رواية هجوم عاطفي الفصل الثامن 8 بقلم هاجر عبد الحليم

 

رواية هجوم عاطفي الفصل الثامن بقلم هاجر عبد الحليم


ما إن بدأ الهجوم، حتى تجمّدت رودينا في مكانها. صُدمت، واتّسعت عيناها والدموع تلمع فيهما، نظرت إلى مالك بنظرة مذعورة، ثم هرعت بسرعة لتُخرج هاتفها وتتصل بالشرطة.
بعد نصف ساعة...
وصلت سيارات الشرطة والإطفاء، وتمكن رجال المطافئ من السيطرة على الحريق. كانت الجموع متحلقة من بعيد، العيون متسعة من الرعب، والوجوه شاحبة كأن الخوف تجسّد عليها.
كان مالك يرتجف، يحتضن ابنته الصغيرة التي لم تكف عن البكاء والصراخ، وكأنه يحاول أن يضمّها إلى قلبه ليحميها من العالم. أما رودينا، فكانت تحاول التماسك. لطالما كانت امرأة قوية، شرطية ذات قلب صلب، لا تهتز بسهولة. لكن مع مالك، كل شيء تغيّر، أصبحت هشة، ضعيفة أمام ألمه.
رودينا (بصوت مبحوح ومرتجف):
مالك... أنا... والله مش عارفة أقولك إيه... الموضوع صعب أوي، وحاسة بيك... بس لازم تجمد.
عشان بنتك اللي ف حضنك دي... مرعوبة، وكل مرة هتشوفك بتعيط، هتتخض أكتر... وهتعيط زيك.
مالك (بصوت مكسور، كأنه بينهار):
أمي ماتت... وأنا السبب... أنا اللي قتلتها...
دلوقتي بقيت شايل ذنب اتنين فوق رقبتي!
اقترب اللواء منهم بخطوات بطيئة، وعيناه تحاولان أن تخفيا حزناً غير معلن.
اللواء (بهدوء):
دي أمك يا مالك... وأنا عمري ما هقدر أواسيك فيها.
خد وقتك، احزن... بس أتمنى دا ما يأثرش على الاتفاق اللي بينّا.
مالك (بعينين مشتعلة غضب):
هو دا اللي فارق معاكم؟
تقبضوا على العصابة حتى لو التمن ناس تموت؟!
اللواء:
دا عمرها، يا مالك...
مالك (رافع صوته، وألمه بيغلي جواه):
لو ما كنتش روحت وبلغت، مكنوش قتلوها!
وإنتو! لو كنتوا حطيتوا حراسة على بيتي، مكنوش قدروا يحطوا قنبلة!
الحمد لله إن الانفجار ما أذيش حد... بس كان ممكن يطير بيوت تانية!
أنا مش هكمل... مش قادر أكمل!
اللواء (بصرامة):
مش بمزاجك... الورق معانا، ومش هتاخده.
مالك (بحنق):
يبقى أنا هروحلهم... وهسلم نفسي ليهم!
اللواء (محاولًا يثبت صوته):
محدش هيصدقك، وهياخدوك جثة... وتلحق والدتك!
اعقل، يا مالك!
نظرة مالك اشتعلت بالغضب، وبحركة مفاجئة، خطف مسدس من أحد الضباط القريبين، ورمى بنته في حضن رودينا اللي وقفت متصلبة من الصدمة.
اللواء (يرفع صوته بحدة):
نزل سلاحك حالًا... ولا!
مالك (بعينين دامعتين وصرخة من جوه):
مش خايف منك... سيبوني ف حالي!
رودينا (بتوسل، وعينها على بنته):
مالك... بالله عليك اعقل!
اللي حصل لوالدتك... عارفة، وجع... وكسرة!
بس طالما عملوا كده، يبقى هما مرعوبين منك،
واللي عملوه مش هيعدّي...
أيام وهيقعوا، وحقها هيرجع!
بس نزل السلاح، بلاش تضيّع نفسك أكتر... أرجوك!
مالك بصّ ناحية البيت، لقى رجال الإسعاف شايلين جثة والدته...
مشى خطوتين، وكأن رجليه مش شايلينه... صوته اتكسر، والدموع غرقت وشّه:
مالك (بهمس موجوع):
أمي...
اقتربت رودينا، تطلّعت في عينيه بنظرة حنونة لكنها قوية.
رودينا (بصوت ناعم لكنه حازم):
بلاش تستسلم يا مالك...
إنت أقوى من كده، أقوى منهم ومن كل خططهم...
أنا عارفة الوجع اللي جواك، بس كتمه، وطلعه وقت ما تاخد حقها.
بنتك في حضني مرعوبة، بس عينها عليك...
كل ما تشوفك واقع هتتكسّر أكتر، قوم عشأنها، خليك ضهرها يا مالك.
مالك نزل بنظره للأرض، كأنها سحبت منه آخر ذرة قوة.
مالك:
أنا فشلت...
كزوج، كابن، ودلوقتي بفشل كأب.
كلهم راحوا...
وبنتي هتضيع مني زَيّهم.
اللواء (يتنهد بثقل ويقرب بخطوة):
وإنت فاكر والدتك هترضى تشوفك كده؟
ده مش وقت ندم... وقتك تجيب حقها.
وما تقولش "لو ما كنتش بلغت"... لأن لو ما كنتش، كان ناس أكتر ماتوا...
واحد ورا التاني، بدون ما نقدر نوقفهم.
مالك عضّ على شفته، كأن الكلام بينحر فيه، وبص للنعش اللي بيتشال في الإسعاف.
مالك (بدموع مكتومة):
مش قادر...
مش قادر أشوفها كده...
كانت هنا من شوية، بتدعيلي...
كانت بتضحكلي...
يااااااارب!
رودينا (بهدوء وشجاعة):
قوم وودّعها يا مالك...
قولها إنك هتجيب حقها، وإنك ماكسرتش...
وإن اللي عملوه مش هيعدي.
تحرك مالك ببطء، ركع بجانب الجثمان، قرب شفايفه من رأس أمه وهمس:
مالك:
حقك راجع يا أمي...
آه سامحيني...
هتوحشيني...
والله العظيم ما هرحم واحد فيهم.
رجع وقف، لقى رودينا واقفة ثابتة، والبنت نايمة في حضنها وهي مضمياها جامد.
بصّ لرودينا، متفاجئ من هدوئها، وكم الحنان اللي في عينها.
رودينا (بصوت دافي):
أنا جمبك يا مالك...
ومش هسيبك في الحرب دي لوحدك، حتى لو حاولت تبعدني.
اللواء:
اتمنى تجهز وتفوق من الصدمة دي...
بكرا هستناك في القسم، يا مالك.
أومأ مالك برأسه علامة القبول، ثم حوّل نظره نحو طفلته الصغيرة، فوجدها هادئة بين ذراعي رودينا، كأنها استمدّت منها طمأنينة لا يملكها هو. مدّ يده ببطء، يمرّر أصابعه على خصلات شعرها بنعومة، وملامحه تنطق بحنان مثقل بالأسى.
ثم استدار بخطوات بطيئة نحو النقالة، حيث ترقد والدته بلا حراك. انحنى في خشوع، وطبع قبلة طويلة على جبينها البارد، عينيه تمتلئان بالدموع التي لم تعد تعرف طريقها إلى الانهمار، قبل أن تُغلق أبواب سيارة الإسعاف وتنطلق بها إلى حيث لا عودة.
...
كانت السيارة تسير بسرعة في الظلام، تتقاطع أضواء الشوارع الضعيفة مع الظلال التي تملأ الجو. مالك كان جالسًا في المقعد المجاور، عيناه تائهتان في الفراغ، يواجه الصمت الثقيل. أما رودينا، فقد كانت تقود السيارة بثبات، محاولة أن تترك لنفسها مجالًا للحديث وتخفف من أجواء التوتر التي كانت تحيط بهم.
رودينا (نظرت له بسرعة ثم قالت بحذر):
"أنت أكيد خلتني أسوق عشان مش قادر تسوق صح؟"
مالك (نظرة شاردة، وهو يحاول أن يظهر مشاعر أقل مما بداخله):
"البنت هتروح فين؟"
رودينا (بتأكيد في صوتها، تحاول تهدئته):
"هوديها بيتي."
مالك (بتشكك، وعيناه مليئة بالقلق):
"أمان ولا لأ؟"
رودينا (بعزم، وهي لا تبالي بالتردد في صوته):
"مفيش حد يقدر يهوب ناحيتها نهائي."
مالك (متسائلًا بنبرة تحمل قدراً من الاستفهام):
"وإيه الثقة دي؟"
رودينا (بتوضيح، وبدون تردد):
"عمرها ما حصلت قبل كده."
مالك (بصوت مرتجف قليلاً، وكأن الشكوك تراوده):
"بس العصابة وارد تيجي."
رودينا (بثقة، صادقة في كلماتها، كأنها تضع النقاط على الحروف):
"وأنا بقولك مش هيحصل."
مالك (وبدأ القلق يتسرب إلى صوته مرة أخرى):
"بس المكان مش مضمون."
رودينا (ثم قالت، وبصوت أكثر هدوءًا، محاولًة طمأنته):
"كلمتي أنا ضمان يا مالك. البنت هتروح عندي، ومش هيجرالها حاجة. استودعها عند ربنا واتوكّل عليه."
....
فتح الباب بقوة مفاجئة، وظهرت نصيرة بوجه متجهم وملامح مصدومة، نظرت إلى رودينا ثم إلى مالك، وكأنها لا تصدق ما تراه.
نصيرة (وهي تضع يدها على خدها):
"إيده يا لهوي! وشّك ماله يا بنتي؟ شكلك مرعّب ليه كدا"
رودينا (بهدوء وثبات):
"ممكن نخش يا دادا؟"
وقبل أن تتحرك، أوقفتها نصيرة بنظرة حادة، وعينيها تتنقلان بين مالك والطفلة التي يحملها.
نصيرة (بتوجس):
"ومين الجدع دا بقى؟ جايبالي راجل الساعة دي هي حصلت؟!"
مالك (بصوت مكسور ومحمل بالذنب):
"واضح إنّي اتسببتلكم في إحراج... آسف."
رودينا (نظرت له بسرعة ثم التفتت للدادة):
"لا إحراج ولا حاجة يا مالك، دا بيتك... هي بس اتخضت من المنظر، وأنا هشرح لها كل حاجة. بس بالله عليكي يا دادا، بلاش وقفة الباب دي، يلا بينا."
نصيرة (رافضة تزيح من مكانها):
"لأ، مش هيخش غير لما أفهم، دا إيه اللي بيحصل؟ يخرب بيت الشـ..."
وقبل أن تُكمل الجملة، أسرعت رودينا وأمسكت بفمها بلطف، ثم همست لها برجاء وهي تدفعها للداخل.
رودينا:
"هفهمك كل حاجة، بس دلوقتي ادخلي واسمعيني، ماينفعش نقف كده."
ثم التفتت لمالك بنظرة هادئة وابتسامة باهتة، تحاول التخفيف عنه رغم الحزن الواضح على وجهه.
رودينا:
"اتفضل يا مالك، البيت بيتك... اتصرف براحتك كأنك في مكانك. تعالي معايا يا دادا، عاوزاكي في كلمتين على جنب."
...
بمجرّد أن دخل الجميع إلى المنزل، تقدّمت رودينا بخطى سريعة نحو الصالة. كان الضوء الخافت يتسلّل من إحدى الأباجورات الزجاجية، ناشرًا هدوءًا غريبًا في المكان. ظلّ مالك واقفًا للحظات عند المدخل، يحمل طفلته بين ذراعيه، كأنها آخر ما تبقّى له من هذا العالم. عيناه غارقتان في الذهول، ووجهه شاحب يشهد على ما مرّ به لتوّه.
التفتت رودينا نحو نصيرة التي كانت تراقب المشهد بقلق، وسحبتها من يدها بلطف نحو المطبخ، ثم أغلقت الباب خلفهما.
نصيرة (بهمس مرتبك وهي تحدّق في وجه رودينا):
. إيه اللي حصل بقا انا حاسة انه في مصيبة؟ وشك متخربش كده ليه؟ والراجل اللي جايبة وراه  مين؟! واابت اللي شايلها دي خاطفها ولا اي؟!"
رودينا (تتنهد بعمق، وتتكلم بنبرة هادئة لكنها ثابتة):
"هقولك يا دادا، بس بالله عليكي اسمعيني للآخر وبلاش تحكمي غير ف الآخر الراجل دا اسمه مالك، والدته اتقتلت النهاردة قدّام عينه، والبنت اللي كان شايلها... بنته."
نصيرة (شهقت ووضعت يدها على صدرها):
"والنعمة دا صح ياوجع قلبي عليك يبني الله يعينه ع حاله بس اي الشطارة اللي انتي فيها دي جايباه هنا ع بيتنا يافالحة؟طب ولو حد منهم كان مراقبه اي عايزانا نموت احنا نموت؟!"
رودينا (تنظر في عينيها بإصرار):
"أنا اللي جبته، وأنا اللي هتحمّل النتيجة. الراجل اتكسر، ومفيش قدامه غير بنته... وأنا مقدرتش أسيبه. حسيت إني لازم أكون جمبه وبعدين دي اوامر شغل يادادة."
نصيرة (ترفع حاجبها باستغراب):
"بس عينك مش بتقول انه دا شغل؟
رودينا (بهمس وهي تبص لتحت):
. قلبي وجعني عليه يا دادا."
سكتت نصيرة لثوانٍ، تقرأ الصدق في وجه رودينا، ثم وضعت يدها على كتفها وربّتت عليه بحنان.
نصيرة (بهدوء):
"طالما إنتي شايفة إنك بتعملي الصح، أنا معاكي. بس خدي بالك من نفسك... ومن قلبك قبل كل حاجة."
رودينا (بابتسامة صغيرة فيها شكر):
"بوعدك... هخلّي بالي من كل حاجة، ومنه كمان."
فتحت الباب وخرجت برفقة نصيرة، لتجدا مالك جالسًا على الأريكة، وطفلته نائمة بين ذراعيه، بينما هو غارق في سكونٍ غريب، كأنه فقد الشعور بالزمن، لكن عينيه حين رفعتا على رودينا، كان فيهما شيء مختلف... شيء يشبه النجاة
....
اقتربت نصيرة من مالك وهي تمدّ يديها برفق، تتطلع إلى الصغيرة النائمة بشيء من القلق والحنان:
نصيرة (بصوت دافئ):
"هاتها يا ابني، متخافش عليها. البنت لازم تستحمى وتنام وتلبس حاجة نضيفة، ريحتها عرق وتعب."
مالك (يشد ابنته إليه بغريزة الأب الجريح):
"بنتي عندها توحد... ومش بتقبل حد بسرعة. بتخاف من أي ريحة غريبة، من أي إيد مش إيدي."
نصيرة (بحزن طيب ونبرة فيها إيمان):
"وجعك كبير وكسرتك شديدة، بس نصر ربنا دايمًا قريب، قال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. صدقني يا ابني، ربنا شايفك وهينصرك عاجلًا مش آجلًا."
رودينا (وهي تحاول تهدئة الموقف، وتدعم كلام نصيرة):
"دادا نصيرة بتعرف تتعامل كويس، والبنت مش هتتعب، دي هترتاح في حضنها، يمكن أكتر من حضن أي دكتور."
مالك (يخفض صوته، كأن اعترافًا يخرج منه رغماً عنه):
"مش هاين عليّا... حضنها بيهون عليّا أنا، مش بس هي. أنا محتاجها... دي بنتي، واللي فاضلي من الدنيا. أنا... مبقاش ليا حد."
للحظة، تاهت نصيرة في كلماته، وكأنها رأت فيه ابنها الضايع. مدت يدها مرة أخرى، وقالت بصوت يملأه الحنان:
نصيرة:
"هاتها يا حبيبي...  يمكن أنا أكون حضنها التاني، بس عمري ما هكون غير أمينة عليها."
تردد مالك، ثم نظر إلى وجه ابنته. لمس خدها بلطف، ثم همس بصوت يكاد يُسمع:
مالك:
"أنا آسف يا آسيا..."
وببطء، مدّ يده وسلّم الطفلة إلى نصيرة، لكنها ما إن اقتربت منها، حتى انتفضت آسيا قليلاً، وكأنها استشعرت ريحة غريبة عنها. ضمّت نفسها بشدة، وبدأت تضطرب بين ذراعي المرأة.
مالك (يحاول استعادتها بسرعة):
"مش قولتلك؟ أنا هاخدها معايا، هي مش مستعدة لحد تاني."
لكن نصيرة لم تتراجع، بل قالت بحزم ورفق:
نصيرة:
"استنى... ثواني بس."
ثم رفعتها قليلاً، وأخذت تدندن دعاء خافتًا في أذنها، وهمست بأذكار كأنها تسقي بها روحها، حتى بدأت آسيا تهدأ، وتترك جسدها يستكين للدفء الجديد.
...
نصيرة (بصوت دافئ وحنون وهي تفتح الباب): "خدوا بالكم."
رودينا (بابتسامة مطمئنة، بينما تدير رأسها نحو نصيرة): "خليها على الله يا دادا."
مالك (بنبرة عميقة وهو ينظر إلى نصيرة بتوتر واضح): "حطيها في عينك، الله يباركلك."
نصيرة (وهي تحتضن آسيا بحنان، ثم تنظر إلى مالك بعينين مليئتين بالطمأنينة): "دي هتبقى بنتي الصغيرة، روح وانت مطمن. قلبك عليها... ربنا معاكم."
أشارت رودينا برأسها موافقة على كلام نصيرة، بينما مالك مسك يد نصيرة بقوة وشكرها بحرارة، ثم قبّل يدها وهو يهمس: "ممتن ليكي جدًا."
ثم استدار مالك بهدوء، وقلبه يثقل بحزن الفراق، لكنه ترك آسيا مع نصيرة وهو يحمل في قلبه وعدًا بأن يتمنى عودتها بأمان. بينما نصيرة وقفت ثابتة، تحمل آسيا بين ذراعيها، عيونها مليئة بالعزم والطمأنينة، مستعدة للمهمة التي أمامها، قائلة في سرها: "محدش هيقرب منكم، وربنا معانا."
وبخطوات ثابتة، تلتها رودينا، ليبتعد الجميع عن المكان. مالك كان يبتعد وهو يشعر بالحزن يتسلل إليه شيئًا فشيئًا، لكن الأمل في قلبه كان باقيًا، ولو قليل.
تعليقات