تركها تهذي بكل ما أرادت الهذيان به ، تركها تُخبره بأن لم يعد لها وجود بحياته بعد رحيل عمها وأن منزلهم الذي أصبحت سيدته وجزء منه لم يعد منزلها، هذيت بالكثير وهو وقف ثابتًا لبعض الوقت يسمعها في صمت وأختلطت داخله مشاعره عدة.
_ أنا عايزة عمي يا "عزيز"، قوله يرجع أرجوك، أنا مبقاش عندي حد خلاص ، كل اللي بحبهم راحوا.
وعنده هنا أنتهى ثباته وصدمته من هذيانها، آسرها بين ذراعيه وضمها إلى صدره بقوة يُهدأها مثلما يُهدأ الآباء صغارهم.
_ عيطي في حضني يا "ليلى"، عيطي وأصرخي لكن أعملي ده في حضني أنا.
_ أنا عايزه عمي يرجع عشان أقوله إني بحبه وسامحته، قوله يرجع طيب عشان "شهد"، عشان طنط "عايدة" حبيبته.
رددتها في حضنه لمرات بصوت مختنق مُتقطع من شدة البكاء وظلت تترجاه وقد ذكره هذا المشهد بفجيعة موت شقيقه عندما كان يقف صلبًا ولا يستطيع ذرف دموعه حزنًا أمام والده وأولاد شقيقه.
أطبق جفنيه وأرخى رأسه، فأصبح ذقنه مستندًا على رأسها ولم يجد أي حديث يخبرها به وأستمر في تحريك يده على ظهرها.
تراجع "سيف" بخطواته إلى الوراء ثم تهاوى بجسده على أحد مقاعد طاولة الطعام ، عادت الذكريات الصعبة المحفورة بذاكرته تقتحم رأسه متذكرًا حضن عمه له في كل ليلة ينام فيها على فراشه الصغير مناديًا والده أن يأتي له.
وفي لحظة سكونها في حضن عمه سيطر على قلبه شعور لا يفهمه ، شعور يحمل عطفًا، ربما لأنه رأها شاحبة الوجه ومنكسرة حتى لمعت عيناها أنطفأت أو ربما حدث له هذا بسبب ذلك الحديث الذي صرخت به إلى عمه وأنهارت أمامهم.
ومرارة اليتم تجرعه في طفولته وعاش عمه معه نفس المشهد يتوسله أن يحضر له والده وسيكون طفلًا مُطيعًا.
وقفت "كارولين" مُحدقة بهما لا تستوعب ما تراه من مشاعر يغدقها هذا الرجل الذي لم ترى منه إلا القسوة والنفور.
تحرك "عزيز" بها ببطء مغادرًا غرفة الطعام وتقابل مع العم "سعيد " الذي أسرع إليه متسائلًا بقلق.
_ حصل إيه يا "عزيز" بيه؟
نظرة "عزيز" له جعلته يتفهم الوضع ويتنحى جانبًا بأسى ،فالجواب واضحًا ولا يحتاج إلى ردًا.
رفرفت "كارولين" بأهدابها حتى تنفض عن رأسها ما يزيدها حيرة. أتجهت بأنظارها نحو "سيف" الذي نهض دون أن ينطق بكلمة هاربًا من ذكريات أقتحمت ذاكرته.
تنهد العم "سعيد" بتعب تَجَلَّى على ملامح وجهه الحزينة وهو يتابع "سيف" بعينيه.
...
وضعت "سمية" شريحة التفاح التي قشرتها بعناية في فم "هارون" الذي زمَّ شفتيه رافضًا تناول المزيد من قطع الفاكهة.
_ كفاية يا "سمية".
ألتصقت به بدلال ودسَّت قطعة صغيرة من التفاح في فمه قائلة برجاء يتخلله نبرة ناعمة.
_ عشان خاطري واحدة كمان من أيدي يا "هارون".
أبتسم "هارون" وتناول منها قطعة التفاح ومضغها ببطء ثم التقط يدها.
أسبلت "سمية" أجفانها وأنشق ثغرها بأبتسامة تسطيع إتقانها وإظهار مدى سعادتها.
وضع "هارون" قُبلة ممتنة على يدها، فالتمعت عينين "بيسان" التي رفعت رأسها عن هاتفها وقد كانت منشغله في مراسلة "فارس" خطيبها.
_ مش عارف حياتي من غيرك كانت هتكون إزاي يا "سمية"، تعبتك معايا في كل حاجة.
أرتمت على صدره بعدما وجدت "بيسان" تنظر إليهم بنظرة حالمة دائمًا تراها "سمية" في عينيها.
_ أنا أعمل أي حاجة عشانك يا "هارون".
ربت "هارون" على خدها بحنان وقام بتقبيل يدها مجددًا.
توهجت عينين "بيسان" ببريق أكثر لمعانًا وأرتسمت أبتسامة عريضة على شفتيها، فسعادتها تأتي كلما أبصرت والدها سعيدًا.
صدوح رنين هاتف "سمية" قطع هذا المشهد الحميمي الدافئ.
رفع "هارون" عنها ذراعه الذي يحاوطها به ،التقطت هاتفها فورأن وقعت عيناها على اسم المتصل تمتمت.
_ "سيف"!
رمقها "هارون" بنظرة مُتعجبة وقال:
_ قوليله يجي يسهر معانا ، الوضع عنده أكيد في الفيلا الفترة ديه مش تمام.
هزت "سمية" رأسها إليه ونهضت من جواره تحت نظرات "بيسان" المشدوهة نحوها.
ابتعدت "سمية" عنهم وتتبعتها "بيسان" مترقبة وفي داخلها تمنت لو أتى وقضى معهم بعض الوقت.
_ "سيف"، في حاجة يا حبيبي حصلت ؟
صمت "سيف" وصوت أنفاسه الهادرة التي تعالت فجأة جعلت عيناها تجحظ بوجِل.
_ "سيف" رد عليا.
اجتذب صوتها أنتباه "بيسان" و "هارون"، فانتفضت "بيسان" من مكانها وأتجهت إليها وتساءلت بصوت قلق.
_ في حاجة يا طنط "سمية"، "سيف" ماله؟
التفت "سمية" إليها وحركت رأسها دون قدرة على الكلام.
أخذت "بيسان" منها الهاتف وتقابلت عيناها بعينين والدها الذي أستند على عكازه وأقترب من مكان وقوفهن.
_ "سيف"، "سيف" رد عليا أنت كويس؟
أغلق "سيف" أجفانه عندما أستمع إلى صوتها وأستند برأسه على عجلة القيادة... هو قام بمهاتفة والدته لأنه شعر بحاجته إليها.
_ "سيف"، من فضلك قولي أنت فين ؟
شعرت "سمية" بالدوار يداهم رأسها ،فأسرع "هارون" ناحيتها.
_ حببتي مافيش حاجة وحشة إن شاء الله، تملكي نفسك خلينا نفهم بس في إيه.
ونظر نحو أبنته التي أخذت تُكرر ندائها عليه.
_ رد عليكي؟
حدقت بوالدها ثم أستدارت بجسدها حتى تهرب بعينيها عنه وهتفت بصوت خافت متحشرجًا.
_ "سيف" أرجوك رد عليا.
فتح "سيف" عينيه بعدما عاد صوتها يتسلل إليه و بصعوبه رفع رأسه عن عجلة القيادة ، أخذت الدماء تسيل من جبهته.
_ أنا كويس يا "بيسان"، أنا كنت...
أراد أن يخبرها أنه أحتاج إلى والدته هذه اللحظة لكنها قاطعته قائلة :
_ قولي أنت فين وأنا أجيلك.
اقتربت منها سمية و تساءلت بلهفة.
_ رد، قوليلي رد عليكي يا "بيسان".
أومأت "بيسان" لها برأسها وهي تستمع إليه ثم أعطت الهاتف إلى "سمية".
_ حصلتله حادثه على الطريق ، الحمدلله حاجة بسيطة.
أرتجف قلب "سمية" من الفزع وخرج صوتها بصراخ.
_ أبني، أستنى يا بيسان انا هاجي معاكي.
أسرعت "سمية" ورائها لكن "بيسان" توقفت أمامها حتى لا تتبعها.
_ متقلقيش يا طنط هو كويس أنا هطمنك عليه أول ما أوصل عنده ،خليكي أنتِ بس مع بابا.
دار أمر ذهاب "بيسان" له بمفردها في رأس "سمية" سريعًا ، فـ ربما هكذا يزداد تقاربهم أكثر.
_ هكون معاكي على التليفون، و لو في حاجة متخبيش عليا يا "بيسان".
غادرت "بيسان" المنزل بسيارتها ووقف "هارون" جوار "سمية" يُطمئنها.
_ ما دام قدر يتصل بيكي ويكلمنا أكيد هو كويس.
اغلقت "سمية" عينيها متنهدة ثم فتحتهما صائحة.
_ أكيد أستنجد بـ "عزيز" الأول والبيه طبعًا مبقاش فاضي لأبني ما هو خلاص حياته كلها بقت محصورة بين مراته وأهلها الخدامين عنده.
ألقت كلامها وأبتعدت عنه، فحرك "هارون" رأسه بيأس منها قائلًا :
_ الراجل كان الله في عونه، بلاش تقلقي يا "سمية".
أشاحت "سمية" وجهها عنه ووضعت الهاتف قرب أذنها ثم أنفرج ثغرها بأبتسامة ساخرة.
_ تليفونه مقفول ، البيه خلاص ولادي بقوا أخر همه وبكره يظلمهم في ورثهم من أبوهم وجدهم.
...
ألتقط" عزيز" صينية الطعام من العم "سعيد" ونظر إليه.
_ تعبناك معاك يا راجل يا طيب.
ربت العم" سعيد" على كتفه وحاول أن يبتسم ، فهو أكثر الناس شعورًا به.
_ تعبك راحه يا بيه، أدخل ليها وحاول تأكلها وأه تاكل أنت كمان معاها.
قالها العم "سعيد" وتحرك من أمامه ، فانطلقت زفرة طويلة من شفتي "عزيز" ثم دخل الغرفة وأغلق الباب ورائه.
أخفض رأسه عندما رأها تُحدق بسقف الغرفة ودموعها تسيل على خديها دون توقف.
أبتلع ريقه وسار نحو الطاولة الموجودة بالغرفة ووضع صينية الطعام عليها ثم أقترب من الفراش وجاورها.
_ لو فضلنا نعيط كتير تفتكرى هنرجعهم تاني ، "شهد" و "عايدة" محتاجينك يا "ليلى" وخصوصا "شهد"..، قوليلي فين "ليلى" البنت القوية اللي سافرت من مديتنها وجات لمدينة تانية مجهول معالمها وناسها ليها عشان تدور على عمها.
أغلقت عينيها بوهن وتمتمت بصوت ضعيف.
_ أنا جيتله وهو راح يا "عزيز" ، راح ومش راجع تاني.
أرتفع صوت بكائها، فارتجف قلبه بفزع عليها وأسرع بضمها إليه.
_ تعرفي إن مبحبش أواسي حد في الموت، بحس إن كل كلمة بتكلمها عن الصبر وقت ما أتقالت ليا يوم موت أخويا مكنتش قادر أتقبلها من حد...
توقفت عن بكائها عندما بدء يسرد لها عن وجعه حينما توفى شقيقه.
_ عارفه يا "ليلى"، سالم مكنش أخويا بس، كان أبويا وصاحبي وكل حاجة في حياتي ، حلمنا بحاجات كتير سوا لكن للأسف سبني في أول المشوار وقالي كمل أنت الحلم لوحدك.
ترقرقت الدموع بعينيه لكنه تمالك ضعفه وأسبل جفنيه متمتمًا بمرارة.
_ قبل وفاته بيوم ، كان بيقولي إنه عايز يشوفني عريس ويلبسني البدلة بأيده ويفضل يرقص ليلتها للصبح.. حضني أوي يومها يا "ليلى" ، حضن مفهمتش سبب قوته وليه حسيت فيه بأحساس غريب غير وأنا بدفن أخويا وبقوله ميخفش على ولاده و مراته ، ميخفش على أب ضهره أتكسر بعده ، ميخفش على الحلم اللي مكملهوش.
أبتلع غصته وتوقف عن الكلام بعدما أصبح صوته مخنوقًا و أنفلتت من عينيه دمعة رَثَى بها الراحلين.
مررت يدها على خده حتى يلتف بوجهه إليها ثم هتفت اسمه.
_ "عزيز".
تقابلت عيناهم بنظرة حملت وجعًا.
_ مش همشي وأسيبك يا "عزيز" بس أنت أوعى تسيبني، مش هعرف أكمل من غيرك.
أرتخت ملامح وجهه وداعبت شفتيه أبتسامة خفيفة.
_ مش هيفرقني عنك غير الموت يا "ليلى".
أبتعدت عنه بهلع عندما أتى بذكر الموت وأخذت تُهز له رأسها وتصم أذنيها بيديها ، فاجتذبها إلى حضنه.
_ أهدي يا "ليلى" ، عشان خاطري أهدي وخلينا نفكر في حاجة كان بيحبها ، فنعملها صدقه له.
توقفت عن هز رأسها ونظرت إليه بنظرة طويلة، فداعب خديها مبتسمًا.
_ ناكل الأول عشان نعرف نفكر ومش عايز أسمع منك كلمة ماليش نفس.
...
توقفت سيارة "بيسان" بالمكان الذي أخبرها أن سيارته تعطلت به بعدما أصطدمت بالرصيف.
نظرت حولها عندما خرجت من السيارة ، فحركة السير بهذا المكان تكاد تكون شبه منعدمة.
ألتقطت عيناها مكان وقوفه بلهفة، فأسرعت إليه.
وجدته يقف مُطأطأ الرأس وفي يده زجاجة مياة يمسح بها تلك الدماء التي تناثرت على وجهه.
_ "سيف".
صاحت بها بذعر وهي تهرول صوبه ،فرفع رأسه إليها.
ضمت وجهه بين كفوف يديها فور أن صارت أمامه.
_ الدم ده من إيه، خلينا نروح المستشفى بسرعة.
سيطر على رجفة قلبه عندما رأى لهفتها عليه ثم أجتذبته من ذراعه دون أن تعطيه فرصة للكلام.
_ أحنا لازم نروح المستشفى عشان نطمن، أتحرك معايا يا "سيف".
تحرك ورائه مسلوب الإرادة ثم سألها عندما توقف فجأة وحرر ذراعه الذي يؤلمه من قبضة يدها.
_ معقول تكوني خايفة عليا ، محدش بيخاف على حد قوي غير لما بيكون بيحبه بجد..
وبغصة أردف بعدما أشاح وجهه عنها.
_ أمي نفسها حبها مزيف، خليتني أشك في حب كل الناس حواليا وأولهم حب عمي ليا ، عمي لو كنت أستنجدت بي زي ما ديما كنت بعمل، كنت هلاقيه قصادي بياخدني في حضنه ويطمني إنه معايا.
وبصوت مهزوز عاد يسألها.
_ متكذبيش وتقولي إنك خوفتي عليا يا "بيسان"، أنا ولا حاجة في حياتك.
أنعقد لسانها عن الكلام ووقفت تُحدق به.
_ أنا بقيت بشع وحقير ، خايف أكون نسخة منها... عمي ضحى بشبابه عشاني وعشان "نيرة" وأنا بغبائي بفكر أسرق منه حياته.
تحولت نظرتها المصدومة لأخرى تحمل ذهولًا وتساءلت بصوت خرجت نبرته ثقيلة.
_ أنت بتقول إيه، "سيف" أنت مش في وعيك أكيد.
بدء يترنح ،فأقتربت منه بعدما أقتحم الشك رأسها وسرعان ما كانت تبتعد عنه بصدمة.
_ "سيف" أنت كنت شارب حاجة.
تراجعت إلى الوراء بعدما تعالت صوت ضحكاته وصاح وهو يرفع ذراعيه لأعلى.
_ قالتها ليا زمان، مهما عمي حاول يربي فيا هطلع شبها... وأنا آه بقيت أبن "سمية".
وضعت يدها على فمها من الذهول ثم خرجت نبرة صوتها مُرتعشة.
_ حرام عليك، طنط "سمية" طيبة وبتحبك قوي.
والدته تحمل صفة الطيبة وتحبه ، هل أستطاعت خداع تلك الفتاة و والدها كل تلك السنوات أم طيبتها وأمومتها أظهرتها لأبنة زوجها وحرمته هو وشقيقته منها.
زفرت" بيسان" أنفاسها بقوة ثم رمقته بنظرة أحتلها الجمود.
_ لو سامحت خليني أخدك أقرب مستشفى.
داعبت شفتي "سيف" أبتسامة ساخطة.
_ هتاخديني المستشفى وأنا شارب، عموما ده جرح بسيط وصليني عند أقرب صيدلية وبعدين أرجعي للبيت الدافي الجميل و "سمية" هانم الطيبة.
عقدت ساعديها أمامها بأستهزاء مماثل.
_ أتفضل أتحرك قدامي يا بشمهندس، أنا أصلا غلطانه إني قلقت عليك.
وقعت عيناه على خاتم خِطبتها، فـ أظلمت عيناه بنظرة خاوية.
أنتبهت على نظرته وأخفضت عينيها نحو بنصرها في يدها اليمنى ثم أستدارت بجسدها واتجهت نحو سيارتها غاضبة من نفسها.
...
نفثت دخان سيجارتها عاليًا ثم تأملته وعلى محياها أرتسمت ابتسامة واسعة.
رفعت ساقيها ومددتهما على الأريكة التي تجلس عليها وأستمرت في التدخين.
_ "صالح الزيني"، طيار سابق وحاليًا مدير تنفيذي في شركة طيران بتمتلك عيلته أسهم فيها ، ده غير أملاك العيله، الزوجة الثانية مجهولة وأسمها مش متصدر في الوسط لكن من عيلة كبيرة ، جوازهم مكملش سنه ، زوجته الأولى بنت عمه وماتت في حادثة ومخلف منها طفل.
هكذا أخذت تُردد" مروة" تلك المعلومات التي جمعتها عنه.
أعتدلت في جلوسها على الأريكة وأطفأت عقب سيجارتها بالمَنْفَضة.
_ لازم أفكر كويس أوصل ليك إزاي، الوصول ليك أكيد هيكون صعب لكن مافيش حاجة صعبه قدامي.
قالتها ثم أطلقت ضحكة طويلة ، فهي أوقعت الكثير من الرجال في شباكها وهذا الرجل أصبح تحدي لها وهوسها بوسامته.
_ دخلت دماغي يا كابتن وأنا محتاجه راجل في حياتي وأنت هتكون الأخير.
تعالت صوت ضحكاتها مرة أخرى وألتقطت هذه المرة تلك الورقة المدون بها مكان سكنه وعمله.
...
وضعت "بيسان" اللاصق الطبي قرب حاجبه الأيسر بعدما انتهت من تَضْميد جرح جبينه داخل السيارة.
أطلقت زفيرًا عميقًا ثم وضعت ما أشترته من الصيدلية بالكيس.
_ الحمدلله الجرح سطحي ومحتاجناش نروح المستشفى.
رمقها "سيف" من أسفل جفنيه ثم أستند برأسه إلى ظهر المقعد وقال :
_ تعبتك معايا بس ديه غلطتك عشان أهتميتي بواحد زي وجيتي جري عليا مع إنك خطيبة لراجل تاني وقريب هتكوني زوجة له.
أحتدت ملامح "بيسان" بمقت وقذفت الكيس الذي معها بوجهه.
_ على فكرة أنت قليل الذوق وأنا فعلا غلطانه أني....
تصلبت ملامح وجهها ذهولًا وضاع بقية حديثها حينما باغتها بقبلته.
صدمتها من فعلته جعلتها تنظر إليه بأعين جاحظة بعد أن أبتعد عنها ثم أخذ يُمرر أصابعه على شفتيه.
_ عارف بتفكري تعملي إيه دلوقتي وأنا مستعد...
تحركت يده هذه المرة إلى خده ، فهو يُرحب بصفعتها له بصدر رحب.
_ أنا مش ندمان يا "بيسان" ولأول مرة مكنش ندمان على حاجة بعملها.
_ أنت إزاي تعمل كده؟
تمتمت بها بعدما فاقت من صدمتها ، فأقترب منها وحاصرها بين ذراعيه.
_ قولتلك إني مش ندمان وعملت كده عشان عايز أكد لنفسي وليكي إن أنا و أنتي مينفعش نكون أخوات أو صحاب..
جف حلقها وشعرت بالأختناق ، فبعد محاولاتها المستميتة معه حتى تؤكد له مشاعرها... جاء اليوم يعترف إليها بأنها ليست في عينيه كما كان يتوهم.
_ بعد إيه؟ أنا قريب هتجوز... هتجوز راجل تاني... راجل أحسن منك..
وهو كان عازم هذه الليلة أن يؤكد لها مع كل قرب يحدث بينهم، إنها ليست لرجل أخر.
دفعتها بعيدًا عنها وهذه المرة صفتعه بكل قوتها وهي تحاول إلتقاط أنفاسها.
_ عارف أنا لو كنت للحظة مترددة من جوازي من "فارس"، أنا دلوقتي متأكدة إنه الراجل الصح... أنا ندمانه إني حبيتك في يوم ، أنت فعلا تستاهل ست زي "كارولين" في حياتك.
تجهمت ملامح وجهه وسرعان ما كان يعود لأبتسامته السمجة التي أوقدت نيران الغضب داخلها.
_ هتروحيني ولا أنزل أخد تاكسي.
وها هو يسير نحو الطريق الذي رسمته له والدتها وقد أختاره اليوم بكامل إرادته.
...
زفرت "زينب" أنفاسها براحة و أستدارت إليه بعدما أغلق الباب ورائه.
_ البيت كان وحشني أوي و "يزيد" و "جدو" وحشني أوي أوي.
قالتها وهي تستنشق رائحة المنزل الذي أشتعلت أضاءته بعدما ضغط "صالح" على موضع الأضاءة.
_ مش كنا كملنا باقي الشهر وسافرنا على روما عشان متقوليش حرمتك من شهر العسل.
قوست شفتيها بأستنكار وأقتربت منه ثم حاوطت عنقه بغنج.
_ و فرح بنت عمي يا كابتن بعد يومين وديه مناسبة عائلية لا يمكن تتفوت.
أعتلت شفتيه أبتسامة عريضة رغم الأرهاق الواضح على ملامحه.
_ أنتِ الخسرانه، وأفتكري إن رجوعنا بسبب إلحاحك... يعني مكنش في حاجة حتى لو قضينا يوم كمان في الأقصر.
_ ما أنت وعدتني إنك مش هتبخل عليا بأي رحلة عايزة أطلعها.
تجلجلت صوت ضحكته وتذكر وعده لها في أمور عدة ،فالوعود أصبحت تأخذها منه بعد كل جرعة حب تحدث بينهم وتصيبه بالتخمة.
_ أنا قولتلك قبل كده إنك مكارة يا "زوزو".
ضاقت حدقتاها وأخذت تُفكر قليلًا ثم هزت له رأسها ، فاستطرد ضاحكًا.
_ مكارة و ذكية كمان ، ما أنتِ حفيدة اللواء "نائل".
زمَّت شفتيها بعبوس وأبتعدت عنه ، فأسرع بالتقاط ذراعها مُتسائلًا.
_ أنتِ رايحة على فين؟
ردت عليه بعدما نظرت جهة غرفتها.
_ رايحة أنام ولما أصحا هعرف أرد عليك بتركيز.
َنظر نحو الجهة التي كانت بها غرفته الأولى ثم إلى الجهة الأخرى التي باتت غرفته الجديدة بها.
_ من الليلة ديه مبقاش في أوضتي و أَوضتك.. بقى في أوضتنا.
دارت بعينيها نحو الجهتين مثلما فعل وقبل أن تخبره إنها لا ترغب بتلك الغرفة التي كانت غرفة نومهم في بداية زواجهم وجدته يحملها مُلقيًا بها على أحد كتفيه.
_ أنا بقول خلينا في الأوضة الجديدة ،حاسس إن وشها حلو عليا.
...
نظرت "زينة" نحو هاتفها الذي صدح منه رنين قصير، ألتقطته من على الفراش وحدقت بأشعار الرسالة بدهشة وقد ظنت إنه سيكون تهديد منه حتى لا تقترب من "قصي".
تسارعت دقات قلبها وهي تفتح الرسالة ثم أنحسبت أنفاسها داخل صدرها عندما وجدته يُخبرها إنه يُريد مُرافقتها له إلى مدينة الأسكندرية بعد إنتهاء ليلة زفاف أبنته و شقيقها وستكون رحلة قصيرة يقضون فيها بضعة أيام بأحد الفنادق وقد حجز لهم غرفة واحدة...