تتابع بنبرة أعنف:
"مراد لم يكن يهوى الارتباك أو الأعذار. كنا نعمل تحت ضغط، نعم، لكننا كنا ننجح دائماً. ربما لهذا كنتُ أكثر من مجرد مساعدة في نظره، كنت قريبة جدا منه لهذا أثر بي كثيرا غيابه."
أطرقت حنين للحظات، قلبها ينقبض، لكنها تماسكت. لم ترد أن تمنح ديلارا متعة رؤيتها ضعيفة أو مهزوزة، رغم أن كلماتها كانت كالسكاكين تغرز في ثقتها التي بالكاد بدأت تتشكل.لكن ما لا تدركه تلك المتعالية... أن هذه الفتاة التي تقف أمامها، قد ذاقت مرارة في حياتها أكبر من أن تكسرها جملة مغلفة بالسم.
ابتسمت حنين ابتسامة صغيرة ومتوترة، ثم انسحبت بلطف وهي تشعر أن ساحة الحرب لم تعد في قاعة الاجتماعات... بل صارت هنا، خلف الأبواب المغلقة.

عاد فؤاد إلى الداخل بعد المكالمة، ملامحه ما زالت مشدودة، لكن صوته استعاد هدوءه المعتاد. ألقى نظرة سريعة على ديلارا، ثم توجه مباشرة نحو حنين:
"هيا، لدينا موعد آخر، لا وقت لنضيّعه."
أومأت حنين سريعًا ونهضت، محاولة إخفاء ارتباكها من توتر الأجواء التي تركتها خلفها. سار إلى جانبها نحو الباب دون أن يمنح ديلارا نظرة بسيطة. أما تلك، فبقيت في مكانها، يداها معقودتان، وابتسامة باهتة تسللت إلى شفتيها، لكن عينيها اشتعلتا بنار دفينة. راقبت خروجهما معًا، خطوة بخطوة، كتفًا بكتف، والاحتراق في صدرها يشتد. لم تكن تغار فقط من حنين، بل من ذلك التحول الواضح في فؤاد، من نظرته، من اهتمامه، من المساحة التي بدأت تلك الفتاة البسيطة تحتلها في عالمه المغلق... عالم لم تجد فيه هي موطئ قدم ذات يوم مع رجل لا يحترم العواطف.
✨✨✨

بينما كانت السيارة تنقل فؤاد وحنين في طريق العودة، كان الصمت سيد الموقف، لكن وجه فؤاد لم يكن كعادته، وقد انسحب منه كل أثر للصرامة أو التركيز... بدا شاردًا، مثقلًا بما لا يُقال.
فجأة، التفت إلى السائق بصوت خافت لكنه حاسم:
"غيّر الطريق... خذنا إلى المقبرة."
رفعت حنين نظرها نحوه بدهشة، لم تتوقع طلبًا كهذا في منتصف يوم عمل، لكنها لم تنطق بشيء. فقط راقبته بصمت، تلمح في ملامحه شيئًا لم تعرف له اسمًا... حنين أم ندم أم فجيعة لا تزال تنزف في الخفاء؟

وصلت السيارة إلى المقبرة، نزل فؤاد بخطى بطيئة لكن ثابتة، وكانت حنين تتبعه من بعيد باحترام، تبقي المسافة التي تليق بألم لا تجرؤ على الاقتراب منه.
وقف أمام القبر، جاثيًا على ركبتيه، ومد يده ليمسح الغبار عن الاسم المحفور على الرخام. ساد الصمت طويلًا، لا يُسمع فيه سوى تنفّسه المتقطع. تمتم بكلمات لم تصل إلى أذنيها، ثم أغضى عينيه بقوة كمن يمنع دمعًا عزيزًا من السقوط.
حين عاد إلى السيارة، لم يلتفت إليها، فقط قال بنبرة واهنة:"أحيانًا لا يكفي كل ما تفعله... لا يكفي أن تعيش لتكفّر عن موتٍ لم يكن من المفترض أن يحدث."
واستسلم للصمت مجددًا.

بينما كان يهمّ بالصعود إلى السيارة بعد زيارته قبر شقيقه، وقد اكتسى وجهه بتلك الكآبة الصامتة التي لا تخطئها عين، باغتتهم حركة مفاجئة. من بين الأشجار المتناثرة حول المقبرة، انبثق رجال ملثمون بلباس أسود، خمسة على الأقل، تحركوا كظلٍ واحدٍ وأحاطوا بالسيارة في لمح البصر. أنفاس الهواء تجمدت، وثقل غامض خيّم على المكان.
تقدم أحدهم بخطى ثابتة، صوته حاد بلهجة أجنبية صارمة:"نعتذر على هذا الأسلوب، سيد طوروس... لكننا نحتاج إلى ضمانة. الفتاة ستأتي معنا حتى نحصل على الملف."
توتر فؤاد بشدة. انعقدت قسمات وجهه، كأن صاعقة اجتاحت كيانه. نظر إلى حنين التي التصقت به بذهول وذعر، وعيناه تصرخان رفضًا، لكن رأسه يسبح في دوامة. لم يجب فورًا، ظل واقفًا في مكانه متجمّدًا، أنفاسه مضطربة، كفيه ترتجفان قليلاً وإن حاول إخفاء الأمر.
"الفتاة لا ذنب لها." قال بصوت خافت لكنه مشحون.
ردّ الرجل: "أنت تعرف أننا لا نفاوض... إما هي، أو ينفجر كل شيء."
صمت ثقيل تخلله صوت الريح وهي تهمس فوق القبور. ثم، ببطء، أطرق فؤاد رأسه كمن هُزم أمام نفسه، ثم رفع عينيه نحو حنين.
"أعذريني..." همس كأن صوته خُنق بين شفتيه. "سأعيدك... أعدك. سأفعل أي شيء من أجل سلامتك."
حدّقت فيه بدهشة وانكسار. خذلان، قلق، وخوف تجمّع في عينيها. لم تتكلم، لم تصرخ، فقط وقفت عاجزة، قلبها يتهاوى وهو يدفعها بعيدًا عنه إلى مصير مجهول.
أمسكها أحد الرجال بلطف ظاهري لكنه حازم، وقادها نحو سيارة سوداء كانت تنتظر على بُعد. لم تقاوم، استسلمت لصدمتها، تسير وكأنها خارج جسدها، أما فؤاد فظل واقفًا مكانه، يتابعهم بعينين يغلي فيهما الغضب والحسرة.

في غرفة مظلمة مليئة بأجهزة المراقبة، كان بهزات يراقب المشهد عبر شاشة كبيرة، يبتسم بسخرية باردة بينما سوزي تجلس إلى جانبه، عينيها تلمعان بازدراء.
قالت بتهكم: «فؤاد ضعيف الشخصية حقًا... جبان لا يضاهي شقيقه بأي حال، لم يحرك أصبعا واحدا لأجل تلك المسكينة.»
التفت بهزات إليها، صوته حاد: «هل تعتقدين أنه سيضحي بالفتاة أم سيحضر لهم ما طلبوه؟»
ابتسمت سوزي بابتسامة غامضة: «الوقت فقط كفيل بكشف ذلك.»
✨✨✨

تم اقتياد حنين بقوة إلى مكان معتم، بعيد عن أنظار العالم، حيث الجدران الباردة تحيط بها من كل جانب. قُيدت وثاقها بإحكام، تشعر بثقل الحديد يضغط على معصميها، بينما الحراسة لا تبرح مكانها، عيونهم حادة تراقب كل حركة.
جلست وحيدة في الغرفة المعتمة، أصفاد اليدين تغلّف معصميها، وأصوات الحراس الخافتة تملأ المكان بصدى قاتم. الأجواء خانقة، صمتها ثقيل كجدران هذا المكان المجهول الذي حوصرته فيه بلا مهرب. نظراتها تتجول في الظلام بحثًا عن بصيص أمل، لكن كل ما يحيط بها هو الوحدة والانتظار الثقيل. تحاصرها أفكار متضاربة، تشعر بثقل القيد لا على معصميها فقط، بل على قلبها أيضاً. بدأت تدرك أنها ربما قد تسرعت في مشاعرها تجاه رب عملها؛ لم يعد أمامها أي وهم عن رجل شهم يضحّي بفتاة دون أدنى مقاومة أو حساب للمخاطر. تثقل على صدرها نوبات من الأسى والحيرة، تتصارع فيها مشاعرها تجاه الرجل الذي وثقت به، الذي اعتقدت فيه بذرة شجاعة ونبل الفرسان. تصورت في لحظات ضعفها أنه الرجل الذي قد يضحي من أجلها، ذلك الرجل الشهم الذي يحمينا من عوالم القسوة.
تملّكها شعور بالخذلان، وشعرت بأن الحقيقة أكثر قسوة مما تخيلت، وأن عليها أن تستجمع قواها وتواجه ما ينتظرها بعقلٍ أكثر حذرًا وقوة.
لكن الآن، وسط هذا السجن الصغير، تزداد شكوكها يوماً بعد يوم، وتنتفخ في داخلها فكرة مُرة: ربما كانت قد تسرعت في تقديرها له. هل هو حقًا ذاك الرجل الذي يهب حياته من أجل امرأة ضعيفة؟ أم أنه مجرد رجل عادي، يحمل في داخله الخوف والضعف، ربما لا يملك الشجاعة ليقاوم مصيره ولا مصيرها؟
تسمع أنفاسها تتقطع، ودموعها تختلط بخيبة الأمل، تشعر بخدر ينتشر في كل جسدها، بينما عقلها يلتقط صوراً لخيالات مختلفة، ربما حياة كانت يمكن أن تعيشها، ربما فرصة ضاعت بسبب قناع الثقة. تمد يدها المرتجفة إلى نافذة صغيرة مغطاة بشبك حديدي، تحاول أن تستجمع قوة تكفيها لتقاوم، لكنها تعرف أن طريق النجاة لن يكون سهلاً، وأنها أمام اختبار قاسٍ للصبر والصلابة. تتنهد، تحاول أن تثبت لنفسها أن العزيمة لم تموت، وأنها لن تسمح لليأس أن يسرق منها آخر شبر من أمل.

عاد فؤاد إلى القصر مُثقلاً بالقلق، خطواته الثقيلة تخطو بسرعة نحو غرفة الاجتماعات حيث ينتظره كامل وآدم. وجهه كان شاحبًا، وعيناه تخفيان صراعًا داخليًا عميقًا.
أخبر كامل بنبرة متوترة عن اختطاف حنين، فانتفض آدم بغضب لا يُخفيه، وصرخ قائلاً: «لن نسمح لهم بأذيتها، سأجمع الرجال الآن ونخرج لإنقاذها!»
لكن فؤاد رفع يده مقاطعًا إياه بصوت بارد: «كفى، عليك أن تتريث. الأمر ليس بهذه البساطة، المقابل الذي طلبوه ملف مهم لا يمكنني التفريط به الآن. حياتها ثمينة، نعم، لكن هذا العمل أكبر من أي شخص.»
كان واضحًا في نبرة صوته أنه يضع مصلحة العمل فوق كل اعتبار، وكأن قلبه قد تجمد أمام تلك الموازنة القاسية بين الخسارة الشخصية والنجاح المهني. نظر إلى آدم وكامل بنظرة حازمة تحمل وعيدًا ضمنيًا، لكنه لم يختر أن يضع حياة حنين فوق هدفه الأكبر.
الجو في الغرفة مشحون بالصمت، أدرك الجميع أن فؤاد لن يقبل التراجع، حتى وإن كان الثمن غاليًا.
✨✨✨

حلّ المساء وسكنت أرجاء القصر رهبة خفية، كأن الظلال تُنذر بأن ما خُفي أعظم. في جناح مخصص بعيد عن أعين الخدم، جلس فؤاد في مكتب خشبي عتيق، يُنير سطحه مصباح واحد تنعكس أنواره على وجهه المتعب، دخل عليه كامل حاملًا ملفات أمنية دقيقة.
أغلق فؤاد الباب بنفسه، ثم أشار لصديقه أن يجلس، وبدأ الحديث بنبرة منخفضة:
«تأكدتُ اليوم مما كنت أشك فيه… السيارة التي لاحقتنا في الطريق لم تكن عابرة.»
رفع كامل حاجبيه بتوجس: «هل تمكنت من رؤيتهم؟»
أجابه فؤاد وهو يسحب صورة مطبوعة بالأبيض والأسود: «لم أتمكن من رؤية الوجوه، لكن السيارة ظهرت في طريقي أكثر من مرة. عند التقاء الطريق المؤدي إلى المقبرة انحرفت فجأة، كأن من فيها أدرك أنه وقع في الفخ.»
صمت قليلًا، ثم أضاف: «كنت أريد اختبارهم و المقبرة كانت نقطة مقصودة. توقعت أن وجودي في ذلك المكان سيثيرهم، والنتيجة أكدت أنني تحت المراقبة.»
هزّ كامل رأسه وقال: «أنت تخاطر كثيرًا، فؤاد. لو لم تنسحب تلك السيارة، لحدث ما لا يُحمد عقباه. ألا يكفي ما حدث لحنين؟»
ارتكز فؤاد بمرفقيه على المكتب، وانحنت كتفاه تحت وطأة التفكير: «حنين…». ثم زمّ شفتيه بعزم، وأضاف: «لهذا علي أن أسبقهم بخطوة. كل ما يفعلونه الآن هو ردة فعل على خطواتي… سأجعلهم يظنون أنهم يتحكمون بي بينما أنا من يرسم خط النهاية.»
كان صوت الساعة الجدارية يخترق الصمت بين الحين والآخر، بينما يسود بين الرجلين شعور خفي بأن ما ينتظرهم لن يكون إلا أشد تعقيدًا.
رفع فؤاد نظره إلى كامل، وفي عينيه لمعة تصميم قاطع، نبرة صوته هذه المرة حملت شيئًا من الحزم لا يعلوه رجاء:
«كامل، أحتاج إلى فريق… لا مجرد رجال أمن. أريد أشخاصًا تثق بهم، متمرسين، عقولهم حادة، وولاؤهم لا يُشترى.»
حدّق فيه كامل للحظات، ثم أجاب بهدوء مدروس: «تخطط لعملية استرجاع؟»
أومأ فؤاد بإيجاز: «ليس فقط استرجاع. أريد أن أضع حدًا لهذا العبث. لن أسمح لهم أن يستخدموا فتاة بريئة كوسيلة ضغط. لكن في الوقت نفسه، الملف الذي يطلبونه أثمن مما يظنون… إنه قلب اللعبة، ولن أقدمه لهم حتى لو تطلب الأمر أن أواجههم وجهاً لوجه.»
تنهد كامل، وفرك ذقنه بتفكير: «سأبدأ التحرك الليلة. لديّ فريق صغير من الرجال الذين تعاملت معهم سابقًا، يعرفون كيف يعملون بصمت، دون ترك أثر. سنضع خطة على مرحلتين: مراقبة، ثم تدخل إن لزم الأمر.»
اقترب فؤاد قليلًا، وكأن كلماته الأخيرة تحتاج أن تُقال عن قرب: «لا أريد صدامًا مفتوحًا. أريد ضربة ذكية… واحدة تُعيد حنين وتكسر شوكتهم في آن واحد.»
أومأ كامل موافقًا، ثم وقف ببطء: «ستحصل على فريقك، فؤاد. لكن تذكّر… الخطر يقترب، والوقت ليس في صالحنا.»
غادر الغرفة بخطى ثابتة، تاركًا فؤاد وحيدًا مع أفكاره، عازمًا على أن لا يترك هذه المرة أي شخص يدفع ثمن صمته.
✨✨✨

كان الليل قد بلغ أشد ظلمته، لا صوت يعلو فوق همسات الرياح التي كانت تداعب جدران المبنى المهجور في أطراف المدينة. داخل إحدى الغرف، جلست حنين على الأرض، معصوبة اليدين، ترتجف بصمت. كل شيء فيها كان ساكنًا، عدا عينيها اللتين كانتا تتنقلان بخوف بين الظلال، وقلبها الذي يخفق في صدرها كطبل حرب.
وفجأة، دوى صوت مكتوم لارتطام عنيف عند الباب الخارجي. أعقبه صدى خطوات راكضة وصرخة حارس فاجأه العتم. لم تكد تلتقط أنفاسها حتى بدأت فوضى الأصوات: همسات عسكرية، حركات دقيقة، صفير جهاز لاسلكي… ثم طرقات سريعة على الأرض، كأنّ ظلًّا قد انسلّ من الجدران.
اقتحم المكان أربعة رجال، يتحركون بخفة القطط، وجوههم مغطاة، عيونهم لامعة خلف نظارات ليلية، ملابسهم سوداء بالكامل، وذراع كل واحد منهم مزوّدة بأجهزة تكتيكية متقدمة. لم يطلقوا رصاصة واحدة، بل تقدّموا بهدوء قاتل، كل خطوة محسوبة، كل إيماءة تحمل خطة.
الملثم الخامس كان مختلفًا. جسد رياضي، وقامة منتصبة، نظراته الحادة التي لم يبددها القناع، كلها أوحت بأنه ليس رجلاً عاديًا. في ثوانٍ، أسقط أحد الحراس أرضًا بركلة خاطفة، وأدار جسده ليتلقى الرصاص على درعه الخفيف ثم تحرك كالإعصار. خيم الذعر على من تبقى من الخاطفين، حاول أحدهم الفرار من الباب الخلفي لكنه وُجد مُلقى على الأرض بعد ثانية، محاط بذراعي المنقضّ الملثم.
في الداخل، ارتفعت شهقة حنين حين فُتح باب الغرفة بعنف، واندفعت أنوار المصابيح نحوها. ارتجفت، ظنتها النهاية، وقلبها يصرخ من شدة الرعب.
«لا تخافي.»
كان الصوت عميقًا، حازمًا، صادقًا رغم قسوته. اقترب منها الملثم، انخفض أمامها، سحب سكينًا صغيرة، وقطع الحبال التي قيدت يديها. التقت عيناه بعينيها للحظة، وبدت فيهما عاطفة لا يُخطئها قلب أنثى... لكنها لم تملك القدرة على تحليلها. كانت بين شهيق مرتعد ودموع تتدحرج من دون إذن....رفعها عن الأرض، وأسندها برفق كما لو أنها كنز هشّ، ثم قال بصوت خفيض: «أنتِ بأمان الآن…»
لكنها لم تجبه، كانت تنظر إليه، وجسدها ينهار ببطء في حضنه، كأن الخوف كله لم يجد ملجأً سوى صدره ليذوب فيه.
أحاط ذراعيه حولها بحزم، ورفعها عن الأرض بخفة لا تتناسب مع توتر اللحظة. شهقت حنين وحاولت أن تتملص، يديها المرتجفتان تدفعانه دون جدوى، وصوتها المتقطع يهمس:
«دعني… أستطيع المشي وحدي…»
لكنها لم تكن تقوى على الوقوف، جسدها خانها، والخوف شلّ عضلاتها. تجاهل مقاومتها، وصوته الجاف يخترق ضجيج أنفاسها:«توقفي عن العبث، نحن في خطر.»
تحرك بخطوات واسعة بين الحطام، يتخطى الأبواب المحطمة ويهبط درجات السلم بسرعة مذهلة. أما هي، فكانت تتشبث بكتفه دون وعي، عيناها تغرورقان، وصدرها يعلو ويهبط من اختلاط المشاعر بين الذعر والخجل والارتباك. 
حين بلغا الخارج، استقبلتهما أنوار سيارة رباعية الدفع تنتظر على بعد أمتار قليلة. انفتح الباب الخلفي تلقائيًا، وصوت عبر جهاز لاسلكي ينادي:
«المحيط آمن. انتظرنا في النقطة المحددة.»
رغم ضعف جسدها المُنهك ووهنها الواضح، انتفضت حنين بكل ما بقي فيها من قوة، كأنما أيقظها رعب الاختطاف، وحرّض فيها شعور غريزي بالدفاع عن ذاتها. كانت بين ذراعيه حين بدأت تقاومه بشراسة، تضربه على كتفه وصدره بقبضتين صغيرتين مرتجفتين، ترفس ساقه وهي تلهث بأنفاس متقطعة:
«اتركني! من أنت؟ أين تأخذني؟! دعني الآن!»
صدرها كان يعلو ويهبط بجنون، وعيناها تتسعان برعب وهي تحاول أن تتشبث بأي شيء حولها، أصابعها تقبض على حافة الحائط، على الباب المعدني، على الهواء نفسه... لكنها لم تكن نداً له. أدرك أنها لن تهدأ، وأن صراخها قد يفضح أمرهم في أية لحظة. عيناها كانتا تلمعان بخوف وهجوم في آن، تضربه بكلماتها أكثر مما تؤذيه بحركاتها المرتبكة.
توقف لثانية، ثم همس بصوت منخفض وجاد قرب أذنها:
«سامحيني.»
وفي لحظة محسوبة، حرّك يده بثبات نحو مؤخرة عنقها، وضغط بإصبعيه على نقطة محددة خلف الأذن مباشرة. كانت حركة دقيقة، يتقنها من خاض تدريبات دقيقة في شلّ الخصم دون أذى دائم. شهقت حنين فجأة، جسدها ارتجف بين ذراعيه للحظة قصيرة... ثم ترنّحت رأسها إلى الأمام واستسلمت له بصمت. توقف صراخها، انطفأت نظرتها، وسكن جسدها تمامًا.
ضمّها إليه بحذر، كما لو كانت شيء هشّ، ثم أسرع الخطى مجددًا نحو السيارة بوجه جامد، لكن قلبه لم يكن كذلك. حملها وكأن بها كل العالم، وفتح له رفيقه الباب الخلفي بهدوء.
الليل ساكنًا، والصمت ثقيلًا... لكن عاصفة كانت تُعدّ للانفجار.

✨✨✨

استفاقت حنين على نور الشمس المتسلل برقة من نافذة الغرفة، دفء خفيف يلامس وجنتيها، ونسمات عليلة تعبث بخصلات شعرها، كأنّ الصباح قرر أن يكون لطيفًا لأجلها وحدها. فتحت عينيها ببطء، تاهت نظرتها في سقف الغرفة المزخرف قبل أن تستوعب أنها في فراشها... فراشها في القصر.
أغمضت عينيها للحظة، ثم فتحتهما من جديد، كأنها تتأكد من أنها ليست في حلم. لا أثر لتلك الجدران المعتمة، ولا لأصوات الأبواب الحديدية أو نظرات الحراس القاسية. فقط سلام... غير متوقع، لكنه مريح.
تحركت ببطء، شعرت بأطرافها، واختبرت أنفاسها بعمق، ثم نهضت وجلست على حافة السرير. في صدرها شيء غريب، خفيف لكنه عميق، كأنها عبرت الموت وعادت منه بجزء جديد من ذاتها.
همست لنفسها: «لقد نجوت...»
ثم مر طيفه في ذهنها، ذاك الملثم، الجسد الرياضي، الحركة الحاسمة، الذراع التي احتضنتها رغم صراخها، والهمسة التي ترددت في أذنها قبل أن يغمرها الظلام.
من هو؟ ولماذا أحست للحظة، وهي بين يديه، أنها بأمان؟
سكنت نظرتها ناحية النافذة، تطل على الحديقة التي تكسوها خيوط الشمس. شعرت بشيء لم تختبره من قبل: امتنان. امتنان لشخص لم ترَ ملامحه، لكنها استشعرت قلبه... قلب الملاك الحارس. رفعت يدها إلى رقبتها، حيث كانت لمسته الأخيرة، وكأنها لا تزال تحمل حرارة أنامله. لم تكن تعرف ما ينتظرها، لكنها تيقنت أن حياتها لن تعود كما كانت قبل تلك الليلة.
ارتدت ثوبًا بسيطًا بألوان هادئة، سَرَّحت شعرها بعناية رغم آثار التعب التي لم تبرح عينيها، ثم وقفت أمام المرآة تتأمل ملامحها التي بدت أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا. تنفست بعمق، كما لو أنها تستعد لمواجهة واقع لا مفر منه، ثم غادرت غرفتها متجهة إلى الطابق السفلي.

في بهو القصر، كان كل شيء ساكنًا، لكن ساكنًا بطابع مهيب. أقدامها لم تحدث ضجيجًا على السجاد الفاخر، حتى وصلت إلى غرفة الطعام حيث كان فؤاد جالسًا إلى المائدة، والطفلة الصغيرة على كرسيها العالي بجانبه.
رفع رأسه لرؤيتها، وبدت عليه الراحة فور ظهورها، ثم وقف على الفور وقال بنبرة دافئة:
"أنتِ بخير... حمدًا لله."
ثم أردف وهو يشير إلى أحد المقاعد:
"تفضّلي، أرجوكِ... واسمحي لي، مرة أخرى، أن أعتذر عمّا حدث. لم يكن في الحسبان، و... أشعر بتقصير كبير تجاهك."
نظرت إليه بعينين صامتتين، فيهما حزنٌ قديم وجديد، ثم جلست بهدوء وقالت بنبرة حاولت أن تجعلها ثابتة:
"أنا بخير... وهذا هو الأهم."
أرادت أن تسأله عن تفاصيل ما حدث، عن كيف أُنقِذت، عن من كان ذلك الرجل المقنّع، لكنها قررت كتمان كل تلك التساؤلات. نظرت إليه، إلى عينيه اللتين بدا فيهما تأثر واضح، كأن الندم يسكنهما منذ أيام. ثم مالت نحو الطفلة، رفعتها بين ذراعيها، فابتسمت الصغيرة وراحت تضحك بسعادة. ضمّتها حنين بحنان غريزي، كأنها تستمد منها بعض الطمأنينة التي ما زالت تفتقدها في قلبها.

جلست على مائدة الفطور، الطفلة بين ذراعيها تلهو بشيء ما في ثوبها، بينما "فؤاد" جلس مقابلاً لها وقد بدا أكثر هدوءًا من أي وقت مضى. في هذا الصباح، كانت الأجواء مشبعة بشيء يشبه الحميمية العائلية، شيء خفي لكنه واضح في نظرات الخدم التي كانت تختلس النظر إليهما، في صمت المربية الجديدة التي توقفت عند الباب، وفي نظرات الطفلة التي استقرت أخيرًا على وجه الرجل الذي صار يجالسها كل يوم.
نهض بنفسه، بغير استدعاء للخدم، واتجه نحو الأطباق ليضعها أمامها. كانت حركته سلسة، شبه آلية، كأنه اعتاد هذا الفعل مؤخرًا، أو كأنه وجد فيه طمأنينة يفتقدها في بقية أركان حياته.
لكن يده اليمنى، التي مدت الطبق الثاني نحوها، كانت تقول شيئًا آخر.كان على ظاهرها خدشٌ رفيع، يمتد من قاعدة الإبهام حتى منتصف الساعد. لم يكن جرحًا خطيرًا، بل أثرًا دقيقًا، لكنه حديث بما يكفي لأن يظل متورّد الحواف، ومرتّبًا بما يكفي لأن يدل على أنه وُضع بمهارة لا بعبث. حول الخدش آثار خد خفيف من مادة معقّمة، ومسحة ضئيلة من شاش لاصق أُزيل حديثًا. اليد نفسها، رغم أناملها المعتادة على الإمساك بالأقلام والمستندات، حملت قسوة خفيفة، كأنها اصطدمت مؤخرًا بعنف ما.
لم تلحظ حنين شيئًا، كانت منشغلة بإطعام الصغيرة قطعة فاكهة، ولم يبدُ عليه هو أي اكتراث، كأن الأمر لا يستحق الوقوف عنده.
لكن الخدش، ذلك الأثر الصامت، قال أكثر مما قالته الكلمات... ودوّى في الفراغ الفاصل بينهما كاعتراف صامت... لا يسمعه أحد.

✨✨✨

انتهت وجبة الفطور الهادئة، خرجت حنين من غرفة الطعام، حاملة الطفلة الرضيعة بين ذراعيها، تتقدم بخطوات مترددة نحو الحديقة حيث النسيم العليل يتسلل بين الأشجار. كانت الطفلة تتلوى بين ذراعيها بحنان وبراءة، تحاول حنين أن تواسيها بينما ترنو عيناها إلى السماء الصافية التي كانت تعكس صفاءًا تباين مع خفقان قلبها المضطرب.
في تلك اللحظة، ظهر آدم، رئيس الحرس، فجأة من بين الظلال، وملامحه مشحونة بقلق واضح لا يمكن إخفاؤه. اقترب منها بخطوات متسارعة، صوته حازم لكنه مخنوق بالخوف: «كيف وصلتِ إلى هنا؟ من سمح لك بالدخول؟»
نظرت إليه بتوتر واضح في عينيها، تحاول تهدئة نفسها، فأجابت بصوت هادئ لكن مرتعش: «لا أدري بالضبط... كل شيء كان غامضًا، كأنني لا أملك السيطرة على ما يحدث.»
اقترب آدم منها أكثر، عيناه تتفحصانها كما لو كان يحاول أن يقرأ ما وراء كلماتها، لكنه تراجع قليلاً، وكأنه محتار بين وظيفته الصارمة وحال الرحمة التي تراها في عينيها.

في الأثناء، وقف "فؤاد" في مكتبه المطل على الحديقة، يحدق في المشهد من بعيد. كانت يداه متشابكتين بقوة، وعيناه تلمعان ببريق لا يخفى عليهما توتر عميق. صدره كان يرتفع وينخفض بسرعة، يراقب تفاعلات آدم وحنين بحدة، يتملكه شعور متزايد بالقلق والاضطراب.

 شيء ما في عودتها المفاجئة لم يلقَ قبولاً في قلبه، وكأنها تزعزع توازنه الداخلي الذي ما زال هشًا بعد خسارته الكبيرة.

 وقف أمام النافذة، يحدق في الهدوء الذي يغلف القصر، لكنه لم يكن يرى سوى صورتها في ذهنه: حنين، تلك الروح الضعيفة التي حملها بين ذراعيه وسط برد الليل القارس، كما لو كانت زهرة هشة قابلة للذبل في أي لحظة. 

قلبه، الذي طالما كان صخراً لا ينكسر، تملكه ذلك الوجع الصامت، ذلك الحزن العميق الذي يثقل كاهله 

منذ رحيل شقيقه.

( استحضر عقله تلك اللحظات الصعبة، كانت الأجواء مظلمة وضاربة إلى السكون، بينما كان يحملها حنين بين ذراعيه بحذرٍ بالغ، كأنها قطعة زجاج هشة لا تحتمل أقل حركة خاطئة.

 كل نبضة من نبضات قلبه كانت تعكس شعورًا عميقًا بالمسؤولية، ورغبة لا توصف في حمايتها من أي أذى قد يطالها. 

رائحة أنفاسها الخفيفة تصل إلى صدره، تذكره بضعفها واحتياجها الكامل إلى الحنان والأمان......دخل إلى هنا عبر الممر السري، ذلك الممر الخفي الذي يعرفه القليلون، ضوء خافت من مصباح صغير يعانق جدرانه الحجرية الباردة، وأصوات خطواته تكاد تكون همسًا في ذلك الظلام الكثيف. 

تحرك بخفة ورشاقة، يرفع قدميه برفق كي لا تحدث أية أصوات، يلمس جدران الممر بيديه بحذرٍ، كأنه يلتقط نبض المكان، يمر عبر الممر الضيق الذي يشبه عروق القصر المخفية، كناية عن سرّية وحماية.

بدأ بالصعود إلى الدرج الحجري، كل خطوة ترتفع به أقرب إلى الضوء، إلى الحياة، إلى الأمان الذي يسعى لأن يمنحه لها.

 في كل درجة يعلوها، كان قلبه يملؤه شعور متزايد بالمسؤولية، وزادت حرارة يديه التي تحيط بها، محافظًا على دفئها كما لو كانت وحدها ما يستحق الحماية في هذا العالم.

وصل إلى الطابق الأعلى، حيث تصاعدت أنفاسه قليلاً، لكنه لم يخفف من قبضته، فلا يزال يحملها بين ذراعيه بحنانٍ شديد. فتح الباب بهدوء، دخل إلى غرفتها كأنهما يعودان من رحلة إلى عالم آخر، ليجدها آمنة أخيرًا داخل أروقة القصر، المكان الذي يجب 
أن يكون ملاذها.

وضعها برفق فوق الفراش ووقف يتأمل وجهها النائم، ذلك الهدوء الذي تحيط بها الآن، فيما قلبه ينبض بشدة، يفيض بمزيج من الحنان والخوف، عازمًا على أن لا يسمح لها بالمغادرة مجددًا إلى عالم الظلام. 

شعر بثقل المسؤولية التي غاصت فيه فجأة، وبدت له حياة لم يعرفها من قبل، حياة تحمل بين طياتها ضعفًا لا يُحتمل، لكنها في الوقت ذاته تفتح له أبواب الحنان التي لم يعرفها من قبل. 

غطّاها ببطانية دافئة، وأطراف أصابعه اهتزت وهو يلمسها بخفة، كأنه يخشى أن يوقظها، وكأنها كنز ثمين يخشى فقده في عالمٍ قاسٍ.

وقف طويلًا، يتأمل وجهها النائم الذي بدا هادئًا رغم كل ما مرّت به، وبدا وكأن نبضات قلبها الضعيف تُنعش قلبه الخاوِ من الوجع.

 كانت لحظة تماهٍ غريبة بين الألم والعطف، بين اليأس والأمل، إذ شعر لأول مرة منذ زمن بعيد، 

أنه لا يزال قادراً على الشعور، على الحنو، على الحب. 

في صمت الغرفة، حيث كان كل شيء ساكنًا إلا أنفاسها الرقيقة، تدفق في داخله دفء لم يعرفه من قبل، دفء 

يشبه الشمس التي تخترق برد الشتاء، يذيب ثلوج قلبه ويمنحه فرصة جديدة للحياة.)
استدار إلى مكتبه و انغمس في أعماله التي لا تنتهي. 
✨✨✨

بعد أن سقطت خططها في دوامة الفشل الذريع، ظهرت سوزي كعاصفة سوداء تهب في أروقة القصر. 

كانت تمشي بخطى ثابتة، عيناها تحملان لهبًا باردًا، وابتسامتها المريرة تخفي وراءها غيومًا من الغضب والحقد.

 لم تعد تلك المرأة التي كانت تتلاعب بالناس بسهولة، بل تحولت إلى مفارقة لا تعرف الرحمة، تحمل
 معها ظلال ماضيها المظلم وأحقادها المتراكمة.

كل كلمة تنطق بها تبدو كسهم مسموم، وكل حركة تصدر عنها تهز المكان بنبضات سامة من الغدر والخيانة. 

كانت تعرف جيدًا أن الحقد الذي يكمن في داخلها سيقودها إلى طرق مظلمة، لكنها لم تعد تهتم، فقد صار هذا الحقد وقودها، ودفعها للتمرد على الجميع بلا استثناء.

دخلت، كأنها تأتي لهدم كل شيء، لا لخلق جديد، وكأنها تعلن بداية معركة لا هوادة فيها، تتهدد بهدوء القصر الذي لا زال يحاول أن يستجمع أنفاسه بعد الفوضى.

دخلت سوزي إلى مكتب فؤاد دون أن يُعلنها أحد، كما لو أن الغضب منحها تصريح العبور. 

دفعت الباب بهدوء مشوب بالجرأة، ووقفت على العتبة لحظة، تتأمل الرجل الذي جلس خلف مكتبه بكامل وقاره، منهمكًا في الأوراق، كأن العالم لم يختل.

في عينيها لمعة مرّة، مزيج من الكبرياء المجروح والغضب المتراكم، ذلك النوع من النظرات التي لا تطلب تفسيرًا، بل تفرض حضورها.

 تذكّرت حين كانت تجلس معه في أماكن فخمة، حين كان يُكثر من النظر إليها دون أن يراها، كأنها خلف زجاج لا ينكسر. 

ثم جاءت هي، مرام، الفتاة البسيطة، الساذجة، التي لا تملك من سحر النساء سوى نظرتها الحزينة... فاختارها و اعتزل باقي النساء.....

قالت بصوت هادئ، يخفي داخله ضجيجًا كاملاً:
"لم أستطع الإبتعاد أكثر يا فؤاد."
رفع عينيه نحوها، لم يتفاجأ، ولم يبتسم.

 كأنّه يعرف جيدًا أن سوزي، عاجلاً أم آجلاً، ستعود. 

لكن ما لم يعرفه، هو مقدار الظلام الذي عادت به.

اقتربت، بخطى محسوبة، تأخذ وقتها في كل حركة كأنها تؤكد لنفسها أنها لم تنكسر بعد. 

ثم وقفت أمامه، تسند كفّها على طرف المكتب، نظرت إليه نظرة امرأة لم تعد تطلب تفسيرًا، بل تطلب اعترافًا.

"تجاهلتني، كثيرا. أنا، التي كنت أعرف كل شيء عنك، فضّلت فتاة لم تكن تعرف حتى كيف تكتب اسمك بدون ارتجاف.
 أهذا هو قلبك؟ بهذا الضعف؟"
صمت. 
لم يقل شيئًا.
 لا لأنه لا يملك الرد، بل لأنه كان يعرف أن أي كلمة قد تشعل النار أكثر.

لكنها تابعت، بشراسة ناعمة:
"أتعلم ما يؤلم؟ ليس أنك لم تخترني... 
بل أنك لم تلتفت يومًا لترى كيف كنت أنظر إليك."
لم يطرف لجفنه رمش، ولم يبدُ على وجهه أثر للدهشة. 

سوزي تعترف، بصوت يمزج بين التحدي والمرارة، لكنه لم يكن غريبًا عليه ما قالته.
 بل ربما كان ينتظره.

اعتدل في جلسته، أسند ظهره إلى المقعد برصانة مدروسة، ثم رفع حاجبه بخفة، تلك الإيماءة الصغيرة التي لطالما استعملها حين أراد أن يضع مسافة بينه وبين خصمه دون أن يخطو خطوة واحدة.

 قال بصوت هادئ، واثق، يشوبه عبث خفي:"جميل... أن تظهري أخيرًا بعض الصدق، سوزي. 

لكن، أليس من المؤسف أن يأتي متأخرًا؟"
شهقت بسخرية مكتومة، ثم اقتربت أكثر، حتى بات المكتب فاصلًا هشًا بين جسدين ملتهبين بصراع دفين.

"أنت من جعل الصدق عارًا، فؤاد. من علّمني كيف نرتدي الأقنعة كل صباح."

ابتسم، ولم تصل ابتسامته إلى عينيه، كان فيها طيف من سخرية رجل يعرف جيدًا أي وتر يُرخي وأي وتر يشدّ.

"أنتِ بارعة يا سوزي، لا أنكر ذلك. لكنك تلعبين في ميدان أتقنه قبلك بكثير.

 كنتِ دومًا سريعة الاشتعال، عاطفية، تظنين أن الجاذبية وحدها تكفي لكسب المعارك."

وضعت كفّها على صدرها بتصنع مسرحي:
"وهل خسرتُها فعلاً؟ لا أظن. أنتَ فقط خفت أن تختارني. 

خفت مما يمكن أن تفعله بك امرأة مثلي."

اقترب منها ببطء، دون أن يغادر مكانه، كلماته تسير بثقة ونعومة كأنها خيط حرير يلتف حول عنق "بل خفتُ مما قد أفعله أنا... 
حين لا أتمكن من السيطرة. 

والآن، سوزي، أخبريني—ما الذي جئتِ تطلبينه حقًا؟ لا أصدق أن فتاةً مثلك تتحرك فقط بدافع الشوق."

ترددت لحظة، عيناها تقدحان شررًا، لكنها أدركت فجأة أن الأرض بدأت تميل تحتها، 
وأن هذا الرجل ليس ذلك الغبي الذي ظنته يومًا لعبة في يدها.

 لا، فؤاد لم يكن سهل الانكسار.

 لكنه كان يعلم، تمامًا، أن سوزي امرأة لا تأتي فارغة اليدين.

 الجو أصبح مشحونًا بمزيج من الإثارة والتوجس. 

وفي خلفية الصمت، كان فؤاد يراقب، يختبر، يخطط.

أومأ برأسه ببطء، متابعًا عينيها المتقدتين وهما تتقدمان نحوه بجرأة محسوبة. 

سوزي، كما عهدها، لا تهاجم بالسيوف بل بالأنوثة المسنونة على مهلا اقتربت حتى بات بينهما نفسٌ واحد، ثم مدّت يدها ببطء نحو صدره، أصابعها تنقر بخفة على أحد أزرار قميصه الفاخر، عبثت به كما لو كانت تلعب بمفتاح سرّي. 
ثم همست، بأنفاسها الدافئة تلفح جانب وجهه:

"كل ما تحتاجه... هو أن تتوقف
 عن مقاومتي."
لم يتحرك، لم يرتبك.

 نظر إليها بنصف ابتسامة، عيناه ثابتتان، تراقبان كل إشارة، كل رعشة. كأنها كتاب يعرفه عن ظهر قلب، لكنه يهوى إعادة قراءته كل مرة بطريقته الخاصة.

قال بهدوء يلامس الحدة:

"وهل هذا ما تفعلينه حين تخسرين؟ تلجئين إلى الإغواء؟"
ضحكت بخفة، ضحكة مشبعة بالأنوثة والتحدي، ثم قربت شفتيها أكثر حتى كادت تلمس خده:

"أنا لا أخسر، فؤاد.

 أنا فقط أختار الوقت المناسب للربح."
لكنه، وبحركة سريعة وباردة،
 أمسك بمعصمها برفق فيه صرامة، وأبعد يدها عن صدره. لم يصرخ، لم يهدد. 

فقط قال، بصوت خفيض لكنه قاطع:"الوقت ليس الآن، والمكان ليس هنا. ولا تنسي، يا سوزي...
 أنا لست الرجل الذي تتلاعب به امرأة. حتى لو كانت تعرف كيف تبتسم وهي تخطط للغدر."

ما إن لمحَت ظل حنين يقترب في الممر، حتى انحنت قليلاً إلى الأمام، قربت جسدها من فؤاد، كأنها تخبره بجسدها ما تعجز الكلمات عن قوله. 

عبثت بأطراف شعرها، ثم أرسلت يدها مجددًا إلى ياقة قميصه، وكأنها تعدّلها، لكنها كانت تمهّد لشيء آخر... لرسالة تصل في اللحظة المناسبة، إلى من تقف خلف الباب.

همست له بصوت يكاد يُسمع:
"أتعلم؟ أنت بحاجة إلى امرأة تفهمك... لا إلى فتاة تبكي كلما تعثرت."

لم يتراجع فؤاد، لكن عينيه تحدّقتا فيها ببرود غامض، عين من يفهم اللعبة ولا ينوي الخروج منها الآن. وفي تلك اللحظة، فُتح الباب.

 ظهرت حنين عند العتبة، تحمل ملفًا صغيرًا بين يديها، نظراتها مترددة، لكنها التقطت المشهد: سوزي على مقربة شديدة من فؤاد، وجهها مشرق بابتسامة لا تخلو من التحدي، يدها لا تزال على صدره.

ثوانٍ من الصمت المشحون، توترت فيها ملامح وجهها، لكنها تماسكت.

 شدّت على الملف أكثر، وتقدّمت بخطى أبطأ مما اعتادت، قالت بصوت ناعم تخنقه الدهشة:

"كنت أظن أن الاجتماع في تمام العاشرة."

استدارت سوزي ببطء، كأنها لا تفاجأ، بل تستمتع.

 قالت بنبرة ناعمة وهي تتراجع: "آه، لم نكن

 في اجتماع... كنا فقط نراجع بعض الأمور العالقة بيننا."

ثم خطت إلى الباب، تمرّ بجانب حنين وهمست:
"حذارِ من الأشياء التي لا تفهمينها بعد..."وغادرت.

أما فؤاد، فبقي واقفًا، لا يزال على مسافة من مكتبه.

 لم يقل شيئًا في البداية، فقط نظر إلى حنين طويلًا، كأن عينيه تعتذران عن شيء لم يكن له اسم. 

ما إن أُغلق الباب خلف سوزي، حتى خيم صمت ثقيل على الغرفة. حنين، بثبات لم يعكس ما يغلي في داخلها، تقدّمت ووضعت الملف على طرف المكتب.

 لم ترفع عينيها نحوه، فقط قالت بنبرة رسمية:
"هذه الوثائق التي طلبتموها، سيد فؤاد."

راقبها فؤاد، وكانت قسمات وجهه قد تحجرت. بدا كأن في صدره بركاناً يمنع فورانه بصعوبة. 

لم يجبها في البداية، فقط خطا بعيدًا عن المكتب، يداه خلف ظهره، وظهره لها.

قال بصوت مقيّد بالغضب:

"لا يوجد ما يدعو للتوتر…"
رفعت حنين عينيها أخيرًا، لكنها لم تُعلّق. وقفت منتصبة، كأنها تنتظر منه أكثر من كلمات مقتضبة.

التفت إليها فجأة، نبرة صوته أشد:

"لا شأن لكِ بما يحدث خارج إطار عملك. وأرجو ألا تدعي أوهامك تقودك إلى استنتاجات خاطئة."
لم تتهزّ حنين. 
نظرت إليه ببرود أنثى تعلم أن ثباتها أشد وقعًا من أي انفعال.

قالت بهدوء:
"أنا هنا للعمل فقط، هذا ما أفعله."
ثم استدارت، ومشت بخطى واثقة نحو الباب.

 يدها امتدت إلى المقبض، لكنها لم تفتحه فورًا، لحظة صمت سبقت كلماتها:
"لكن من الجيد أن يعرف كلٌ منا حدوده، حتى لا يُساء فهم النوايا."

ثم خرجت و تركته في مكانه، عيناه معلقتان على الباب المغلق. الغضب ما زال يتأجج في صدره، لكنه لم يعرف لمن يوجّه جمرة ذلك الغليان…
 ألسوزي التي لعبت لعبتها؟ أم لنفسه لأنه سمح لها بالاقتراب؟ أم لحنين، لأنها غادرت كمن ينتصر في معركة لم يخضها؟
✨✨✨

حل المساء بعتمته، في عمق القصر، خلف جدران بدا وكأنها لا تخفي شيئًا، كانت الغرفة السرية تعجّ بصمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت تنفس الرجلين. 

الجدران محاطة بشاشات مراقبة، وأجهزة اتصال مشفرة تتوهج أزرارها بلون باهت.

 جلس فؤاد إلى الطاولة الحديدية، مائلًا قليلاً إلى الأمام، كأنه على وشك القفز نحو الحقيقة.

دخل كامل بخطوات واثقة، أغلق الباب خلفه بإحكام، ثم اتجه نحو الطاولة دون أن ينطق بكلمة.

قال فؤاد أولاً، صوته أجشّ من السهر والتوتر:

"كيف كانت نظرتهم له؟"
كامل أومأ وهو يسحب الكرسي:
"مهنية… كأنهم لم يشكّوا للحظة أنه ليس أنت."
ارتفع حاجبا فؤاد، عيناه تلتمعان في الضوء الخافت.

"وهل تمكن الفريق من مسح المكان؟ أي أثر لهم؟"
"نظيف. لا شيء.

 كأنهم لم يكونوا هناك أصلاً. لكن…"
تردد كامل لحظة، ثم أضاف:

"واحد من الحراس رأى سيارة سوداء من طراز قديم في محيط المقبرة. أرقامها مزوّرة."

زمّ فؤاد شفتيه، ونقر بأصابعه على الطاولة:

"يعرفون كيف يختبئون.

 يريدون الملف، لكنهم لا يملكون الجرأة لخوض الحرب مباشرة."

"وماذا عن الفتاة؟" سأل كامل بنبرة حذرة.

تشنّج فكّ فؤاد، نظرته انكسرت لثانية قبل أن يستعيد تماسكه.
"كانت خائفة. 

لم يكن أمامي خيار آخر، كانوا سيؤذونها."

"لكنك أنقذتها. بثمن؟"
صمت فؤاد طويلاً. 

ثم همس وكأنه يكلّم نفسه:

"أنا من بدأ هذا الطريق… وعليّ أن أكمله."
اقترب كامل منه قليلًا، وضع يده على كتفه:

"فقط لا تنسَ لماذا بدأت. لا تدع العاطفة تشتّت تركيزك."
سكن المكان فجأة.

التفت فؤاد إليه ببطء، بنظرة لم تحمل اعتراضًا، ولا اعترافًا… 

بل وعدًا خفيًا بالحسم.

جلس على طرف الطاولة، يمرر يده على جبينه بتعب، ثم قال بنبرة يغلفها الضيق

:
"جاءت سوزي اليوم، دخلت إلى مكتبي وكأن المكان ملكٌ لها… وأمام عيني حنين، اقتربت مني حتى كدت أشعر بأنفاسها تحرق وجهي، ثم بدأت تعبث بأزرار قميصي كأننا في مشهد رخيص من فيلم ساقط."

كامل، الذي كان يسكب القهوة من الغلاية النحاسية، التفت إليه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة لا تخلو من سخرية:
"وماذا فعل فارس أحلام العصر؟ هل صفعتها؟"
رد فؤاد، بنصف ابتسامة مريرة:"تمنيت. لكن حنين كانت على وشك الدخول… فتركت سوزي تعبث كما تشاء لثوانٍ
 حتى لا أفضح نفسي أكثر."

ضحك كامل، وأخذ رشفة من فنجانه ثم قال:

"أنت عبقري فعلاً… حنين على وشك أن تثق بك، فتمنحها عرضًا مباشرًا من مسرحية العاشق و العشيقة في المكتب الفاخر. أحسنت يا فؤاد، خطوة عظيمة نحو أن تراك كمأوى آمن!"

تمتم فؤاد وهو يحدق في الجدار:
"لقد فسّرت ما رأت بطريقتها. رأيتها في عينيها، كيف تألمت دون أن تقول شيئًا. غادرت بصمت…
 وكأن شيئًا انكسر بداخلها."
اقترب منه كامل، ووضع يده على كتفه، وقال بنبرة جادة هذه المرة:"فؤاد... المشكلة أنك تحاول أن تعيش بدورين في وقت واحد. تخطط للانتقام، وتغرق في مشاعرك. وكلما اقتربت من حنين، كلما وجدت نفسك مكشوفًا أكثر."
صمت للحظة، ثم أضاف بسخرية خفيفة:
"أنت مثل من يمشي على حبل، فوق نار... كلما حاول أن يتوازن، هبّت ريح من قلبه وأسقطته."

ابتسم فؤاد ابتسامة شاحبة، وقال:
"أنا فقط… سئمت.
 سوزي، نظراتها، لعبها المكشوف…
 أنا لست نفس الرجل الذي عرفته من قبل. وما عدت أطيق هذا النوع من النساء."

"إذن اقطع الخيط، ولا تتركه يتلوى بين يديك. 
إذا أردت أن تكسب حنين، فعليك أن تتوقف عن منح غيرها مشاهد مجانية."

قالها كامل وهو يربت على كتفه، ثم ابتعد ببطء باتجاه الباب، 
قبل أن يضيف مازحًا:

"ولا تنس أن تعلّق لافتة على مكتبك: ممنوع الاقتراب من 
الذكرى المتفحمة."

ضحك فؤاد بخفة، لكنها كانت ضحكة متعبة…

صوتها يشبه طقطقة نارٍ تحت 

رمادٍ لم يخمد بعد.

✨✨✨

في عيادة فخمة تتسلل إليها روائح المعقمات ممزوجة بعطر نسائي فخم، جلست ديلارا بكامل أناقتها، ساقاها متقاطعتان، تضع نظارتها الشمسية على رأسها وتفرك بين أصابعها قلادة ذهبية دقيقة.

 إلى جانبها، جلست فتاة شابة،
 ذات مكياج صارخ وملابس ضيقة توحي بثقة لا تخلو من التحدي. 

كانت تمضغ علكتها بلا مبالاة، وتتفقد هاتفها باستمرار، بينما تجول نظراتها في أرجاء العيادة كأنها تقيّم المكان لا تعبأ بأحد.
“لا تنسي ما قلته لكِ.
” قالت ديلارا بنبرة منخفضة ولكن حادة.

أجابت الفتاة دون أن تنظر إليها: “اهدئي، أعرف دوري تمامًا. 
وهذا الشيء داخل بطني ليس مجانيًا، أليس كذلك؟”

شعّ في عيني ديلارا بريق مكبوت، لم تكن تحب أن تُخاطَب بهذه الصراحة، لكنها تعلم أن المال يشتري ما هو أكثر من الولاء.

دخلت الفتاة إلى غرفة الطبيبة 

بعد أن نودي اسمها. 

دقائق من الانتظار بدت ثقيلة على ديلارا رغم رباطة جأشها الظاهرة، ثم خرجت الفتاة تحمل نتيجة التحليل، ومدّت الظرف بوجه لا يخلو من التحدي.

فتحت ديلارا الظرف ببطء، قرأت، ثم أغلقت الورقة وابتسمت كمن أكمل قطعة من لوحة معقدة. 

وقفت بثقة أمام المرآة الكبيرة في الغرفة، تمسح على الظرف بحنان، ثم التفتت
 إلى الفتاة الطماعة بابتسامة 
مليئة بالثقة والحقد:
"نحن على أعتاب النجاح، لم يبقَ سوى خطوة واحدة تفصلنا عن السيطرة الحقيقية. 

طفل المرحوم مراد سيكون المفتاح... سيكون ورقتنا التي لا تُرد.

نظرت إلى الفتاة بعينين مليئتين بالرهبة، وقالت بصوت منخفض ولكن حازم:"كل شيء يمضي حسب الخطة، والآن لم يعد لأحد أن يقف في طريقنا."

نظرت إليها بحدة، وأكملت بصوت صارم:
"لكن عليك أن تفهمي جيدًا، 
لا مجال للتمرد أو الخروج عن التعليمات. 

أي خطوة خارج الإطار، أي تصرف خارج إرادتي، سيكلفك الثمن غاليًا."

كانت كلماتها تحمل تهديدًا خفيًا، بينما في قلبها تنمو نيران الانتقام التي ستُشعل اللعبة بأكملها.

حدقت في الفتاة بنظرة حادة وهددت بصوت منخفض لكنه حاسم:"استعدي جيدًا لما هو قادم.

 قريبا ستدخلين القصر، وستكونين على مسرح الأحداث مباشرةً. 

لا مكان للخطأ، ولا مجال للتردد."

أضافت بابتسامة ثاقبة:"اعلمي أن كل حركة وكل كلمة ستراقب عن كثب. عليك أن تكوني جاهزة، لأن اللعبة لا ترحم."

✨✨✨

في مساء هادئ داخل القصر، 
وقف فؤاد أمام حنين محاولًا كسر الجليد الذي تشكّل بينهما منذ فترة.

 بنبرة دافئة ووجه يعبّر عن رغبة صادقة، قال لها:"أعلم أن الأيام كانت صعبة علينا جميعًا، 
وأن بيننا الكثير من الصمت والعتاب،
 لكن أود أن أمنحنا فرصة لنبدأ من جديد."
تقدم نحوها وهو يحمل ظرفًا أنيقًا، وواصل:
"هذه دعوة لحفل الأوركسترا التي ستقام غدًا في قاعة المدينة الكبرى. 
موسيقى تعانق الروح، وأجواء راقية قد تتيح لنا الفرصة لننسى قليلاً ما يحيط بنا."

نظر إليها بعيون تحمل رجاءً، كأنّه يدعوها لتكون جزءًا من عالمه، بعيدًا عن كل ما يؤلم.

"هل تقبلين؟"
بقيت حنين صامتة لفترة، تنظر إلى الظرف بيد مرتجفة، وعيونها ترسم دوامة من الأفكار المتضاربة. 
قلبها ينبض بعنف، وعقلها يشهد صراعًا حادًا بين الرفض والقبول.

رفضها ينبع من الخوف، من مشاعرها المختلطة تجاه فؤاد، ومن الرغبة في الاحتفاظ بمسافة تحفظ كرامتها وهدوءها.
 أما القبول، فكان يحمل وعدًا بلحظات هدوء، بانفصال مؤقت عن ضغوط الأيام القاسية.

رغم التردد، لم تستطع مقاومة الإلحاح الصامت في عينيه،
 ذلك الحنان الذي حاول أن يخفف به عذاباته. 
ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، 
ونظرت إليه بتردد، ثم همست:

"سأذهب... من أجلك."
في تلك اللحظة، استسلمت لرغبة دفينة في إعطاء فرصة جديدة، 
لا لها فقط، بل له أيضًا.
✨✨✨

في مكتب ماركو الفخم الذي تطل نوافذه على أضواء روما المتلألئة، كان الجو يثقل بتوترٍ خفي. 
يجلس على كرسي جلدي كبير، يداه متشابكتان أمامه، وعيناه تحترقان بالغضب المكبوت.
 كانت نظراته ثابتة على طاولة العمل حيث تكدست أوراق ومستندات مهمة، وعلى رأسها ملف مهم يحمل اسم "سوزي".

رفع رأسه فجأة وكسر الصمت
 قائلاً بصوتٍ خافت ولكنه مشحون بالاستياء
:"سوزي... تلك الورقة... كانت ورقتنا الرابحة. "
تنهد ببطء، ويده تقبض على طرف الطاولة بقوة تعكس غضبه المكبوت، ثم أكمل:
"لقد أحرقت كل شيء بتهورها وغبائها. 

لا أدري هل كانت تظن أن بإمكانها اللعب معنا دون حساب؟ أم أنها تستمتع بمشاهدة سقوطنا؟"
نظر إلى النافذة كأنه يبحث عن حل وسط الظلال المتحركة، 
ثم عاد بنظرة حادة إلى الأوراق أمامه:
"الآن علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا، نعيد بناء ما تهدم، قبل أن ينهار كل شيء من تحت أقدامنا.

 هذه المعركة ليست سهلة، وأي خطوة خاطئة قد تكلفنا الكثير."
جلس صامتًا لحظة، يسترجع تفاصيل الخيانة والتدمير، كمن يخطط لخطوة الانتقام القادمة، وجاء صوته حادًا كالسيف:

"سوزي أخطأت، ولكننا لن نسمح
 لها أن تؤدي بنا للنهاية."
ارتسم على وجه ماركو تعبير قاسٍ حين تذكر خطأ سوزي الفادح. قال بنبرة مثقلة بالندم والغضب:
 "أسوأ ما فعلته سوزي هو محاولتها إغواء فؤاد.
 هذا التصرف الطائش جعل كل خطتنا معرضة للخطر.
 كيف تظن أنها تستطيع اللعب بمثل هذا القدر من التهور؟ فؤاد ليس رجلاً سهلاً، وهو الآن نقطة ضعفنا الأكبر."

توقف لبرهة، ثم تابع بصوت منخفض لكنه حاد:

"كل منا هنا يعرف أن القوة تكمن في التحكم، لا في الانفعال. وحين يسمح أحدهم لمشاعره بالتسلل إلى معركة لا ترحم، فإن النهاية ستكون كارثية."

أضاف وهو يحدق في الظلام الخارج من نافذته:

"الآن علينا أن نعيد تقييم تحركاتنا، ونمنع أي تسرب قد يكشفنا أو يهدد خطتنا."
تجمد ماركو للحظة، ثم استدار ببطء وهو ينظر في عتمة الغرفة، عيناه تحملان قسوة لا تعرف الرحمة.
 قال بصوت خافت لكنه حاسم:"سوزي أصبحت عبئًا لا يُطاق. لقد أضاعت ورقتها،
 وبهذا أضعفت موقفنا."
وقف متثاقلاً لحظة، ثم أضاف:
"لا مكان للخطأ أو الضعف بيننا. أمرها واضح:
 نتخلص منها كما تخلصنا من مراد. 
لا تهاون، ولا رحمة."
كانت الكلمات مثل حكم إعدام، ثقيلة ومليئة بالتهديد، تنذر بحتمية سقوطها في الظلال، حيث لا مهرب ولا خلاص.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1