رواية ابتليت بها الفصل الثامن 8 بقلم قطر الندي

 

رواية ابتليت بها الفصل الثامن بقلم قطر الندي



كانت عقارب الساعة تقترب من السابعة مساءً حين بدأت حنين
 في التجول داخل غرفتها بخطوات متوترة.
 أمام خزانة الملابس المفتوحة، تكدست الفساتين على السرير 
كأنها تتشاجر فيما بينها على 
فرصة ارتدائها. 

يداها ترتجفان قليلًا، وعقلها مشغول بتفاصيل لم تكن تُلقي لها بالًا من قبل… أي فستان يمكن أن يُشبهها الليلة؟ وأي لون قد يُدهشه؟

أخرجت فستانًا أسود مخمليًا بسيطًا، ثم وضعته جانبًا. بدا لها رسميًا أكثر من اللازم. 
تناولت فستانًا آخر بلون الزمرد، تذكرت حين ارتدته يومًا ما، وامتدحته صديقتها، لكنها ترددت.

 "هل سأبدو متكلفة؟" همست لنفسها، قبل أن تعود للبحث كمن ينقّب عن مرآته الداخلية.

استقر بها القرار أخيرًا على فستان بلون العاج، ناعم، طويل ينزلق على الجسد برقة، 
بأكمام شفافة مطرزة خيوطًا 
ذهبية باهتة.

جلست أمام المرآة، تمشط شعرها بأنامل متوترة، كل خصلة تنسدل كأنها تُهيئ نفسها للعرض. 

وضعت لمسات خفيفة من التجميل، لم تكن بارعة في هذا العالم، لكنها الليلة أرادت أن تكون أقرب للأنوثة التي تحلم بها.

حين انتهت، نظرت إلى انعكاسها في المرآة للحظات صامتة. لم ترَ مجرد فتاة تستعد للخروج…
 بل رأت امرأة تقف على حافة مشاعرها، تتأرجح بين الجفاء الذي يلف فؤاد، 
والرغبة الغامضة في أن تكون ذات أثرٍ في قلبه.

نزلت درجات السلم ببطء. كل خطوة كانت ثقيلة بحسابات خفية. ارتفع صوت كعبها الرقيق على الرخام، فتوقف الحديث في الصالة لثوانٍ قصيرة. 

كان فؤاد يقف قرب البيانو، ببدلته الداكنة وأناقة هادئة كعادته، يتحدث مع كامل. التفت تلقائيًا حين سمع وقع خطواتها.

وقفت عند نهاية السلم، تنظر إليه في ترقّب صامت… عيناها تائهتان تبحثان عن تعبيره، كأنهما تستنجدان بإيماءة، بكلمة، بأي شيء يؤكد أنها اختارت الفستان المناسب، أو أن حضورها لفت انتباهه حقًا، وبينهما…

 صمتٌ قصير، مشحون، أبلغ من أي مجاملة عابرة.
اقترب منها بخطوات ثابتة، وعيناه تلتقطان تفاصيل حضورها دون أن يفصحا بشيء. وقفت تنتظر كلمته، حتى وإن كانت مجرّد "تبدين أنيقة" أو "مساؤك جميل". 

لكنه، كعادته، اكتفى بإيماءة خفيفة برأسه، ثم قال بلهجة رسمية هادئة:
— السيارة بانتظارنا.

لم تُظهر خيبة أملها، لكنها شعرت بها تلسع قلبها بخفة. 
تبعته بصمت، خطواتهما ترددت 
بين جدران القصر، كأنها عزف أوبرالي خافت لا يسمعه سواهما.
 فتح لها باب السيارة بنفسه، فشكرته بنبرة خافتة، ثم جلست إلى جواره، تراقب ملامحه الجانبية الصارمة تنعكس في زجاج النافذة. لم يتحدث، واكتفى بتشغيل الموسيقى الكلاسيكية بهدوء. تاهت نظراتها إلى الخارج، وأضواء المدينة تنعكس على بشرتها الناعمة، بينما كان هو يسرق النظر إليها حين تختلس اللحظة من سكونها.
كان يشعر بها، كما يشعر بكل شيء، لكنه حبس اضطرابه خلف جدار حديدي من الانضباط. قلبه الذي أنقذها ذات ليلة، يحاول الآن النجاة من أن يتورّط معها ثانية.
تساءل في سرّه: كيف استطاعت هذه الفتاة أن تحفر لنفسها فجوة في عالمه الصارم؟ وكيف باتت قريبة منه لهذه الدرجة؟
أراد أن يقول شيئًا... أي شيء. لكنه اختار الصمت، متمسكًا بصورة الرجل الهادئ، الذي لا يهتزّ.
وعلى الجانب الآخر، كانت هي تخوض صراعًا من نوع مختلف. نصفها يتمنى أن يُبادر، والنصف الآخر يرتعب من أن يخدعها مجددًا ذلك الوجه الصارم… نفس الوجه الذي لم يمنع عنه دمعة واحدة حين رآها مختطفة.
🌹🌹🌹

وصلت السيارة إلى أمام القاعة الكبرى. موسيقى خافتة تسربت من الداخل، وأضواء ذهبية تناثرت من نوافذ الزجاج، كأن المساء ينتظر حضورهما ليكتمل. ترجل فؤاد أولًا، ثم مدّ يده إليها… يدٌ ثابتة، حازمة، لكنها حين لامست يدها، تسللت رعشة خفيفة، لم يلحظها أحد، سوى قلبين كانا يخفيان الكثير.
قاعة الحفل بدت كأنها قطعة مرصعة من زمن آخر، سقفها العالي يقطعه ضوءٌ كهرمانيّ ناعم، ينسكب من ثريات بلورية ضخمة تتدلى كما لو كانت شموسًا معلقة. على الأرض، امتدت سجادة قرمزية تنزلق فوقها خطوات المدعوين، موسيقى كلاسيكية شجيّة تنبع من قلب المسرح حيث الأوركسترا بدأت بعزف مقطوعة تشايكوفسكي الافتتاحية، والأنغام تعانق الأرواح بصمتٍ مهيب.
دخل فؤاد وحنين معًا، بخطوات ثابتة ومتحفظة. كانت ترتدي فستانًا أنيقا، بسيط القصّة، فخمًا في حضوره، تُزينه لمسة حرير خافتة تلمع تحت ضوء الشموع. رفعت شعرها على هيئة كعكة ناعمة، وتركت خصلة واحدة تنسدل على جانب وجهها. لم تتجرأ على النظر مباشرة إلى فؤاد، خشية أن يفضح بصرها التوتر الذي كتمته طويلًا. أما هو، فبدا كعادته متماسكًا، ببدلته السوداء، يخفي اضطرابًا داخليًا لا يُرى، إنما يُشعر. نظر إليها للحظة، بعينين غامضتين، لم يكن فيهما إعجاب واضح ولا مديح، بل شيء أعمق… كأنه يرى فيها ذكرى، أو شيئًا لم يكن يتوقع حضوره بهذا الجمال في حياته. تمتم بصوت خافت وهو يعرض عليها ذراعه:
"هل تسمحين لي أن أرافقك إلى مقاعدنا؟"
أومأت بصمت، ثم شبكت ذراعها بذراعه. تلك اللمسة البسيطة أشعلت نارًا خفية تحت قشرة الجليد التي طالما تظاهر كلاهما بها. سار بها بين صفوف الحاضرين، وكان بعضهم يهمس، يلتفت، يبتسم بتكهن. من منهم يعرف؟ ومن يظن أنه يعرف من يكون "السيد فؤاد"؟
جلست بجانبه، بينما الفرقة تعلو بعزفها إلى قمة العاطفة، صوت الكمانات يُلامس حدود الحنين، كما لو أن اللحن يعرف ما يُخفيه قلبها. حاولت التماسك، أن تنشغل بالموسيقى، ألا تلتفت إلى قربه، إلى سكونه، إلى عبق العطر الرجولي الذي لا يُشبه أحدًا سواه.
وحين غمرت الموسيقى المكان بموجتها الأخيرة، وصفق الجمهور بحماس، لم تصفق حنين، كانت يدها على صدرها، تنظر إلى الأمام، لكنها كانت هناك… في مكان آخر، حيث الخيال يغمرها بصورة رجل ملثم، قوي الذراعين، دافئ النظرات… صورة رجل أنقذها، وحملها كأنها أثمن ما في الكون.
لكن ماذا عن الذي يجلس إلى جوارها الآن؟
أليس هو…؟ أم أن الحكاية أعقد مما تبدو عليه؟
أغمض فؤاد عينيه لوهلة، يحاول أن يستنشق السكينة من بين النغمات… دون جدوى.
الليلة ليست للموسيقى فقط، الليلة، قلوب كثيرة تعزف لحنها الخاص، خلف الأقنعة.

في عتمة الغرفة الفاخرة، وحده الضوء الخافت القادم من المصباح الجانبي يسكب دفئه على ملامح رجلٍ مستلقٍ في سريره، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، تحدّقان في السقف كأن عليهما أن تقرآ أسرار قلبه التي استعصت عليه.
فؤاد لم ينم بعد. لم يستطع.
الليلة حملت معها شيئًا مختلفًا... حفلة الأوركسترا كانت أنيقة، نعم، والموسيقى فاخرة، أكيد… لكن تلك اللحظات التي جلس فيها إلى جانبها، حنين، في مقعد ضيق يتسع لأصوات الكمان والعاطفة معًا... كانت ساحرة. 
استعاد صورتها، متألقة في فستانها، بملامح خجولة وناضجة في آنٍ معًا. كم تمنّى أن يقترب أكثر، أن يراها تبتسم له وحده، أن يطيل النظر في عينيها دون أن يتظاهر بأنه يلتفت إلى المسرح.
لكن أكثر ما علق في قلبه… لحظة العودة.
الممر الطويل الذي سلكاه معًا خارج القاعة، خطواتهما المتناغمة، صمتهما المربك...
كانت يده قريبة جداً من يدها. أقرب مما يجب.
"كاد أن يتهور."
تذكر جيداً كيف تشنجت أنامله وهو يقاوم الرغبة الملحة في أن يلامسها، فقط لمسة خفيفة... ربما على ظاهر كفها، كأنها محض صدفة، أو ربما يمسكها بلطف كما يفعل العشاق حين يهمسون بالصمت.
"يا للغباء..." تمتم وهو يضع ذراعه فوق عينيه. لا زال يجهل أين تقف حنين منه.
لكن ما يعرفه تمامًا، أن هذه المرأة... لا تشبه أحدًا. وأنه، رغم كل ما عاشه، يكتشف نفسه من جديد في حضورها.
التف على جنبه، يده تتسلل بغير وعي إلى الوسادة المجاورة… كأنها تبحث عن يد لم تكن هناك.
ابتسم بسخرية من نفسه، ثم أغلق عينيه على صورة لها وهي تنظر إليه في تلك اللحظة داخل القاعة، عندما باغته الإعجاب في عينيها واختبأ خلف الجدية.
– "لو فقط استطعت أن أخبرك... أنني لست كما أبدو."
غفا أخيرًا... لكنه لم ينجُ من حضورها حتى في أحلامه، ابتسامتها، خطواتها، صوتها وهي تقول "أترك لك القاعة"... كل ذلك جاءه في الحلم…
فاستسلم أخيرًا، كأن قلبه وجد زاويته الآمنة بين طيات الوسادة وهدير الذكرى.
🌹🌹🌹

في الصباح الهادئ، حين كانت أروقة القصر لا تزال تغفو تحت ضوء الشمس المتسلل بين ستائرها المخملية، خرجت حنين بخطوات خفيفة، تتبع أثر الفضول الذي قادها إلى الطابق الأرضي، حيث تقع قاعة الرياضة الخاصة. كانت ترتدي بذلة رياضية بسيطة، شعرها مربوط بعشوائية، وملامحها تحمل أثر السهر الطويل، لكن خلف تعب النظرات، سكن تصميم جديد. ليلة الأمس لم تمر كما توقعت. صحيح أن الموسيقى كانت ساحرة، وأن فؤاد عاملها باحترام واضح، إلا أنها لم تشعر بأنها لامست شيئًا فيه، لم تشعر بنظره يتوقف عندها كما تفعل نظرات النساء الأخريات عليه حين تمر أمامه، لم تكن تلك اللحظة التي تُرى فيها كامرأة… بل كأنها كانت مجرد ظل أنيق لليلة أنيقة.

وقفت أمام المرآة الواسعة في طرف القاعة، تراقب انعكاسها، تتحسس ذراعها، خصرها، منحنياتها التي بدت لها باهتة تحت ضوء الفساتين المكشوفة والمجوهرات البراقة في الحفل. لم تكن ناقمة على نفسها، لكنها أدركت أن في هذا العالم المليء بالفاتنات، لا يكفي أن تكون فقط "لطيفة" أو "مجتهدة"… بل يجب أن تُرى.
صعوبة نزع فستان السهرة الليلة الماضية عالقة في ذاكرتها، ذلك القماش الضيق عند الظهر، الخيوط التي استعصت على أصابعها المرتبكة، واللحظة التي فكرت فيها للحظة… ماذا لو كان هناك من يساعدها؟
هزّت رأسها لتطرد الفكرة، ثم تقدمت نحو جهاز المشي، لم تستخدم مثله من قبل، ترددت لحظة قبل أن تضغط على زر التشغيل. بدأت الخطوات بطيئة، خجولة مثلها، ثم تسارعت مع دقات قلبها التي أخذت تدبّ فيها حياة لم تشعر بها منذ زمن.
ركّزت عينيها على نقطة ما أمامها، بينما العرق بدأ يبلل جبينها بخفة. كانت تشعر بضعفها، نعم، لكنها شعرت أيضًا بشيء آخر… برغبة صامتة في التحوّل. أن تصبح أقوى، أكثر جرأة، أكثر حضورًا. لا لأجل رجل معين، بل لأجل نفسها أولًا… ثم ربما، من يدري؟ من أجل أن يشعر هو أيضًا، في لحظة ما، بأنها ليست مجرد فتاة أخرى مرت في حياته ثم اختفت خلف الظل.

في الخارج، كان الصباح لا يزال يمد أنفاسه الدافئة على النوافذ…
أشعة الصباح تسلّلت بلطف عبر نوافذ القصر العتيق، تراقصت فوق الأرضيات المصقولة وألقت بريقًا خفيفًا على وجه فؤاد وهو يهمّ بالخروج من القصر، القميص الأبيض مفتوح الزر الأعلى، نظراته هادئة كعادته… حتى التقى بآدم.
توقّف الحارس بتحية سريعة، تملّكها شيء من التوتر الغريب، ثم قال بهدوءٍ يشوبه بعض التحفّظ: صباح الخير، سيدي. أردت فقط أن أخبرك أن الآنسة حنين… في قاعة الرياضة.
تجمد فؤاد في مكانه لثانية. لم يظهر شيء على وجهه، لكن داخله كان كمن لسعه تيار كهربائي.
قاعة الرياضة؟ في هذا الوقت المبكر؟ وحدها؟
لم يجب فورًا. فقط أومأ بامتنان وواصل طريقه، إلا أن خطواته باتت أبطأ قليلاً، أكثر تفكيرًا.
كان ينوي المغادرة إلى اجتماعه المبكر… لكن فجأة لم تعد الورقة التي أعدها بالأمس بالأهمية نفسها.
عاد أدراجه بخفة إلى جناحه، ألقى نظرة سريعة على المرآة، عدّل من ياقة قميصه، نثر قليلاً من العطر على معصميه، ثم نزل بخطى واثقة ولكن متوترة. مرّ قرب القاعة بصمت، وقف خلف أحد الأعمدة الرخامية، ومن هناك… رآها.

كانت وحدها…في ركن القاعة، شعرها المشوش يتمايل مع حركتها، خطواتها مترددة على جهاز المشي، ووجنتاها تلمعان ببريق خفيف من التعب. لم تكن رياضية بارعة، لكنه رأى فيها شيئًا عذبًا… تلك المحاولات العفوية، الجادة، المرهقة، التي تحمل خلفها رسالة صامتة لا يقرأها إلا من يملك قلبًا… أو عينين مثله.
انتقلت إلى جهاز آخر، أثقل، وكانت تحاول رفع الأوزان الصغيرة برعشة خفيفة في ذراعيها النحيلتين.
فؤاد، الذي رأى النساء في أبهى حالاتهن… لم يشعر بالمرح كما شعر الآن وهو يراها تنهك نفسها، تتأوه من العياء بصوت خافت، ثم تنهض من جديد وكأنها تقاتل شبحًا في داخلها.
ابتسم…همس لنفسه: 
– تظنين أن الجمال يُصنع في الصالات؟ مازلتِ لا تعرفين شيئًا عن السحر الذي يسكنكِ.
لم يستطع البقاء متفرجًا طويلًا. فتنفّس بعمق، وأدخل يديه في جيبيه، ثم تقدّم بخطوات مفتعلة الصوت، كأن وجوده هناك صدفة بحتة.
وقف عند الباب وقال بنبرة فيها مزيج من المفاجأة والهدوء:
– أوه… لم أكن أعلم أن القاعة مشغولة في هذا الوقت.
استدارت حنين بسرعة، واللهاث يغطي أنفاسها، وجبهتها المتعرقة تعكس لحظة ارتباك نادرة.
قالت، بصوت مكسور بين الاعتذار والدفاع:
– أنا… لم أكن أنوي إزعاج أحد. فقط… أردت تجربة بعض الأجهزة…
اقترب منها، نظراته أكثر رقة من المعتاد، ثم رد بابتسامة جانبية وهو يلتقط منشفة صغيرة ويمدّها لها: بالعكس، أنا من اقتحم خلوتك. لكن لا بأس… يمكننا مشاركتها. وعد، لن أعلق على اختيارك للأوزان.
ضحكت بخفة وهي تأخذ المنشفة، خجلها يذوب بين السطور، بينما قلبه يدق ببطء، كما لم يفعل منذ زمن بعيد.
لم تُجبه، لم تعلق، فقط أخذت المنشفة منه بلطافة وتجنّبت التقاء نظراته. تعثّرت الكلمات في حلقها وهي تبحث عن شيء تقوله، شيء يُبقي الجو طبيعيًا رغم اضطرابه في داخلها، لكن لا شيء بدا مناسبا. نظرت نحو الجهاز ثم نحوه… ثم ابتسمت ابتسامة سريعة وقررت الانسحاب.
قالت بخفة وهي تمسح جبينها:
– أظن أنني اكتفيت لليوم… شكراً على "المشاركة".
ثم أضافت بنبرة حيادية، مصطنعة الهدوء:
– أترك لك القاعة، سيد فؤاد.
ومضت... كأنها تهرب من سحرٍ يوشك أن يُسلبها السيطرة على ذاتها.
تركت وراءها عطراً خفيفاً ومشهدًا صامتًا لرجلٍ ظلّ واقفًا في مكانه، يحمل نظرة غريبة بين الحيرة والخيبة. تبع خطواتها بعينيه، ثم زفر ببطء. هو الذي جاء متسللاً، فقط ليملأ عينيه منها، فقط ليكون على مقربة.
هو الذي وقف كصبيّ يختبئ خلف الأعمدة… ثم أضاع الفرصة بلعبة الصدفة.مدّ يده نحو أحد الأجهزة وكأنّه كان على وشك البدء، لكنه سحبها مجددًا.
ما الجدوى؟ لم تبقَ هنا.شدّ ياقة قميصه بضيق، التفت ببطء وغادر القاعة.
في طريقه إلى السيارة، حمل هاتفه، تصفح إشعارات العمل… ثم تمتم في داخله:– أحمق…
صعد إلى مقعده الأمامي، أدار المحرك، وقاد نحو مقر عمله. لكن في مرآة السيارة الجانبية… لم تفارقه صورة ابتسامتها الوجلة، ولا صوت خطواتها وهي تبتعد عنه، وكأنها تسحب معه شيئًا من روحه.
🌹🌹🌹

في فيلا ماركو، روما –الأنوار خافتة، وزجاجة نبيذ نصف فارغة تعكس وهج المدفأة. جلسته، كالعادة، متقنة. كتفاه للخلف، ساقاه متصالبتان، والهدوء المشوب بالتفكير يغلف المكان.
رفع هاتفه ببطء، ضغط على الاسم المحفوظ: "Behzat – Istanbul. »
رنة... رنتان... ثم جاء الصوت من الطرف الآخر، أجش ومتململ:
– "صباح الخير سيدي؟"
لم يتكلم ماركو فورًا. أخذ رشفة قصيرة من كأسه، ثم بصوت رخيم هادئ لا يحمل أي انفعال:"لقد احترقت ورقتها. الليلة... نُنهي دور سوزي."
سادت لحظة صمت على الطرف الآخر، قبل أن يرد بهزات، بنبرة فهمت الخطر جيدًا:
– "كما تأمر سيدي."
ماركو:"لا أريد جلبة. ولا دماء في الممرات. اجعلها تبدو كحادث... أو خيانة. أنت تعرف جيدًا كيف يُفهم الدرس دون أن يُقال."
بهزات، بضحكة خفيفة لم تخلُ من خبث:
– "أعدك... لن ترى سوزي بعد اليوم."
أغلق ماركو الخط دون وداع. رمق الهاتف بنظرة جامدة، ثم نهض وتقدم نحو النافذة. خلف الزجاج، شوارع روما الهادئة بدت كأنها ترقص في بُعدٍ آخر…لكن في عينيه لم تكن هناك مدينة، ولا ضوء… فقط خطوة أخرى نحو القضاء على الماضي.

يقترب النهار من نهايته،تفتح أبواب القصر الثقيلة وتدخل ليلى، الخادمة السابقة التي خدمت والدتها هنا قبل سنوات، ترتدي ملابس متواضعة لكن تحمل في عينيها نظرة حاسمة. تحمل بين يديها ظرفًا صغيرًا.
تتوقف للحظة، تلتقط نظرة خاطفة على حنين، تتذكر شيئًا، ثم تبتسم في سرها كأنها وضعت علامة في ذهنها.
تهمس لنفسها: "هذه البداية فقط."
في الصالون الفسيح المضاء بضوء الشمس المتسلّل من النوافذ العالية، جلست ليلى بثبات مصطنع على طرف الأريكة المخملية، تمسح بأناملها الغليظة على كعب حذائها المتواضع، في حركة بدت تلقائية لكنها تخفي ارتباكًا داخليًا كانت تُجيد تمويهه.
دخل آدم، متجهًا نحوها بهدوء حذر، وقال دون أن يرفع صوته:
"انتظري هنا، السيد فؤاد لم يصل بعد."
اكتفت بإيماءة خفيفة، ثم راقبته يبتعد. نظرت حولها بعينين تفحصان الزوايا والتفاصيل، كأنها لا ترى الجمال بل تقرأ خريطة فرص ومكائد.
همست لنفسها وهي ترفع حاجبها الأيسر بمكر:
"حنين... الطفلة المدللة في هذا القصر. لا تدري أن وقت اللعب قد انتهى."
ثم مالت للأمام، تشبك أصابعها وتبتسم ابتسامة باردة."ديلارا تظنني أداة، لكنها لا تعرف أن لي طموحات لا تنام. سأكون أكثر من مجرد عين تتلصص… هذه المربية المسكينة؟ ستكون بوابتي."
رفعت رأسها فجأة عندما مرت خادمة بالقرب منها، وعادت لابتسامتها الوديعة المصطنعة، كأن شيئًا لم يكن.

في ختام النهار، حين بدأت الشمس تميل نحو المغيب، مضفية على القصر مسحة ذهبية حانية، عاد فؤاد بخطى متزنة إلى القصر. بدا عليه الإرهاق الخفي، إرهاق لا تسببه الاجتماعات أو الملفات، بل تلك المعارك الصامتة التي يخوضها داخله. فتح باب مكتبه بهدوء، ودخل دون أن يضيء الأنوار. كان ضوء المغيب يتسلل من النوافذ الزجاجية الواسعة كافياً لرؤية الطريق إلى مكتبه، حيث ألقى سترته على المقعد الجانبي، ثم جلس ومرر يده على وجهه المتعب.
بعد ثوانٍ قليلة، طرق الباب بخفة، ثم دخل آدم دون انتظار إذن. بدا عليه التردد، لكنه تكلم بصوته المعتاد الصارم:
– "سيدي... هناك من جاءت تطلب مقابلتك منذ الظهيرة. فتاة تُدعى ليلى."
رفع فؤاد رأسه ببطء، حاجبه الأيمن ارتفع بتساؤل لم يُفصح عنه.
– "ليلى؟"
أومأ آدم:– "قالت إنها كانت تعمل في القصر قديماً... خادمة. لكنها لم تذكر السبب الحقيقي لقدومها. جلست في الصالون ولم تغادر رغم مرور الوقت."
صمت فؤاد برهة، حدق في الفراغ، كما لو كان يسترجع اسمًا انزلق من ذاكرته.
ثم نهض، قائلاً:– "دعها تنتظر دقائق أخرى، ثم أدخلها."
تردد آدم لحظة، وكأن في قلبه ما يريد قوله، لكنه آثر الصمت، واكتفى بالإيماء. غادر بهدوء، بينما بقي فؤاد واقفًا بجانب النافذة، يراقب خيوط الشمس الأخيرة وهي تختفي وراء الأشجار الكثيفة. أحس أن هذا اليوم لا يُشبه سواه، وأن زيارة هذه الفتاة، ليلى، تحمل بين طياتها أكثر مما يبدو.
همس لنفسه:"ليلى... لماذا الآن؟"
ثم التفت، واستعد لمواجهتها.

رمشت ليلى ببطء، ثم اقتربت خطوة من المكتب، تسللت ابتسامة خفيفة إلى زاوية شفتيها، تلك الابتسامة التي لا تنتمي للود بل لما هو أدهى. وضعت حقيبتها الصغيرة على طرف المقعد دون أن تجلس، ثم قالت بصوت ناعم يحاول أن يبدو عابرًا، لكنه كان مشحونًا بتلميحات مقصودة:
— "قد لا تروقك المفاجآت، لكني أظنك ستتذكر هذه جيدًا، فالأمر لا يخصك أنت، بل شقيقك… السيد مراد."
رفرف جفن فؤاد بخفة. لم يتحرك من مكانه، لكنه لم يقطع النظر عنها.
أكملت ليلى، كأنها تريد ربط خيط ماضٍ بحاضر مرتّب بعناية:
— "قبل عام تقريبًا… بعد رحيل والدتي بأيام قليلة، ظهر مراد فجأة عند باب غرفتي في الطابق السفلي. لم يكن أحد يعلم. لم يكن من المفترض أن يأتي. لكنّه جاء. وقال كلامًا… لا يمكن نسيانه."
رفعت نظراتها إليه، تراقب وقع كلماتها على وجهه الجامد.
— "قال لي إن الناس هنا ينسون بسهولة، أما هو… فلا. وأنه يرى فيّ شيئًا يستحق الفرصة، وأنه سيبقى على تواصل معي بشرط أن أترك القصر."
تنهدت ببطء، ثم أكملت بنبرة ذات وقع خاص:
— "ومنذ ذلك اليوم، لم تمر ثلاثة أشهر دون أن أستلم اتصالًا أو رسالة منه… حتى بعد سفره المفاجئ. بقي يتواصل. ليس دائمًا، لكن بما يكفي لأدرك أنه لم ينسَ ما وعدني به."
ثم نظرت في عيني فؤاد مباشرة، ورفعت ذقنها بثقة:
— "أنا هنا لأن السيد مراد وعدني بأنه لن يتخلى عني مهما حدث. وقد آن الأوان أن أطالب بما وعد به."
ساد الصمت للحظات. لم يتزحزح فؤاد من مكانه، لكن في عمق نظراته، ارتج شيء ما.
— "وإن لم يكن مراد هنا؟" سأل أخيرًا، بنبرة باردة تتحدى صدق نواياها.
فأجابته بنفس الهدوء:
— "أنا أعلم أنه هناك قصر، وورثة، وأدوار تُعاد صياغتها… فأنا أستحق أن أكون بين من يشاركون اللعبة."
رمقها بنظرة طويلة، ثم قال بنبرة حادة:
— "هذه ليست لعبة يا ليلى… وإن كانت كذلك، فأنتِ لست طرف فيها."
بدت للحظة وكأنها انكمشت داخل قميصها الأنيق، انكسرت نبرة صوتها، وتراخت أطراف أصابعها على حافة المقعد. لكنها كانت تمثل ببراعة… تمثل دور الضحية، وتختار اللحظة المناسبة لإلقاء قنبلتها.قالت بصوت خافت فيه نبرة خجل مصطنعة:
— "أعلم أن الأمر يبدو… غير لائق. لكني لم آتِ اليوم لأتسول فرصة عمل، ولا لأستجدي حقًا فات أوانه… أنا هنا لأن الحقيقة أثقل من أن أتحملها وحدي."
رفع فؤاد حاجبه في صمت، لكن عينيه ضاقتا بتركيز حاد.
همست ليلى، متظاهرة بكبت مشاعرها:
— "كنت مجرد ابنة خادمة، نعم… لكنه لم يرَني كذلك. لم يكن مثل الآخرين. السيد مراد… كان يراني. كإنسانة. كأنثى. و… ذات مساء، تغير كل شيء. لم تكن نزوة. لا، لا أبالغ… كان هناك شيء حقيقي. شيء أكبر مني… و منه حتى."
سكتت، وكأنها تمنح لادعائها فرصة التسلل إلى صدق فؤاد. ثم تابعت، بنبرة أثقل:
— "لم ننهِ ما بدأ بيننا… بقينا على تواصل كما قلت لك. لم يكن وعدًا عابرًا. كان يعدني بالعودة… بحياة جديدة. لكن اختفاءه المفاجئ… ثم ما سمعته عن وفاته… كل ذلك جعلني أعيش صراعًا لا يُطاق."
رفعت يدها فجأة إلى بطنها، وضغطت عليها بخفة، قبل أن تنظر في عيني فؤاد ببطء:
— "أنا… حامل، منذ ثلاثة أشهر. ولا أحد يعرف… سواك الآن."
ارتج وجه فؤاد للحظة، لكنه أخفى دهشته خلف قناع من الصمت الصارم. في داخله، تلاطمت الاحتمالات، وغمرت قلبه موجة من الغضب البارد… ليس لأنه صدّقها، بل لأن كذبتها كانت متقنة حد الخطورة.
قال أخيرًا، بصوت مشبع بالتحذير:
— "هل تدركين ما تقولينه؟"
أومأت ليلى ببطء، ثم همست:
— "تمام الإدراك، سيدي. وأعلم أنكم في هذا القصر… لا تحتملون الفضائح."
ثم مالت للأمام، وهمست كأنها تغرس خنجرًا بلطف:
— "وأعلم أيضًا أن الطفل… سيُحسب يومًا ما على اسم عائلتكم."
ظل الصمت مخيمًا على المكتب، كأن الجدران استشعرت ثقل المزاعم التي انطلقت للتو من بين شفتي فتاة ماكرة. أما فؤاد، فجلس في مكانه بثبات مرعب، كتمثال رخام لا ينبض، لكن عينيه لم تبارحا وجهها، تقرأان الكذب خلف ارتعاش الملامح المدروسة.
وأخيرًا، نطق بصوته الهادئ الرزين، ذاك الذي لطالما أربك من يظنه سهل الانقياد:
— "إذا كان ما تقولينه صحيحًا، فلا حاجة لكل هذا التهويل… لكن إن كنتِ تظنين أن قصة مختلقة ستمكنك من دخول هذا القصر، فأنتِ تجهلين تمامًا من أكون."
حاولت ليلى الرد، لكن رفع يده كان كافيًا لإسكاتها. ثم تابع ببرود:
— "مع ذلك، لن أطردك. سأمنحك فرصة… لا لأنني أصدقك، بل لأني لا أترك خيوطًا معلقة."
صمت لحظة، ثم قال بنبرة أخف لكنها لم تفقد الحزم:
— "ستبقين في القصر… كضيفة، لا أكثر. لن تخبري أحدًا بما زعمتِه الآن. لا أحد، مهما كان. بعد شهر، سنُجري فحص DNA. إن ثبت ادعاؤك… حينها فقط سيكون لكل حادث حديث."
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتي ليلى، وانحنت قليلاً كتعبير عن الشكر، لكن في عينيها كانت النار تشتعل بفرح خبيث. أخيرًا، وضعت قدمها الأولى داخل القصر… تمامًا كما خططت، وكما وعدتها ديلارا.
رن فؤاد جرس مرتين بخفة، فدخلت إحدى الخادمات، وأشار إليها:
— "رافقي الآنسة إلى غرفة الضيوف الشرقية. تأكدي أن كل ما تحتاجه متوفر."
وقفت ليلى بثقة، ثم التفتت نحو فؤاد وقالت بنبرة متعمدة:
— "شكرًا لك، سيدي… لن تندم على مساعدتي."
أدار وجهه عنها دون رد، بينما خرجت بخطى متأنية، تحمل في صدرها نشوة النصر الأول. في الممر الطويل المؤدي إلى غرفة الضيوف، أخذت نفسًا عميقًا. كانت رائحة القصر… رائحة القوة. أخيرًا، دخلت إلى قلب الحكاية.
جلست على السرير الكبير تتأمل جدران الغرفة الفاخرة، وهمست لنفسها:
— "قريبًا… لن أكون مجرد ضيفة هنا."

في المساء، كانت قاعة الطعام تغرق في هدوء ناعم، أنوارها الذهبية تنعكس على أواني الفضة، المائدة مُنسّقة بعناية كما جرت العادة. جلست حنين إلى جانب الطفلة، تساعدها على ترتيب الملعقة والكوب أمامها، وعيناها لا تكفان عن مراقبة الباب، تنتظر قدوم فؤاد الذي عادة لا يتأخر.
لكن الخطى التي دخلت أولاً لم تكن خطواته.
فتحت الباب امرأة فاتنة غريبة الملامح، بثوب بسيط لكنه مشغول بدهاء، وخطى واثقة لا تُشبه الخادمات. لم تكن خجولة، بل بدت كأنها تعرف جيدًا ما تفعل. تبادلت نظرة سريعة مع آدم الذي كان واقفًا قرب المدخل، ثم اتجهت مباشرة إلى المقعد المقابل لحنين وجلست دون تردد.
رفعت حنين حاجبيها، لم يكن مألوفًا أن ينضم أحد فجأة إلى مائدة العائلة... خصوصًا بهذه الجرأة.
— "مساء الخير..." قالت ليلى بصوت دافئ لكن بنبرة مخفية من التعالي.
— "مساء النور..." أجابت حنين، وقد بدأت الحيرة تغزو ملامحها. حدّقت فيها للحظات، تحاول فكّ رموز هذه المرأة الغريبة.
دخل فؤاد بعدها بلحظات، أنيقًا كالعادة، وربطة عنقه أُسدلت بإتقان، عيناه انتقلت سريعًا من ليلى إلى حنين، ثم إلى الطفلة. لكنّه لم يقل شيئًا، فقط جلس في مكانه المعتاد، وتناول المنديل بهدوء.
قالت ليلى محاولة فتح الحديث:
— "البيت هنا... دافئ، ومليء بالذكريات. لطالما أحببته."
رد فؤاد دون أن يلتفت:
— "الذكريات لا تُطعم خبزًا، دعينا نتناول العشاء."
جمّدت بسمتها للحظة، بينما حدّقت حنين فيه بحذر. كان واضحًا أن وجود هذه المرأة لم يكن نابعًا من رغبة أو ترحيب… بل كأنه أمر مفروض، أو على الأقل غير مرحّب به.
لم تنطق بكلمة، لكنها شعرت بأن شيئًا ما يُخفيه فؤاد عنها. لم تكن غيورة… لكنها كانت ضائعة بين حدسها الأنثوي وإيمانه العميق بها كرجل.
من تكون هذه المرأة؟
ولماذا بدت كأن لها مكانًا قديمًا في هذا البيت؟
أسئلة كثيرة بدأت تُراكم نفسها في عقل حنين، وفؤاد… يزداد غموضًا.
🌹🌹🌹

تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل، ولا تزال أصوات الحفل تتلاشى رويدًا مع كل خطوة تبتعد بها سوزي عن فيلا رجل الأعمال ذائع الصيت. على الرغم من صخب الموسيقى والضحكات التي ملأت المكان قبل لحظات، ساد الآن حولها سكونٌ غريب… ثقيل… وكأنه يسبق عاصفة.
خرجت بخطى واثقة، كأنها ما زالت في قلب السهرة، عطرها الفاخر ينساب خلفها كذيل ثوبها الأسود الطويل، وعيناها تلمعان ببريق امرأة اعتادت أن تُخضع الرجال لا أن تُخضع. فتحت باب سيارتها الحمراء الأنيقة بانسيابية، ألقت بجهاز هاتفها على المقعد الجانبي، ثم جلست وربطت الحزام بنفَس متكاسل، قبل أن تنظر عبر مرآة السيارة إلى وجهها المنعكس.
— "أحمق… فؤاد! سيعود إليّ، الجميع يعود إليّ." تمتمت بشيء من النشوة المختلطة بالغيظ.
شغّلت المحرك، وانطلق صوت السيارة يخرق هدوء الليل الفخم في الحي الراقي. كانت تسير بسرعة متوسطة، تنظر من حين لآخر إلى طريق خالٍ إلا من الأشجار المصطفة كجنود في الظلمة، وأضواء أعمدة متباعدة ترمي بظلالها الخافتة على الإسفلت.
داخل السيارة، ساد صمتٌ ثقيل لا يقطعه سوى أنفاسها، وأغنية أوبرالية كلاسيكية تنبعث خافتة من المذياع. شعرت فجأة برعشة صغيرة تسري في جسدها… لم تعرف هل سببها الهواء البارد الذي تسلل من فتحة التهوية أم شعور داخلي لم تألفه. مدت يدها نحو الزجاجة الصغيرة في الحقيبة الجانبية، وضغطت على العطر الذي ألفه كل من اقترب منها، كأنها تخلق لنفسها درعًا جديدًا.
لكن هناك ما لم يكن في الحسبان.
عند المنعطف التالي، أبطأت سوزي دون وعي، فقد لاحظت انعكاس أضواء سيارة تسير خلفها دون أن تقترب كثيرًا، فقط تبقى على مسافة ثابتة... وهادئة. مرّت دقيقتان، وثلاث، والخلفية لا تزال تلاحقها بصمت.
ارتفعت دقات قلبها.
— "لا تكون..." تمتمت مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن في صوتها أي سخرية.
زادت من سرعتها فجأة، واختارت الانعطاف يمينًا، نحو طريق ثانوي يمر بين بستان كثيف. لكنها فوجئت بأن السيارة ذاتها تبعتها كأنها تعرف كل تحركاتها.
هنا، بدأ شيء في عقلها ينهار. تلك القوة التي طالما تسلحت بها، تلك الثقة التي صنعت بها أسطورتها… بدأت تتكسر. هي تعرف هذا الشعور… تعرف أن من قرر اللحاق بها، لا يريد الحديث.
أوقفت سيارتها فجأة، وتناولت هاتفها بيدين مرتجفتين، فتحت جهات الاتصال، كانت تنوي الاتصال ب…
لكن قبل أن تتمكن من الضغط على الزر، أضاءت السيارة التي خلفها مصابيحها العالية فجأة، ليغمرها ضوء أبيض كثيف.
وفجأة… انطفأ كل شيء.
ارتجف جسد سوزي، وبقيت يدها معلّقة في الهواء، الهاتف يهتز في راحتها بذبذبات خافتة، والمصابيح الساطعة تُعمي بصرها وتزرع في صدرها خوفًا بدائيًا لم تعشه من قبل.
دقائق بدت كالدهر مرّت… لا أحد يخرج من السيارة خلفها، لا صوت، لا حركة، فقط ذلك النور القاسي، الثابت، الذي يُجبر قلبها على القفز في صدرها مرارًا.
امتدت يدها الثانية ببطء نحو مفتاح التشغيل… لكنها لم تُكمل الحركة.
الباب الخلفي لسيارتها انفتح فجأة.
صرخة مكتومة هربت من حنجرتها، ثم تحوّلت إلى شهقة مبحوحة وهي تلتفت برعبٍ لرؤية الظلّ الذي جلس خلفها.
— "مستحيل…" همست، وصوتها بالكاد يخرج.
الظل لم يتكلم. لا حاجة للكلمات. كان الحضور كافيًا.
رجل ملثم، ملابس داكنة، جسد صلب كأنه نُحت من الحديد، لم يُظهر سلاحًا… لكنه كان أخطر من كل الأسلحة.
— "من أرسلك؟ ماركو؟" قالت بتوتر وهي تنظر إليه عبر المرآة، تُقاوم رجفة صوتها، تحاول التماسك.
لم يجبها. 
رفعت يدها بسرعة إلى مقبض الباب، حاولت فتحه… لكنه لم يتحرك.
فجأة، امتدت ذراعه من الخلف، بثباتٍ قاتل، ولفّت على عنقها دون عنف، فقط بدقة، واحتراف.
لم تستطع الصراخ. لم تستطع المقاومة. لم يكن هناك عنف، فقط نومٌ أبديٌ تسلل بهدوء كمن يُطفئ شمعة.
خرج الرجل من السيارة، ترك الباب مفتوحًا، وقف للحظة يتفقد الشارع الخالي، ثم ركب في السيارة الأخرى، التي ما زالت تنتظر كصقر أنهى مهمته بنجاح.
بقيت السيارة الحمراء هناك، تتنفس الصمت، شاهدة على نهاية امرأة خلطت بين الذكاء والغطرسة.

في مكتب فؤاد في الطابق الأرضي، صباح رمادي ثقيل، طرقات ناعمة على الباب ثم دخول ضابط بخطى محسوبة، عرف بنفسه ثم اقترب بخطى بطيئة من المكتب، وقف أمامه دون أن يُعرض الجلوس. عيناه تراقبان تعبير وجه الرجل الجالس وراء المكتب بعناية مفرطة، كأنه يفتش عن ندبة مشاعر خلف قناع السيطرة.
قال بصوت متزن:
"سيد فؤاد… نأسف للإزعاج، لكن جئنا بخصوص وفاة الآنسة سوزي."
رفع فؤاد رأسه ببطء، عيناه حادتان كأنهما تبرّدان الجو من حولهما. لم يندهش. لم يتفاجأ. لم يرفع حاجبه حتى.
ردّ بصوت خفيض، محكوم بنبرة صقيعية:
"وفاة؟ هل هناك ما يدعو للاعتقاد أنها لم تكن مجرد حادث؟"
تردد الضابط للحظة، ثم قال:
"الأمر قيد التحقيق. لكنها حاولت الاتصال بك ليلة وفاتها. مكالمة لم يُردّ عليها."
استند فؤاد إلى مسند كرسيه الخلفي، شبّك أصابعه، وتأمل الضابط طويلاً، ثم قال بنبرة تكاد تمسح أثر القلق من الهواء:
"هي من اختارت أسلوب حياتها الذي تعرفه جيدا ولم تكن ضمن أولوياتي. علاقتي بها… كانت سطحية على أفضل تقدير."
أخفض الضابط عينيه، دون أن يسجّل شيئًا. ثم تجرأ قليلًا:
"لكنها كانت مقربة من بعض المحيطين بك. وربما… كان لها دور أعمق في حياتكم مما تعترف به."
ابتسم فؤاد ابتسامة مقتضبة، دون دفء:
"الاقتراب منّي لا يعني التوغل في حياتي، سيادة الضابط. سوزي… كانت فصلاً انتهى منذ وقت. وربما كان يجب أن يُغلق قبل ذلك بكثير، هنا ليس المكان الذي تبحث عن الحقيقة فيه."
ساد صمت ثقيل للحظة، ثم نهض فؤاد واقفًا، خطوة واحدة للأمام، ببطء محسوب، ليصبح أمام الضابط مباشرة. نظر في عينيه بثبات مخيف وقال:
"إن كانت هذه الزيارة فقط لتبحث عن دموع لن تجدها، فأخشى أنك أضعت وقتك."
لم يتبقَ للضابط ما يُقال. أومأ برأسه، وغادر المكتب كما دخل: بخطى باردة، تاركًا خلفه رجلًا لم يرف له جفن، وكأن سوزي لم تكن يومًا شيئًا يُذكر.
صوت الباب يغلق خلف الضابط، وتردد خطواته على الأرض الرخامية يتلاشى.
تقف حنين عند مدخل الرواق، ترتجف بين التساؤل والصدمة، وقد ارتدت كنزة خفيفة وشعرها لا يزال مبللًا من الحمّام الصباحي، تمسك هاتفها بيد مرتجفة، وعيناها مثبتتان على فؤاد الذي كان يراقب مغادرة الضابط دون أن ينطق. 
قالت بصوت متهدّج:
"قرأت الخبر قبل قليل… سوزي؟… ماتت؟"
التفت إليها فؤاد، نظرة واحدة ثابتة كافية لتبديد عاصفة الارتباك في قلبها، لكنها لم تفلح هذه المرة.
اقترب منها بهدوء، كأن شيئًا لم يحدث، ثم قال بنبرة خالية من أي ارتباك:
"نعم. يبدو أنها تعرضت لحادث. الشرطة تحقق، لكن لا شيء مؤكد بعد."
قطبت حنين حاجبيها، تقدّمت نحوه خطوة، الدهشة تعلو ملامحها، تساؤل ثقيل يسكن نبرتها:
"هكذا… ببساطة؟… ألم تكن قريبة منك؟"
أطرق لحظة، ثم رفع رأسه ببرود يحاول أن يخفي ما لا يُقال:
"كانت... ضيفة دائمة. لطالما أرادت أكثر مما يمكنني تقديمه. من الطبيعي أن يشعر البعض بالأسى، لكنني… لا أرى جدوى من الانهيار، سأرسل بطاقة تعزية و باقة زهور لعائلتها."
أحسّت بشيء ينكسر داخلها. لم يكن الحزن على سوزي فقط، بل على تلك الصورة التي كانت ترسمها لفؤاد.
قالت همسًا، أقرب إلى نفسها منه:
"كم هو غريب… أن نبدو بشرًا، لكن نشبه الحجر."
لم يجبها. فقط نظر إليها نظرة طويلة، ليست حادة، وليست حنونة… بل ممتلئة بأشياء لا تقال. ثم أدار وجهه وسار نحو الدرج، تاركًا خلفه فتاة بدأت ترى أن الرجل الذي تحاول فهمه… ربما يعيش في عزلة أعمق مما توقعت.
🌹🌹🌹

تمر الأيام هادئة، صبيحة مشمسة، فناء القصر الخارجي، أحد الخدم يفرغ أكياس تسوق فاخرة من سيارة سوداء أنيقة
بخطوات واثقة، خرجت ليلى من السيارة وهي تضع نظارتها الشمسية على شعرها الكثيف، تبرق حقيبتها اللامعة تحت أشعة الشمس، تسبقها رائحة العطر الباهظة.
ابتسامة نصر خفيفة ارتسمت على شفتيها وهي تتابع كيف يُنقل كل كيس بعناية، حقائب بأسماء دور أزياء لا يجرؤ حتى أبناء النخبة على التلفظ بها دون رهبة.
دخلت القصر وكأنها لم تكن خادمة في يوم ما.
الخطى ناعمة، الصوت خافت، لكنها كانت تُحدث جلبة من نوع آخر… جلبة تُربك الخدم وتجعل بعضهم يتبادل النظرات بصمت.
وقفت أمام المرآة الكبيرة في الردهة، أمالت رأسها قليلاً، ثم همست لنفسها بابتسامة ساخرة:
"سيدة القصر؟ ليس بعيدًا كما كنت أظن."
في غرفة الجلوس، كانت تنشر أكياس التسوق أمامها كأنها غنائم من معركة خاضتها بنجاح، ثوب لسهرة، آخر نهاري، مجوهرات براقة، وحتى ألعاب صغيرة لطفلة لم ترها بعد عن قرب… لكن من يدري، لعل الاستعراض يفتح الأبواب المغلقة.
الخادمة التي رافقتها إلى غرفتها أول مرة، مرّت بالقرب منها وتوقفت مذهولة، تمتمت:
"هل طلب منك السيد شراء كل هذا؟"
فردّت ليلى، وهي تعبث بإحدى العلب الفاخرة دون أن تنظر إليها:
"أنا لا أطلب إذن أحد… منذ اليوم، أنا أعيش كما يليق بمكانتي الجديدة. وتعلمي شيئًا: من لا يعرف كيف يتصرف كالسيد، لن يعامل أبدًا كسيد. "

بعد الظهر، في صالون القصر، ضوء الشمس ينساب عبر الستائر، تجلس حنين تقلب صفحات كتاب، دخلت عليها ليلى وكأنها بالصدفة بأناقتها المبالغ فيها، اقتربت ببطء، كوب قهوة في يد، وابتسامة في أخرى. جلست على المقعد المقابل دون أن تُستأذن، كما لو أن المكان ملكٌ مشاعٌ لها.
قالت بنغمة ملساء:
"آسفة إن كنت أزعجك… فقط شعرت أني بحاجة لرفقة نسائية مثقفة، وسمعت الكثير عنك من الخدم."
ثم أتبعتها بنظرة مسح سريعة لحذاء حنين البسيط وثوبها المنزلي المتواضع.
رفعت حنين عينيها عن الكتاب، ابتسامة مهذبة بلا حرارة.
"لم تزعجيني… هل اعتدتِ على الإقامة هنا؟"
ضحكت ليلى ضحكة قصيرة، ثم هزّت كتفيها:
"بسرعة… ربما لأن المكان ليس غريبًا عليّ تمامًا. لقد عملت هنا في السابق، كما تعلمين… أيام بعيدة، لكنها تركت أثرًا."
ثم نظرت في عيني حنين مباشرة:
"ولأكون صريحة… لم أكن أظن أن امرأة مثلك يمكن أن تبقى طويلًا هنا. القصور ليست للقلوب الطيبة، أليس كذلك؟"
كانت الكلمات مغطاة بابتسامة، لكنها مقطّعة بشفرات صغيرة.
ردت حنين بنبرة هادئة، وإن كانت العاصفة تهب خلف صوتها:
"من يدخله بقلب صادق، لا يحتاج لتصنّع… فالحقيقة وحدها تصمد هنا، وسط كل هذا الزيف.
قهقهت ليلى، ثم غيرت موضوعها بخفة.
"أتعلمين… رأيت الطفلة الصغيرة اليوم، جميلة جدًا. لا بد أنها متعلقة بكِ بشدة."
ثم وضعت كوبها وقالت وكأنها تفكر:
"الغريب أن كل من في هذا القصر يبدو أنه يحتمي بكِ بطريقة أو بأخرى… لكن الحماية لا تدوم طويلاً، خاصة في أماكن كالتي نعيش فيها."
قالتها برقة مقيتة، كمن يلوّح بخطر دون أن يصرّح به.
سكتت حنين، وأغلقت الكتاب بهدوء، وقفت دون تسرع وقالت بابتسامة ضئيلة:
"وكل من يلعب بالنار… غالبًا ما يحترق."
وغادرت، تاركة ليلى تتبعها بنظرة باردة، لكن في داخلها موجة حارقة من الحقد والخطط.

في المساء، دخلت حنين إلى قاعة الطعام بخطى ثابتة نحو كرسيها المعتاد.
لكن المفاجأة كانت بانتظارها… ليلى كانت قد سبقتها، تجلس بكل أريحية في مكانها المعتاد، والطلفة الصغيرة في حجرها، تداعب خصلات شعرها بنعومة مدروسة.
رفعت حنين حاجبيها، ثم نظرت إلى فؤاد الجالس في صدر المائدة.لكنه لم يبدُ مهتمًا، كان ينظر إلى طبقه دون أن يعلّق. ذلك التجاهل أثار في حنين شعورًا مبهمًا… خذلان؟ أم اختبار؟
ابتسمت ليلى، وكأن شيئًا لم يحدث:
"أوه، حنين، ظننت أنك تفضلين الجلوس قرب السيد فؤاد… أما هذه الأميرة فقد اختارتني هذا المساء!"
ثم قبلت خد الصغيرة بتصنع واضح وهي تهمس:
"أليست جميلة؟…"

جلست حنين على كرسي آخر، بجانب فؤاد هذه المرة، لكن قلبها لم يهدأ.
قالت بنبرة باردة، دون أن ترفع نظرها:
"الأطفال لا يختارون… لكنهم يشعرون. والحنان لا يُمثل."

ضحكت ليلى بخفة، ثم قالت لفؤاد بنعومة:
"لقد اعتدت على الأطفال… أظن أني سأكون أمًا جيدة، لا تعتقد؟"
رفعت حنين عينيها بسرعة، تحدّق بها للحظة، ثم نحو فؤاد الذي ظل صامتًا، عيناه عالقتان في الصحن الذي أمأمه. 
شعرت حنين بشيء ينكسر في داخلها… ليس الغيرة، بل الارتباك. ما الذي يجري؟ لماذا لا يرد؟ لماذا يسمح لها بهذا التعدي؟
لكنها تماسكت، حافظت على ابتسامتها الهامدة، تناولت لقمتين في صمت، ثم استأذنت بهدوء وغادرت دون كلمة إضافية.
تبعتها ليلى بنظرة منتصرة، كأنها انتزعت أول فوز في معركة طويلة.أما فؤاد، فقد بقي ساكنًا، يقطع قطعة من الخبز ببطء، لكن عينيه لم تتركا المقعد الفارغ الذي غادرته صاحبته…

في أجواء الليل الخافتة، وبين جدران الغرفة السرية التي شهدت الكثير من الاعترافات والمخططات، جلس إلى الطاولة الخشبية القديمة، يُقلب ملفات بين يديه بعينين شاردتين. دخل كامل بعد طرق خفيف على الباب، يحمل كوبين من القهوة وضع أحدهما أمامه دون أن ينبس بكلمة.
قال فؤاد بصوت منخفض:
"أشعر وكأن القصر يمتلئ بالغرباء، وكلٌّ منهم يخفي خنجرًا خلف ظهره."
ابتسم كامل بسخرية خفيفة وهو يجلس قبالته:
"هذا ما يحدث عندما تفتح الباب لليلى."
رد فؤاد، متجاهلًا المزاح:
"أردت إبعاد الشبهات. لا يمكنني طرد فتاة تدّعي أنها تحمل دمًا من دم أخي الراحل... حتى لو كانت تكذب."
تأمل كامل وجه صديقه مليًّا، قبل أن يقول:
"وسوزي؟ هل كنت تتوقع موتها؟"
أطبق فؤاد جفنيه لحظة، ثم همس:
"لم أفاجأ. لقد تجاوزت حدودها كثيرًا. لكن الطريقة… قذرة، سريعة، تشبه بصمات أحدهم."
سكت لحظة، ثم أضاف:
"أحدهم أراد إغلاق فمها. للأبد."
تبادل الرجلان النظرات في صمت، قبل أن يتابع فؤاد بنبرة أكثر حزمًا:
"لا أستطيع اتهام أحد.… حتى الآن، لا أملك طرف الخيط عن من أرسل تلك الفتاة. لكن لا شيء بريء بالكامل حولها."
تنحنح كامل وقال بتردد:
"هل سنُبقيها في القصر؟"
رد فؤاد بجمود:
"لشهر فقط. بعدها سأطلب فحصًا للحمض النووي. إن كانت كاذبة، فستخسر كل شيء."
ثم رفع عينيه إليه، وأضاف بنبرة فيها ظلال تعب:
"تعبت يا كامل. كل شيء متشابك، وكل وجه أقابله يحمل وجهين."
قال كامل وهو يقف:
"لكنك لست وحدك في هذا. مهما انقلبت الطاولة، سأكون إلى جانبك."
أومأ فؤاد بهدوء، ثم قال بابتسامة مرّة:
"فقط تأكد ألا يكون أحدنا يومًا قطعة على رقعة خصومنا."
سادت الغرفة لحظة من الصمت، قبل أن يهمّ كلاهما بالخروج، في ليل طويل يحمل بين طيّاته الكثير من الأسرار التي لم تُكشف بعد.
🌹🌹🌹

في الصباح الباكر، حين كانت أشعة الشمس تنساب برقة على واجهة القصر العتيق، علت ضجّة محرك سيارة فاخرة أمام البوابة الرئيسية. توقفت بهدوء، وانفتح الباب الخلفي لتترجل منه امرأة بكل ما تحمله الكلمة من سطوة وجاذبية.
ديلارا.
كانت ترتدي بذلة أنيقة بلون رمادي مائل للفضي، قصّتها مصمّمة بإتقان يكشف عن ذوق امرأة تعرف تمامًا ما يليق بمكانتها. نظارات شمسية فاخرة غطّت عينيها للحظات قبل أن ترفعها برشاقة وتعلّقها على مقدمة سترتها. خطواتها الواثقة ارتطمت بأرضية الرخام بإيقاع ثابت، وابتسامتها المحسوبة ارتسمت على شفتيها وهي تدخل القصر وكأنها تدخله للمرة الألف، لا كضيفة، بل كمَن له اليد العليا.
استقبلها آدم عند المدخل باحترام رسمي، لكنها لم تُطل النظر إليه، إنما سألت بصوت فيه شيء من التملّك:
"أين السيد فؤاد؟"
"في مكتبه، سيدتي. أمر بأن تُدخلي فور وصولك."
أومأت برأسها واتجهت نحو الجناح الإداري، عباءة حضورها تسبقها، وكل من مرّت بهم شعَروا بأن شيئًا كبيرًا على وشك الحدوث.
دخلت مكتب فؤاد دون أن تطرق، كأن بينهما من التفاهم ما يُغني عن الأشكاليات. كان واقفًا عند النافذة، يدير ظهره للباب، لكن حين سمع وقع كعبها المميز التفت إليها ببطء، لم يُبدِ دهشة بل اكتفى بتقييمها بنظرة سريعة.
قالت هي بنبرة مشعة بالثقة:
"صباح الخير،سيد فؤاد. جاهز للرحلة؟"
ابتسم ابتسامة قصيرة، دون دفء، ثم رد:
"أنت دائمًا جاهزة أكثر مما ينبغي، ديلارا."
تقدّمت نحوه بخفة وقالت:
"العمل لا ينتظر. ونحن لدينا شراكة نحتاج لتقويتها... أو على الأقل، استعراضها."
أغلق الملف الذي كان بين يديه، وقال بهدوء:
"المشروع هذه المرة حساس ولا مجال للأخطاء هذه المرة. لا أريد انزلاقات في الكلام أو المواقف."
اقتربت أكثر حتى وقفت قبالته، وقالت بنبرة خافتة لكن ذات مغزى:
"وأنا، لا أحب تكرار الفرص."
التقى نظرهما للحظة، مشبعة بالصراعات الخفية، ثم أشار بيده نحو الباب:
"ننطلق خلال عشر دقائق."
غادرت الغرفة بنفس الوقار الذي دخلت به، تاركة خلفها عبقًا من العطر الفاخر… ونوايا لا تقل ثراءً أو دهاءً.

من نافذة غرفة الطفلة الصغيرة، وقفت حنين تراقب فؤاد وديلارا يستقلان السيارة معًا، في صورة تبدو مثالية لا تشوبها شائبة.
ابتسامة ديلارا الواثقة، وتبادل النظرات الهادئة بينهما، جعل قلب حنين يثقل بشعور غريب.
شعرت بغيرة تتسلل إلى أعماقها، إحساس مؤلم أنها لم تكن جزءًا من هذا الانسجام، وأن هناك مسافة غير مرئية تفصلها عنهما.
كانت الصورة أمامها ليست مجرد مشهد، بل تذكيرًا بمدى تعقيد المشاعر التي تخالجها، ورغبتها الخفية في أن تكون قريبة من فؤاد، حتى لو لم تعترف بذلك لنفسها بعد.
ابتعدت السيارة، ومع كل متر كان يغادر المكان، كان الغضب والحنين يتداخلان في قلبها، تاركين خلفهم صدى صمت لا يُحتمل.
تململت الطفلة بين ذراعيها. نظرت إلى عيني الصغيرة اللامعتين، ثم قبّلت وجنتها الناعمة برقة.
همست بصوت خافت، كأنها تكشف سرًّا لطيفًا:
"أنتِ، فقط أنتِ، من تستحق قلبي بكل ما فيه... مهما حدث حولنا، أنتِ سبب سعادتي."
ابتسمت الطفلة برقة، واحتضنت حنين بكل براءة، كأنها تفهم أن هذا الوعد ليس مجرد كلمات، بل عهد لا ينكسر.

في لحظة غير متوقعة، وقفت حنين عن اللعب مع الطفلة، وأمسكت بحقيبتها الصغيرة ببطء. كانت عينها تحمل ضوءاً متضارباً بين الحيرة والرغبة في التحرر.
تنفست بعمق، وكأنها تحاول أن تملأ صدرها بالهواء النقي بعيدًا عن زخم القصر، وقررت فجأة:
"سأذهب للحي... ربما أجد في شوارع ذلك المكان البعيد عن كل هذه الأضواء فرصة للهروب من أعباء القلب."
خرجت بخطوات هادئة، والنسيم يداعب وجهها، تحمل معها رغبة خفية في البحث عن السلام الداخلي بعيدًا عن الوجوه والذكريات التي تلاحقها في أروقة القصر.
🌹🌹🌹

عاد فؤاد إلى القصر مع حلول المساء، خطواته كانت موزونة كعادته، لكنه يحمل بين طيات معطفه التعب ورائحة المسافات.

 صعد إلى جناحه بخطوات رصينة، ثم استدار نحو إحدى الخادمات وسأل بنبرة هادئة لكنها صارمة:

"أخبري الآنسة حنين أنني أريدها في المكتب، بعد ساعة."

انحنت الخادمة سريعًا احترامًا، لكنها ترددت للحظة قبل أن تهمس:
"لكن... الآنسة خرجت منذ الظهيرة، سيدي، ولم تعد بعد."

تجمد في مكانه لثانية كأن الزمن توقف. لم ينطق. 

لم يرمش له جفن. فقط انعقد حاجباه في انقباض خطر، ثم انفرجت ملامحه عن غضب مكتوم انفجر دفعة واحدة.

"خرجت؟ منذ الظهيرة؟ ولم يكلف أحد نفسه عناء إبلاغي؟"
كان صوته كحد السيف، باردًا لاذعًا لكنه مغلف بغليان داخلي لا يُرى، فقط يُحَسّ. 

انطلق بخطواته الواسعة إلى بهو القصر، نظره مسمّر أمامه، وكأن جدران المكان أضحت شفافة لا تخفي شيئًا عنه. 

لمح آدم يقف قرب إحدى الطاولات فاندفع نحوه:
— "آدم!"
— "نعم، سيدي؟"
— "أخبرني، هل كنت على علم بخروجها؟!"
تردد آدم، نظره مرتبك بين الأرض وعيني فؤاد، ثم تمتم:"بصراحة... نعم، لكنها لم تخبرني إلى أين، ولا رغبت أن أبلغ أحدًا، بدا عليها... التوتر. ظننتك تعلم."

أطبق فؤاد قبضته بقوة حتى أبيضّت مفاصله، أنفاسه متسارعة، كأنه يحارب بركانًا داخليًا. لم تكن الغيرة فقط ما يحركه، بل ذاك الإحساس العميق بالخروج عن السيطرة، ذاك الشعور بأن ما حسبه قريبًا بات ينأى عنه دون إذن.

— "أنت تعلم أني لا أحب هذا التسيب، آدم. كيف تخرج فتاة وحدها بهذا الشكل؟ من المسؤول هنا؟ أنا؟ أم أنت؟"
حاول آدم أن يبرر، لكن فؤاد رفع يده مقاطعًا، نبرة صوته انخفضت لكنها أصبحت أكثر حدة:
"راقب تحركاتها. منذ هذه اللحظة، أريد أن أعلم أين تذهب، ومتى تعود، ومع من تتحدث. لا أريد أن أُفاجأ مجددًا."

ثم استدار بعنف، عينيه تضطرمان بشرر صامت، وابتلع ريقه ببطء، كمن يحاول ابتلاع جمرة… كانت مشاعره فوضى عارمة، خليط بين قلق لم يعترف به، وغيرة أنكرها، وغضب لا يليق برجل اعتاد أن يتحكم بكل شيء… لكنه يعلم، في قرارة نفسه، أن كل شيء لم يعد كما كان.

بعد اندلاع ثورة صاحب المكان بلحظات، دلفت حنين إلى القصر وقد ارتسم على وجهها أثر تعبٍ لا يشي بمصدره، لكن في عينيها كان هناك ما يُنذر بالخطر. وقبل أن تُتم خطوتها الثانية داخل الردهة، لمحها آدم فهرول نحوها بخطى مرتبكة:
— "الـ… السيد فؤاد بانتظارك في المكتب، حالًا…"

كاد يضيف شيئًا آخر، لكن نظرة خاطفة من حنين أسكتته. لم تكن بحاجة لسماع المزيد. كانت تشعر بهذا الغليان حتى قبل أن تصل، كأن القصر نفسه يرتجف من شدة التوتر.
بالكاد أغلقت حنين باب المكتب خلفها حتى انصبّ عليها سيل من الغضب المكبوت، لم تنتظر حتى يكتمل، بادرت وهي تتقدم نحوه بخطى مترددة:
— "كنت فقط بحاجة لبعض الهواء… خرجت لزيارة الحي، أردت أن أتنفس، أن أبتعد قليلًا."

لكن كلماتها لم تجد طريقًا إلى أذنه،
كان فؤاد قد تجاوز لحظة الحيرة، لم يعد الرجل الذي يُخفي اضطرابه خلف ستار الهدوء، بل صار كتلة متوترة من المشاعر المتفجرة، يقف الآن أمامها، عينيه تقدحان غضبًا، وصوته أكثر صلابة من أي وقت مضى:
— "الحي؟! تتركين القصر منذ الظهيرة ولا تُكلّفين نفسك حتى باتصال؟! ألا تعلمين ماذا كان سيحدث لو… لو…"
توقف فجأة، كأن لسانه خان ما حاول قوله. لم يكمل جملته.
رفعت حنين رأسها، لم تهرب من عينيه، كانت تحاول أن تمتص الموجة بهدوء، لكنها شعرت بالدم يتصاعد إلى وجهها من الظلم في نبرته، فقالت بهدوء مجروح:
— "لم أفعل شيئًا خاطئًا، فقط ذهبت لمكان أعرفه، لم أكن أهرب. لم أظن أنك…"
قاطعها بانفجار جديد:
— "لم تظني ماذا؟! أن غيابك لا يعني شيئًا؟! أن لا أحد ينتبه؟! أنني... أننا…"

سكت مجددًا، وانخفض صوته، لكنه كان أكثر خطورة:
"لا تكرريها مستقبلا؟"
هنا لم تصمت حنين، لم تعد تلك التي تبلع الكلمة وتبتسم. رفعت صوتها، دون أن تصرخ، لكنه خرج واضحًا، قويًا، يكسو وجهها مزيج من الطيبة والكرامة المجروحة:
"أنا لست طفلة تُحاسب على تحركاتها. إن كنت تظن أنني مجرد شخص قابل للاستجواب كل مرة، فأنت مخطئ. أعلم أنك مسؤول، وأحترم ذلك… لكن لي حياتي أيضًا، مساحتي الخاصة."

اتسعت عينا فؤاد في لحظة، لم يتوقع منها هذه المواجهة المباشرة. شعر كأنها سحبت البساط من تحت قدميه، كأن شيئًا ما خرج عن سيطرته… لا، كأنها نفسها تبتعد عنه. 
اقترب منها، حتى صار بينهما خط وهمي مشحون بالكلمات غير المنطوقة، وقال ببطء:
"المساحة…؟ أنا أخلق لكِ مساحة آمنة، لا سجنًا، وأنتِ تضعين عنقي في دائرة الأخطاء."

ردّت، بخفوتٍ يحمل شيئًا من الألم:
"بل تخلق جدرانًا وتطلق عليها الأمان."
ارتدّ للخلف كمن تلقى صفعة، وساد صمت كثيف، ينبض بين جدران الغرفة. توترت أنفاسه، تراجع إلى مكتبه، أمسك بطرفه بقبضة متشنجة، وأدار وجهه كي لا يراها تخرج.

وقبل أن تصل حنين إلى عتبة الباب، وقبل أن تلمس أصابعها المقبض البارد، اندفع صوته فجأة من خلفها، حادًا كالسهم، 
يحمل نبرة لم تعهدها منه من قبل:
"من قابلتِ هناك؟"
توقفت في مكانها، التفّت ببطء نحوه، حاجباها انعقدا دهشة، كانت تلك الجملة كفيلة بأن تسحب السجال إلى منعطف لم تتوقعه.

 رمقته باستغراب، وهو يقترب منها، عينيه تفتشان في ملامحها عن شيء، عن صدق، عن سرّ ربما.
تابع، هذه المرة بنبرة متوترة، 
دون أن يمنح نفسه فرصة للندم:
"أقصد… هل كان هناك شخص معين تهتمين لزيارته؟"
ارتفع حاجبها في حيرة صافية، 

لم تكن تعرف إن كانت تشعر بالضيق من نبرته الاتهامية أم بالذهول من اهتمامه المفاجئ.
"ماذا تعني؟"
نظر إليها نظرة طويلة، فيها من الانفعال أكثر مما أراد أن يظهر. 

كان يحاول أن يبدو متماسكًا، لكنه فشل. شيء فيه، في عينيه، في حركة يديه، في تصلب فكّه، 
فضحه تمامًا.
"أعني… خرجتِ دون أن تقولي شيئًا. ولم تعودي لساعات. حنين، أنا… لا أحب أن أُترك أتخبط في ظنوني. كنت أظنكِ… 
أكثر وضوحًا."

ارتسمت على وجهها شبه ابتسامة، لكنها كانت حزينة أكثر من كونها ساخرة. تقدمت نحوه بخطوتين فقط، ثم قالت بهدوء:
"أنا خرجت لأنني كنت بحاجة لأن أتنفس، لا لأنني كنت أبحث عن أحد. وإن كان هناك أحد يعنيني، فأصدقك القول لا يوجد أكثر ممن أخبرتك عنهم."
توقف الزمن لحظة بينهما.
كلماتها أصابته في العمق، وكأنها كشفت هشاشته دون أن تدري. لم يعرف بماذا يجيب، ولا كيف يعيد صياغة سؤاله الأول لئلا يبدو كمن يُفتّش قلبها دون إذن.
وهي، بعد أن نطقت بما لم تقصده قسوةً بل صدقًا، استدارت هذه المرة حقًا، وخرجت من الغرفة دون أن تنظر خلفها. تركته غارقًا في دوامة من الأسئلة التي لم يجرؤ يومًا على طرحها… لا عليها، ولا حتى على نفسه.

كان ما يزال واقفًا في مكانه، نظراته معلقة بباب أُغلق منذ لحظات، والهواء في الغرفة مشبع بتلك العاصفة العاطفية التي لم تهدأ بعد… حين انفتح الباب مجددًا، ودخلت ليلى، كأنها تعمدت انتهاز لحظة الضعف التي اجتاحته.
كانت ترتدي ثوبًا ضيقًا بلون عنابي، شعرها منسدلًا على كتفيها كأنها خارجة من إعلان عطور، وخطواتها تحمل من الثقة ما لا يناسب مقامها. نظرت إليه بنعومة مصطنعة:
"بدوت متوترًا، ظننت أنك قد تحتاج إلى بعض المساعدة."
لكنها لم تكن وحدها من دخلت في تلك اللحظة…

حنين، التي عادت لتتحدث إليه بعد أن هدأت قليلاً، كانت تهمّ بطرق الباب حين انفتح أمامها على هذا المشهد: ليلى تقف قريبة منه، وكأنها تنتمي لهذا المكان. عيناها لمحتا نظرة مائلة من ليلى، لم تتردد في رسم ابتسامة جانبية ورفع حاجبها بسخرية أنثى تعلم أنها تُرى.
في تلك اللحظة، كان الشرر لا يزال في صدر فؤاد، وغضبه يبحث عن مخرج... وها هي المتطفلة تقدم له على طبق من فضة.

استدار إليها بحدة، نبرته حادة كالسيف:
"من سمح لك بالدخول دون إذن؟"
تلعثمت ليلى للحظة، لم تكن تتوقع هذا الجفاء:
"أنا فقط… ظننت أنك…"
قاطعها بصوت صارم:
"ظننتِ أن بإمكانك التصرف بحرية؟ هذا مكتب عمل، لا صالون للمجاملات."
أخفضت نظرتها قليلاً، تحاول أن تحفظ ماء وجهها، لكنها سرعان ما استعادت بعض جرأتها:
"أردت فقط الاطمئنان عليك، بدا لي أنك… منزعج."

ضحك بسخرية باردة:
"لا أحتاج مساندة أحد، خاصة من ضيوف لم يُطلب حضورهم."
ثم أشار بيده نحو الباب دون أن يرفع صوته هذه المرة، لكن لهجته كانت قاطعة:
"عودي إلى غرفتك."
لم تتحرك ليلى، ربما لأنها شعرت بالإهانة، وربما لأنها لم ترد أن تخسر هذه اللحظة، لكن ما لبث أن أضاف بحدة: 

"الآن."
خرجت ليلى من الغرفة ببطء، تحت نظرات حنين التي وقفت بعيدة تتابع المشهد بصمت، وفي قلبها ألف سؤال، لكن نظرة فؤاد حين التفت إليها بعد مغادرة ليلى كانت كافية لتوقظ بداخلها شيئًا آخر… مزيج من الحيرة والغضب… وربما شيء أقرب إلى الغيرة، وإن أنكرت.
عاودت الخروج من المكتب بخطى سريعة، دون أن تنبس بكلمة، لا التفتت إليه ولا منحت نظراته المتوسلة لحظة عفو. كانت مشحونة بالغضب، لكنه لم يكن موجّهًا لها وحدها… بل لنفسه، لحالته، لكل ما يحدث من حوله دون سيطرة.

ظل واقفًا مكانه للحظات، والباب المغلق أمامه بدا كأنه جدار يفصله عن إدراك ما يجري. أسند كفيه إلى حافة المكتب، تنفّسه يعلو ويهبط كأن النار تعوي في صدره. ثم، ببطء، التقط هاتفه واتصل بكامل. 
رنّ الخط مرتين فقط، قبل أن يرد كامل بنبرة مزجت بين التسلية والاستفهام:
"إذا كنت تتصل بهذا التوقيت، فأنا متأكد أن عاصفة ضربت القصر."
رد فؤاد دون تحية، صوته مشبع بالغضب:
"أحتاجك، الآن."

ضحك كامل ضحكة قصيرة، ثم قال:
"فؤاد، ألا يمكن أن تنتظر للغد؟"
— "حنين اختفت نصف نهار دون علم أحد، تعود وكأن شيئًا لم يكن، وتلقي عليّ مواعظ عن الحرية والخصوصية. وليلى... 
تلك الأخرى، مصيبة طال تحملها."
ساد الصمت للحظة على الطرف الآخر، ثم قال كامل:
"ليلى؟ مجددًا؟ لم تمر أيام على مجيئها وبدأت تنسج خيوطها... واضح أنك فتحت على نفسك بابًا لا يغلق."

لم يرد فؤاد، فقط تنفّس بصوت مرتفع، كأن الهواء لا يكفي.
أردف كامل بنبرة أقل تهكمًا:
— "هل تريدني أن أأتي إليك؟"
"لا... لا فائدة. 

فقط أردت أن أتحدث مع أحد قبل أن أُفجّر هذا المكان."
ضحك كامل مجددًا، لكن نبرته
 هذه المرة كانت أكثر دفئًا:
"اهدأ يا صاحبي. لا تفجّر القصر فتلك الفتاة مازالت تعيش فيها، 
هل أخبرك من تكون؟!"
"كامل...!!!"
"أعلم، أعلم. لن أمزح معه فأنت صرت هشا في الآونة الأخيرة.
 فقط... لا تترك الغضب يسيطر عليك. أنت أكثر حنكة من هذا."
سكت فؤاد للحظة، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا:
"ربما علي تأجيل رحلة أثينا."
"أخيرًا تفكر بمنطق. رتب بيتك الداخلي أولًا... فالعاصفة لم تصل إلى ذروتها بعد."

أنهى فؤاد الاتصال، وأسند رأسه للخلف، يغوص في كرسيه الجلدي الفاخر، لكن لا راحة في صدره... فقط سكون ثقيل، يسبق العاصفة.

في غرفة حنين، الليل صار عميق والظلال تتراقص فوق الجدران بضوء خافت يتسلل من مصباح الطاولة.
جلست على طرف السرير، قدماها حافيتان، وشعرها منسدل فوق كتفيها بفوضى لم تعبأ بها.
حدقت طويلًا في المرآة، لم ترَ وجهها بقدر ما رأت الفتاة الضائعة بداخلها. تذكّرت نظرته الحادة، صوته الغاضب، كيف اجتاحها بأسئلته، كأنها ارتكبت جريمة لا تغتفر، وكأن خروجها من أسوار القصر انتهاك لعالمه.

"أين كنتِ؟ من قابلتِ؟ ما الذي تخفينه؟"
أسئلة لم تكن تحتمل الإجابة، بل تحمل بين طيّاتها حكمًا مسبقًا، وغضبًا لا تعرف سببه الحقيقي.
حاولت أن تقاوم، أن تبرر، لكنها اصطدمت بجدار عناده، فقررت أن تصمت، لكنها لم تسلم من أثر السهام التي رماها عليها بعينيه، وبكلماته.

نزعت قرطها الذهبي بنفَسٍ مرتجف، وضعته بعشوائية على الطاولة، ثم جلست على الأرض، وأسندت ظهرها إلى جانب السرير، كأنها تهرب من العلو، من الصورة التي حاولت أن تبنيها لنفسها... فاليوم، تشققت.
سالت دمعة أولى، ثم لحقتها ثانية، بلا نحيب، بلا صوت. فقط وجنتان رطبتان وقلب مثقل.

لماذا تؤلمها كلماته لهذا الحد؟
لماذا يهمها إن كان غاضبًا؟
ولماذا تألمت حين رأت تلك المرأة تتشاركه المقعد في سيارته؟
تنهّدت بحرقة، وضعت كفها على قلبها، كأنها تحاول أن تواسيه، أن تطمئنه أن كل شيء سيكون بخير. لكنها لم تكن واثقة.
— "أنا فقط… أردت بعض الهواء، أن أتنفس بعيدًا عن كل هذا."
قالتها لنفسها بصوت خافت، وهي تضم ركبتيها إلى صدرها.
ظلت هناك، في زاوية الغرفة، بين الضوء الخافت والصمت العميق، حتى غفت دموعها على وجنتيها.

وفي الخارج، كان القصر ساكنًا، لا أحد يعلم أن خلف أحد الأبواب، كانت فتاة تهتز بين الحيرة والخوف، بين الغضب والخذلان… وبين حب، لم تعترف به بعد.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1