رواية اشتد قيد الهوي الفصل السادس بقلم دهب عطية
بلاش تنسوا التفاعل على البارت....
.........................................................
شعرت بأن جسدها يسقط من أعلى ارتفاع إلى بركة من الماء. ارتطم جسدها بالماء البارد، ثم شعرت بالبرودة تزحف إلى عظامها، تجمّدها وهي تنجرف إلى الأعماق، مستسلمة لمصيرها.
الظلام يتسلل إليها رويدًا رويدًا حتى يتلاشى الضوء أمامها، وتصبح جزءًا من نهاية اختارتها بإرادتها !.
الماء يتسلل إلى رئتيها ببطء، وشعرها ينتشر حولها بانسيابية ناعمة كـنغمة تضيف للحن رونقًا خاصًا.
تنزلق إلى الأسفل بنعومة حزينة كـوردة تم اقتلاعها ثم أُلقي بها في بئر الأماني كي تحقق أمنية صعبة المنال ليكن ثمن موتها ترهات !
في زاوية بعيدة من وعيها، تسمع صوتًا رجوليًا أجشًّا، بينما تشعر بذراعين تحملانها، وبرائحة عطر زهيد الثمن لكنه يترك أثرًا في نفسها يثير عدة مشاعر غريبة ودافئة...
أيوب.
صاحب الندبة يزورها في كوابيسها لأول مرة ومع أنها المرة الأولى له، إلا أنه ينقذها من كابوسها السوداوي عندما ظهر من العدم، يسحبها من ذراعيها إلى الأعلى، حيث النجاة والهواء !...
عندما وصلا إلى سطح الماء معًا وصل صوتها إلى أذنيها وهي تستيقظ لاهثة بقوة تلامس وجهها بيدين مرتجفتين تنظر حولها بضياع بعينين متسعتين تحدّقان في المكان بعدم فهم...
كانت تجلس على فراش بسيط في غرفة أقل بساطة مما اعتادت عليه، وما زال نفس العطر الرجولي يداهم أنفها، ذلك العطر الذي اخترق كابوسها وأنقذها من الغرق في الخوف والشعور بالذنب !...
بلعت ريقها وهي تحاول تمالك أعصابها قدر المستطاع ثم أبعدت الغطاء عنها وهي تبحث عن حقيبتها أو هاتفها لكنها لم تجدهما بجوارها...
فتحت أحد الأدراج بشكل عشوائي تبحث عن أي شيء يصلها بوالدها بينما عقلها يعيد عليها مهاجمة الملثم لها قد كانت بينها وبين الموت خطوة واحده....
ثم إنتهى الأمر في طرفة عين بعد رؤيتها لشقيقة أيوب وأخيرًا إغماؤها الذي حدث نتيجة للضغط والهلع الذي عاشته في سيارتها...
كيف أتت إلى هنا؟... هل أيوب وشقيقتاه هم من ساعدوها؟
انعقد حاجباها وهي ترى كرة خيط أرجوانية اللون في أحد الأدراج مسكتها تلقائيًا تتأملها بصمت...
"حمد لله على سلامتك.....واخيرا فوقتي....."
شهقت نغم وهي تستدير بفزع متسعة العينين وقد وقعت كرة الخيط الأرجوانية من بين يديها بتوتر ثم تدحرجت نحو أيوب، فأوقفها بقدمه ناظرًا إليها بتساؤل...
بلعت نغم ريقها وهي تقول بارتباك
"مكنتش أقصد....انا بس كنت عايزة تلفوني..."
اجابها أيوب بهدوء وهو يلتقط الكرة
ثم أقترب منها.....
"حطيته على الشاحن أصله فاصل....مخدتش بالي غير دلوقتي....."
سألته بحيرة.....
"انا هنا بقالي قد إيه؟....."
اجابها وهو يضع الكرة مكانها...
"يومين....."
شحب وجهها بوجل.....
"يومين..... يومين إزاي؟...."
ابتسم أيوب وهو يقف قبالتها يدس يداه في جيب بنطاله....
"بصراحة بقالك ساعتين بس....."
اخرجت زفيرة ضجر معقبة....
"الوضع ميسمحش لهزار خالص...."
دقق النظر في ملامحها وهو يسالها
بهدوء....
"انا معرفش اي الوضع اللي عندك...بس انا بدات أقلق من ناحيتك....."
لم ترد عليه ظلت عينيها الرمادية تحدق فيه بصمت خال من التعبير فسألها هو بمزاح ثقيل.....
"هو انتي عليكي طار ؟...."
اجابت دون تبسم....
"حاجة زي كده...."
ارتفع حاجبيه بصدمة..... "احلفي....."
انتفخ انفها بغضب ثم ارتفع بإباء
وقالت......
"بلاش تكلم معايا بعشم اوي كده...أكيد مش هحكي تفاصيل...."
هز أيوب راسه مبتسمًا ببرود يخفي
حرجه وهو يقول......
"وانا مش عايز أعرف.... مع انك لو جيتي للحق يحقلي أعرف... انا انقذت حياتك اكتر من مرة...."
قارعته بأسلوب التعالي.....
"وانا انقذت مستقبلك من الضياع...."
استنكر الأمر قائلا.......
"هو كده كدا ضايع....وبعدين انا كنت مظلوم ولا مش مصدقة؟...."
ثم اضاف بازدراء......
"وبعدين انتي هنا في بيتي ونايمة على فرشتي.. شوية إحترام ياحلاوة مش كده..."
علقت بتقزز...... "حـــلاوة ؟!..."
جلس على حافة الفراش سائلا باهتمام....
"متخديش في بالك....المهم انتي كويسه ولا أجيب دكتور...."
عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت
بغلاظة وصلف......
"لو كنت عايز تجيب دكتور كنت جبته..مش مستني لما أقوم من النوم عشان تسألني؟!.."
رد أيوب بصبر موضحًا......
"مش بُخل على فكرة.... الفكرة بس في سين وجيم وانا مش ناقص بصراحة....."
امتقع وجهها وظللت عينيها نظرة غريبة وهي
تتحرك نحو الباب قائلة.....
"عندك حق...آسفة لو سببتلك اي إزعاج...انا كده كدا ماشيه شكرا...."
أوقفها أيوب وهو يتحرك نحوها.....
"استني هتمشي إزاي وانتي كده....استني تاخدي وجبك...."
نظرة اليه بضيق وقالت بحدة خفيه....
"وجبي خدته لم جبتني لحد هنا...شكرًا...."
رفض خروجها وهو يقول بحزم....
"لا شكر على واجب.....برضو لازم تاخدي
وجبك انتي مش عند اي حد انتي في
بيت الحاج عبد العظيم وصفية أم
أيوب....."
انهى الحديث بالاشارة على نفسه بزهو
مبتسمًا وعينيه تشاركة البسمة بلمعة
عابثة تـ.....تربكها...
"بجد كويسه ولا في حاجة وجعاكي؟...."
خفق قلبها فجاة وهي تنظر اليه بعدم
فهم مترجمة سؤاله الهادئ المهتم..
اجابته بخفوت وهي ترجع خصلة من شعرها
للخلف بتوتر انتابها فجأة.....
"كويسه كان مجرد اغماء.....أطمن....."
عادت اليه بعينيها الرمادية محتارة من صمته
ونظراته التي طالت نحوها فسألت....
"بتبصلي كدا ليه؟....."
أجابها بالسؤال الذي يدور في عقله
الان....
"دا لون عنيكي ولا عدسات؟..."
برمت فمها وقالت....... "عدسات...."
زم فمه بخيبة أمل معلق...
"كنت متأكد...."
ارتفع حاجبيها مجددًا بتحفز من هذا الغريب الذي اقتحم حياتها عن طريق الصدف....صدف تثير الريبة نحوه !....
وقبل ان ترد بشيء انفتح الباب وطلت منه
والدته وشقيقتاه التوامان المتطابقان
اقتربت منها صفية وقالت بحفاوة مرحبة
بها....
"حمد لله على سلامتك ياحبيبتي نورتيني والله....بركة انك بخير....."
انتبهت والدته اليه فقالت بدهشة وعدم
رضا....
"أيوب انت إيه اللي دخلك هنا ؟...."
اندفعت ندى بالكلام كـنفورة ماء واشية
عليه......
"دا بقاله نص ساعة ياصفصف......دا كان فاضل شوية وياخد مقاس جزمتها.... "
أحمر وجه نغم بحرج بينما رمقته امه بنظرة
غاضبة اما نهاد فقد اخفت ضحكتها في يدها بينما أيوب نظر إلى ندى متوعدًا لها بضراوة وهو يقول من بين أسنانه..
"لو كان تلميع الأوكر شغلانة كان زمانك بنيتي
من وراها قصور....."
هزت ندى رأسها مؤكده بأسلوب مستفز جعله
يستغفر داخله متمسك بزمام الصبر الان على
الأقل....
في حين كانت امه تحدث نغم مصممة على
تناولها وجبة الغداء معهم وهي ترفض مصرة
على الرحيل....
قالت صفية بحزم الأم....
"والله ابدا لازم تاكلي معانا....انتي مش شايفه شكلك دا انتي لونك مخطوف خالص....الاكل هو اللي هيخلي الدم يجري في عروقك...
وتقدري تقفي كده وتسندي طولك... "
قالت نغم بحرج أكبر....
"شكرا والله ياطنط بس انا مش عايزة اكل
انا عايزة أروح....."
اندهشت والدته قائلة......
"يابنتي هو احنا خاطفينك....."
قالت نغم موضحة.... "مش قصدي بس....."
قاطعها أيوب منهي الأمر.....
"بس اتغدي واعملي اللي انتي عيزاه بعدها..."
نظرت اليه فبادلها النظرة مبتسمًا بجاذبية
تـ.....تربكها مجددًا....
"أكل صفصف لا يعلى عليه هيعجبك...وارهنك انك هتيجي تاكلي من ايديها تاني...."
بلعت ريقها بتوتر وهي تبعد عينيها عنه
بينما قالت نهاد بنبرة رقيقة....
"تحبي اجبلك حاجة مريحة....احسن من الطقم ده انا حاسه انه مكتفك...."
رفضت نغم باستحياء...... "لا شكرًا مـ....."
اندفعت ندى نحوها تسحبها من ذراعها
وفعلت نهاد المثل بتشجيع....
"بلاش كسوف تعالي شوفي اوضتنا وبالمرة تغسلي وشك كده وتفوقي...."
خرج الثلاثة أمام عينيه المحدقتين بهن بقلق فسألته أمه متعجبة...
"مالك متنح كده ليه....."
نظر إليها مرتابًا....
"ريا وسكينة خدوها اوضتهم...."
لكزته امه ضاحكة....
"اخص عليك دول مفيش في طيبة قلبهم..."
ثم تذكرت شيء فانكمشت ملامحها
عابسة وقالت بتقريع...
"وبعدين تعالى هنا....انت اي اللي دخلك اوضة البت وهي نايمة......ومالك انت لون عينيها ولا
عدسات...."
جحظت عيناه بصدمة وهو يسأل...
"معقول ياصفصف ندى عدتك؟...."
ضربته مجددًا بتوبيخ حاد.....
"احترم نفسك...بنت العز دي تاخد واجبها وهي من طريق واحنا من طريق.....الله يسهلها بعيد عننا احنا مش ناقصين...."
ثم اتجهت نحو المطبخ قائلة....
"هروح احضر السفرة على ما يخلصوا...."
بينما وقف هو للحظات ينظر إلى الفراغ من
حوله يفكر في الوضع من عدة اتجاهات
حتى حسم الأمر وأخرج من جيبه البطاقة التي تحوي عدة أرقام تخص شخصًا واحدًا كان قد طلب منه سابقًا الاتصال به إن احتاج إلى المساعدة...
كمال الموجي.
الآن هو من يحتاج إلى المساعدة... لا، بل إن ابنة هذا الرجل هي التي في أمسّ الحاجة إليها.
............................................................
جلست نغم على حافة الفراش بينما وقفت
نهاد أمام خزانة الملابس تبحث عن شيء مناسب وجديد.....
"كنت لسه جايبه بجامة من يومين....انا ملبستهاش هتعجبك اوي.....لسه جديدة..."
قالتها نهاد وهي مزالت في رحلة البحث
فردت نغم بحرج أكبر....
"بس انا مش عايزة حاجة جديدة وصدقيني
الهدوم اللي عليا مش هتكتفني خالص....بلاش تتعبي نفسك..."
قالت نهاد بلطف.....
"مفيش تعب ولا حاجة....أصبري...."
إدارة نغم وجهها الى جانبها لتجد ندى تجلس بجوارها وتحدق بها بقوة اجفلتها فسألت..
"في حاجة ؟!...."
قالت ندى بنظرة ثاقبة.....
"في حاجات....هو انتي عليكي طار فعلا؟...."
هزت رأسها بنفي..... "لا...."
سالتها ندى بتطفل.....
"أمال مين الراجل اللي كان بيضرب العربية
ده....تعرفيه...."
"لا..."
قالت ندى بنظرة جادة.....
"لازم تبلغي البوليس حياتك في خطر.....بلاش تسكتي تحبي اجي معاكي للقسم....."
رفضت نغم بملاطفة......
"شكرا يـاندى انا هتصرف....."
ثم غيرت مجرى الحديث قائلة....
"بس انتوا شبه بعض أوي....."
قالت ندى بشقاوة....
"توأم بقا....خمني مين الكبير....."
قالت بعد تفكير..... "نهاد....."
اومات ندى بغرور.....
"طبيعي ماهو اخر العنقود سكر معقود..."
ضحكت نغم بينما لوت نهاد فمها مستنكرة...
سالتها ندى.... "انتي عندك أخوات....."
اجابتها نغم بنبرة حزينة.....
"لا انا وحيدة.....مفيش في حياتي غير بابا
هو عيلتي كلها....بعد موت ماما... "
ردد التوأم معًا...."ربنا يرحمها ويغفرلها...."
اكتفت بابتسامة شكر....فقالت ندى
مجددًا باستفسار.....
"باباكي مصمم أزياء مشهور....كنا بنشوف تصاميمه في المولات والمحلات المعروفة
كمان في فترة من الفترات كان أيوب بيتابع
شغله وبيجيب مجالاته....."
انعقد حاجباها بتساؤل...
"بيتابع شغله ليه هو ليه....في Fashion Designer ؟...."
أكدت نهاد وهي تجلس على الجانب الآخر من حافة الفراش...
"حاجة زي كده... وعلى فكرة كان شاطر أوي..."
تساءلت نغم بحيرة.....
"وإيه بقا اللي خلاه يوقف ؟!..."
وقبل أن تتلقى الإجابة منهن صاحت والدتهن من الخارج قائلة...
"الأكل يابنات اتحط يلا...."
نهض التوأمان وقالت نهاد بُوِئام...
"احنا هنخرج... وانتي البسي وحصلينا.....
متتأخريش..."
خرجا وتركَاها تتخبّط بين أفكارها وما اكتشفته للتو...
كان يدرس مجال الأزياء.
كان يتابع أعمال والدها باستمرار.
لماذا توقّف إذًا؟...
تشعر بأن أيوب عبد العظيم ليس مجرد رجلٍ يبيع الثياب في الأسواق بسعرٍ مخفّضٍ ليعيل أسرته، إنها مجرد واجهة لشيء آخر، جزء مفقود يثير فضولها نحوه.
...............................................
خرجت نغم من الغرفة فرأتهم مجتمعين
حول سفرة الطعام بانتظارها
وروائح الأصناف الشهية تداهم أنفها. شعرت بمعدتها تصدر صوتًا خفيًا، فتذكرت أنها لم تتناول وجبة كاملة كالبشر منذ يومين تقريبًا وهذا من أحد أسباب الإغماء الذي تعرضت
له في المرأب...
"يلا يا نغم يا بنتي..... الأكل هيبرد..."
نادت عليها والدته بصوتٍ حنون تدعوها لمشاركتهم الطعام...
اقتربت نغم وأمام عينيه المركّزتين عليها خطت خطوة ثم خطوتين، ثم توقفت فجأة ورفعت عينيها عليه بضيق فابتسم أيوب
ونظر إلى طبقه يضع أول ملعقة في فمه...
ما سر هذه الابتسامة يا ترى؟ ولماذا يركز معها هذا الغريب؟ وما هي نواياه بالضبط نحوها؟
غريب؟!
غريب وأنتِ في بيته يـا نـغـم ! كنتِ منذ لحظات تنامين على سريره في غرفته، والآن تشاركين عائلته وجبة الغداء وأنتِ ترتدين بيجامة أخته...
البيجامة...
نظرت إلى ما ترتديه جافلة وأخيرًا انتبهت
أن السترة العلوية تحمل صورة كرتونية لشخصية تُدعى (مارد وشوشني)..
هل تمزحين معي يا نـهـاد؟!
حقًا؟ طالبة في كلية الطب - على حد قولها - وما زالت ترتدي ملابس عليها رسومات كرتونية؟!
يا لَلطّفولة المتأخرة !
قالت نهاد بفخر غريب.....
"البيجامة تحفه عليكي....."
مالى أيوب نحوها هامسًا بخبث...
"مارد هياكل منك حته...."
اتسعت عينيها وتوردت وجنتيها بـ.....بغضب....
فهي لا تخجل من هذا الجنس ولن تتأثر أبدًا
به !.....
قالت والدته وهي تضع في طبقها قطعة من الدجاج...
"سيبوا البنت تاكل.... كلي ياحبيبتي سيبك منهم..."
تكلفت ندى الظرافة قائلة.....
"اش اش.... دي ماما ادتها الصدر دي راضية عنها بقا...."
ضربتها اختها في ساقها.....
"كلي وانتي ساكته يـافضيحة....."
لم تسمع لها ندى بل سألت نغم...
"بتحبي الصدر بقا ولا الورك...."
ردت نغم بصعوبة..... "اي حاجة....."
قالت ندى وهي تمضغ الطعام....
"طب والله كويس مش هتتعاركي انتي جوزك على القسمة....."
همس أيوب لها من بين أسنانه....
"نقطينا بسكاتك يارغاية..... يافتانة....."
اتكأ على اخر كلمة فضحكت ندى وهي تقول
بلؤم....بنفس الهمس.....
"على فكرة يابوب دا لون عينيها مش عدسات...."
التوت فمه هاكمًا.....
"على فكرة انا مطلبتش تحرياتك...."
قالت نغم بصوتها الموسيقي الرقيق....
"تسلم إيدك ياطنط الأكل حلو أوي....."
أشرق وجه والدته وهي ترد عليها بمحبة....
"ياحبيبتي بالف هنا على قلبك...."
رفعت نغم عينيها الرماديتين عليه لتراه يأكل.
دون النظر إليها عادت إلى طبقها بصمت وحرج...
كلُّ ما يحدث معها محرج وغريب والأشدُّ غرابةً هو تواجدُها معهم بهذه البساطة !...
طرق الباب أوقف سيل أفكارها رفعت عينيها لتسمع والدته تقول بحيرة....
"ياترى مين اللي حماته بتحبه ده....."
كادت تنهض نهاد لكن أيوب اوقفها قائلا.....
"خليكي......انا هفتح.... "
فتح أيوب الباب ليرى آخر وجهٍ يتوقع ظهوره الآن أمامه... هتف بوجهٍ انكمش فجأة كمن يمضغ الليمون غصبًا !...
"الست هنادي؟!......"
ابتسمت السيدة هنادي التي تأنّقت بشكلٍ ملفت مرتديةً كلَّ الألوان الزاهية في عباءةٍ واحدة، و... ريشٍ كثير عند الأكمام. هناك ريشٌ أحمر، وأبيض، و...
لن يتابع عدَّ الألوان. رفع أيوب عينيه عليها ليرى وجهها قد نال جزءًا من هذه الألوان، حتى يكتمل التناسق من وجهة نظرها... أما شعرها فمصبوغٌ باللون الأصفر الفاتح، ذلك الأصفر الذي يثير النفور في النفس... وتغطّي الجزء العلوي من رأسها بوشاحٍ صغيرٍ لامع كذلك...
مالت هنادي على الباب بميوعة لا تناسب
سنها أبدًا.....وقالت بنبرة قميئة.....
"مساء الورد والحب....."
رد أيوب بخشونة......
"مساء الخير....في حاجة....."
رفعت الطبق امام عيناه وقالت بنبرة
مغوية.....
"كنت عاملة كشري مصري وافتكرت انك بتحبه.....فقولت لازم اطلع لك طبق...واجي
اسلم ومسي..."
اخذه منها على مضض حتى ينهي الأمر
سريعًا.....
"تسلم إيدك تعبه نفسك ليه....."
قالت بتنهيدة ناعمة.....
"وانا هتعب لاعز منك....."
على صوت امه تسأله بتوجس.....
"مين يا أيوب..."
رد أيوب كارهًا.....
"دي الست هنادي يامه جارتنا....."
قالت والدته بحزم....
"دخلها يابني سايبها واقفه على الباب ليه ؟....."
رد أيوب متجهمًا......
"لا أصلها مستعجلة....."
قالت هنادي بتبجح.....
"بترد بنيابة عني ليه....طب إيه قولك بقا اني مش مستعجلة وهدخل أسلم وقعد كمان...."
سحبت منه الطبق ودخلت، بينما وقف هو يجزّ على أسنانه بغضب، شاتمًا بلفظٍ بذيء
ثم لحق بها بغيظ...
دعتها والدته بكرمها المعروف.....
"تعالي ياهنادي حماتك بتحبك..."
"من يومها بتموت فيا...."قالتها هنادي وهي تجلس في مقعد أيوب بجوار نغم التي ما إن رأتها حتى سألت بفضول...
"مين دي؟....."
رد أيوب بهدوء....
"دي نغم.... صاحبة نهاد وندى...."
قالت والدته بترحيب...
"وعاملة إيه ياهنادي....نورتينا والله....."
قالت هنادي بجذل.....
"بنورك يام الغالي.......جبتلكم طبق كشري عارفه ان أيوب بيحبه....."
نظرت نغم الى أيوب بدهشة فبادلها النظر
بصمت......
"أهلا يا أنغام....."
نظرت الى تلك السيدة المتعبة للعين بالوانها
العجيبة.....صححت لها بتحفظ.....
"نـغـم......أسمي نـغـم... "
سألتها هنادي بشك.....
"عاشت الأسامي يانـغـم....انتي مع نهاد في كلية الطب؟..."
قالت نغم بهدوء...... "تقريبًا....."
احتد صوت هنادي قليلا بغيرة.....
"يعني إيه تقريبًا يعني معاها ولا مش معاها ؟!..."
زجرها أيوب بنفاد صبر......
"هو تحقيق ياست هنادي...."
نظرة لها بحدة وقالت....
"وانت محموق اوي كده ليه السؤال حُرم....."
قالت والدته بملاطفة......
"لا ياحبيبتي...بس البت بتاكل....خلي اسئلتك دي لبعد الاكل......"
"طيب بألف هنا....."لوت فمها ممتعضة ثم قالت بهيام وهي تنظر الى أيوب.....
"مش هدوق يا أيوب طبق الكشري...وتقولي رأيك..."
رد ايوب بصعوبة وهو يشعر بعدم الارتياح
لتواجدها هنا......
"مش أول مرة اكله من إيدك يعني....تسلم إيدك..."
اتسعت ابتسمتها بوله وهي تقول بتمايع مصرة...
"ان شاء الله تسلم....برضو دوق احب اتأكد اذا كان زي كل مرة ولا لا....."
راقبت نغم أيوب وهو يضع أول ملعقة في فمه مجبرًا نفسه على إنهاء الأمر مما جعلها تكتم ضحكة متشفية فيه.
"تسلم إيدك ياست هنادي....."
قالها وهو لا يشعر بمذاق أي شيء طالما أنه
أصبح جزء من مسرحية هزلية تُعرض أمام ابنة الذوات !...
نظر لها أيوب وقال بخشونة بعد ان راها تكتم
ضحكتها بصعوبة......
"تحبي تدوقي....."
رفضت نغم وهي تنظر ارضًا وتعض على شفتيها
امتقع وجه السيدة هنادي وهي تحسم قرارها
النهائي دون رجعة فيه.....
"انا كنت عيزاكي في موضوع ياصفية...."
"خير ياحبيبتي....."
قالت هنادي بعزم.....
"بصي بقا المثل بيقول اخطب لنفسك
ومتستناش حد يخطبلك....."
انعقد حاجبا نهاد... فتدخلت مصححة...
"هو المفروض اخطب لبنتك ولا تخطبش لابنك....."
قالت هنادي بجدية.....
"دا كان زمان غيروها يانهاد... وبقت اخطب لنفسك...."
سالتها والدته مشوشة.....
"انا مش فاهمة حاجة ياهنادي ياختي....."
ضاقت عينا أيوب بترقب وشعر أن القذيفة ستُلقى الآن في وجهه...
قالت هنادي بجذل.....
"انا عايزة اخطب أيوب إبنك ياصفية....."
سالتها والدته حذرة....
"لمين ياختي ؟....."
قالت بتبرم مشيرة على نفسها بجراءة.....
"هيكون لمين ياختي..... ليا انا طبعا....."
خيم الصمت على الجميع وافواههم مفتوحة من الذهول.....والصدمة الكبرى....
سعلت نغم فجأة وقد توقف الطعام في حلقها فاحمرّ وجهها وازداد سعالها حدة فنهضت نحو الممر الذي ينتهي بالمطبخ...
لم تكن تريد شيئًا سوى الاختباء في مكان ما بعد هذا المشهد المريع...
لحق بها أيوب وهو لا يزال في حالة صدمة من جرأة هذه السيدة...
ظن أنها مجرد أزمة منتصف عمر ستنتهي عاجلًا أم آجلًا لكنها تبدو وكأنها اختارت التعايش معها لفترة أطول وهو جزء من ذلك !...
"نـغـم..... انتي كويسه....."
وجدها ترتشف من كوب الماء وهي توليه ظهرها فاقترب منها وعاد يسألها بقلق...
فوجدها تستدير إليه وتنظر له لثوانٍ معدودة ثم انفجرت ضاحكة بملء شدقيها...
جفل أيوب وهو ينظر إليها للحظات يتأمل ملامحها الضاحكة ورنّة ضحكتها المميزة وعينيها الرماديتين الباسمتين...
من قال إن الشتاء فصل كئيب وحزين ياتي
الآن وينظر إلى عينيها الرماديتين حين تضحك تلمع كـسماء غائمة تطل منها أشعة الشمس خلسة ويزهر الضباب نورًا....
"يخربيت ضحكتك......"
تعليق جعلها تتوقف فجأة عن الضحك وهي تدرك فعلتها....فقالت بتلعثم....
"افتكرت حاجة ضحكتني...."
"مفيش حاجة تضحك اكتر من اللي
حصل برا....."... ثم اضاف أيوب بمزاح
"شوفتيها وهي بتطلب ايدي من أمي
ياترى هياخده رأيي ولا هيغصبوا عليا..."
نظرت له نغم بصمت ثم انفجرت مرة اخرى ضاحكة.....ضحك معها وهو يمسك يدها قبل
ان تسقط ارضًا....
أيوب عبد العظيم يتساهل مع السخرية منه
بل يساهم في الأمر ببضع كلمات حتى يراها تضحك مرة أخرى !....
أما عن وضعه الحقيقي فهو يرغب في التخلي عن آدميته ويطلق شياطين غضبه على تلك المرأة المتصابية...
والتي وضعته في موقف لا يحسد عليه
أمام الجميع....
مسحت عينيها الدامعه....
"عمري ما تخيلت اني اشوف موقف زي ده..."
التوى فم ايوب مستهجنًا.....
"ابقي تعالي عندنا كل يوم.... هتلاقي فقرات
من دي كتير....."
اعتذرت نغم بحرج....
"انا آسفة بجد مقصدش اتريق...الموقف
طريف..."
وافقها الرأي باستهزاء....
"هو طرائف وعجائب فعلا....."
صاحت صفية في وجهها بغضب وغيرة
الأم.....
"تتجوزي مين ياوليه....تجوزي ابني....انتي
عارفه انتي عندك كام سنة.....وعارفة ابني
عنده كام سنة...."
قالت هنادي بلا مبالاة....
"عندي تمانية واربعين.....وايوب تلاته وتلاتين....."
قالت ندى بصدمة....
"فرق خمستاشر سنة....."
اشارت هنادي على عباءتها البراقة وقالت
بصلف....
"وإيه يعني....بذمتكم باين عليا....."
هتفت صفية بتشنج......
"انتي ناويه تشليني ياولية...ياولية دا انتي يامه شلتي على دراعك وهو صغير...."
"وبعدين تعالي هنا...انتي ناسية جوزاتك السنين اللي فاتت....ابني هيبقا رقم قام
ياهنادي....."
ارتفع حاجب هنادي متعجبة وبوقاحة
قالت....
"لا اله الا الله.... ياختي هو انا طلباه في الحرام....دا انا طالباه في الحلال...وبعدين
هو راجل ومن حقه يختار...لما أسمع
رده الأول أحكم....."
خرج ايوب إليهم وحده وهو يقول بنبرة
صلبة كالفولاذ وملامحه جافية قاسية....
"ردي معروف ياست هنادي انا طول عمري
باعتبرك زي أمي.....ولولا الجيرة والعشرة اللي بينا انا كنت رديت رد تاني.. رد مكنش هيخليك تعرفي تبصي لنفسك تاني
في المراية....."
أصفر وجه هنادي وتجمدت ملامحها لبرهة
ثم قالت بكبرياء مهشم....
"بقا كده يا أيوب....طيب انت الخسران
ومش مسمحاك على كسرة قلبي..."
سحبت الطبق من على السفرة ثم ضمّته إلى صدرها بحرقة وخرجت أمام أعينهم باكية
بكسرة نفس.....
علقت نهاد......
"كسرت قلبها ؟!..."
بينما سألت ندى....
"انت وعدتها بحاجة يا بوب...."
أخرس أيوب التوأمان بنظرة ونبرة
حادة....
"اخرسوا مش عايز حد فيكم انتوا الاتنين يفتح السيرة دي ولو حتى من باب الهزار سامعين.."
تنهدت الام قائلة برفق.....
"روق يابني هي طول عمرها عقلها خفيف..
بس طيبة والله وحظها قليل....ربنا يهديها
الوحدة تعمل اكتر من كده...."
لم يعقب أيوب على الحديث فهو ايضا يتعاطف معها رغم كل شيء حدث
منها....
سألته نهاد...
"هي فين نغم صحيح....."
"راحت تغير هدومها عشان ماشيه....."
رن جرس الباب اتسعت عينا ندى بربية.....
"الست هنادي رجعت تاني؟!....."
هز أيوب راسه قائلا بحزم.....
"معتقدش....ادخلوا جوا دا الضيف اللي انا مستنيه....."
انصاعوا لأمره بينما فتح هو الباب بعد لحظات ليجد ضيفه المنتظر أمام بابه على مقعده المتحرك برفقة سائقه الخاص...
"اهلا بـ كمال الموجي......"
رحّب به أيوب وهو يفتح الباب على مصراعيه يدعوه للدخول.. سأله كمال بلهفة وملامح القلق مرتسمة بوضوح على وجهه المجهد.
"بنتي فين يا أيوب ؟......"
.................................................................
أوقف السيارة فجأة وبقوة، مما جعلها تميل إلى الأمام وكاد رأسها أن يصطدم. نظرت إليه بحنق فرأته يخرج من السيارة تاركًا إياها دون تعليق.
نظرت حولها لتجد نفسها أمام البحر مباشرة في مكان هادئ شبه خالٍ...
جزّت على أسنانها وهي تترجل من السيارة صافقة بابها بقوة خلفها، مما جعله يدير رأسه وينظر إليها بغضب، وسيجارة في فمه ينفث من خلالها ما يعتريه.
لا تصدق ما حدث للتو! كيف سحبها من ذراعها وأخرجها من القاعة أمام أنظار الجميع، وكأنه وصيٌّ عليها، وله الحق في تهذيبها إن أخطأت؟
وما هو الخطأ في مشاركة أصدقائها الفرحة؟ هل رآها تقف بين الشباب مرتدية بدلة رقص؟
الوقح لم يمنحها فرصة لتودع صديقاتها ! وضعها في موقف لا تُحسد عليه وهو يسحبها خلفه كالبهيمة.
"ممكن افهم اي اللي انت عملته ده ؟!..."
وقفت بجواره تلقي هذا السؤال بتمرد وقدمها تدب في الأرض بغيظ شديد...
أحرقت فتيل صبره فصاح وهو يقف قبالتها
والبحر على الجهة الأخرى تثور أمواجه على الصخور...
"بتسألي على اللي انا عملته ومخدتيش بالك من اللي انتي هببتيه....."
اهتاجت صارخة بتشنج.....
"اي المشكلة يعني لما أفرح مع صحابي...."
صاح ياسين بغيرة وعينان تنفثان نارًا...
"تفرحي مع صحابك بانك ترقصي وتفرجي الشباب عليكي....دا اللي متفقين عليه قبل ما نخرج؟...إيه مستصغراني أوي كده...يدوبك ديرت وشي عملتي ما بدالك...."
انفعلت أبرار أكثر ودون تفكير قالت بصوتٍ متحدٍ...
"اي ما بدالي دي ما تحترم نفسك....شوفتني واقفه ببدلة رقص....."
رنّ الصمت بينهما بعد جملتها المخجلة فرمشت بعينيها عدة مرات غير مستوعبة
ما نطقت به بتسرع...
على هدير الموج الحاد تزامنًا مع تعليقه الساخر...
"ونعمة التربية والله.."
أبعدت عينيها عنه بحرج تنظر إلى البحر الهائج والسماء المظلمة فوقهما تزينها نجوم الليل ورائحة اليود ورذاذ الماء، جميعها أشياء تمنح السكينة وتخفف التوتر لكن طالما هي معه فالوضع يختلف مائة وثمانون درجة...
تاففت أبرار وهي تقول بنفاد صبر.....
"انا مقصدش....بس انت.....انت بتخرجني
عن شعوري.... "
صاح ياسين بجنون....
"وانتي بتخرجيني عن طوري...."
لمعت عيناها السوداوان بالدموع وهي تقول بوهن...
"انت ليه محبكها أوي كده.....المفروض انت تكون اكتر واحد فاهمني....ومتعملش زي ما بابا بيعمل زي زمان كده....."
مسح ياسين وجهه بكلتا يديه وهو ينظر إلى البحر قائلًا برجاحة عقل...
"زمان كنا صغيرين كنا بنعمل كل مصيبة وتانيه من وراه بس عمرنا ما قللنا من
احترامه ولا إحترام بعض...."
سألته بعدم فهم.....
"ودلوقتي ايه اللي اختلاف ؟...."
هتف بملامح واجمه......
"دلوقتي إحنا كبار وكل كلمة ونظرة وتصرف بحساب مبقناش صغيرين يا أبرار....."
"ابوكي مش وحش هو خايف عليكي....
بيحافظ عليكي عشان انتي أغلى حاجة عنده.... والمفروض تقدري ده..... بدل ما
انتي شايفه الموضوع سجن وكبت حرية....."
رفعت حاجبيها بصدمة وقالت بإنكار...
"انا مقولتش كده...."
هزَّ رأسه وهو يفترس وجهها وعينيها بنهم
قبل أن يقول بنبرة عميقة خاصة...
"مش محتاجة تقوليها بلسانك... عنيكي قالتها وانا افهمك من نظرة....بس من نظرة اترجم اللي جواكي..."
إبتسمت باستخفاف قائلة.....
"والله وحضرتك دارس بقا علم نفس؟...."
حدق بها ياسين للحظات دون تعبير
مقروء ثم قال باستياء.....
"حقيقي اغبى واحده قابلتها..غبية بجد...."
اتسعت عيناها بصدمة، ثم جُنَّ جنونها وهي تلكم صدره بغيظ...
"وانت قليل الذوق روحني....خلص الزفته
دي وروحني....."
نفخ الدخان في وجهها باستفزاز سعلت وهي تضربه مجددًا هائجة.....
"بكرهك يا ياسين...... بكرهك... "
رد عليها بكرهٍ مماثل.....
"وانا مش بقبلك.....ساقعة....."
"انت اللي ساقع وتلم.......غور.... غور...."
بدأت تثور أكثر بجنون تدفعه بعنف لكنه كان كالجدار لا يتزحزح بل يضحك بأسلوب مستفز وهو يسحب نفسًا عميقًا من سيجارته لينفث الدخان ببطء مستمتع بإغاظتها....
"في حاجة يا آنسه هو بيضايقك ولا إيه؟...."
انتبه ياسين إلى الصوت فالتفت نحو الرجل الذي مر بجوارهما. وتوقف عندما راهم هكذا فسأل بريبة... بينما تجمدت أبرار في مكانها
تنظر إلى الرجل ببلاهة.
رفع ياسين حاجبه باستنكار وصاح بنبرة
كالسيف القاطع.....
"وانت مال أمك....."
رد عليه الرجل بملامح تنذر بالشر....
"الله دا انت بتحلو قدامها...طب ما تيجي
على جمب كده ونتفاهم راجل لراجل....."
"ومالوو....."
بتأهب اقترب ياسين منه... لكن أبرار وقفت حاجزًا تمنع الاصطدام قائلة بصوت مرتجف
بتأهب اقترب ياسين منه... لكن أبرار وقفت حاجزًا تمنع الاصطدام قائلة بصوت مرتجف
"لا هو مش بيضايقني دا أصلا اخـ......"
أبعدها ياسين من أمامه دافعًا إياها خلف ظهره وأكمل الجملة قائلاً بخشونة
"مـراتـي وبينا سواء تفاهم وبنحلوا.....انت بقا
عايز إيه؟....."
تراجع الرجل وارتخت ملامحه المشدودة وعلت نظراته لمحة تفهّم فقال....
"هكون عايز إيه.....انا افتكرتك بضايقها بس طالما جماعتك...يبقا لمؤاخذه....."
"مؤاخذتك معاك..... بسلامة....."
قالها ياسين وهو يراقب الرجل يبتعد متابعًا طريقه دون أن يلتفت لهما مرة أخرى...
أحمر وجه ابرار بخجلا وهي تقول
بامتعاض.....
"مراتك إيه انت اتجننت.....احنا ولاد عم واخوات مفيش اكتر من كده....."
تشنج فك ياسين بغضب خفي وهو يقول
بأسلوب مماثل بارد.....
"وانا مش طمعان في أكتر من كده دا كفاية ان إحنا ولاد عم دي لوحدها مخلياني اعصر على نفسي سبت لمون.....يلا عشان أروحك.."
استقلا السيارة جوار بعضهما بملامح متجهمة وكلا منهما لديه أسبابة الخاصة...
غمغمت أبرار بسخط.....
"قال جماعتك قال....."
قال ياسين بزهو وهو يهندم ياقة
قميصه......
"انتي تطولي اصلا تبقي جماعتي...."
اجابت أبرار بثقة لا تخلو من العناد....
"أطول......وطول أطول من كده كمان....."
انطلق ياسين بسيارته ولم يعقّب على جملتها غير راغب في مجاراتها لا بنفس أسلوبها المستفز ولا بعكسه ولا حتى بالحقيقة التي تعجز عيناها عن رؤيتها ولا يستشعرها
قلبها !
يبدو أن عليه أن ينسى تلك المشاعر ويزيل آثارها..
..............................................................
كانت تستلقي على الفراش بجسدٍ منهك وملامح ارتسمت عليها خطوط الحزن والعجز... عقلها يدور في زوبعة من الأفكار
أما عيناها فتنظران إلى البعيد بشرود. بين أصابعها سيجارة تحرق صدرها بها...
أخذت شروق نفسًا طويلًا من السيجارة وزفرت دخانها على مهل وهي تنظر إلى
عدة أوراق زهيدة بجوارها...
ماذا ستفعل؟ كيف ستدبر مكانًا آخر بهذا المبلغ البسيط؟ ومن سيساعدها؟
أحد الجيران مثلًا؟!..
في هذه الأيام أصبح كل شيء بمقابل مدفوع. سابقًا... هكذا علمتها الحياة. وهي أصبحت مطمعًا لجميع رجال الحي بعد أن كسبت قضية الخُلع وتحررت من (حنش).
وهي لن تضع نفسها وابنتها عرضة لأي شخصٍ هنا مهما كانت بأمسّ الحاجة للعون...
سمعت طرقًا على باب غرفتها ومحاولة فتحه. أطفأت السيجارة سريعًا وألقتها من الشباك وهي تلوّح بيديها في الهواء كي تزيل رائحة الدخان...
حسنًا، لم تكن مدخنة يومًا، لكنها أصبحت... عادة اكتسبتها بعد الزواج، بعد إصرار زوجها على أن تشاركه ما يتعاطى. وكان أولها السجائر، وقد جربتها وأعجبتها !...
وأراد حنش وقتها أن يجعلها تجرّب المزيد أكثر من ذلك، لكنها امتنعت. تحمد الله أن كان هناك ذرة عقل تعمل لديها، وإلا لكانت تشاركه الآن الزنزانة المجاورة بتهمة تعاطي الممنوعات !...
ماذا فعلتِ بنفسك يا شروق؟ دمرتِ حياتك باسم الحب، وألقيتِ نفسك في وكر رجلٍ شقي يلعب مع الشياطين ولا يفرق بين الحلال والحرام. كيف خدعكِ باسم الحب؟ وما الذي أعجبكِ به؟
هل كان وسيمًا؟... كانت تفوقه جمالًا وجاذبية وتعجب جميع رجال الحي، من أصغرهم إلى أكبرهم، عند زفافها من حنش...
كان أصلع وقصيرًا، وتفوح منه رائحة الفسق. هل خدعها بكلامه المعسول ونظراته الجريئة؟ أم لأنه كان يهابه جميع من في الحي؟ كان بهيئة فتوة... فتوة ظالم يكرهه الجميع...
يكرهه الجميع وأحببته هي... هي الحورية الجميلة كما كان يلقبها والدها والجميع من بعده...
أحبت صعلوكًا وسلمت له أمرها فجعل منها حطام أنثى نسيت كيف تكون. وأصبح كل ما يشغل عقلها الآن إعالة نفسها وابنتها ووجود سقف بيت يظللهما...
أصبحت أحلامها بائسة مثلها... مثلها تمامًا...
فتحت شروق الباب فوجدت ابنتها أمامها تنظر إليها بعبوس، سائلة
"قافلة الباب ليه يا ماما؟..."
أجابت شروق بهدوء
"عادي يعني يا ملك... كنتي عايزة حاجة؟"
هتفت ملك بملامح منبسطة
"إزاي مش سامعة الباب وهو بيخبط... وصوت تيته؟..."
امتقع وجهها وهي تردد بوجوم
"تيته؟!..."
أومأت ملك برأسها بسعادة
"تيته عنايات برا... وعايزاكي..."
أحد أسباب دمار حياتها وغلبها في الحياة... هذه المرأة الجبارة التي ما زالت تطاردها باستماتة لتنهي المتبقي منها...
كانت تجلس على المقعد كحاكم جبار تنظر إلى أنحاء الشقة نظرة صقر يبحث عن فريسة يلتقطها.... ممتلئة الجسد، حادة النظرات، سمراء البشرة، ولديها ندبة بشعة عند صدغها اكتسبتها من أحد المعارك التي خاضتها...
رسم الزمن عليها خطوطًا عريضة منفرة للناظر تحكي عن امرأة خاضت معارك ليست شريفة فقط لأخذ رزق لم يُكتب لها !.....
"أهلًا وسهلًا..... نورتي يا أم..... ممدوح...."
نطقت شروق الاسم بصعوبة وكأنه ثقل نطقه على لسانها بعدما كانت في الماضي تتغنج في كل حرف بها !....
نظرت لها عنايات بكرهٍ لن تقدر على محوه منذ أن وقعت عيناها عليها كزوجة لابنها والغيرة والحقد ينهشان قلبها نحوها....
"اهلا بام ملك....عاش من شافك.....مبتجيش
ليه تزوريني....وتجيبي حفيدتي معاكي..."
قالت شروق واجمه...
"مش فاضية ما انتي عارفه الشغل...."
سألتها بنظرة اتهام صريحة.....
"ويطلع إيه الشغل ده؟....."
ردت ببرود....
"محل..... واقفه فيه بيع وشِرى....."
ضمت عنايات حفيدتها الى صدرها وقالت
بنبرة حنونة.....
"ملوكه حبيبة تيته....انا وفيت بوعدي وبكرة معاد الزيارة وهاخدك معايا...."
بهت وجه شروق متوجسة وهي تسأل...
"زيارة إيه؟.....وتاخديها معاكي فين بظبط؟."
ردت عنايات بنبرة قاسية ونظرة جافة....
"تشوف أبوها ويشوفها.....الزيارة بعد بكرة.....طبعا متعرفيش مواعيد زياراته ماهو من ساعة ما تسجن مروحتيش شوفتيه ولا حتى قومتي ليه محامي.. "
وزعت الصغيرة نظراتها بينهما بقلق بينما أضافت عنايات بكراهية....
"أول ما وقع... رفعتي عليه قضية خلع وفضحتيه في الحته كلها...."
نهضت شروق بعصبية تصيح بأمر
نحو ابنتها.....
"ادخلي جوا ياملك دلوقتي....."
وقفت الصغيرة أمامها تدبِّدِب في الأرض بقدمها وهي تقول بتمرد....
"انا عايزة اشوف بابا ياماما...عايزة اروح
مع تيته.."
عادت تصرخ شروق بأمر قاطع....
"خشي جوا ياملك....."
واجهت أمها بعناد تجرحها بتعلقها وحبها لأبيها وجدتها....
"انا اللي طلبت من تيته تاخدني معاها....بابا وحشني...انا عايزة اشوفه....."
تشنَّج كل عصب في جسد شروق فأعادت الكرة بنفاد صبر...
"جوا ياملك....جوا دلوقتي.....يلاااا...."
"يلاااااااااا.. "
ركضت الفتاة وهي تشهق باكية بحرقة، تغمغم بكلمات الاعتراض والغضب، بينما نظرت عنايات إلى تمرد الصغيرة برضا تام وكأنها كانت تريد التأكد من شيء... وتأكدت.
نظرت عنايات إلى شروق التي تقف في مكانها بملامح متجهمة تحدق في الباب المغلق على ابنتها بعجزٍ وقهرِ أم...
"البت بنت أبوها وستها وانسي انك تقويها علينا.. دي بنتنا من دمنا ولحمنا.... ومصيري هاخدها منك واحرمك منها العمر كله....."
أوغر صدر شروق بالغيظ والكره فقالت
باهتياج.....
"بنتي مش هتروح معاكي في حته..... دي بنتي... بنتي انا... انا اللي ربيتها وكبرتها.... وهتفضل في حضني محدش هيقدر ياخدها مني.."
قالت عنايات بتسلط جبار.....
"بنتك في حضنك بمزاجي انا.... وانا لو قلبت عليكي وربك ما هتشوفي ضوفرها...."
خفق قلب شروق بهلع وزاغت عيناها للحظات فأضافت عنايات بتوعد شرس...
"وحرقة قلبي على ابني ياشروق لو ما جيتي
معايا انتي وبنتك الزيارة دي لا هقلب عليكي
قلبة عنايات الجيار..... وقلبتي انتي مجرباها
كتيير...."
جزّت شروق على أسنانها متحدثةً بجسارة أتتها في غمرة رفضها بما يفرض عليها...
"اجي معاكي انا وبنتي.... لا... مبقاش في بيني
وبين إبنك حاجة.... دا حيلة كان جوزي وخلعته بحكم من المحكمة.."
هتفت عنايات بجفاء وهي تقف أمامها.....
"لسه حساب ندلتك دي معاه هو... مش شاغلني هو يخلصه بمعرفته... انا ليا في حفيدتي بنت ابني وطالما طلبت تشوف أبوها... يبقا هتشوفه غصب عنك... سامعة...."
صاحت شروق معترضةً بمرارة كالعلقم
في الحلق......
"كفاية افترى بقا حرام عليكي...انتي عايزة
إيه مني مانا سبتلك كل حاجة عزالي
وصيغتي وابنك سبتهولك بمصايبة اللي مبتخلصش.....عايزة إيه تاني....."
"ملك....حفيدتي.....مفضلش غيرها....."
قالتها بصوت صارم تعلن عن حكم سينفذ عاجلا ام أجلا....
واجهتها شروق وجهٍ لوجه بشراسة أم....
"دي أغلى عندي من كنوز الدنيا...واستحالة أفرط فيها....واسيبهالك تطلعيها زي ما طلعتي إبنك...."
اتسعت عينا عنايات فاضافت شروق
بجراءة لأول مرة معها....
"تربيتك خسيه ياعنايات وشوفتها في إبنك...."
رفعت عنايات يدها لتخرسها بصفعة قاسية، لكن شروق اعترضت، ممسكة بمعصمها بقوة تمنعها بعينين تشعان شررًا
"إيدك لاقطعهالك....تكونيش فكرة اني لسه زي مانا هاخد منك القلم ولا القلمين وهحط عيني في الارض واسكت....
" كان عندي زمان اللي اخاف عليه لكن دلوقتي البيت اللي كنت خايفة يتخرب بسببك هديته انا بايدي فوق راسكم ومشيت...."
"فبلاش خيالك يصورلك اني هسكت وهطاطي تاني......"
سحبت عنايات معصمها بعنف وهي تقول
بعداء......
"هطاطي يابنت الكلب......انتي روحك في ايدي.."
ردت لها الصاع صاعين وهي تدفعها نحو
الباب باشمئزاز....
"أبويا مش كلب يابنت ستين كلب....اطلعي برا...اطلعي براااا....بقولك.......برااا....."
قالت عنايات بوعيد قاسٍ قبل ان ترحل.....
"ورحمة الميتين ياشروق لدفعك التمن غالي اما خدتها منك ورميتك لكلاب السكك تنهش لحمك مبقاش انا عنايات الجيار....."
أغلقت شروق الباب في وجهها وأسندت ظهرها عليه، بينما كان صدرها يغلي كأتونٍ حارق، وجسدها ينتفض بانفعال. تركت العنان لدموعها، فبدأت تبكي وتشهق، وهي تنزلق ببطء إلى الأرض، جالسةً تضم ساقيها إلى صدرها، بينما الدموع تنهمر على وجنتيها بلا توقف.
الى متى ستظل تدفع ثمن هذا الاختيار؟ ألم
تسدد الفاتورة بعد؟.......الرحمة يالله....الرحمة
لا أريد غيرها......
.......................................................
"يعني إيه هتفضلي من غير اكل انتي عايزة
تموتيني بحسرتي....."
قالتها شروق بحرقة قلب وهي تنظر إلى ابنتها الجالسة على المقعد أمامها بعناد، ترفض النظر إليها والحديث معها، وتمتنع كذلك عن الطعام منذ أمس... منذ أن خرجت جدتها متلقية الرفض القاطع من أمها.
هكذا أخبرتها أمها أنها ترفض ذهابها إلى أبيها تبعدها عنه وعن كل ما يتعلق به.
أمس لم تميز حديثهما فقد كانت منكبّة على وجهها فوق الفراش تبكي وتغمغم بكلمات غاضبة، ولم تسمع إلا صراخ كلتيهما على بعضهما، كعادتهما كلما اجتمعتا.
تعلم أن جدتها لا تحب أمها لأنها عنيدة وتجادلهما دائمًا على أتفه الأسباب كما
أخبرتها جدتها.
لماذا تتصرف أمها بهذا العداء؟
جدتها ليست سيئة، ولا والدها... إن كل ما حدث كان غلطة غير مقصودة. وجدتها أخبرتها أن والدها تغير وأصبح شخصًا أفضل بعد هذه الأزمة التي يمر بها، والتي لم تنتهِ سنوات تأديبه منها بعد !
"طب كُلي لقمة واحده دا انا جبتلك البيتزا
اللي بتحبيها.... يلا بقا ياملوكة....."
قالتها شروق برجاء أشبه بالتذلل، وهي تنظر إلى وجه ابنتها الذي ذبلت ملامحه وأصبح هزيلًا بشكل موجع للقلب...
أدارت الصغيرة وجهها إلى الجهة الأخرى مصممة على ممارسة الصمت العقابي...
لمعة عيون شروق بقهر وهي تقول
بلوعة....
"حرام عليكي ياملك ليه بتعملي فيا كده..
انا أمك هو انا عدوتك...انا بحميكي منهم
انتي مش عارفة انا بحبك قد إيه وروحي
فيكي إزاي....ردي عليا ياملك....."
مسكت ذقنها وأدارت وجهها إليها لتواجه عيني ابنتها وهي تقول بخيبة أمل...
"ورثتي العند من ابوكي والقسوة من عنايات.."
"مروثيتش حاجة مني ياملك حتى ملامحك
نسخة منه وكأني ببص في عنيه دلوقتي...."
صاحت الصغيرة بتمرد تسألها....
"انت ليه بتكرهي بابا اوي كده....بابا مش وحش اديلو فرصة وسامحيه زيي...عشان
خاطري....."
قالت شروق بنظرة حانية....
"طب كلي.....كلي وبعدين نتكلم...."
امتنعت ملك بضيق...
"مش عايزة أكل....انا عايزة أشوف بابا...
عايزة اشوفه مع تيته....."
رفضت شروق بغضب.....
"لا.....لا مفيش مرواح عنده لا....."
عقدت ملك ذراعيها امام صدرها بتحدٍ
تقارعها بقسوة......
"خلاص وانا مش هاكل لحد ما أموت...."
شعرت بوخزة في قلبها فور نطق ابنتها بكلمة (الموت) فقالت باكية...
"بعد الشر عليكي....اهون عليكي ملك...."
هتفت ملك بـ عصيان....
"مش هاكل غير لما توعديني اننا هنروح
بكرة مع تيته......"
نظرت لها شروق بحيرة كبيرة فقالت
ملك بترجي حاني....
"اوعديني ياماما....انا متاكده انك مش هتخلفي وعدك معايا....اوعديني اننا هنروح
بكرة عشان خاطري وافقي....."
نظرت لها شروق للحظات بتِيه فزمت الصغيرة فمها بحنق وأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى، مصممة على رأيها...
"حاضر هنروح بكرة.....أوعدك.....بس كلي..."
تهللت أسارير ملك بالفرح وهي تقبّل أمها وتعانقها بقوة...
"بجد ياماما....بحبك أوي.....انتي احسن
ام في الدنيا......"
بادلتها شروق العناق، وهي تخفي دمعة هربت من سجنها المشدد... دمعة خوف من مواجهة مخاوفها. بعد ثلاث سنوات، ستقابل حنش.
كيف للإنسان أن يشعر بالأمان وهو يقترب بخطواته رغمًا عنه من وكر الثعابين؟ كيف يواجه ما نجا منه بأعجوبة !...
أعطتها شروق قطعة من البيتزا فقالت ملك وهي تأخذ قطعة أخرى وتقدمها لأمها في اعتذار بريء يلمع في عينيها...
"هتاكلي معايا....."
أومأت لها شروق بالموافقة وهي تأكل من يدها ثم بادلتها بإطعامها بيدها أيضًا... بينما عقلها وقلبها في دهاليز مظلمة لا يستشعرها
سواها....
............................................................
ترجلت من الحافلة المكتظة برفقة ابنتها أمام مبنى ضخم قديم موحش الهيئة وإن تصورت ما بداخله تصبك رجفة النفور والرهبة...
السجن... في طفولتنا كان مصدر إرهابنا قصة مخيفة عن فتاة وحيدة وذئب جائع، أو عن ساحرة مخادعة وأطفال في مأزق...
كنا نظن أنها أكثر الأشياء رعبًا، لكن كبرنا وتبددت مخاوفنا، وعلمنا أنه خيال... وأن الواقع أكثر إرهابًا...
والمبنى القابع أمامها هو أكثر الأشياء رعبًا وإرهابًا. للسجن رائحة غريبة، عفنة، لا يشمها إلا الحُر، أما من اعتاده، فلا يجد فرقًا...
هذا المكان يعطيك دروسًا قاسية، هنا يعلمك أن لكل خطأ ثمنًا يُدفع من عمرك، حتى لو ارتُكب عن طريق الخطأ... لن يتغير شيء في السداد !
هنا يخبرك أن ماضيك لن يعود، وأن مستقبلك مشوش بنظرات المجتمع والحياة...
هنا لن تبقى كما أنت، ولن تخرج كما دخلت. خللٌ سيصيبك، وعالمٌ آخر سيترك ندوبًا عميقة خفية في روحك...
الحياة مليئة بالمخاوف لكن هذا المكان أكثر إرهابًا وخوفًا بالنسبة لها...
"ماما تيته اهيه......"
انتفضت شروق وهي تدرك أنها غرقت في دوامات من المخاوف والقلق كلما اقتربت خطواتها من هذا المكان... ومن ستراه بعد قليل، مرغمة...
رفعت عينيها لتجد عنايات تنتظرهم عند الباب وفي يدها تصريح الزيارة. ألقت بسمة شماتة
مع نظرة جافة قاسية...
عندما وصلا إليها التقفت حفيدتها بين ذراعيها
وهي تقول بتشجيع على العصيان...
"جدعة ياملك....عرفتي تجبيها....شاطرة...."
همست لها الصغيرة ببراءة....
"عملت اللي قولتيلي عليه بظبط ياتيته...ووافقت فعلا......"
قبلتها عنايات بفرحة عارمة......
"جدعة....جدعة ياحبيبة تيته...."
ظلل نظرات الصغيرة الندم وهي تقول.....
"بس ماما صعبت عليا أوي ياتيته....وعيطت كتير.."
همست بضغينة...... "ولسه....."
نظرت لها الصغيرة بعدم فهم..
ضللتها عنايات بنفس البسمة المتلونة...
"لسه لما نخطط انا وانتي ازاي نرجعها لبابا...مش انتي عيزاهم يبقوا مع بعض تاني....."
اومات الصغيرة بملامح منبسطة متمنية.....فاضافت الجدة بمكر الأفاعي....
"يبقا تسمعي كلامي....ماشي ياحبيبة تيته..."
"بتتهمسوا كدا ليه.......بقا بينكم أسرار؟..."
تساءلت شروق بملامح مكفهرة كارهه هذا القرب بينهما......
استقامت عنايات أكثر في وقفتها وقالت بنظرة ظافرة...
"حاجة زي كده.....جيتي يعني...كان لزوموا ايه نشفيت الدماغ ما كان من الأول....."
هتفت شروق بازدراء.....
"جيت عشان ملك بس.....ودي هتكون الزيارة
الاولى والاخيرة....."
"ومالوو زي ما تحبي يامرات ابني....."وقبل أن ترد شروق عليها.. سحبت الصغيرة من يدها ودخلتا معًا تاركتين إياها خلفهما....
خفق قلبها بقوة كعصفور مذعور في قفصه
وهي تراه يقترب منهم بنظرة قوية وبسمة
قاسية... بلعت ريقها مرتبكة مبعدة أنظارها
عنه.
"بابا.... بابا......"
ركضت الصغيرة نحوه فضمها إلى صدره، مقبلًا إياها باشتياق حار وهو يدقق النظر في ملامحها التي لم يراها منذ ثلاث سنوات. ولم يكن اختياره، بل كان قسرًا من قِبل أمها.
"كبرتي ياملك.... كبرتي وبقيتي عروسة...."
لامست الصغيرة وجه أبيها بأناملها الرقيقة قائلة ببراءة ومحبة...
"وانت اتغيرت اوي يابابا....."
نظر ممدوح الى والدته قائلا بلؤم....
"أكيد للاحسن... ولا تيته مقالتلكيش.... انا مبلغها تقولك كل حاجة...."
ضحكت عنايات غامزة لحفيدتها التي
قالت بلهفة.....
"قالتلي.... وحشتني اوي يابابا..."
"وانتي كمان ياحبيبة بابا...."
ضمها الى صدره بقوة....ثم فصل العناق ووقف امام والدته التي القت نفسها في احضانه قائلة بوله...
"ازيك ياحبيبي.... عامل إيه....."
ربت على كتفها مبادلًا إياها العناق مجيبًا عليها وعيناه تفترسان من تقف خلفهما خانعة صامته
حتى الآن...
"بخير يامه.... طول ما انتي بخير... انا بخير...."
ابتعدت والدته عنه وهي تنظر بطرف عيناها الى غريمتها بحقد !...
"ساكته يعني ياشروق....لا سلمتي ولا سألتي
عن حالي..."
سألها ممدوح وهو يقف أمامها يقطع المسافات
بينهما... توترت شروق وهي ترفع عينيها الزائغة عليه.
أضاف هو بنبرة خشنة مثخنة بالجراح....
"كنت فاكر ان بعدك عني هيخليكي زي الوردة الدبلانه..... بس عيني عليكي باردة... احلويتي
بعد الطلاق.... قصدي الخلع.....دا حب جديد؟..."
صاحت والدته بتحذير وهي تنظر الى الصغيرة...
"ممدوح....."
ابتسم ممدوح ببراءة.....
"بهزر يامه....ما ملك عارفه اني بحب الهزار...."
"تعالي ياملك هوريكي حاجة....."سحبتها جدتها لمكانًا ما فقالت ملك باعتراض.....
"هنروح فين ياتيته.....انا عايزة قعد مع بابا.. "
"شوية وهنرجع..... تعالي بس...."
جلس ممدوح على هذا المقعد الخشبي مشير اليها بالجلوس ففعلت بصمت
"هتفضلي ساكته كتير؟......"
"عامل ايه ياممدوح......"
قالتها بصعوبة بوجه ممتعض......
همس بفحيح الأفاعي.....
"عايز ادبحك واشرب من دمك....."
ارتعشت برهبة وهي تنظر إليه بجفاء فقابل جفاؤها بنظرة سفاح قائلاً بوعيد شيطاني
"انا تخلعيني يابت.....وعرش ربنا....ماهتعدي على خير......مصيري هخرج وهطلع عليكي القديم والجديد...."
قالت شروق بجمود...
"انا مبقتش على ذمتك ولا ليك كلمة عليا.."
لمعة عيناه بنشوة الانتقام قائلا...
"ليا بنتي اللي هترجعك مزلولة تحت رجلي...."
أحمر وجهها بانفعال وهتفت من بين
اسنانها.....
"بنتي هتفضل معايا....حضنتها معايا ملكش انك تاخدها مني....."
حدق بها بنظرة مشحونة بالغضب وقال بتهديد
صريح.....
"لو طلعت امها ست مش تمام بنفس القانون اللي خلعك مني هياخدها من حضنك ويرجعهالي ويسجنك....يسجنك هنا.... عشان ميبقاش حد احسن من حد..اي رأيك...."
اتسعت عيناها محاولةً استيعاب ما تفوَّه به للتو بينما شحب وجهها وهربت الدماء من عروقها وهي تتخيَّل وضعها إنْ نَفَّذ تهديده... وهي على يقينٍ من أنه لن يتردَّد في فِعلها !
"حرام عليك...انت عارف اني أشرف من الشرف..."
التوى فك ممدوح قائلا بازدراء...
"لا بعد اللي عملتيه معايا لا انتي شريفة ولا تعرفي حاجة عن الشرف...."
نهضت شروق بعصبية وقالت بحدة...
"أحترم نفسك وابعد عن طريقي انت وامك...وبلاش تقسي وتعصي بنتي عليا....."
نهض خلفها مجيبًا بأمر مفروغ منها ...
"بنتنا وتخصنا... ومصيرها ترجع لبيت ابوها وستها....."
لوحت بيدها في وجهه.....
"انت بتقول إيه دا بعدك......"
ابعد يدها عن وجهه قائلا بسخرية سوداء...
"عاملة نفسك حنينة أوي...وانتي قاتلة أخوها
بأيدك دول......"
وضعت يدها على بطنها تلقائيًا وقد جف حلقها بتوتر وهي تبعد عينيها عنه.....
"قولتلك اني سقط مقتلتش حد....."
جادلها ممدوح باستنكار.....
"واللي شافوكي وانتي داخله عيادة الدكتورة إياها وبلغوني بالعملية اللي عملتيها عشان تخلصي على اللي في بطنك وتكسبي قضية الخلع..... كل ده وانا مرمي هنا بين أربع حيطان...."
أوغر صدرها مستهجنة وهي تلقي اللوم
عليه....
"مش مرمي ظلم مرمي عشان مشيك البطال والحرام اللي غرقان فيه...ولا تكونش فكرني
هبلة هصدق زي العيلة انك توبت وتغيرت
لا مبقتش اشتري من الكلام ده.. "
زجرها بغضب متأجج......
"تشتري ولا تبيعي حتى....حسابك تقل معايا ومصيري مخلصه وانا عارف هجيب مناخيرك الأرض إزاي....."
"وابني اللي قتلتيه بدم بارد....هخليكي تبكي ندم عليه العمر كله... اصبري ياشروق مش هرحمك وعرشه ما هرحمك......"
ابتسمت ببرود وهي تظهر نفسها بصورة المرأة التي لا تقهر وبجسارة قالت....
"اعلى ما في خيلك اركبه.....مش شروق اللي ترجع تاني تلحس التفه من على الأرض....
وانت بنسبالي ياحنش فترة وعادت....."
مسك ذراعها بقوة يهزها بهمجية قائلا
بتملك.....
"انا كل الفترات ياروح امك....ومتخلقتش لسه المرا اللي تعصى عليا....."
نزعت معصمها من بين يده بقوة وهي
تقول بنبرة تقطر ندم.....
"كان أكبر غلط اني اجي لحد هنا.....وغلطة العمر اللي بدفع تمنها لحد دلوقتي اني ربط نفسي بيك وجنيت على عيلة زي دي بانك
تكون أبوها...."
ابتعدت شروق عنه باحثة عن ابنتها تنادي
عليها بهيستيرية
"ملك.....انتي فين ياملك....."
وأمام عينيه المشتعلتين أخذت ابنتها وخرجت دون رجعة... أما هو فشعلة الانتقام بداخله أصبحت نافورة بركانية متأججة لن تندلع
الى فوقها هي ومن أحببت !...
..........................................................
أشعل الضوء ودلف إلى الغرفة البسيطة الملحق بها حمام ومطبخ صغير غرفة تليق بأعزب مثله، تلائمه... تلائم الظروف التي
نشأ فيها.
دارت عيناه في أنحاء الغرفة غير المرتبة وهو شارد الفكر. كان صوت الهواء القادم من نافذة الغرفة يتسلل من بين قطعة زجاج مكسورة ومفقودة... وجد الهواء طريق العبور خلسة، كما وجدت الوساوس طريقها إليه !
ماذا فعل؟!
ضاع كل شيء... العمل مع أيوب، صداقة أيوب، وقد فقد احترام عائلة الحاج عبد العظيم ذلك الرجل الذي سانده بكرمٍ وشهامة رجال السواحل، وأكمل ابنه الطريق بعد وفاته ولم يتركه الى هواه !
لكنه اختار هواه في النهاية... وخسر نفسه وخسر النقطة البيضاء في حياته عائلة عبد العظيم... وخسرها.
وخسارة الدكتورة نهاد لا تُقدَّر بثمن. يشعر وكأن الحياة ألقت به في العراء، في أرضٍ مقفرة لم يعد بها حياة... طالما هي لم تعد فيها !
وقعت عيناه على المكان الذي كانا يقفان
فيه يتجادلان
كان جدالًا حادًا ومشاعر رغم قوتها مهشّمة كان أمامها ضئيلًا جدًا قد وُضع نفسه في موقفٍ أثبت بجدارةٍ أنه لا يستحق شيئًا
وأن الفرصة معه مضيعةٌ للوقت.
كانت عيناها رغم العتاب وخيبة الأمل المشعّة منهما نحوه تصرخان بالعاطفة... بعاطفة تظن أنها تخفيها عنه بمهارة لكنها لم تختفِ يومًا كلما التقيا.....
نهاد ليست مجرد أنثى تكنّ له مشاعر نهاد وجعٌ يسكن أعماقه خسارةٌ مُرّة المذاق... خسارة لم يراهن عليها ولم ينتظرها لكنها
في قاموسه تُعدّ خسارة جسيمة... خسارة
لا يتقبلها !...
ألقى سلامة جسده المنهك على الفراش وقد تمكّن منه الإرهاق ينهش في جسده وروحه والأفكار تعصف في عقله بلا رحمة، وكأن الحياة بأكملها قد تآمرت ضده لتلقي به في هذه اللحظة... وحيدًا... تائهًا بلا وجهة.
بلا وجهة محددة...
أغمض سلامة عينيه بتعب مستسلمًا للنوم لتمر الدقائق قبل أن يشعر بمن يقتحم الغرفة واضعًا في اللحظة التالية المدية الحادة على عنقه.
فتح سلامة عينيه بصدمة هاتفًا بدهشة
"ذكي؟!...."
هتف ذكي بغضب والشرّ يتطاير من عينيه.
"اه ذكي.....اللي استغفلته انت وصاحبك وطلعتوا سارقين خاتم الماظ....بس شوف
ربنا كشفكم على حقيقتكم...."
أبعد سلامة المدية عن وجهه ونهض ليواجه صديق السوء الذي يترنّح أمامه ويبدو أنه تعاطى الكثير اليوم. المخدّر يحرّضه على إثارة المشاكل وقد أتى إلى الشخص الخطأ... إلى من يتصارع مع نفسه الآن !
"يا فيها...يا اخفيها....."
قالها ذكي وهو يلوّح بالمدية وكاد أن يجرح صدر سلامة لكن الأخير تفادى الطعنة بصيحة حادة متراجعًا للخلف بسرعة
"انت اتهبلت يالا....انت شارب إيه بظبط..."
صاح ذكي بعينين ثملتين بنشوة المخدّر..
"بقولك إيه متفوقنيش عليك...هات نصيبي
من العكمة اللي خدتوها سوا...."
ترنح في وقفته وكأنه على وشك فقدان السيطرة على نفسه وعقله !...
"انا اصلا اللي مرسيك على الحوار كله..لولاي مكنش حد فيكم وصل لحاجة....اديني
نصيبي وتقي شري..."
تافف سلامة مزمجرًا بنفاذ صبر....
"لسه بيقولي نصيبي... هو محدش قالك ان الخاتم رجع لصحابه عشان أيوب يخرج....."
أومأ ذكي وهو يقول بعيون تشع تهورًا...
"اه بس انا عارفك ابن حرام وتلاقيك مقمر حاجة هنا ولا هنا....انت هتغلب يعني..."
احمر وجه سلامة غضبًا وهو يدفعه
نحو الباب.....
"ذكي ابعد عني متخلنيش أغيب عليك.."
لم يبتعد سوى خطوة واحدة وهو يقارعه
بنبرة شيطانية مهددًا...
"دا انا اللي هغيب على أمك....ولا أطلع باللي معاك...."
شهر ذكي المدية الحادة في وجه سلامة، فتمتم سلامة بوجهٍ متجهم.....
"جاي تثبتني في بيتي؟... انت اتهبلت؟!...."
رد ذكي باستخفاف....
"ومالوا الجو ساقعه محبتش انزلك من البيت....."
"وبتهزر كمان ؟!... "
عاجله بلكمة قوية أسفل عينه جعلته يترنّح متراجعًا خطوتين إلى الخلف.
حدّق ذكي به بغضبٍ وشر، ثم صاح وهو يقترب منه على نحوٍ مفاجئ
"بشوقك بقى... طلبتها ونولتها... "
وكأن العقل قد تلاشى أمام جنون اللحظة. تحركت يده بالمدية بسرعة البرق ، وأصابه بطعنة في جانبه، جعلت الدماء تتدفق بغزارة، ملوّنة قميصه بلونها القاني.
ابتلع ذكي ريقه بخوف، متراجعًا إلى الخلف بصدمة، وقد أفاق من أثر المخدر وهو يحدّق في الدماء التي تسيل من سلامة...