تتكرر المشاهد أحيانًا ،تتكرر بنفس مرارتها ،بنفس ثقل الروح والعتمة ونفس أنسحاب الأنفاس والصدمة والعجز.
أستند "عزيز" بجسده إلى أقرب جدار بعدما وقع تأكيد الخبر له كصاعقة.. من أتوا في هذا الحادث منهم في حالة حرجة ومنهم من أنتقلت روحه إلى بارئها.
أغلق "عزيز" عينيه لوهلة حتى يستطيع إلتقاط أنفاسه والقدرة على الوقوف ثم لطم الجدار بيده صارخًا بصوت مُتحشرج.
_ لا يا "عزيز" ، أرجوك متمشيش... لسا هما عايزينك في حياتهم.. ضهرهم هيتكسر وأنا يا "عزيز" تفتكر هقدر أودعك.
وبعلو صوته خرج صراخه واِنْحبست الدموع في عينيه حتى هزمته وفاضت عيناه بهما.
تمالك نفسه بعدما مسح دموعه مُتنهدًا بأمل.
_ يا رب.
...
ما هذا الشعور الذي يضيق معه صدره وتزداد خنقته كُلما أرتفعت أصواتهم بالحديث أو الضحكات، والسؤال الذي بات يتردد صداه داخله ، ما الذي فعلته به تلك الفتاة التي تُقارب عمر أولاده حتى تجعل عقله مُشتتًا وضائعًا معها ، ما هذا الجنون الذي صار عليه... فهو ظن بالأيام الماضية أن ما مر به معها من لقاءات كانت هي من تُخطط لها ليست إلا نزوة عابرة يستطيع تجاوزها.
وهل هو أستطاع تجاوزها مثلما ظن ؟ والجواب كان واضحًا على وجهه المُكْفَهِر.
مضغ "هشام" لقمة الطعام التي دسَّها بين شفتيه بصعوبة لكن اللقمة انحشرت في حلقة عندما ارتفع صوتها بحماس.
_ في حاجة بينا مشتركة، حُب الخيل.
توقف "قصي" عن تناول طعامه و ضحك بخفة، فهو ينجذب لشقاوة النساء ومرحهن.
_ لأ كدة أتنين.
عقدت "زينة" حاجبيها بطفولة ونظرت إليه ، فتعالت ضحكات "إلهام".
_ "زينة" شاطرة في حاجات كتير إلا الدراسة .. تعرفي يا مدام "لبنى" حاولت كتير أخليها تبدء شغل معايا لكنها رافضة تمامًا نمط شغلي.
أرتفع حاجبين "لبنى" بنظرة لم تخفى عن عينين "إلهام" ثم أخذت تُحرك رأسها وهي تمضغ قطعة اللحم ببطء داخل فمها ، تأكدت "إلهام" من ترحيب "لبنى" وتطلعها لأتمام نسب أخر بين العائلتين.
_ خالتو من فضلك سبيني أقرر أنا بنفسي عايزه إيه.
إفتر ثغر "لبنى" عن ابتسامة عريضة، فهي تختار نسب آخر راقي لأبنها.
_ أنتِ في سنة كام يا "زينة".
داعبت شفتي "أشرقت" إبتسامة مُستهزءة وفاترة ونظرت نحو شقيقها الذي تعلم تمامًا أن حديثه مع "زينة" إلا حديث لطيف هو بارع فيه ولا يحمل نية لخِطْبتها.
إلتقط "قصي" كوب الماء الموجود أمامه وتجرعه بالكامل في اللحظة التي هتفت فيها "إلهام".
_ في سنه رابعة إعلام.
لم تتوقف "إلهام" فقط عند هذا بل أخذت تُخبر "لبنى" عن رُقي وأسم الجامعة التي تدرس فيها "زينة" والتي تنتمي لإحدى مجموعة الجامعات الخاصة ولا يرتادها إلا ابناء صفوة المجتمع.
نسب راقي، و مال وجمال.. هكذا بدأت تعد "لبنى" مميزات العروس المقترحة.
شعر "هشام "بانْدلاع النيران داخله ، فهو لو ظل جالس هكذا ستنفلت الأمور منه وربما طاح بهم جميعًا وأولهم تلك التي يوْدَّ نزعها من مقعدها ودفعها خارج منزله.
طرق بكوب الماء على الطاولة بعنف بعدما أرتشف منه القليل ثم نهض وصوب أنظاره نحو "لبنى" ، قائلًا بصوت أجش يتغلغل في نبرته الغضب.
_ بلغيهم في المطبخ يعملولي قهوتي ويجبوها ليا في أوضتي.
حدقت به "لبنى" ثم أبتسمت بعدما تلاشى ذهولها بسبب تصرفه.
_ حاضر يا حبيبي.
والصورة العائلية الجميلة لابد أن تُرسم بإتقان أمام الضيوف.
رمقته "زينة" خلسة ثم انفرجت شفتيها بابتسامة خفيفه ، فقد وجدت طريق أخر لها حتى تُوقد غيرته.
_ ماما، من فضلك خليهم أتنين قهوة لأني داخل اتكلم شوية مع سيادة المستشار.
ابتسمت له "لبنى" بحبور ثم هزت رأسها إليه، لم تشغل "أشرقت" عقلها بتلك الأحاديث الدائرة بينهم ، كل ما كان يدور برأسها قرار "مراد" من عقد قرانهم بالغد وإنه جهز حفل يليق بها.
...
ظل "هشام "يدور حول نفسه في غرفته بوجه واجم، لا يُصدق ما تفعله زوجته رغم حديثهم عن هذا الأمر الذي أخبرها عن إستحالته.
زفر أنفاسه وهو يُخلل أصابعه في خصلات شعره التي ينبت بينهم خُصل من الشيب وكأن عمره لم يُقارب الخامسة والخمسين.
_ بابا ممكن أدخل.
تساءل بها "قصي" بعد أن فتح باب الغرفة بعد طرقه عليه.
توقف "هشام" عن تحركه المُفرط حول نفسه ثم إستدار بجسده حتى لا يُلاحظ تجهم وجهه وهتف بصوت واهن.
_ لو هتتكلم على كتب كتاب أختك، هي موافقه وهي صاحبة الشأن.
زفر "قصي" أنفاسه بضيق ،هو حتى هذه اللحظة لا يرتاح لأمر هذه الزيجة.
_ أنت إيه رأيك في "زينة"؟
تمتم بها "هشام" فجأة بعدما ألتف بجسده إليه ،عقد "قصي" حاجبيه وأبتسم.
_ بنت جميلة لكن أنا...
قاطعه "هشام" دون أن يعطيه فرصة لمواصلة حديثه الذي كان سيوضح فيه، أن شخصية "زينة" تروق لها كصديقة لكن فتاة أحلامه هي بعيدة تمامًا عنها ولن يتزوج بالطريقة التي تتبعها والدته في إنتقاء عائلات الحسب والنسب.
_ أعمل حسابك بعد جواز أختك هتروح معايا تشوف بنت اللواء "فخري" ، أنا شايفها عروسة مناسبة ليك.
...
تعجب العم "سعيد" من مُهاتفة "عزيز" له ،فأسرع بالرد عليه وهو يُغادر الفيلا مُتجهًا إلى المسكن الخاص بعائلته.
_ أيوه يا بيه، أه "ليلى" مع "عايدة".. ما أنت عارف هتروح فين يعني غير عندنا..
ثم قهقه العم "سعيد" وأستكمل حديثه مازحًا.
_ المشوار من الفيلا لـحد السكن بتاعنا بعيد أوي، فعشان كده بتوحشك..
أطبق "عزيز" جفنيه قابضًا على أحد كفوف يديه بقوة، هو لا يستطيع الكلام و العم "سعيد" جعل الأمر صعبًا عليه بعدما تأكد من عدم وصول الخبر إليهم.
_ أنت سمعني يا بيه ، إيه الصوت ده؟
وأنطلقت شهقة العم "سعيد" مُكررًا سؤاله بعد سماع صوت صافرة الإسعاف.
_ إيه الصوت ده يا بيه، أنت واقف في الشارع.
حرك "عزيز" يده على رأسه ثم خفضها ، فما عساه أن يفعل أو يقول.
_ يا بيه، طمني عليك.
صوت العم "سعيد" أنتشله من تلك الغمامة التي أحتلت عقله وأعادت له ذكريات لا تُنسى ثم نظر حوله وبلسان ثقيل خرج صوته.
_ أنا بخير يا عم "سعيد"، عايزك أنت بس تكون بخير.
توقف العم "سعيد" عن سيره وتحجرت عيناه.
_ في إيه يا بيه متخبيش عليا، صوتك بيقولي في حاجة...
...
فتحت "ليلى" الباب في مسكن عمها بعدما مسحت تلك الدمعة التي فرت من عينيها ، فحديث "شهد" معها اليوم كان فظًا حتى طريقة إصرافها لها من غرفتها كانت أشبه بالطرد خاصة بعد أن اخبرتها أن "سيف" كان يحتاج إلى مُساعدتها ليُفاجأ زوجته.
_ "سيف ".
نطقتها في ذهول ونظرت إليه ثم أسرعت بخفض رأسها حتى لا ينتبه على لمعة الدموع بعينيها.
أبتلع "سيف" لعابه ، فهو لا يعرف من أين يبدء الكلام وقد تمنى داخله لو لم يوكل له عمه هذا الأمر الصعب وقد أبلغه الخبر وهو عائد إلى المنزل.
_ فين "عايدة" و "شهد" يا "ليلى".
قالها العم "سعيد" وهو يتحاشا النظر إليها وقد أتى وراء "سيف" بعدما تمالك صدمته.
ابتعد "سيف" من أمامه ثم ربت على ظهره...
_ هو في إيه؟
أتت "عايدة" على صوت "ليلى" ونظرت إليهم بتوجس وسرعان ما كانت تخرج صرختها عندما نطق "سيف" أسم "عزيز" زوجها.
...
تراجع "عزيز" إلى الوراء ثم أطرق رأسه بعد أن تلقي الخبر من الطبيب الذي قدم له مواساته.
_ عملتها يا "عزيز" ، سيبتنا ومشيت بسرعه ، إنّا لله وإنّا إليهِ رّاجعُون.
سار بضياع نحو أقرب مقعد قابله وتهاوى بجسده عليه ثم وضع رأسه بين يديه.
توقفت "ليلى" مكانها ومثلها فعلت بقية العائلة ، لتُسرع إليه بعدما تركت ذراع زوجة عمها.
_ "عزيز" ، فين عمي.. أوعى تقولها يا "عزيز".
أرتعشت أهدابه وأطبق شفتيه بعجز ورفع عينيه إليها ثم اتجه بأنظاره نحو الباقيين.
سقطت تحت قدميه وقد هلعه مظهرها وهي ترجوه ألا يخبرها أن عمها رحل.
وضع "سيف" يديه على رأسه غير مُصدقًا، أن ما يسمعه حقيقه...
بكاء "شهد" ولطمها لوجهها ثم هرولتها من أمامهم، جمد ملامح وجهه وجعله يركض ورائها مناديًا بصوت بالكاد خرج من شفتيه.
_ "شهد ".
...
توقفت "زينب" عن تحريك المنشفة على خصلات شعرها المُبتلة وقد ضاقت حدقتاها في دهشة وهي تراه يدور بعينيه بين ثوبين لها ويتساءل في حيره عن الأنسب.
تحركت عيناها نحو الخزانة المفتوحة، بالتأكيد عبثه طال كل شئ من أغراضها حتى ينتقي من بين أثوابها هذان الثوبان.
تدفقت الدماء إلى وجنتيها عندما وصلت بها أفكارها إلى تلك النقطة، "صالح" يعشق العبث في تلك القطع الصغيرة الخاصة بها بل ويخبرها بتلك الألوان التي يُفضلها ويحصرهم في ثلاثة ألوان.
رفع عينيه عن الثوبين بعدما داعبت رائحتها الطيبة أنفه ثم أنفرجت شفتيه بابتسامه واسعة وأطبق جفنيه بخفة هامسًا ببحة رجولية خشنة.
_ لافندر...
ارتبكت "زينب" عندما فهمت مقصده ،فكل شئ تستخدمه يحتوي على رائحة اللافندر، تلك الرائحة التي لا تُناسب ذوقه لكن معها كل شئ صار مُختلفًا.
ترك الثوبين على الفراش وأقترب منها ثم التقط المنشفة وبدء يُحركها على شعرها ببطء.
استطاعت أخيرًا تمالك أنفاسها وتساءلت.
_ هو أنت كنت واقف بتعمل إيه ؟
ابتسم وتحولت حركة يديه على خصلات شعرها بوتيرة أسرع جعلتها تدفع يديه عنها ضاحكة.
_ السؤال مش عجبك طبعا و ردك هيكون...
وبصوت حانق أردفت وقد فشلت في تقليد نبرة صوته.
_ كل حاجة واضحة قدامك مش محتاجة سؤال.
وألتوت شفتيها في عبوس ثم تأففت بعدما نفخت خديها.
صدحت صوت قهقهته ، إنها كتلة من اللطافة... ولديها خدود منتفخة تشبه خدود الصغار.
اجتذبها من خديها بخفة، فهتفت ممتقعة الوجه.
_ "صالح" سيب خدودي، أنت عندك عداء معاهم.
تعالت ضحكاته بجنون ،فهو يعشق قضمهم ثم تقبيلهم.
_ "يزيد" موصيني عليهم،كل لما يكلمني يقولي بوسلي "زوزو" من خدودها ، أبني مؤدب أوي أوي في الوصايا بتاعته.
ورغمًا عنها ضحكت حتى دمعت عيناها.
_ "صالح" مش قادرة أوقف ضحك، إحنا بقينا عاملين إزعاج للغرف المجاورة.
خفق قلبه عندما وجدها تُلقي بجسدها بين ذراعيه حتى تستند عليه بعد أن أرتخت عضلاتها بعد نوبة الضحك.
ضمها إلى صدره زافرًا أنفاسه بعمق.
_ أضحكي يا "زينب"، عايزك تفضلي تضحكي علطول.
رفعت وجهها إليه ،لتتمكن من تمرير يدها على خده.
_ أقولك على سر...
هز رأسه مبتسمًا، فتوردت وجنتاها خجلًا.
_ لما وافقت أتجوزك... وافقت عشان أنت حلو.. شبه الممثلين كده.. قولت لنفسي هو طالع وسيم أوي كده لمين.
خرجت قهقهته هذه المرة مُتقطعة، فمعدته آلمته من كثرة الضحك.
_ طالع وسيم لـ عمي الله يرحمه.
هي تعلم أن عمه الوحيد هو والد "سارة" والدة "يزيد" و زوجته الراحلة.
_ "سارة" كانت حلوة أوي عشان كده "يزيد" ملامحه جميله زيكم.
التمعت عيناه بوهج خطف فؤادها وتنهد.
_ "يزيد" شبه "سارة" أكتر ، "سارة" كانت جميلة أوي وطيبة.. كان نفسي تفضل عايشه وأحقق ليها كل أحلامها يمكن كنت غفرت لنفسي خطيئتي.
ثم أشاح وجهه عنها حتى لا ترى تدفق الدموع من مقلتيه.
ابتلعت ريقها، فالندم تجلَّى بوضوح في عينيه.
دفنت رأسها بحضنه وتشبثت به.
_ "صالح" هو أنت ليه كنت واقف محتار بين الفستانين.
قطب جبينه ثم تلاشت عقدة حاجبيه سريعًا ، فرفعت رأسها مرة أخرى إليه.
_ هو أنت ليه كمان لابس طقم شيك وكأننا خارجين دلوقتي.
تنهد بزفرة طويلة يتساءل داخله ، ما الذي تملكه هي حتى تحول مزاجه في لحظة وتفقده صوابه.
_ هو أنا قولتلك قبل كده إنك مجنونه يا "زينب".
زمت شفتيها بتلك الطريقه التي صار يعشق رؤية شفتيها عليها.. فهي دعوة منها لينال حلوته.
_ مش فاكره.. أه أنت بتقولي ديما...
وبقية الحديث ضاع كما يضيع هو مع شهد شفتيها وبأنفاس هادرة هتف بعدما ابتعد عنها.
_ عايزك تتأنقي في الفستان الأحمر، أختيار موفق إنك جبتي معاكي.
أعتلت الحيرة مرة أخرى ملامحها، فابتسم مُتحاشيًا النظر لها.
_ هخرج نص ساعة وراجعلك تكوني خلصتي وياريت متسأليش عن حاجة وتكوني بنوته شطوره يا "زوزو".
لم يدع لها فرصة لتتساءل، فهو غادر الغرفة سريعًا تحت نظراتها المدهوشة.
_ هو أتجنن ولا إيه ، هنخرج نسهر على الباخرة دلوقتي إزاي ، ده الساعة قربت على تلاته قبل الفجر.
...
تلاعب "مراد" بقدَّاحته مبتسمًا بإنتشاء.
_ كلها ساعات وتكوني مراتي يا بنت المستشار.
وأنطلقت صوت ضحكاته ثم تمدَّد على الفراش مُحدقًا بسقف غرفته.
_ ليه في ناس بتحاول تطلع أسوء ما فينا، أنتِ أختارتى طريقك معايا يا "أشرقت" وزي ما "عدنان" دمر أمي زمان وحولها لبقايا ست جيتي ليا برجلك عشان أدوق المتعه ديه.
توقدت عيناه بشر ثم سحب نفسًا عميقًا وقد تلاشت تلك النيران التي تتأجج داخله مُغمغمًا بالوعيد.
_ أهي الحاجة الوحيدة اللي ممكن أطلع بيها من الجوازة ديه إن "زينب" هتكون تحت عيني وأنتِ بتحبيها أوي يا بنت المستشار.
عادت ضحكاته تعلو إلى أن شعر بالأختناق ثم أغمض عينيه وتعالت وتيرة أنفاسه متذكرًا الحقيقة التي صرح بها له "مازن" بالأمس وقد كانت واضحة له منذ ذلك اليوم الذي أخبره فيه إنه هائِم بأمرأة قريبة منه لكنها زوجه.
« مش قادر أتخطاها يا "مراد" ،بحاول أحب "سما" لكن مش عارف... هي مش شبها.»
...
تسارعت دقات قلبها مع كل خطوه كانت تخطو بها معه بعد أن قام بوضع رباط على عينيها.
_ أنا مبحبش أغمض عيني، خليني أشيل الرباط.
اتسعت ابتسامة "صالح" من تذمرها ثم جذبها يدها برفق حتى تُكمل سيرها.
_ إيه ده إحنا طالعين على سطح الباخرة.
توقفت "زينب" عن السير مُجددًا وهتفت وهي ترفع رأسها لأعلى.
_ حاسس إني ماسك أيد "يزيد" ، "زوزو" مش أنتِ واثقة فيا.
حركت رأسها إليه، فربت على وجنتيها وأستطرد بمزاح.
_ متخافيش يا "زوزو" مش هرميكي في النيل.
تجهمت ملامح وجهها، فضحك بخفوت.
_ خليكي بنت مطيعة يا "زوزو" وأتحركي معايا.
تنهدت وأذعنَت له إلى أن صاروا على سطح الباخرة ، باغتها بإزالة عصابة العينين وتراجع إلى الوراء منتظرًا أن يرى ردة فعلها...
...
نظرت "زينة" حولها برهبه، فالمكان الذي يقودها إليه ذلك السائق الخاص به بتلك الساعه يزيد من هلعها.
فركت يديها ببعضهما وحدقت بالطريق المُظلم الذي تسلكه السيارة.
_ إحنا رايحين على فين؟
لم يرد عليها، فهذه هي الأوامر وعليه تنفيذها لكن صراخ "زينه" عليه ومحاولتها في فتح باب السيارة بعدما تملك الخوف منها جعلت السائق يتحدث أخيرًا.
_ أوامر "هشام" باشا إني متكلمش يا هانم وحضرتك جيتي معايا بأرادتك.
توقفت "زينة" عن لطم زجاج السيارة وأزدردت لعابها ثم استندت برأسها إلى ظهر المقعد.
غفت دون شعور منها ، فالخوف سيطر عليها بالكامل وبعد وقت قصير وصلت السيارة إلى ذلك المكان المهجور الذي ينتظرهم به "هشام"...
❤️❤️❤️❤️
كُلما مرت السنين يُدرك المرء أنه يعيش على مخزون الذكريات الجميلة التي خبأتها الأتربة، ذكريات لا تمحيها الخيبات ولا صفعات الحياة ولا تلك اللحظات التي نتجرع فيها المرارة ، ربما لوهلة نظن أننا فقدناها من ذاكرتنا لكن مع أول مشهد نستعيد به ذكرى دفنتها الأيام مع الراحلين ،يعود كل شئ... كل شئ بتفاصيله.
«عدي معايا واحد ، أتنين ، تلاتة وغمضي عينك وأتحركي مع خطواتي يا "زوزو".»
« بابا أنا حاسه إني فراشة طايرة، بابا هو أنا أميرتك، بقيت شاطرة خلاص في التانجو. »
ويدور بها بخفة ومع كل حركة يتحرك بها بين ذراعيه يخبرها أنها أميرته ولن تحتل امرأة قلبه غيرها.
«محدش مدلع البنت ديه غيرك يا "أسامة"، تانجو إيه بتعلمه ليها.» جدتها تعترض كعادتها على أمور لا تراها من وجهة نظرها صحيحة، فيكفي دروس السباحة وعليها أن تُركز في دراستها.
تنظر إلى جدتها بوجه حزين ثم تضرب الأرض بقدميها وتهرول إلى غرفتها باكية.
«شوف البت مش عجبها كلامي.» ترفع جدتها صوتها حتى يصلها حديثها.
«أمي يا حببتي، أنتي أكتر حد مدلع "زينب" ولو ضغطت عليكي شوية في العياط هتاخديها أنتي وتوديها بنفسك دروس التانجو.»
« لا أنا المسخرة ديه متعجبنيش ، أنا عايزاها تختم حفظ القرآن السنادي، عايزه أرفع راسي بيها وسط الجيران، ده أنا ناويه أوزع رز بلبن للجيران يومها.»
ضحك على ما تعزم عليه والدته من توزيع أطباق الأرز بلبن على أفراد البناية مثلما وزعت عليهم من قبل طبق القلقاس الذي تتميز في طهيه.
« "زوزو" هترفع راسك يا حجة "زينب" متخافيش".»
لتأتي إليهم هي راكضة بعدما جففت دموعها.
« وافقي بقى يا تيته.»
والجده بالنهاية ترضخ ، فهل تملك قدرة على الرفض أمام دموعها؟
«بضعف قدامك يا بنت "أسامة"، ما أنا معنديش غيرك.»
أبتسامة عريضة تُداعب شفتيَّ "أسامة" وهو يرى والدته تحتضن صغيرته وتشم رائحتها. أخفت حسرتها في حضن حفيدته، فهي أكثر الناس دراية بأبنها...هو يسعى جاهدًا حتى يجعل أبنته تعيش ما يعيشه أبناء إخْوته.
والذكرى تعود بمقتطفاتها ، فتعيد معها سعادة رحلت مع الراحلين.
شعر "صالح" بالوجوم وهو يراها تجهش بالبكاء ثم أسرعت بوضع يديها على شفتيها حتى تكتم صوت شهقاتها.
أقترب منها ،فتراجعت بخطواتها إلى الوراء.. فازدادت دهشته وذهوله.
_ "زينب" معقول مفاجأتي وحشة أوي كده.
هزت رأسها سريعًا رافضة ما يظنه وبنبرة ثقيلة خرج صوتها مهزوزًا.
_ لأ ديه حلوه أوي.
نظر حولها ثم تساءل بحيرة بعدما أختفت سعادته.
_ طب ليه بتعيطي، أنا حاولت أطلع المكان بشكل حلو.
تعالت دقات قلبه عندما باغتته بأحتضانه وأحاطت خصره بذراعيها.
_ أصل أفتكرت بابا و تيته.
تلاشى ذهوله بعدما بدء يستوعب الأمر ومرر يده على ظهرها.
_ وأفتكرتي إيه معاهم يا "زينب".
كادت أن تخبره بتلك الذكرى البعيدة لكن صوت تلك المفرقعات النارية وأنتشارها بالسماء جعلها تدور حول نفسها ورأسها مرفوعة إلى أعلى.
_ تقبلي تتجوزيني تاني يا "زينب".
توقفت عن الحركة ونظرت إليه تُرفرف بأهدابها بذهول ثم أغلقت عينيها وأخذت تسأل نفسها ، هل ما تراه حقيقية بالفعل ؟
اندهش من تصرفها وتلاشت تلك الابتسامة التي زينت شفتيه.
أنسابت دموعها على خديها و فتحت عينيها حتى تتأكد مما رأته ، فجلوسه على أحد ركبتيه ويمدَّ لها يده بخاتم زواج كان إحدى أحلامها التي ضاعت مع قائمة تنازلاتها حتى تُخلص جدها من عبئها.
خفق قلبه بقوة عندما وجدها تزداد في بكائها، فنادها بصوت خرج مُتحشرجًا.
_ "زينب"، ردي عليا موافقة نتجوز من تاني.
وكلمة واحدة منها عاد معها قلبه للنبض وأشرق وجهه مُبتهجًا.
استمرت بتحريك رأسها إليه ومدّت له يدها.
_ قلبي بيدق أوي...
قالتها والتقطت يده ، لتضعها على موضع قلبها.
_ أفهم من كده إنك فرحانه بجد يا "زينب".
تلألأت الدموع بعينيها وعادت ترفع رأسها إلى السماء.
_ أوي أوي، نفسي أقول لكل الناس إني فرحانه أوي...
تسارعت أنفاسه وتوهجت عيناه بنظرة عاشقة لرؤيتها سعيدة ، "زينب" مثلما شبهتها والدته له في بداية زواجهم، فتاة بسيطة تحلم بأحلام الفتيات الوردية وصدمتها من هجره لها كانت كمن يلقي بالكوب فيتهشم إلى قطع ثم يسأل نفسه كيف يجمع قطعه ليعيده مرة أخرى ؟
دمعت عيناه حين تذكر ليلة عُرسهم وتلك النظرة التي رأها في عينيها، نظرة شخص يتوسلك أن تُخبره ما يسمعه منك هراءً.
بدأت الموسيقى الهادئة الخاصة برقصة التانجو تعلو بالمكان ،فكل شئ رتب له مع العاملين بالمكان وكأنه ينظم رحلة جوية.
_ هاتي أيدك خلينا نرقص.
هتف بها مُلتقطًا يدها حتى تتوقف عن حركتها التي تشبه حركة الصغار وهم فرحين.
_ أنت عملت كده عشان أنا قولتلك نفسي أرقص تانجو هنا.
تساءلت بها بصوت مُتَهدِّج، فهز رأسه إليها.
_ قولتلك لو أطول أعمل أي حاجة تفرحك هعملها يا زينب... أنا عايز أعمل ليكي كل حاجة...
وضاع بقية الكلام مع تلك القبلة التي بادرت هي بها، قبلة خطفت معها أنفاسه...
_ بحبك يا "زينب".
وفي داخل نفسها رددت تلك الكلمة له لكنها لا تستطيع قولها الآن، هي تخشى أن يكون هذا حلمًا جميلًا...
...
أقترب "هشام" من السيارة بخطوات حذرة بعدما أخبره سائقه أنها غفت بالسيارة بعد أن حاولت فتح الباب والقفز منها.
أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما ووجها أنظاره نحو سائقه مُشيرًا إليه بأن يبتعد.
نفذ السائق أمره سريعًا وأستدار بكامل جسده حتى لا يرى شيئًا.
ببطء فتح "هشام" باب السيارة ثم أبتلع ريقه وأرتجف قلبه برجفة لم يعهدها عندما وجدها مُنكمشة على نفسها وكأنها تحمي نفسها بتلك الوضيعة التي غفت عليها.
_ "زينة."
خرج صوت "هشام" باسمها خافتًا ثم كرره لمرات ومع كل مرة يُناديها فيها تزداد في إنكماشها على نفسها.
أطلق زفرة طويلة من شفتيه قبل أن يمدَّ يده نحوها، ليقوم بهز جسدها.
_ "زينة"...
أصاب الهلع وجهه بعدما أنتفضت من نومتها وجرت جسدها نحو الباب الأخر للسيارة والتصقت به.
_ أنا معملتش حاجة ، متغمضش ليا عينيا.. بخاف من الضلمة، التعبان... التعبان بيقرب مني.
وضعت كلتا يديها على وجهها عندما اقتحمتها ذكرى إختطافها ، مُراهقة صغيرة في عمر الرابعة عشر مُقيدة في صندوق سيارة ومعصوبة العينين.
صوت صراخها زاد من حالة الفزع التي تملكته حينما رأها هكذا، فاجلّى حنجرته حتى يستطيع إخراج صوته.
_ "زينة" متخافيش مش هأذيكي، هاتي أيدك.
_ لأ أنت خطفني وهتعمل فيا زيهم ،هما حبسوني في أوضة ضلمة وحطوا ليا تعابين كتير.
أهتز قلب "هشام" وتأكد أنها تعيش في عقلها اللاواعي ذكرى سيئة.
_ أنا مش خطفك يا "زينة" ، أنا جايبك هنا عشان نتكلم.. مش أنتِ كنتي عايزانا نكون سوا.
توقفت عن البكاء ورمشت بأهدابها عدة مرات، لتستوعب صوته وتتأكد من صورته الحنونه التي تُريدها.
_ أنت قولتلي مش عايز تشوفني تاني، سيبتني ومشيت يومها.. أنت زيهم، محدش فيكم بيحبني.
أشاح وجهه عنها وأخذ يلعن غبائه بسبب تهوره في إحضارها إلى هنا.
_ أنا ليه محدش بيحبني.
تسأله لِما لا أحد يُحبها، وهل هو شعر يومًا بحب أحدًا له ... والدته كانت تفضل شقيقه "مصطفى" عنه ، ووالده كان يحب شقيقته "رحاب" و "أسامة" عنه ، "أسامة" أبن تلك المرأة التي حفرت وجودها في قلب والده حتى بعدما هجرها مُجبرًا ومُرغمًا حفاظً على أبنائه ومنصبه وحتى في زواجة كانت موافقته إرضاءً لوالدته.
_ ليه أنت كمان محبتنيش؟
نبرة صوتها الواهنة تسللت إليه ، فتنهد بقوة ونظر إليها.
_ أنا كنت عايزاك تحبني وبس.
من أين يأتي بالقوة والثبات أمامها؟ ، هذه الفتاة تُسقطه نحو الهاوية التي سقط بها والده من قبل.
أسدل جفنيه متذكرًا صوت والده في إحدى لحظات إنهزامه أمامه حينما كان يُجلده بالكلام.
« أنا عارف إني غلطت يا بني، بس أعمل إيه حبيتها ، متمناش ليك تعيش اللي أنا عيشته.»
_ مينفعش، مينفعش.. أبعدي عن طريقي و طريق أبني.
صرخ بصوت شق سكون الليل، فالتف سائقه -الذي وقف بعيدًا- ناحيته وأخذ يتساءل ، ما الذي صار يفعله رئيسه مؤخرًا ، ما هذا الجنون الذي يحيا به مع فتاة صغيرة لا تُناسب عمره ومكانته القضائية.
أرتعش جسدها مجددًا وأنكمشت على نفسها مرة أخرى ثم أحتضنت وجهها بين كفوف يديها، هو لا يُريدها بحياته... هو يرى قربها منه خطأ عليه الهرب منه.
أبتعد "هشام" عن السيارة وأستند بجسده إلى أقرب شجرة قابلته في تلك الأرض الزراعية التي تعد مهجورة بسبب ندْرة الإهتمام بها.
بدأت أنفاسه تعود لمعدلها الطبيعي ثم فرك جبينه بارهاق.
عاد إليها بوجه جامد ثم دخل السيارة وأغلق الباب، فارتجف جسدها ونظرت إليه مُجفلة.
_ "زينة" أنتِ بنت جميلة وأي راجل بجد يتمناكي لكن أنا منفعش ليكي...
تنهد بصوت مسموع لصعوبة الكلام وتلك الحقيقة وأردف.
_ أولًا أنتِ في عمر ولادي و ثانيا أنا راجل متجوز وحاجات تانيه كتير بتقول علاقتنا متنفعش ومستحيله.
أطبقت جفنيها وشفتيها ،فهي تعلم تمامًا أن علاقتهم مستحيله لكنها لا تتحمل الأبتعاد عنه.
_ أبعدي عن طريقي و طريق أبني، لأنك مبقتيش تنفعي له ولأني أستحالة أقبل علاقته بيكي.. ولادي عندي خط أحمر يا "زينة".
وليته لم ينطقها ، أولاده أغلى شئ بحياته لكن هي ليست شئ بالنسبة لعائلتها وله.
...
أغلق "نائل" عينيه للحظات ثم سحب نفسًا عميقًا قبل دخوله إلى السيارة التي ستتجه بهم إلى القاهرة.
_ نتحرك ولا لسا عايز تشم ريحة الحبايب.
هتف بها "شاكر" مازحًا ثم تجلجلت صوت ضحكته بعدما رمقه "نائل" بنظرة شزْرة.
_ ما أنا بصراحة مشوفتش راجل عايش على الذكريات قدك، سنين طويلة عدت وأنت لسا فاكر.
_ ولا عمرك هتحس يا "شاكر"، قول للسواق يتحرك.
أستند "نائل" برأسه على نافذة السيارة ، فتنحنح "شاكر" قائلًا :
_ يا سيدي لو عايز نرجع تاني بعد فرح حفيدتك نرجع... الواحد بقى مرتاح هنا بجد.
تنهيدة "نائل" القوية جعلت "شاكر" يشعر بالقليل من التأْنيب.
_ رحلة الحياة قربت تخلص يا "نائل" وأنت لسا فاكرها.
هزَّ "نائل" رأسه بألم، فهو ينتظر اليوم الذي ستغادر فيه روحه جسده وتنتهي به رحلة الحياة.
_ "زينب" مسمحتنيش يا "شاكر"، أنا ضيعت عمرها كله وبعدين سيبتها ورجعت لمراتي وعيالي ورميتها هي وأبني سنين لحد ما قدرت أعرف أشوفهم من تاني...
وتابع بنبرة مريرة.
_ "فؤاد" باشا كان حاطط هدم بيتي وشغلي وتدمير حياتها هي و أبني قصاد إني أبعد عنهم.
ربت "شاكر" على فخذ صديقه متنهدًا.
_ أنت هتقولي على "فؤاد" باشا خال أولادك، منصبه في المخابرات كان يقدر يخلي يعمل فيك أي حاجة بإشارة منه.
واستطرد "شاكر" بمواساة وحزن بعدما تذكر ما فعله بأحفاده.
_ هون على نفسك الباقي من عمرك يا "نائل"، كلنا بنغلط وللأسف في حاجات مبنقدرش نصلحها لأن فات الآوان.
...
شعرت "أشرقت" بمرارة الخزي تغزو قلبها عندما ترددت كلمة بكر رشيد في أذنيها...
تقابلت عيناها بعينين "مراد" الذي توقف عن الترديد وراء الشيخ أثناء عقد القران ووقف الجميع منتظرين ومترقبين ما سينطقه العريس ثم بعدها يُبارك لهم الشيخ زواجهم.
_ قبلت زواجها.
قالها "مراد" أخيرًا بعدما جذب الأنظار إليه وأنحبست معه أنفاسها التي زفرتها دفعة واحدة وأغلقت عينيها لوهلة.
_ مبروك يا حببتي.
تمتم بها "مراد" وأحتضن خصرها ثم أردف مُتسائلًا بهمس خافت.
_ مالك كنتي مخضوضة كده ليه ، كنتي خايفه أفلسع منك.
تجمدت وجه "أشرقت" وجف حلقها ونظرت إليه بحيرة، هي لم تعد تفهم تلميحاته المُبطنة.
ضحك وهو يُداعب خدها وأخذ ينظر نحو من يلتقطوا لهم الصور.
_ أبتسمي عشان الكل بيصورنا.
أبتسمت بالفعل ، فعليها أن تكون اليوم سعيدة ومميزة وتخطف أنظار الحاضرين.
عانقها والدها، فتشبثت بحضنه ثم أتى ورائه جدها الذي سار إليها بخطوات بطيئة مُستندًا على ذراع عمها "مصطفى".
بكت في حضن جدها ولفت بكائها أنظار البعض ،فشدد "نائل" من أحتضانها رابتًا على ظهرها.
_ حبيبت جدها بتعيط ليه دلوقتي.
_ كنت وحشني أوي يا جدو متبعدش عننا تاني ، من فضلك خليك جانبي.
أقتربت "لبنى" منهم وأجتذبت ذراعها برفق.
_ المكياج بتاعك هيتبهدل والناس مش هتفهم إن عياطك عياط فرح ولا أنت إيه رأيك يا عمي.
أمتقعت ملامح "نائل" وأجتذب "أشرقت" إلى حضنه مرة أخرى ثم نظر حوله وأشار إلى "مراد" حتى يقترب منه.
فور أن أقترب "مراد" منه هتف به "نائل".
_ لو زعلت حفيدتي في يوم هوريك شغل ظباط الجيش، سامع.
أبتسم "مراد" حتى يخفي توتره.
_ "أشرقت" في عينيا يا باشا ، ده أنا مصدقت أفوز بيها.
ضاقت حدقتيَّ "عدنان الهتيمي" الذي وقف على بعد منهم وقد غمرته السعادة من هذا الزواج.
بدأت أجواء حفل عقد الذي أقتصر على المُقربين.
...
_ عينك رايحه وجايه مع مين؟
تساءلت "يسرا" ،فأنتفضت "سما" فزعًا ثم التفت إليها.
_ "ماما".
_ أه "ماما" اللي بدء الفار يلعب جواها.
حاولت "سما" نفض ذعرها سريعًا وأبتسمت.
_ فار إيه يا ماما.
حدجتها "يسرا" بنظرة طويلة ثم نظرت بنظرة ثاقبة نحو الطبيب الذي يقف جوار زوجها.
_ لو هو اللي شغال عقلك، أصرفي نظر يا حبيبت ماما.
أختفت أبتسامة "سما" ونظرت إلى والدتها التي تحركت نحو زوجها.
.....
_ شايف ابنك مندمج إزاي مع "زينة" عشان متلومنيش على أختياري ولا أنت إيه رأيك يا عمي، أنا واثقة أنك معايا في إقتراحي.
هتفت بها "لبني" وهي تنظر إلى والد زوجها، فتجهمت ملامح "هشام" من تصرفها.
_ سيبي الولد يختار بنفسه يا" لبنى" ، أبنك ما شاء الله رائد في البحرية هتختاري له عروسه.
_ قولها يا بابا.
أسرع "هشام" بالتأكيد على كلام والده ثم أختلس النظر نحو أبنه وتلك الصغيرة الماكرة متوعدًا لها هذه المرة دون رجعة.
...
أنتهى "عزيز" من مكالمته مع "نيهان" الذي أعتذر له عن عدم قدرته على المجئ إلى مصر لتقديم واجب العزاء له وطمأنه على سير صفقتهم بنجاح وقد تولى هو أمرها.
أكمل سيره بالحديقة بكتفين متهدلين ، فهو مازال تحت تأثير الصدمة ويحاول بشتى الطرق أن يكون متماسكًا وقويًا.
تنهد بفتور ثم أخفض رأسه سريعًا عندما لاحت أمام عينيه صورة "عزيز" سائقه بأبتسامة وجهه البشوش.
أرتعشت أهدابه وأنطلق زفيرًا عميقًا من صدره ثم دار بعينيه بالمكان المعبأ بالذكريات.
_ الله يرحمك يا "عزيز" وجعت قلبي عليك، نام وأرتاح يا راجل يا طيب أمانتك محفوظة عندي.
أخذته قدميه نحو المسكن حتى يطمئن على تلك التي لم يعد يتحمل بعدها عنه، فمنذ ليلة الوفاة التي مر عليها ثلاث ليالي وهي تبيت في مسكن عمها.
توقف أمام الباب ثم طرقه وتراجع خطوتين إلى الوراء.
فتح له العم "سعيد" الباب مُحاولًا التبسم في وجهه.
_ أهلًا يا بيه أتفضل.
تنحنح "عزيز" ودلف المسكن وقد أحزنه رؤية العم "سعيد" بهذا الوهن.
_ أخباركم إيه النهاردة.
نظر إليه العم "سعيد" ثم أخفض رأسه.
_ الحمدلله، بنحاول نعيش ونقنع نفسنا إن "عزيز" مبقاش خلاص وسطينا.
هزَّ كلام العم "سعيد" قلب "عزيز"، فهذا ما عاش يقنع به نفسه هو والده عند رحيل شقيقه.
_ أدخل يا بيه البيت بيتك ، هروح أنادي ليك "ليلى"...
أسرع العم "سعيد" نحو غرفة "عايدة" التي جلست على فراشها تَتْلُو في كتاب الله بصوت خاشع وبجانبها تنام "ليلى".
_ هي نامت ، "عزيز" بيه بره.
مسحت "عايدة" دموعها ونظرت إليها.
_ نصحيها ولا أخرج اقوله إنها نايمة.
ردت "عايدة" عليه بصوت مختنق.
_ بقولك يا "سعيد" أترجى "عزيز" بيه يسيبها معانا الأيام ديه.... أنا بشم فيها ريحة "عزيز"... أنت متعرفش روحه كانت متعلقة بيها إزاي ، يا حبيبي كان نفسه يلاقيها ويعوضها.
أنهارت "عايدة "بالبكاء ،فسقطت دموع شقيقها بعجز.
_ وحدي الله يا "عايدة".
تحركت "ليلى" في نومتها وقد غفت بكامل ملابسها حتى حجاب رأسها.
_ آه شوفي هتصحيها.
أبتلعت "عايدة" غصتها وتوقفت عن البكاء وترجته هذه المرة بعينيها أن يفعل ما أخبرته به.
أغلق العم "سعيد "باب الغرفة وأتجه إلى مكان وجوده.
وقف "عزيز" أمام النافذة شاردًا.
_ لقيتها نايمة جانب "عايدة" يا بيه.
أستدار "عزيز" إليه، فأستطرد العم "سعيد "بحديثه بعدما أشاح وجهه من شدة حرجه.
_ لينا رجاء عندك يا بيه...
فرك العم "سعيد "كفوف يديه ببعضهما، فحثه "عزيز" على المواصلة دون حرج.
_ قول يا عم "سعيد".
...
جلس "عزيز" على طاولة الطعام بدون شهية بعدما أصر عليه "سيف" أن يتناول طعام العشاء معهم.
ابتسم "سيف" عندما رأى عمه يتناول معلقة من حساء الشربة.
_ متى ستعود "ليلى" إلى الفيلا ؟
تساءلت كارولين وهي تنظر نحو "عزيز" الذي لم يرفع عيناه عن الطبق، فتولى "سيف" الرد سريعًا.
_ "كارولين" من فضلك متدخليش في حاجة مالناش دعوه بيها.
رمقته "كارولين" بنظرة مستنكرة وعادت تتناول طعامها مغمغمة.
_ لقد أصبح المنزل كئيب.
_ مساء الخير.
قالتها "ليلى" عند دلوفها غرفة الطعام، فترك "عزيز" معلقته و نهض من مكانه غير مُصدقًا إنها أتت بعدما أخبرها في مكالمته الهاتفيه لها اليوم أنه لم يعد لديه طاقة لفعل شئ وهي بعيدة عنه حتى لو يفصل بينهم مسافة قصيرة.
_ تعالي يا حببتي واقفة ليه مكانك.
دارت بعينيها بالغرفة ثم أطرقت رأسها.
_ "ليلى"، عم "عزيز" كان غالي عندنا أوي صدقيني.
تمتم بها "سيف" بصدق وهو ينظر إليها، فأنسابت دموعها في صمت.
_ الله يخليكي كفاية عياط ، إيه رأيك أخدك يومين المزرعة تغيري جو.
خرج صوت عزيز بقلق وضمها إلى صدره راجيًا أن تخبره بالشئ الذي تُريد أن يفعله لها.
هدأت قليلًا ،فتحرك بها نحو طاولة الطعام وأسرع بوضع أحد أصناف الطعام أمامها قائلًا بعتاب.
_ وشك بقى أصفر ومش عجبني ولو فضلتي كده مش هخرجك من الفيلا وهحبسك في أوضتنا.
تهديده لها كان من باب المزاح.
_ لأ أنا عايزه ارجع تاني بيت عمي.
تدخل "سيف" في الكلام دون قصد منه، فزجره "عزيز" بنظرة من عينه.
_ "ليلى" البيت كله واحد مش فارقه كتير بين هنا و هناك.
كلام "سيف" أخترق قلبها المُتعب ، فنقلت عينيها بينهم.
_ أيوه صح مش فارقة لأنه في النهاية بيتكم أنتوا.
أختفت تلك اللمعة التي برقت بها عينين "عزيز" لوجودها قربه وحدق بها.
_ أنتِ بتقولي إيه يا" ليلى" ؟
وفي لحظة أبتعد عنها ووقف مصعوقًا ومصدومًا.
_أنا ماليش حد خلاص، عمي مات... أنا جيت عشانه هو وهو خلاص راح وسبني، أنا هرجع تاني من مكان ما جيت...
...
طوّى "هشام" العقد الذي ينص على بنود الزواج العـ.ـرفي ثم دَسَّه في سترته، فهو أتخذ قراره بعدما رأى إصرارها بالتلاعب معه عن طريق أبنه.
_ حاولت أبعدك عني يا "زينة" لكن أنتِ أختارتي الطريق وأستحاله أخليكي تنفعي لأبني...