رواية فراشة في سك العقرب ( حب أعمي ) الجزء الثانى الفصل السابع بقلم ناهد خالد
لطالما تمنيت وجود شيء يجعلني أحب اليوم..وعندما وجدتك وكأنني امتلكت العالم لأنني وجدتك فقط”
“من كتاب 24 فبراير ليان مشعي”
“حين تذق حلاوة التجربة الأولى تكن كل حواسك متحفزة وليس فقط لسانك عضو التذوق! جميعها منتظرة حلاوة المذاق والشعور بعدها, جميعها تتلهف لتجربة شيء ظننت أنه قد فاتك من كثرة ما تأخر, ظننت أنه لن يمر بكَ رغم مروره بالكثير قبلك وكأنه جاء عند عنوانك وفقد الذاكرة! أو وكأنك مُهمش في هامش صفحة بيضاء في كتاب مليء بالكلمات من سيلتفت لك ويترك البقية! وحين يتوقف عندك أحدهم ستكن هذه أسعد لحظاتك على الإطلاق”
” ناهد خالد ”
وهذه كانت أسعد لحظات “فيروز” على الإطلاق, أن يعترف لها شاب بحبه, هي من ظنت أن الحب لم يُكتب ابدًا لأمثالها, والحب المقصود هُنا هو الحب الحقيقي المتبادل بين الطرفين وليس من طرف واحد, هي التي لم تجرب يومًا شعور الفتاة حين يعترف لها الشاب بحبه, حُمرة الخجل, التوتر, التلعثم والسعادة, لمعة العينين, والفم المبتسم بحياء وفرحة, كل هذا لم تجربه, والآن تفعل, ومع من؟ مع الذي تمنت لو ينظر لها نظرة تشعرها أنه يراها, وضعت كفها فوق قلبها الذي ينبض بقوة ألمتها, ونظرت له مبتسمة بأعين دامعة ولامعة في آنٍ, ولم تنطق, فقط تنظر له.
شعر بها وأدرك أن اعترافه أسعدها وأخجلها معًا, فابتسم لها وهو يقول:
-مش مستنيكي تردي, أنا بس كان لازم اعترفلك باللي جوايا.
خرجت من خضم أفكارها وهي تقول بلهفة:
-يعني أنتَ هتهربني من عنده!
وفور انتهاء جملتها لمحت “شاهين” يأتي من خلفه لتقول فورًا:
-شاهين جاي.
اختفت ابتسامته وجُمدت ملامحه ولكنه لم يتحرك من مكانه, بل ظل كما هو حتى وصل إليهما “شاهين” والذي قال بنبرة حادة واضحة:
-أتمنى ما اكونش قطعت عليكم قعدتكم الحلوة دي.
نظر له “مازن” من فوق كتفه ثم نهض يقف أمامه مباشرةً وهو يقول:
-ما شفتش في بجاحتك! يعني خاطف الست اللي بحبها واللي كنت هخطبها ووقفت في المؤتمر قدام الناس كلها وقلت انها خطيبتك, ودلوقتي جاي محموق اوي إنها قاعدة معايا! أنا لو عاوز اخدها حالًا وامشي أنتَ مش هتقدر توقفني.
-انا خاطفها! الله يسامحك.
قالها “شاهين” بنبرة مستكينة ظهر فيها براءته المصطنعة وأكمل وكأنه لم يخطفها حقا! وينظر لها نظرة عملت معناها:
-طب ردي عليه انتِ يا فيروز, أنا خطفتك؟
نهضت “فيروز” من كرسيها واقفه أمامهما بضجر من كل ما يحدث وقالت كي تنهي النقاش:
-لا مش خاطفني خالص.
تجاوز “شاهين” نبرتها الساخرة وهو ينظر “لمازن” ويقول مكملًا تلك المسرحية الدرامية السخيفة بين الجميع:
-على فكره أنا عرفت فيروز بعد معرفتك بيها بفترة بسيطة ولما انتَ اخذتها لنورهان وعرفتها عليها انها خطيبتك من قبل ما تقولها انك ناوي تخطبها , وقتها كانت حاسه بحب ناحيتي عشان كده كلمتني, وقالتلي اللي انتَ عملته فقلتلها اننا اكيد مش هنستنى لحد ما حضرتك تخطبها رسمي ولا حتى تدخل عليها بالمأذون, فخيرتها ما بيني وما بينك… و كالعادة يا مازن اختارتني أنا.
وكلمه “كالعادة” التي ذكرها كانت تعود للماضي, كأنه يذكره بأن نفس القصة تُعاد مرة أخرى وهو المنتصر فيها كما حدث في قصة “ليلى” , ورغم أن “مازن” يعرف بأن “شاهين” يقول حديث ليس له أي واقع من الصحة, و”شاهين” يعرف أن “مازن” يدرك جيدًا كذب حديثه, لكن هذا لم يمنع أن يثور غضب “مازن” بداخله وغضبه الذي ظهر على ملامحه الآن ونبرته كان حقيقيا, ليس من طبيعة الموقف الذي يحدث حاليا, ولكن من آثار الماضي, حين اقترب منه وهو يقول:
-عشان كل مرة بتلعبها ب****, وأنا للأسف ولا مرة عرفت أكون و*** زيك, بس ما تقلقش بتعلم وقريب أوي هردلك كل ده.
ابتسم “شاهين” ابتسامة ساخرة رغم تألمه من الجملة التي قالها:
-تعرف لو شغلت نفسك بأي حاجة في حياتك اكتر مني كان زمانك انجح حد فينا, يعني على الأقل كان زمانك متجوز ومخلف, بدل ما انتَ كل شويه عمال تحب واحدة وتطير منك.
ابتسم “مازن” ابتسامة قاسية وهو يقول بتوعد حقيقي:
-لا ما تقلقش المرادي مش هتطير مني, انا اتعلمت كويس قوي من اللي فات.
هز “شاهين” رأسه في حركة رتيبة بلا اهتمام قائلًا:
– تمام وانا مستني اشوف, على فكره يهمني جدًا إنك تتعلم من اخطائك مش انا زمان كنت دايما بقولك إن الوقعة ما تكسركش بالعكس لازم تعلمك ! هفرح أوي لو لقيتك خدت بكلامي.
رفع “مازن” جانب فمه لأعلى وهو يقول بسخرية مريرة:
– لا ما تقلقش انا كل اللي اتعلمته منك رميته في أ*** بحر قابلني, ومش فاكر منه أي حاجه, واللي بعمل بيه دلوقتي هو اللي الأيام علمتهولي.
تجاوز “شاهين” حديثه وهو يربط على كتف الآخر بقوة مقصودة وقال مُستفزًا إياه:
-اكيد مش هنسى اعزمك على فرحي, وأكيد لازم تيجي.
دفع “مازن” كفه بقوة وهو يقول من بين أسنانه:
-يا عالم مين هيعزم مين الأول على فرحه.
ونظر ل”فيروز” نظرة أخيرة معناها واضح! قبل أن ينسحب من بينهم, كاد “شاهين” أن يلتفت لفيروز بالغضب الذي يكمن فيهِ الآن, ولكنه توقف حين أبصر عمه “مختار” يدلف للمكان, فقال لها دون أن يلتفت:
-تعالي اعرفك بعمي.
وذهب لتذهب خلفه وهي تزفر بضيق وقد ضاق ذرعها من هذا الحفل بأكمله.
احتضنه “مختار” يربط على ظهره بقوة وهو يقول:
– مش عيب عليك نتقابل في حفلة! يعني ما كانتش المناسبة تجمعنا ما تقولش اروح اشوف عمي اقعد معاه شويه,ولا ما وحشتكش قعدتي.
ابتعد عنه مبتسما بهدوء وهو يجيبه:
– انتَ عارف يا عمي اني ما بشبعش من قعدتك, بس حقيقي الفترة اللي فاتت كنت مشغول أوي.
وبعد عدة سلامات وترحيب من “مختار” بأفراد العائلة لنزولهم القاهرة لحضور الحفل السنوي للشركة, فعائلة المنشاوي اصلها يعود الى البحيرة وما زال الجد والعمة يمكثون هناك, أما “سيف وزوجته” فبالطبع يتواجدان في فيلا “مختار المنشاوي” بالقاهرة.
وبعد أن انتهى “مختار” من الترحيب بادر “شاهين” قائلًا وهو يشير لفيروز:
– بما ان حضرتك جيت متأخر فأنتَ ما حضرتش وانا بعلن عن الخبر الجديد.
نظر له باستفسار يسأله:
-خبر ايه؟
وبكل هدوء كان يعرفها له:
– فيروز خطيبتي.
ونظرة “مختار” الآن تعبر عن مدى صدمته بالخبر, ولم تكن نظرته فحسب بل خرج من صمته الذي دام لثواني وهو يقول بحده وغضب:
– يعني ايه خطيبتك؟ طب ومراتك! اللي هي بنتي واللي هي بردو بنت عمك ايه وضعها؟!!
وقبل أن ينطق “شاهين” كان يقول الجد موجهًا حديثه لمختار:
– مختار, مش وقته الكلام ده.
نظر له “مختار” مستنكرًا:
– مش وقته طبعًا… ما كانش وقته بردو انه يعلن عن خطوبته في حفلة كبيرة زي دي فيها صحافه وفيها مصورين قبل حتى ما ياخد رأينا, أو يعرفنا بالخبر ده.
ثم نظر لشاهين وهو يقول معاتبًا بغضبه الذي ما زال مسيطرًا عليهِ:
– ولا انا بتكلم غلط؟ مش من الأصول يا ابن اخويا ياللي جدك مربيك على الأصول, إنك كنت تعرفنا وتاخد رأينا قبل ما تطلع تعلن ده قدام الكل ونتفاجئ زينا زي الغُرب!؟
– في الحقيقة يا عمي إن الخبر مش مضطر اشاركه مع حد قبل ما اقوله , ولا مضطر إني اخد رأي حد فيه, وفعلًا جدي رباني على الأصول وعشان تربيته دي فانا قبل ما أعلن خطوبتي ومن كام يوم,قلت لبنتك انها لو عاوزه تطلق انا معنديش أي مشكلة, وبنتك عارفه خطوبتي من فيروز بقالها كذا يوم, يمكن 10 ايام او اكتر, يعني انا صاحب الشأن معرف اللي يخصها الموضوع اللي هي مراتي, وخيرتها اني ما احطهاش في موقف زي ده وننفصل بهدوء, ورفضت يبقى انا ما عنديش أي غلط.
نظر له “مختار” بعتاب واضح ورفض لِمَ يفعله وهو يقول:
– يا خساره, معزتك عندي كانت غالية أوي يا شاهين, بس باللي انتَ عملته النهاردة فأنتَ هديت حاجة ما بينا, وعملت حاجز عمره ما هيتهد.
نظر له “شاهين” مضيقًا ما بين الحاجبين باستغراب وتحفز للإجابة سؤاله:
– ويا ترى ايه الحاجز ده؟ هي جريمة اني اخطب؟
اجابه “مختار” في حدة وغضب:
– لا مش جريمة بس انتَ عشان تخطب كسرت بنت عمك, وقليت بيها قدام الناس, خليت شكل بنتي قدام كل الناس الموجودة في الحفلة دي زي الزفت, والكل دلوقتي اكيد بيتكلم عليها انه ازاي جوزها يعلن خطوبته من واحده تانيه وهو لسه متجوزها!
رفع “شاهين” سبابته وهو يشير له قائلًا بابتسامة بسيطة:
– بالضبط, هي دي النقطة انهم هيقولوا ازاي جوزها يخطب واحدة تانية وهي لسه على ذمته, بس دي بقى انا ماليش ذنب فيها, لأني قلتلها نطلق وكان وقتها لما أعلن خطوبتي دلوقتي ماحدش يجيب سيرتها ما خلاص بقت طليقتي, لكن هي اللي رفضت, يبقى انا ذنبي ايه؟ ولا انا كنت المفروض سواء موافقة ولا مش موافقة أطلقها وابعتهالك على بيتك عشان اعرف أعلن خطوبتي! كنت وقتها مش هبقى ندل و كسرتها!
صمت لبرهة من الوقت ثم قال بمغزى أدركه “مختار” جيدًا:
– عمي انت اكتر واحد عارف ان عشان غلاوتك عندي انا عملت ايه, واكتر واحد عارف انا ضحيت بإيه, وازاي عشانك وعشان العيلة دي ,فما لكش حق دلوقتي تيجي تلومني لما احب التفت لنفسي شويه, اعيش لنفسي بعيد عن المسؤوليات والتضحيات والعيلة..
ثم نظر لجميع الجالسين حول الطاولة وهو يقول:
-واعتقد كلكم كنتم شاهدين على ده, فياريت اللي عنده اعتراض على خطوبتي يخلي اعتراض لنفسه, عن اذنكم.
قال جملته الأخيرة وهو يلتقط كف “فيروز” ويسير بها بعيدًا عن الجمع لمنطقة هادئة يستطيع فيها أن يتحدث معها ويضع الِنقاط فوق الحِروف.
وبعد أن ذهب نظر لهم “مختار” من بين غضبه وهو يسألهم:
-هي شدوى راحت فين؟
أجابه “سيف”:
– بعد ما البيه قال مفاجئته قالت انها هتروح الحمام, من وقتها مارجعتش.
عقب الجد المنشاوي في هدوء تام:
– سيبوها, محتاجه تكون لوحدها شويه يمكن تفوق وتراجع نفسها.
نظر له “مختار” غاضبًا يسأله باستنكار:
-هي برده اللي تفوق!؟
أصر الجد على حديثه وهو ينظر له بقوة:
– اه يا مختار هي اللي تفوق وتعرف ان الدنيا مابتقفش على حد ومش هتقف على شاهين, على فكرة هي كلمتني لما شاهين بلغها بخطوبته وانا نصحتها تبعد باحترام وفي هدوء بس مسمعتش كلامي, بنتك محتاجه تعرف يعني إيه كرامة وتتمسك بيها.
و صمت الجميع بعد حديث الجد… البعض مقتنع, والبعض الآخر غير مقتنع تمامًا ولكنه ليس به طاقة لنقاش عقيم لن يجدي بأي نتيجة.
**********
“نفقد أشياء ونودع أشخاص, تفوتنا فُرص ويكسرنا فراق, تُهدم أحلاما وتتبخر أماني, نُخذل و نُطعن, وكل هذا لحكمة لا يعلمها الشخص في وقتها وربما يدركها لاحقا وربما تظل مجهولة لباقي العمر, وهل في يدك أن تُغير القدر؟ هل بيدك أن تتمسك بشيء كُتب عليك فقده!؟ القدر…النصيب.. الحكمة, بينهم ارتباط وثيق تمقته حين يكن الاجتماع على شيء عزيز عليكَ, ولكن كل ما تستطيع فعله هو الصراخ والبكاء والتحسر والانفجار بالشكل الذي تراه….. ثم …. اهدأ, فكِر, وأخلق حكمة حتى وإن كانت الحقيقية مجهولة, ثم اندفع بها وبقوة لسير خطوات ثابتة لا يهزها ما أصبح ماضي”
وفي إحدى مستشفيات القاهرة..
منذ الأمس وهي تجلس على نفس الوضع, على إحدى المقاعد الموجودة أمام غرفة ما في إحدى طرقات المستشفى, بعدما هاتفت والدها بالأمس واستأذنت منه أن تظل مع والد مجد لأن وضعه غير مستقر تمامًا, وبحكم الجيرة والعلاقة الطيبة بين والدها والرجل لم يعترض, بل أراد أن يحضر للمستشفى لكنها رفضت خوفًا عليهِ, فصحته لا تحتمل جلسة المستشفيات.
تنهدت وقالت وهي تنظر لوالده الذي يسند رأسه على الحائط خلفه, وبدا على وجهه الحزن والهم:
– لا اله الا الله يا رب ارحمنا برحمتك,
ثم اقتربت منه تقول:
– وحد الله يا عم شاكر ان شاء الله ربنا مش هيصيبك فيه.
نظر لها بأعين ممتلئه بالدموع:
-مش عارف حاله هيبقى ايه لما يصحى, مش عارف لما يفوق ويلاقي نفسه كده هيعمل ايه؟ وانا ههون عليه ازاي وانا عاوز اللي يهون عليا.
تساقطت دموعها وهي تستمع لحديثه ثم قالت بمواساة:
-نحمد ربنا انه نجاه منها, دي كانت حادثة كبيرة مش هينة, وزي ما انتَ سمعت الدكتور, كويس انها جت على قد كده ولسه حسه في الدنيا.
هز رأسه مقتنعًا بحديثها ولكنه ما لبث أن قال بمرارة:
– بس انتِ ما تعرفيش يا بنتي واحد طول عمره شغال بدراعه واقف على رجله لما الدنيا تيجي عليه و تهده وتاخد منه حاجة عزيزة عليه بيحس بإيه, وانا عارف ابني لما يفوق هيحس بإيه.
-مهما كان اللي هيحس بيه انتَ موجود جنبه, هتقويه وتسانده.
– هقويه واسانده اه, لكن مش هعرف اشيل عنه, مش هعرف اخفف حمله.
خرج الطبيب من غرفته وهو يخبرهم:
– المريض بدأ يفوق وانا برجح تكونوا موجودين جنبه في وقت زي ده, لانه مش هيستوعب اللي حصل بسهوله, وانا معاكم عشان لو احتجنا نديله حقنة مهدئة.
نهض “شاكر” و”مستكه” و دلفا للغرفة, بقلوب واجفة, وأعين دامعة , و أنفس داعية الله بأن يمر الأمر على خير أو على الأقل بأقل الخسائر.
وهذه أول مرة يُسمح لهما برؤيته, فلقد منعهم الطبيب من رؤيته منذ أمس ورؤية وضعه الآن بعثت فيهم غصة لا تذهب, وقبضة قلب مُوحشة ورجفة جسد متألمة على وضعه, فما تراه العين غير ما تسمعه الأذن ويدركه العقل.
وحين استفاق “مجد” لم يكن يشعر بما حدث له, فقط ابتسم حين رأى والده وهو يسأله بصوت متعب:
-ايه اللي حصلي؟
اقترب “شاكر” من فراشه وقال بدموع واضحة:
-انتَ بخير وزي الفل, ربك نجاك وكتبلك عمر جديد.
ابتسم “مجد” ابتسامة صغيرة وهو يقول:
-بتعيط يا أبا؟ لا ماتعيطش انا مش متعود عليك اشوفك كده, وبعدين انا كويس اهو.
ربط “شاكر” على صدره قائلاً:
-الف حمد وشكر لله انه نجاك, ده انا معرفش أعيش من غيرك يا مجد, اتبهدل واتشرد وابوك كبر ومش حِمل مرمطة.
-بعد الشر عليك من المرمطة يا حاج, طول مانا عايش هعززك واكرمك زي ما كبرتني وعلمتني.
ثم نظر ل “مستكة” يقول مستغربًا:
-انتِ هنا بتعملي ايه؟
أجابه “شاكر” قبلها:
-دي معايا من امبارح من وقت الحادثة ومسابتنيش لحظة كتر خيرها بنت أصول.
تنحنحت بحرج وهي تقول:
-انا معملتش غير الواجب, بحكم الجيرة وبحكم عشرتك مع ابويا يا عم شاكر.
رفع “مجد” رأسه عن الوسادة وحاول النهوض وجاء يستند بذراعيهِ ليدعم جسده, لكنه شعر بشيء غريب, شيء ناقص!
وكانت الكارثة حين نظر لذراعه الأيسر الذي لم يشعر بهِ ليجد مكانه فارغ! فقط بروز صغير في الكتف…!!
نظر فورًا لوالده ليجده يبكي في صمت وهو ينظر له, فابتسم بصدمة وعدم تصديق يسأله:
-ايه ده؟ فين دراعي!
رد “شاكر” من بين بكائه:
-حالته كانت وحشة لان العربية لما وقعت عليك هو اكتر حاجه اضررت, وانتَ في العمليات الدكتور طلع وقالي انه حاول كتير يفادي دراعك لكن لازمله…. لازمله بتر.
أكملت “مستكة” الحديث بدموعها ونبرتها المختنقة:
-الدراع كان متهشم وكان مسبب نزيف مبيقفش, لو كانوا اصروا على وجوده كان ممكن يجرالك حاجه, ربنا خد منك حاجة مقابل حياتك اكيد مش هتكون أغلى من حياتك.
صرخ بهما بغضب وكسرة:
-بتقولوا أيـــــــه؟ ازاي توافقوا؟ ازاي تقبلوا انه يبتر, محدش منكوا فكر فيا, محدش فكر في اللي بتعملوه فيا.
ووالده لم يكن قادرا على الرد من انهياره وبكائه الذي لا يتوقف, فأخذت “مستكة” مكانه وهي تقول:
-لو كنا رفضنا كنت…
-موت! ياريت…ياريت كنت موت.
قالها بصراخ وانفعال مخيف والفراش الصغير يرتج من أسفله من عنف حركته فوقه, اقترب منه والده سريعًا يقول بخوف:
-اهدى, اهدى يا حبيبي ماتعملش في نفسك كده, كنت عاوز تموت وتسبني يا مجد؟
أردف بالأخيرة معاتبا, ليضحك “مجد” بألم:
-وانا عيشتي دلوقتي ايه! مش موت! هفيدك بإيه… بقيت عاجز وعاوز اللي يعولنا احنا الاتنين… بقيت عاجز يابا, بقيت عااااااجز…
صرخ بالأخيرة صرخة جهورية رجت قلوب الواقفين ليقترب الطبيب ويفرغ حقنة في المحلول الوريدي والتي فور ان تسربت إليهِ من بين ثورانه حتى ارتخى ورويدًا ذهب في نوم عميق.
********
عودة للحفل….
-قولتلك متقربيش من مازن تقومي تسبيه يقعد معاكِ؟ انتِ بتفهمي ولا مابتفهميش؟
نفضت ذراعه الذي يمسكه بقوة وهي تقول صارخة بهِ:
-انا اللي مبفهمش! وانتَ واللي بتعمله ايه! نيوتن! انتَ ازاي تسمح لنفسك تعلن خطوبتنا… انتَ بتعمل ايه يا جدع انتَ؟ عاوز توصل لفين؟ وساحبني وراك زي التور! انا من اللحظة دي مش هعمل حاجه غير لما افهم.
رد ببرود أغاظها:
-مش شغلك تفهمي انا عارف انا بعمل إيه.
رفعت حاجبها له بتوعد وقالت:
-كده؟ حلو اوي, هرجع للحفلة واقولهم ان كل اللي قولته كلام فارغ واني مش خطيبتك وشوشرة بشوشرة بقى! على الأقل دلوقتي اكيد بيقولوا عليا خطافة رجالة وواحده شمال ظبط معاك عشان املاكك وخدتك من ابنك ومراتك, لكن لما يعرفوا هيقولوا إنك اتجننت, هيقولوا شاهين بيه المنشاوي مبقاش عارف بيقول إيه.
امسك ذراعها الذي تشيح بهِ بقوة لاويا إياه خلف ظهرها مقتربًا بوجهه منها وهو يقول بغضب مخيف:
-جن اما يلغبطك, مين ده يا بت اللي اتجنن! اتعدلي يا فيروز عشان متندميش على اليوم اللي شوفتيني فيه.
ضربت صدره بذراعها الحر الآخر وهي تهتف بعنفوان وعصبية:
-هو انا لسه هندم؟ لسه هندم! انا كرهت اليوم اللي قبلت بخطة مازن فيه, انتَ مش طبيعي وبتعمل تصرفات مش طبيعية, يا مجنون..
جحظت عيناه على لفظها الأخير وإشارتها على رأسها بعلامة الجنون, ليمسك فكها بقوة كادت تكسره وهو يهدر بها:
-طب جنان بجنان, كتب كتابنا آخر الأسبوع الجاي, والفرح بعد شهر..
هدأت لثواني جاحظة الأعين تحت نظرته الشامتة بحالها, وشحوب وجهها وصدمتها بِمَ قاله, لكن سرعان ما نفضت صدمتها وهي تقاومه لتحرر ذراعها منه وتقول:
-لما تشوف حلمة ودنك… ده انا اموت نفسي قبل ما تعملها, يا مجنون يا بن المجانين..
صرخت حين هبط بكفه على فمها يصفعه بقوة غاشمة شعرت أن أسنانها قد وقعت من قوة الضربة, وقال بنبرة أثارت بها الرعب:
-ورحمة أمي يا بنت ال*** لو مالميتي لسانك لأقطعهولك, اخرسي..
صرخ بها حين أوشكت على الاعتراض والصراخ بهِ وأكمل:
-اوعى تفكري إني ماقدرش اعمل معاكي حاجة واربيكي, انا شاهين قادر اخليكي تكرهي حياتك, قادر اوصلك للانتحار من غير ما ادخل, فعقلي وارسي كده عشان متأذيش نفسك بنفسك, انا مش من النوع اللي يقولك لو مش ست كنت عملت…. انا بعمل سواء ست أو راجل, لأنها مادام ست عاوزه تتربى وتتعلم الأدب يبقى اربيها.
نجح في إثارة خوفها, وقلقت أن يفعل لها شيء لن تتحمله, فقررت اتباع أسلوب مختلف فقالت بنبرة حزن وهدوء:
-هو حضرتك يعني يرضيك اللي بتعمله معايا ده!؟
-اه يرضيني.
شعرت بأن ذراعها بالتأكيد قد كُسر فرفعت عيناها الدامعة بوجع له وهي ترجوه:
-طب ارجوك سيب دراعي حساه اتكسر والله.
نظر لها لثانية واحدة قبل أن يدفعها بحدة بسيطة ووضع كفه في جيب بنطاله يراقبها في صمت وهي تمسك ذراعها تتفحصه بوجه متألم, فنفذ صبره يقول:
-هبقى اجبلك مرهم كدمات.
رفعت رأسها له بغضب وغيظ كظمته متذكره تهديده لها, اخذت نفس عميق وقالت:
-انا محتاجه افهم ليه بتعمل كل ده؟ هتستفاد ايه؟ كمان…كمان حرام عليك مراتك والله, انا لو منها كنت موت بقهرتي وجوزي بيعلن خطوبته وانا لسه على ذمته, يعني لو في مشاكل بينكوا حلها معاها بشكل ودي, ولو مش عشانكوا عشان السكر ابنكوا يستاهل تحاولوا عشانه.
-ملكيش دعوة, اللي بيني وبين عيلتي ملكيش دخل فيه, محدش عينك مصلحة اجتماعية.
صدمها رده ووقاحته, فضغط على أسنانها بقوة وهي تتحكم في غضبها لأقصى حد أمام هذا المستفز, زفرت نفس طويل ثم ابتسمت ابتسامة بسيطة تقول بهدوء:
-طيب, خليني في نفسي احنا بينا اتفاق إنك هتستخدمني ضد مازن عشان تقلب لعبته عليه, مافهمش انا بقى إيه علاقة الخطوبة وكل الحوارات اللي عملتها بعد كده باتفاقنا, انتَ باللي أعلنته النهارده ورطني معاك وعقدت الحكاية… وأكيد يعني حوار كتب الكتاب والفرح ده كنت بتضايقني… صح؟
تساءلت بخوف واضح جعله يبتسم في خبث وهو يرى رعبها وانتظارها الإجابة, تلاعب بها وهو يقول:
-طول ما انتِ مؤدبة أظن هنتفق.
مررت لسانها بداخل فمها في حركة إجرامية وشعور بداخلها يصرخ بها “اقتليه ولا حرج عليكِ”!
وفجأة استمعا لصوت “شدوى” تقول بنبرة مخيفة:
-اوه, جوز الكناريا هنا! إيه مش قادرين تبعدوا عن بعض مسافة الحفلة!
ثم نظرت ل “فيروز” بابتسامة غريبة وهي تقول لها:
-يا ترى جبتيه في مكان بعيد وهادي عشان تعرضي عليه خدماتك وتسحريه أكتر! رغم إن مفكيش شيء يسحر, بس يا ترى بقى ساحراه بإيه!
أو بيعجبه إيه فيكِ.
تصنعت التفكير لبرهة ثم قالت بابتسامة خبيثة:
– يمكن بتعجبيه وانتِ في سريره!
-شدوى!
صرخ بها “شاهين” بقوة جعلت ابتسامتها تختفي وهي ترى ملامحه تتحول للقتامة, الغضب ينفر من عروقه, ونظراته مميتة.
-دي تاني مرة تغلطي وتعيدي أخطائك… لتاني مرة بتذكري إني مش حلوة ومعجبوش, وبتذكري إن في علاقة غير شرعية بينا… المرة اللي فاتت جبتك من شعرك ومسحت بيكِ بلاط الفيلا, تحبي تجربي بلاط الفندق!
-وانا المرادي مش همنعها.
قالها “شاهين” لتنظر له “فيروز” بدهشة من موقفه لكنها سرعان ما تحولت لابتسامة خفيفة وتحفز لتجربة الأمر مرة أخرى.
ولكن لم تعطي لها “شدوى” فرصة حين انتفضت صارخة كالمجنونة تمامًا, وهي تضرب فخذها تارة بكفها, والأرض بقدمها مرة أخرى, وقالت بدموع وحسرة:
-ليييييه! بتعمل فيا كده لييييه! كل ده عشان غلطة! غلطة واحدة مش قادر تغفرهالي يا شاهين, حبك ليا ميغفرش غلطتي, تكسرني كده! تفضل دي عليا!
أشارت لفيروز باحتقار وأكملت بكلمات جارحة:
-السودا, اللي مفيهاش ميزة واحده, لا جمال ولا نسب ولا تشبه للهوانم في شيء, حتة جربوعة واطية جبتها من داهية وبتفضلها عليا! يا ترى طلبت منك تطلقني ولا لسه؟
-اخرسي يا شدوى.
قالها “شاهين” محذرًا من التمادي أكثر, وربما عدم اتخاذه لرد فعل الآن هو حالتها الغريبة والمقلقة فغالبًا هي على شفا الانهيار, صمتت لثانية لتجذب خصلات شعرها بقوة وهي تتابع بأعين شاخصة:
-اوعى…اوعى تكون طلبت منك تطعن في نسب تيم! اوعى يا شاهين تتخلى عني وعن ابني بسببها!
-اخرسي بقولك…
قاطعها بعنف وهو يتجه لها يمسك ذراعها يحاول التحرك بها تحت رفضها, ولكن “فيروز” شعرت أن الفرصة قد أتت لها على طبق من ذهب لتعرف حقيقة أمرهم, فركضت له تجذبها منه بقلق مصطنع:
-حاسب يا شاهين دي باين حالتها صعبة.
دفعتها “شدوى” بغضب ونظرت لها مكملة:
-عاوزه ولادك منه يكونوا الورثة الحقيقيين له صح؟
-اسكتي..
زجرها “شاهين” وهو يجذبها من ذراعها بقوة لتلتفت له, ولكن وقفت “فيروز” حائل وهي تدفع ذراعه بجسدها وتفصل بجسدها بينهما قائلة بلطف زائف:
-يا شاهين براحة هي شكلها أعصابها تعبانة… على فكرة أنا مفكرتش كده..
قاطعتها “شدوى” التي أصبحت في جهة مقابلة وقالت صائحة في وجهها:
-ماتعمليش فيها بريئة! أنا لو مكانك كنت هقول كده, كنت هطلب منه ينفي نسب تيم له عشان ميشاركش ولادي في الميراث وهو مش ابنه, عشان متكونيش قدام الناس ام ابنه وهو اصلاً ملمسكيش..عشان…
قاطعتها “فيروز” مرددة بوجه مصدوم وأعين جاحظة وفاه فاغر:
-تيم مش ابنه!؟
هدأت ثورة “شدوى” فجأة وقد شعرت بشيء ما مريب, نظرت ل “شاهين” تسأله بتوتر:
-هي…هي ماتعرفش!
-غبية.
الكلمة الوحيدة التي رددها “شاهين” بكره بعدما فضحت كل شيء أمام “فيروز” التي تشعر بدوامة تلف بها الآن…