رواية هجوم عاطفي الفصل التاسع بقلم هاجر عبد الحليم
كان مالك ورودينا جالسين في السيارة.
كانت رودينا تتولى القيادة، بينما كان مالك يكتم عصبيته وقلقه الشديد على ابنته. كانت رودينا بين الحين والآخر تلتفت إليه، تراقب ملامحه الصامتة.
قالت رودينا وهي تنظر إليه:
ــ "الووو!"
تطلع مالك إليها، وسرح في ملامحها.
ابتسمت رودينا بمرح وقالت:
ــ "هل تسمعني؟ نحن هنا!"
ظل مالك يحدق بها دون أن ينطق بكلمة.
ضحكت رودينا وأردفت:
ــ "أنا أخطف العين، آه، بس مش لدرجة إنك تسبلّي كده!"
قال مالك بصوت مبحوح:
ــ "انتي بتعملي ده كله ليه؟"
ردت رودينا ببساطة:
ــ "عشان وديت بنتك عندي. كل الموضوع إنك صعبت عليا، قولت آخد فيك ثواب يعني! مش معقول راجل قلبه واكله على بنته والدنيا عنده بتتقلب وأنا أسيبه لوحده، دا حتى عيب ف حقي."
تنهد مالك بمرارة وقال:
ــ "عجزي قدامك إني شايفك واحدة غامضة ومجهولة، ومع ذلك ماشي معاكي زي المغمض، لا فاهمك ولا فاهم الطريق، ومع ذلك متأكد إني مش هتأذي منك."
قالت رودينا بهدوء:
ــ "ثق فيا بس."
هزّ مالك رأسه وقال بصوت منخفض:
ــ "مش معقول اللي بيحركك معايا هو الحب بس."
ابتسمت رودينا بألم وقالت:
ــ "والواجب كمان، يا مالك. واجبي تجاه قلبي اللي بيتعصر من جوا كل ما يشوف التوهة والغربة ف عينك دي."
فتح مالك فمه ليقول شيئًا، لكن فجأة انطلقت أصوات الرصاص من حولهم.
توقف الحديث، والتفت مالك بسرعة إلى الخلف، مذهولًا.
صرخ مالك بصوت عالٍ:
ــ "انزلي بسرعة!"
نظرت رودينا خلفها، لترى سيارة مجهولة تطلق عليهما النار بلا توقف.
قالت رودينا بدهشة:
ــ "هما مالهم شادين حيلهم علينا كده ليه؟ كله ضرب ضرب!"
صاح مالك بغضب:
ــ "ده وقت هزار؟ هنموت يا مجنونة! ارجعي مكاني وسيبيني أنا أسوق!"
امتثلت رودينا سريعًا لأمره، وانتقلت إلى المقعد الآخر.
قالت بتذمر:
ــ "أنا اتخنقت أوي!"
ظل مالك يحمي رأسه بذراعيه من الرصاص المتطاير، ثم صاح:
ــ "في مسدس تحت الدواسة عندك! هاتيه!"
بحثت رودينا بسرعة حتى وجدته.
قالت بحماس:
ــ "سيبلي بقى الفرصة دي! دي لعبتي!"
مالك بدهشة:
ــ "نعم؟!"
أردفت رودينا بحزم:
ــ "افتح سقف العربية من فوق!"
صرخ مالك رافضًا:
ــ "لا يمكن أخاطر بيكي!"
قالت رودينا بعناد:
ــ "اسمع الكلام، مش هيجرالي حاجة! المهم مانسبش المجرمين دول يفلتوا ويحرّموا يتعرضوا لينا تاني! يلا يا مالك!"
صرخ مالك بصوت مختنق:
ــ "لأ! أنا مش هستحمل تضيعي مني انتي كمان! لو حصلك خدش، أنا هموت من قهري! مش هستحمل!"
ابتسمت رودينا بثقة وقالت:
ــ "أنا محدش يقدر عليا يا مالك! أنا واحدة براوية قوي وجامدة، وفوت ف الحديد! دماغي حجر صوان! يللاااااا!"
وبالفعل، فتح مالك سقف السيارة.
تمتمت رودينا في سرها:
ــ "توكلنا على الله!"
بمهارة عالية كشرطية محترفة، تمكنت رودينا من إصابة اثنين من المهاجمين بدقة، ثم صوبت نحو إطارات السيارة الأخرى حتى فقد السائق السيطرة واصطدم بعنف.
ترجلت رودينا من السيارة بثقة، بينما كان مالك يحدق بها مصدومًا من قوتها وثباتها.
صرخت رودينا:
ــ "العربية هتولع!"
كان مالك يهم بالكلام حين سمع دوي انفجار، ورأى النيران تلتهم السيارة الأخرى.
.....
بعد أن انفجرت السيارة واشتعلت النيران فيها، نظر مالك حوله متفحصًا المكان، ليكتشف أنهما في منطقة مهجورة تمامًا.
قالت رودينا، وهي تتلفت بقلق:
ــ "إيه المكان دا؟"
رد مالك وهو يتنهد:
ــ "أنا عارف! ببص لقيتنا هنا زيك على فكرة... يعني متسألنيش."
قالت رودينا بنفاد صبر:
ــ "وإيه اللي جابنا هنا؟ يلا نرجع!"
أجابها مالك محاولًا التماسك:
ــ "مش لما أعرف المنطقة دي فين الأول؟ اهدي بقى شوية."
نظرت رودينا حولها وقالت بقلق أكبر:
ــ "مفيش حد غيرنا هنا... يعني مش هنعرف نسأل حد حتى!"
ابتسم مالك بثقة مصطنعة وقال:
ــ "اتقلي بقى... وأنا هتصرف."
أولما نزلوا من السيارة، نظرت رودينا حولها بدهشة وقالت:
ــ "هو إحنا جرينا منهم كل المسافات دي؟"
أجاب مالك وهو يسرع في خطواته:
ــ "خليكي حريصة وأنتِ ماشية."
استمروا في السير، وفجأة سمع مالك صوت خطوات تقترب.
قالت رودينا بتوجس:
ــ "إيدة في صوت."
أمسك مالك سلاحه بحذر، وبدأ يتقدم نحو الصوت.
ــ "شايفة النور ده؟"
قال مالك وهو يشير بيده إلى النور البعيد.
ــرودينا"تعالي نمشي بالله عليك.
ــ "أنا مش حاسة أن المكان ده آمن."
أجاب مالك وهو يشعر بالتوتر:
ــ "أنا فعلاً مش عارف أتحرك في مكان زي ده."
قالت رودينا، وهي تحاول أن تجد حلاً:
ــ "خلاص، أنا هتصرف."
ركبت رودينا السيارة بسرعة وحاولت تشغيلها، لكنها كانت متوقفة.
ــ "إيه الزفت ده؟! هي لما بتخرب بتخرب من كله هنروح فطيس فعلا كدا!
قال مالك، وهو يبدو مرتبكًا:
ــ "مفيش بنزين صح؟"
قالت رودينا بدهشة.وانت ازاي مختش بالك
ــ مالك بتهكم:آسف لجنابك، كان المفروض أحط بنزين زيادة كاحتياط."
ــ رودينا بحزم:"عَ فكرة، كان المفروض دا يحصل من غير تريقتك دي. دلوقتي، إحنا توهنا واتحسبنا هنا!"
مالَ مالك وهو يمشي غاضبًا. ثم قال:
ــ "استني هنا."
نزلت رودينا بسرعة وبدأت تمشي معه.
ــ مالك:"لازم نلاقي على الأقل عربية توصلنا، يمكن في حد رايح اتجاه المنطقة بتاعتنا."
قالت رودينا بتشكك:
ــ "ولو مفيش؟ اي العمل هنبات؟
ــ "استحالة أبقى معاك هنا، إنت مجنون!"
رد مالك، وهو يتحدث بحزم:
ــ "مش أكتر من جنونك، واسكتي... خليني أنا كمان أعرف أربط لساني عليكِ."
قالت رودينا، وهي ترفع حاجبها:
ــ "لا، سيبه! وأنا أقصه وأروضه كمان."
قال مالك بصوت مرتفع:
ــ "يابت، آخرسي بقى!"
لكن رودينا ردت بنبرة حازمة:
ــ "لا مش هخرس، ومتزعقش فيا!"
فجأة، حاول مالك أن يشد يدها بقوة، لكنها ابتعدت عنه بسرعة.
ــ "متسوقش فيها، ومتعودش إيدك كل شوية إنها تتحط على جسمي عمال على بطال."
في تلك اللحظة، ظهر رجل غريب من الظلام، ممسكًا بعصا خشبية.
قال الرجل بصوت منخفض:
ــ "مين هنا؟"
مالك، وهو يحاول أن يكون مهذبًا رغم الموقف العصيب:
ــ "آسفين جدًا على الإزعاج، بس إحنا عايزين نلاقي طريقة نخرج بيها للشارع الرئيسي."
الرجل نظر إليهم بتشكك، وقال:
ــ "وانتو إيه اللي وصلكم هنا؟ المكان دا مش آمن للناس اللي زيكم."
رودينا، وهي تبذل جهدًا للحفاظ على هدوئها:
ــ "إحنا مستعدين ندفع لك أي مبلغ، بس اتصرف ودلنا على أي طريقة تخرجنا من هنا."
الرجل أوقف خطواته للحظة، ثم أضاف:
ــ "أعرف شخص معاه عربية هيوصلكم، بس ممكن يطلب مبلغ كبير."
رودينا، وهي تنظر إليه بتركيز:
ــ "اللي هو عايزه، المهم إنه ينجدنا."
وبالفعل، تحرك الرجل ببطء، يقودهم نحو المكان الذي يعتقد أن الشخص الذي سيساعدهم ينتظره.
مالك، وهو يشعر بالقلق:
ــ "مش معايا فلوس... الفيزة عند واحدة صاحبي حاليًا."
رودينا، محاولة أن تهدئه:
ــ "أنا معايا، اطمن."
......
بينما كانوا يسيرون مع الرجل، لم يكن مالك ورودينا يدركان أنهما كانا يقتربان من فخ آخر. الرجل الذي ظنوا أنه قد يساعدهم في الخروج من المأزق كان هو نفسه من نصب لهم كمينًا جديدًا.
عندما وصلوا إلى الباب، فتحه الرجل ببطء، لكن لحظة دخولهم تغير كل شيء. الباب أغلق خلفهم بقوة، وأحاط بهم رجال ملثمون، وجعلوا الجو مشحونًا بالتوتر.
الرجل الذي رافقهم ابتسم ابتسامة خبيثة وقال بنبرة تهديد:
ــ "أخيرًا وقعتوا تحت إيدينا."
مالك نظر حوله سريعًا، لكنه لم يستطع الخروج من هذا المأزق. فصرخ غاضبًا:
ــ "دا كان كمين! أدي آخره اللي يمشي وراكي يا وش المصايب أنتِ!"
رودينا كانت في حالة غضب شديد، ولكنها لم تستطع منع نفسها من الرد:
ــ "ياسلام يا أخويا! وأنا كنت إيش عرفني أنه كمين تاني مترصد لينا؟ مش كان راجل عجوز؟"
مالك نظر إلى الرجل الذي كان معهم، ليكتشف أنه كان متنكرًا. الرجل خلع شنبًا وباروكة، ليظهر في شكله الحقيقي. مالك، الذي شعر بالخداع، قال:
ــ "دا إحنا أغبياء بشكل!"
رودينا، التي لم تكن لتقبل اللوم، ردت بحدة:
ــ "اتكلم عن نفسك! لو أنت شايف نفسك غبي دي مشكلتك مش بتاعتي!"
لكن مالك لم يستطع الصمت أكثر. مسك مسدسه وهو عازم على مواجهة الموقف مهما كلفه الأمر. وبينما كان يحضر المسدس، شعر بشيء غريب. فشال المسدس قبل أن يراه الرجل الذي كان معهم.
رفع المسدس تجاههم وقال بحزم:
ــ "مشينا من هنا."
أحد الرجال الآخرين، الذي كان يراقب عن كثب، قال ببرود:
ــ "مش قبل ما ناخد الورق اللي معاكم."
رودينا لم تتمالك نفسها وقالت بعنف:
ــ "مين تبعكم؟"
الرجل الآخر رد بنبرة قاسية:
ــ "لو قولنا، هنموت. إحنا مش جايين عشان نتساير."
مالك، الذي شعر بالغضب الشديد من الموقف، قال، محاولًا فهم الوضع:
ــ "مأجركم يعني؟"
رودينا، التي شعرت بالضغط، قالت مباشرة:
ــ "شكلها كده. لو سيبتونا نمشي، هديكم ضعف المبلغ."
الرجل الآخر ابتسم بسخرية وقال:
ــ "إيه؟ هتقبضونا بالدلاور زيهم؟"
رودينا ردت بسرعة، وهي تتحدى كلامه:
ــ "زي مين بالضبط؟"
أحد الرجال نظر إليه بازدراء وقال:
ــ "أنتِ عبيط يلا دي بتوقعك في الكلام.
رودينا رمقت مالك بنظرة سريعة وهمست له بنبرة بالكاد تُسمع:
ــ "أنا هلهيهم.. خليك جاهز، وحاول تهرب أول ما تلاقي فرصة."
اكتفى مالك بإيماءة خفيفة برأسه تأكيدًا لفهمه.
حينها أخذت رودينا نفسًا عميقًا، ثم تقدمت نحو الرجال بخطوات متهادية، تمتلئ بالدلال والإغراء.
كان تأثيرها عليهم واضحًا، إذ تسمرت أنظارهم عليها وكأنهم وقعوا تحت سحر لا يستطيعون مقاومته.
مالك، الذي كان يراقب المشهد بذهول، تدارك أمره بسرعة، وأخذ يبحث بعينيه عن مخرج. وقعت عيناه على شباك نصف مفتوح في الجهة الأخرى من الغرفة، فبدأ يتحرك نحوه بحذر شديد، حتى نطّ منه بخفة واختفى خارج المكان.
رودينا، بعد أن تأكدت من خروجه، تبدلت ملامح وجهها في لحظة؛ من الابتسامة المغرية إلى نظرة صارمة وقوية.
في ومضة عين، أمسكت بذراع أقرب رجل إليها، واستدارت بجسده حولها بقوة، ثم سددت له ركلة عنيفة في بطنه أطاحت به أرضًا.
لم تمنح الآخرين فرصة لالتقاط أنفاسهم، فوجهت ركلة جانبية إلى رأس رجل آخر، جعلته يسقط فاقدًا للوعي.
أحد الرجال حاول رفع سلاحه، لكنها كانت أسرع منه؛ خطفت المسدس من حزامه بحركة دقيقة، وأطلقت رصاصة خاطفة أصابت أحدهم في صدره، فسقط صريعًا.
استدارت بسرعة نحو آخر رجل يحاول مهاجمتها، وضربته بقوة بمقبض المسدس على صدغه، فسقط أرضًا يتلوى من الألم.
لم تتردد رودينا لحظة، ركضت بكل قوتها نحو الشباك وقفزت منه بخفة، حيث كان مالك ينتظرها.
ما إن لمح مالك رودينا تهبط من الشباك، حتى أسرع نحوها، قبض على يدها بقوة، وبدأ الاثنان بالجري معًا دون تردد.
لكن سرعان ما لمحا رجلين آخرين يندفعان نحوهما من الزقاق الضيق، أصوات أقدامهم تقترب بسرعة.
صرخ أحد الرجال:
ــ "أهوم! امسكوهم بسرعة!"
ازدادت وتيرة الجري، وصاحت رودينا وهي تلهث:
ــ "الجري دلوقت الجدعنة كلها، اجري يا مالك!"
رد عليها مالك، محاولًا مضاعفة سرعته:
ــ "دول ورانا! اجري جامد!"
أبصر الاثنان جدارًا منخفضًا أمامهما، لم يترددا لحظة وقفزا من فوقه بخفة.
هبطا على الجانب الآخر ليجدا أنفسهما وسط تجمع كثيف من الأشجار، حيث اختبآ بين الظلال محاولين كتم أنفاسهما.
همس مالك وهو يراقب الطريق خلفهم:
ــ "لو اتكتب لينا عمر جديد وعرفنا نخرج من هنا... لازم أعمل حاجة مهمة أوي."
نظرت إليه رودينا بحذر وهي تراقب حركة الأشجار، وسألته بصوت منخفض:
ــ "حاجة إيه دي؟"
ابتسم مالك ابتسامة خفيفة، ثم مال نحوها وهمس بعاطفة صادقة:
ــ "أكتب عليكي."