رواية ابتليت بها الفصل التاسع 9 بقلم قطر الندي

  

رواية ابتليت بها الفصل التاسع بقلم قطر الندي


في غُرفة المكتب، 

كان الضوء الخافت يُنساب فوق سطح الطاولة الخشبية، 
مُشكِّلًا دوائر ذهبية تحت المصباح، 
بينما يلفّ الظلام أركان الغرفة الأخرى.

 جلس فؤاد إلى جوار كامل، الذي كان يُقلّب بصمتٍ مجموعةً من التقارير الأمنية الواردة من الميدان.

 لم يكن الصمت مُجرّد غياب للكلام، بل كان ثقيلاً، كأنه يحمل في طيّاته أسئلةً لم تُجب بعد.  

انقطع الصمت بصوت حفيف الأوراق بين أنامل كامل، ثم قال وهو يُثبّت نظره على إحدى الصفحات: "هذا التقرير يحتاج إلى مراجعة دقيقة... ثمة تناقضٌ صارخ بينه وبين الوقائع المُسجّلة سابقاً."

  
أومأ فؤاد إيماءةً قصيرةً، دون أن يرفع عينيه عن الأوراق المبعثرة أمامه، ثم أجاب بنبرةٍ جافّة:  
"سأُصدر أوامري للفريق لتصحيح المسارات فوراً."  

وقبل أن يتمالكا العودة إلى التركيز، دقّ البابُ دقّاتٍ خفيفةً، ثم فُتح على مهل. 

دخلت الخادمة حاملةً ملفّاً أنيقاً، تقدّمت بانحناءةٍ خفيفةٍ وقدّمته إليه: "هذا ما طلبتموه، سيّدي...
 لقد أنهت الآنسة حنين مراجعته قبل ساعة."  

أخذ فؤاد الملف دون أن يلتفت إليها، واكتفى بإيماءةٍ باردةٍ قبل أن يشرع في تقليب صفحاته. 

وما إن أغلقت الخادمة الباب خلفها، حتى أطلق زفرةً طويلةً، كأنما يحمل الملف بين طيّاته ما يُثقل كاهله.

 حدّق في الأوراق بعينين متعبتين، ثم همس بكلماتٍ كالسكاكين: "مَن منحها الحقّ لتتصرّف وكأنها صاحبة القرار هنا؟"  
انفجر كامل ضاحكاً، ثم اتّكأ على ظهر الأريكة مُشبكاً يديه خلف رأسه، وقال بنبرةٍ عابثة:  
"آه، ها قد عدنا إلى الأزمة المعتادة! تقول هذا بينما عيناك تبحثان عنها في كلّ زاويةٍ منذ أن وطئت قدماك القصر!"  

ردّ فؤاد بحِدّةٍ متعمّدة، كمن يُحاول دفع تهمةٍ ما: "أنا لا أبحث عن أحد...
 لكنّ ما فعلته في المرة السابقة—خروجها دون إذن، استهتارها بقواعد الأمان—هذا تجاوزٌ غير مقبول."  

ابتسم كامل ابتسامةً ماكرةً وهو يُمالئه النظر:  
"وماذا عن تقريرها؟ هل وجدتَ فيه نقصاً؟ أم أن غضبك لم يهدأ لأنها لم تُلقِ بكلمة اعتذار؟"  
سكت فؤاد لبرهة، ثم وضع الملفّ على الطاولة بنقرةٍ خفيفة. 

ظلّت عيناه معلّقتين في الفراغ، كأنّما يُحاول قراءة شيءٍ غير مكتوب.  

"المسألة ليست في جودة عملها... بل في منهجها. 

هناك حدودٌ يجب أن تُرسم، وإلاّ فالفوضى ستكون أقرب إلينا ممّا نتصوّر."  

أجابه كامل بهدوءٍ مُتكلّف: "لكنّ بعض الفوضى، يا صديقي، 
قد تأتي لتحرّرنا من قيود الرتابة."  

نظر إليه فؤاد بحَدّة، ثم نهض واتّجه نحو النافذة العريضة.

 قال وهو يُحدّق في الحديقة البعيدة:  
"آخر ما أحتاجه الآن... 
هو أن تتهاوى جدران هذا المكان بسبب مشاعرَ ليس لها مكانٌ هنا."  

ضحك كامل ضحكةً مكتومةً وهو يهمّ بالوقوف: "بل يبدو أنّك في أمسّ الحاجة إلى أن تُهزّ... 
بشيءٍ ليس له علاقةٌ بالتقارير أو الملفّات." 
 
عاد ليجلس على طرف الأريكة، مُعقِداً حاجبيه بجدّيةٍ نادرة، بينما بقي فؤاد واقفاً عند النافذة، يُراقب الأشجار تتمايل في الخارج، لكنّ عقله كان غارقاً في أعماقٍ أخرى.  

قال كامل بصوتٍ يحمل شيئاً من الحكمة والدعابة معاً: "أتعرف ما هي مشكلتك الحقيقية؟
 ليست في تصرّفاتها... بل في كبريائك الذي يُشبه سجنًا بلا قضبان."  

لم يلتفت فؤاد، لكن صوته خرج ببرودةٍ تذوب فيها نبرة التحدّي:  
"أنا أرفض أن أبدو ضعيفاً أمام أيّ أحد."

هزّ كامل رأسه وهو يضحك بخفّة:  
"ضعيف؟ فؤاد القوي، الغامض، الذي عاد من بين الأموات... 
يخاف من كلمة 'أسف'؟"  
استدار فؤاد ببطءٍ ليواجهه،
 وعيناه تتّقدان بشررٍ من الإنكار والغضب:  
"أنا... لم أرتكب خطأً. 
كلّ ما فعلته كان لحمايتها. 
فهل هذا يستحقّ اعتذاراً؟"  
أجابه كامل بنظرةٍ تحمل شيئاً من الشفقة:  
"في بعض الأحيان، لا يهمّ من كان المخطئ...
 المهمّ من سيدفع الثمن إذا استمرّ العناد."  

اقترب خطوةً، وألقى نظرةً على الملفّ المفتوح، ثم قال بنبرةٍ أخفّ:  
"أعلم يا فؤاد... قلبك ليس حجراً كما تزعم. هي فقط... 
دقّت باباً ظننتَ أنّه أغلق للأبد."  

توقّف قليلاً، ثم أضاف:"في الحبّ، كلّ الطرق مُباحة...

 طالما تقودك إلى مَن يستحقّ أن يقف في ذلك المكان، داخل قلبك."  

حدّق فيه صاحبه طويلاً، ثم حوّل بصره إلى الورقة التي دوّنت عليها حنين ملاحظاتها بخطّها الواضح.

 قال، وكأنّه يُقنع نفسه أكثر ممّا يُقنع صديقه:  
"أنا لا أركض خلف أحد."  

ابتسم كامل، وربّت على كتفه وهو يمرّ بجانبه:  
"وأنا لا أطلب منك أن تركض... فقط افتح الباب، ودعها تُقرّر إن كانت ستعبُره مرةً أخرى."

ساد صمتٌ ثقيلٌ بعد كلمات كامل، كأنما صدى جملته الأخيرة بقي عالقاً في الهواء بينهما. 

التقط فؤاد كوب القهوة الذي كان قد أهمله على الطاولة، فوجده قد تحوّل إلى سائل بارد، مرير المذاق كالعلاقة التي تربطه بها.

 رفع عينيه نحو النافذة مرة أخرى، حيث كانت أوراق الشجر تتمايل في الخارج كأنها تهمس بأسرار لا يريد سماعها.
  
قال فؤاد بصوتٍ خفيض، أكثر انكساراً مما يُحب أن يظهر: "وما الضمان أنها لن تعيد الكَرّة؟ 

أن تخرق القواعد مرة أخرى وتضع نفسها في موقفٍ لا تُحسد عليه؟"  
اقترب كامل منه، وأسند ظهره إلى حافة النافذة، محدقاً في وجه صديقه الذي بدا أكثر تعقيداً من أي لغزٍ أمني واجههما: "الحياة ليست سلسلة ضمانات، يا صديقي. 

لكن أحياناً، المخاطرة الوحيدة التي لا نستطيع تحملها... هي ألا نخاطر أبداً."  

لفّ فؤاد أصابعه حول الكوب البارد، وكأنه يحاول أن يستمدّ منه بعض الدفء
 عيناه، اللتان عادةً ما تكونان قاسيتين كالفولاذ، بدتا فجأةً متعبَتين: "لقد اعتدتُ أن أكون وحيداً... 
أن أتحكم بكل شيء من حولي. 

والآن..."  
قطع كامل كلامه بضحكةٍ خفيفة:  
"والآن وجدتِ نفسك في قلب عاصفة لا تستطيع السيطرة عليها، أليس كذلك؟"  
لم يُجب فؤاد، لكن شفتيه ارتسمت عليهما نصف ابتسامةٍ عابرة، كشعاع شمس خجول يخترق الغيوم.  

من بعيد، سمعا صوت خطواتٍ خفيفة تقترب من الباب. 

توقفت للحظة، ثم عادت تبتعد وكأن صاحبها قد تراجع في اللحظة الأخيرة.
 نظر فؤاد إلى الباب بحدة، وكأنه يستطيع رؤية ما خلفه.  

قال كامل بنبرةٍ تمازحية: "لعلكِ محظوظ اليوم... 
يبدو أن العاصفة قررت أن تأتي إليك بنفسها."  

قام فؤاد فجأةً، وكأنه قد اتخذ قراراً ما. 
توجه نحو الباب بخطواتٍ ثابتة، لكنه توقف قبل أن يصل إليه.

 التفت إلى كامل، وعيناه تحملان سؤالاً صامتاً.  

قال كامل وهو يهز رأسه: "لا تبحث عن إجابات عندي... 
أنت تعرف ما عليك فعله."  

أغلق فؤاد عينيه لثانية واحدة، كأنه يجمع شجاعته، ثم فتح الباب ببطء.  

في الممر المظلم، وقفت حنين ويداها مشبوكتان أمامها، 
عيناها الواسعتان تحملان مزيجاً من التحدي والضعف. 
بدت كشبحٍ من ماضيه، أو ربما بوصلةٍ إلى مستقبله.  

"أردت أن أتأكد أن التقرير وصل إليك..."، قالت بصوتٍ هادئ،
 لكنه لم يخلُ من ارتعاشة.  

نظر فؤاد إليها طويلاً، وكأنه يرى كل التفاصيل للمرة الأولى: الطريقة التي ترفرف بها رموشها عندما تتوتر، الطريقة التي تعقد بها أصابعها عندما تحاول أن تبدو قوية.  

أخيراً، وبعد صمتٍ طويل كأنه عمر، قال:  
"إطمئي."  

كانت هذه الكلمة البسيطة كفيلة بأن تهزّ جدران ذلك العالم الذي بناه حول نفسه بحذرٍ طوال هذه السنوات. 
وكما قال كامل، لم يكن عليه سوى فتح الباب...
 وترك الحياة تقرر ما سيحدث بعد ذلك.
🏵️🏵️🏵️

في الزاوية الخلفية من المطبخ الكبير، حيث يتراقص ضوء خافت من النافذة العليا، كانت نور منحنيةً فوق سلة الفاكهة، تنسّق الثمار بحرصٍ كأنها تتراصف كلمات قصيدة.

 أصابعها النحيلة ترتجف وهي تسمع وقع خطواتٍ سريعة تقترب.

 لم ترفع رأسها، فصوت الحذاء المدوي على البلاط الرخامي كان كافياً لتعرف أن ليلى قادمة. 

وقفت الأخيرة خلفها فجأةً، تفحصتها بنظرةٍ متعالية كأنها تتفقد سلعةً منقوصة، ثم قالت بصوتٍ حادٍّ كشفرة السكين:  
"أهكذا تُرتب المائدة في هذا القصر؟
 يبدو أن رئيستك أهملت تعليمك أبسط القواعد."  

رفعت نور رأسها ببطء، عيناها الرماديتان تشعان بالخوف المكبوت:  
– "آسفة... كنت سأنتهي خلال دقائق."  
لم تكتفِ ليلى بهز رأسها ازدراءً،
 بل دفعت السلة بظهر كفها فتدحرجت تفاحةٌ حمراء على الأرض، 
كقطرة دمٍ في ذلك المطبخ الهادئ.  

"دقائق؟ القصر لا يسير على هوى الخادمات. الكسل هنا يُكافأ بالطرد."  

قبل أن تتمادى في إهانتها، انفتح الباب بعنفٍ فجأةً، وظهرت حنين واقفةً كالبرج الشامخ، عيناها الذهبيتان تشتعلان بنارٍ مكتومة.

 صوتها جاء هادئاً لكنه قطَّع الجو كالرعد:  
"هل من مشكلة تستدعي هذا الصخب، يا ليلى؟"  
استدارت ليلى بتمهل، وابتسامة زائفة تزحف على شفتيها كالأفعى:  
"أوه... مجرد توجيه بسيط للخادمة. 
يبدو أنها تحتاج إلى إشرافٍ مستمر."  

تقدمت حنين حتى وقفت وجهاً لوجه معها، المسافة بينهما لا تتجاوز شبراً. 
صوتها انخفض إلى همسةٍ خطيرة:  
"نور ليست بحاجة إلى 'توجيهاتك'. ومن يعمل تحت سقف هذا المكان يستحق الاحترام."  

ارتفع حاجبا ليلى بسخرية:  
"سقف المكان؟ أظنك نسيتِ أنكِ مجرد... ضيفة مميزة في هذا القصر."  

سكتت الغرفة فجأة، حتى توقف صوت تنفس نور خلفهما. 
ثم همست حنين بكلماتٍ ثقيلة كالرصاص:  
"لست ضيفةً ولا غريبة...
 وإن ظننتِ أن بإمكانكِ إذلال من أعتبرهم عائلتي، فأنتِ أعمى مما تظنين."  

اتسعت عينا نور، بينما تجمدت ليلى في مكانها، نظراتها القاسية تلتقي بنظرة حنين التي لا تقل حدّة.

 أخيراً، تنحنحت بخفةٍ زائفة:  
"الآن فهمت التسلسل الهرمي هنا... شكراً للتوضيح."  

غادرت بخطواتٍ مفتعلة، تاركةً وراءها سحابةً من التوتر. 

التفتت حنين إلى نور، ووضعت يدها الدافئة على كتفها المرتعش:  
"لا تسمحي لأحدٍ بكسركِ...
 طالما أنك هنا، فأنتِ في مأمن."  

في الخارج، كانت الشمس قد اخترقت السحاب، فسقطت أشعتها الذهبية على التفاحة المهملة على الأرض، وكأنها تلمح إلى بدايةٍ جديدة.

في جناحها الخاص بالطابق العلوي، وقفت ليلى أمام مرآتها الذهبية العتيقة، تمشط شعرها الأسود بعنفٍ يكاد يُقتلع الخصلات من جذورها. 

عيناها الزرقاوان تشتعلان بنار الغضب، بينما ظلّ صدى كلمات حنين يرنّ في أذنيها كجرس إنذار.

 مدّت يدها المرتعشة إلى هاتفها الذكي، وضغطت على الرقم المحفوظ تحت اسم "السيدة" بحروفٍ ذهبية. 

رنّ الهاتف مرتين قبل أن يُجيب الطرف الآخر بصوتٍ ناعم كالحرير، لكنه يحمل في طياته حدّةً خبيثة:  
"ليلى... ألم نتفق على أن اتصالاتك تكون فقط عند الضرورة القصوى؟"  
عضّت ليلى على شفتها حتى كادت تُدميها، 
ثم همست بانفجارٍ مكبوت:  
"حنين! هذه الفتاة تتصرف وكأنها سيدة القصر! حتى السيد فؤاد يمنحها حريةً لا يمنحها لأحد!"  
سكتت ديلارا للحظة، 

ثم جاء ردّها مدروساً كحركة الشطرنج: "كنت أحسب أنها مجرد عابرة سبيل... 
لكن يبدو أنها أصبحت عقبةً تحتاج إزالة."  

جلست ليلى على حافة السرير المخملي، قبضتها تشدّ على الهاتف حتى ابيضّت مفاصلها:  
"لقد أهانتني أمام الخدم! لو لم أتراجع لسحقتني بكلماتها!"  

ضحكة ديلارا الجليدية قطّعت الهواء:  
"لم تأتِ إلى هناك لتكوني ضحيةً يا ليلى... بل صيادة. 

هل نسيتِ الهدف الحقيقي؟"  
"لكنها ليست غبية كالباقيات...

 إنها تتحسّب لكل خطوة."  

انخفض صوت ديلارا إلى همسةٍ ثعبانية:  
"إذن كوني أذكى منها. احتضنيها كصديقة... ثم اطعنيها عندما تضعف."  

بدأت ابتسامةٌ زاحفة تظهر على وجه ليلى، بينما عيناها تتوهجان بشرٍ خفي:  
"سأجعل الجميع يرونها كما أريد... سأحول قوتها إلى ضعفٍ في أعينهم."  

أجابتها ديلارا بنبرةٍ نهائية:  
"هكذا أريدك. تذكري... هذا القصر سيكون ملكنا قريباً."  

انتهت المكالمة، وبقيت ليلى تحدّق في انعكاسها بالمرآة. عيناها الباردة لم تعد تعكس الغضب... 
بل تصميمًا قاتلاً. كانت هذه مجرد المقدمة.  
🏵️🏵️🏵️
**في مكتبها الصغير بالطابق الثاني**  
كانت حنين منحنية على طاولة العمل، أصابعها تتصفح الملفات بدقة المحاسب، حين رنّ الهاتف الداخلي فجأة. 

الاسم الذي ظهر على الشاشة جعل نبضها يتسارع: ديلارا.  

رفعت السماعة بيدٍ شبه مرتعشة: نعم. 

جاء صوت ديلارا ناعماً كالسمّ المغلف بالعسل: "مساء الخير عزيزتي. 

أحتاج الملف المالي لمشروع البحر الأحمر... فوراً."  
توقفت حنين برهة، 
ثم أجابت بثباتٍ مدروس:  
"هذا الملف خاص بالإدارة العليا فقط. لا يمكنني تسليمه دون توقيع السيد فؤاد."  

سكتت ديلارا لثوانٍ شعرت فيها حنين بثقل العالم على كتفيها، ثم جاء الرد كسيفٍ مسلول:  
"أظنكِ تخلطين بين منصبكِ وواقعكِ يا حنين. 

أنا لست من تقررين له ما يُعطى أو يُمنع!"  
شعرت حنين كأن سكيناً يغرز
 في صدرها، لكن صوتها خرج 
صلباً:  
"أنا أتبع التعليمات... ليس أكثر."

ضحكة ديلارا القصيرة كانت كفيلةً بتجميد الدم في العروق: 

"سأجعلكِ تندمين على هذه اللحظة... انتظري."  

انقطع الخط فجأة، تاركاً حنين واقفةً كتمثالٍ من الرخام، يدها لا تزال ممسكة بالسماعة...

 لكن إصبعها السبابة كان يضغط على زر التسجيل الأحمر دون وعي. لقد سجلت كل شيء.  

**في ممرات القصر**  
اندفعت عبر الممرات الطويلة، ظلها يتمايل خلفها كشبحٍ مطارد.
 حقيبتها تضغط على جنبها بإيقاعٍ متناغم مع دقات قلبها المتسارعة. 

 
توقفها نور بمجاملة:  
– "هل تحتاجين شيئاً، آنستنا؟"  
– "السيد فؤاد... أين هو الآن؟" 
 
تراجعت الخادمة خطوةً تحت حدة نظراتها:  
"في... في ساحة التدريب، غرفة الرماية."  

لم تنتظر حنين لتشكرها. خطواتها تسارعت نحو المصير الذي تختاره بإرادتها... 

للمرة الأولى منذ دخلت هذا القصر.

اندفعت حنين عبر الممرات كعاصفةٍ صغيرة، خطواتها ثابتةٌ رغم الرياح التي تعصف في داخلها.
 أصابعها تشبثت بحقيبتها كأنها مرساةٌ في بحرٍ مضطرب، 

بينما كان صوتها الداخلي يجلجل كالرعد: *(كفى... لقد طفح الكيل!)*
أغمضت عينيها لثانية، 

ورأت نفسها كقطعة شطرنج في لعبةٍ لا تعرف قواعدها. صوت ديلارا المتعجرف لا يزال يرن في أذنيها، 
ذلك الصوت الذي يحمل في نعومته سموم الأفاعي.  

*(تهديدات؟ في وجهي؟ ومن تكون هي لتتحدث إليّ بهذا النبرة؟!)*  

توقفت فجأةً، مسندة ظهرها إلى الجدار البارد. صدرها يعلو ويهبط كبحرٍ في إعصار.  

*(لو ظن السيد فؤاد أنني سأتحمل إهاناتها من أجل البقاء هنا... فهو لا يعرفني جيدًا.)*  

لكن تحت طبقات الغضب، 
كان هناك ألمٌ أعمق... 
جرح نازفٌ من انتظار كلمةٍ واحدةٍ منه، 

إشارةً تثبت أنها ليست وحيدة في هذه المعركة.  
🏵️🏵️🏵️

في قاعة الرماية، كانت الغرفة تعج بصدى الرصاص، كل طلقةٍ تنطلق من مسدس فؤاد كأنها تطلق شحنات الغضب المكبوت في أعماقه. 

وقف بوضعية القتال، 
عيناه الحادتان مثبتتان على الهدف البعيد، لكن هناك اضطرابًا خفيًا في نظراته.  

انفتح الباب بهدوء، دخلت حنين وكأنها شبحٌ من ماضيه.

 وقفت على العتبة للحظة، تتنفس رائحة البارود في الهواء، ثم تقدّمت بخطواتٍ واثقة.  

لم يلتفت. 

فقط أطلق الرص اصة الأخيرة التي اخترقت مركز الهدف بدقة 
ق اتلة. 

ثم سمع صوتها يهتز خلفه: "كنت أبحث عنك..."

أنزل المس دس ببطء، أفرغه من الذخيرة ووضعه على الطاولة المعدنية. 

حين استدار، كانت عيناه تلتقيان بعينيها في تحدٍ صامت.  
"آدم أخبرني أنك هنا."  

سحب منشفةً بيضاء ومسح بها يديه، بينما يدرس ملامحها المتوترة.  

– "ما الذي أتى بكِ؟"  
اقتربت خطوة أخرى،
 رائحة الب ارود تملأ رئتيها:
 "ديلارا اتصلت بي.

 طلبت ملفات ليست من صلاحياتها... 
وعندما رفضت، هددتني بأنها ستشتكيني إليك."  
سكتت. 

الجو تحمّل وزن تلك الكلمات للحظة.  

رفع حاجبه الأيمن قليلًا، نظرةٌ سريعة إلى الهدف الممزق، ثم عاد إليها: "رفضتِ طلبها...؟"  
"أخبرتها أن القرار ليس بيدي دون موافقتك."  

ظهرت زاوية شفتيه فجأةً في نصف ابتسامة، لم تكن سخريةً بل اعترافًا خفيًا. 

صوته خرج هادئًا كالماء الجاري:  
"لقد تصرفتِ بشكلٍ صحيح، حنين، لينا إجتماع مهم، علينا أن نركز عليه جيدا."  

لكن عينيه كانتا تقولان أكثر من ذلك... كانتا تعترفان بأنها لم تعد مجرد موظفة، بل أصبحت اللاعب الوحيد الذي يجرؤ على الوقوف في وجه العاصفة.

تفاجأت برده، لم تُظهره، لكنها شعرت بذلك التناقض الذي يربكها كل مرة.

"ظننت أنك ستصدقها."

تقدم نحوها بهدوء، خطواته بطيئة لكنها واثقة، حتى بات على مقربة تكاد تشعر بأنفاسه، ثم قال بصوت منخفض:
"أنا لا أصدق أحدًا بسهولة، لكني أراقب كل شيء."

تراجعت خطوة دون وعي،

 ذلك القرب أشعل داخلها ارتباكًا مرًا.

همّ بأن يقول شيئًا آخر، لكنه تراجع فجأة، مدّ يده إلى الطاولة، التقط سلاحه مجددًا.

"عودي إلى عملك، سأتعامل مع الأمر."

توقفت للحظة، وكأنها تنتظر شيئًا آخر، لكن فؤاد كان قد أعاد وضع السماعات على أذنيه، 
واستدار نحو الهدف.

طلقة جديدة انطلقت، أصابت النقطة السوداء في قلب الورقة.

وحنين… غادرت، بخليط من الارتياح والقلق، كأنها كانت في مرمى نيران لا مرئية.

أطلق فؤاد طلقة أخرى، ثم أنزل السلاح ببطء والتفت إليها من جديد. حدّق في عينيها، صامتًا للحظة، 

ثم قال بنبرة هادئة مغايرة تمامًا لما سبق:
"هل جرّبتِ الرماية من قبل؟"
ارتبكت، 
رفعت حاجبيها مستنكرة، ضمت يديها أمام صدرها بتوتر:"أنا؟ بالطبع لا! هذا... هذا الشيء يخيفني."

ابتسم، نظرة خفيفة من الدعابة تسللت إلى وجهه الجامد.

"إنه لا يخيف... إذا ما تحكمتِ فيه. كما في كل شيء بالحياة."
أخذ خطوة نحوها، ثم رفع السلاح بخفة ليضعه على الطاولة جانبها."تعالي."

هزّت رأسها بسرعة، فتراجعت خطوة وهي تقول بتوتر:
"لا، لا أظنني أستطيع... لا أحب الأسلحة."

اقترب أكثر، وصوته ينخفض أكثر فأكثر:
– "لستِ مطالبة بحبها، فقط... 

أن تعرفي كيف تحمين نفسك."

نظرت إليه نظرة طويلة، كأن شيئًا بداخله يحاول التسلل إليها...

 لا هو الفؤاد الصارم، ولا الرجل الثائر، بل رجل مختلف. 

أقلّ توترًا. أكثر اهتمامًا.

"إن شعرتِ بالخوف، سنتوقف فورًا... أعدك."

ترددت... ثم اقتربت.تسللت أناملها نحو السلاح بتردد، أمسكته ببطء، يداها ترتجفان قليلاً. فضّل أن يتركها تُجرّب بنفسها، لكنه اقترب حتى وقف خلفها، بهدوء، دون أن يلامسها.

"اليد اليسرى هنا... واليمنى هكذا، لا تشدي كثيرًا. تنفّسي..."
تجمدت للحظة وهي تمسك بالسلاح، ثم التفتت إليه بسرعة:
"سيد فؤاد، أنا حقًا خائفة."
أخفض رأسه قليلاً وقال بنعومة غير متوقعة:"أنا هنا، لا تقلقي."

نظرت للأمام، ثم أسقطت السلاح برفق على الطاولة، وتنهدت عميقًا:"في المرة القادمة... ربما."

أومأ، ابتسم من دون كلمات، ثم التقط السلاح وأعاده إلى مكانه.
"أعدك أن تكون المرة القادمة أخفّ رعبًا."

كانت حنين على وشك التراجع، خطواتها خفيفة مترددة نحو الباب، حين جاءه صوته، ثابتًا لكنه دافئًا:
"لن تخرجي من هنا قبل أن تجربي."

التفتت ببطء، نظراتها مضطربة، لكنه لم يترك لها فرصة للاعتراض. حمل السلاح، ثم أشار إليها أن تقترب.

"تعالي، فقط مرة واحدة. لن يصيبك شيء."

تقدمت، خطوة... ثم أخرى. اقترب منها بثقة، وأعطاها السلاح. 

يداه أمسكتا بمعصميها بلطف،
 وثبّتهما على القبضة الحديدية.

"هكذا... اليد هنا، والسبابة هنا... 
لا تخافي، أنا خلفك."

شعرت بأنفاسه قريبة من عنقها، ارتجف قلبها، ونظراتها لا تفارق الهدف أمامها.

 أما هو، فكان ساكنًا، يضبط نبضه، يراقب ارتباكها من دون أن يُظهر نشوة انتصاره الصامت.

"الآن تنفسي ببطء... ثم اضغطي."
أغمضت عينيها للحظة، ثم ضغطت، لتصدر طلقة عشوائية اخترقت الهواء وابتعدت عن الهدف بأمتار.

 شهقت قليلاً، ثم نظرت إليه:"أخطات... كنت أعلم أنني..."
قاطَعها وهو يبتسم:"لكنّكِ أطلقتِها. وهذا أكثر مما كنت أتوقع."

بدت دهشتها أكبر من كلمات الإطراء."حقًا؟"

أومأ وهو يمد يده ليسحب السلاح منها:
"مع التدريب... ستصيبين ما هو أخطر من الهدف."

ضحكت دون أن تنتبه، ثم انتبهت فجأة لقربه... لصوته... لسكينة غريبة اجتاحت المكان.

 همّت بالحديث، لكنها سكتت. تراجعت خطوة، ثم خطوتين.

"أظن... أنني سأعود لاحقًا."
غادرت وهي تشعر أن قلبها ترك شيئًا في الداخل، شيئًا خفيفًا... لكنه مؤثر.

فؤاد بقي يحدّق في مكانها، ابتسامة خفية تتسلل إلى شفتيه.

"نسيت ما جاءت من أجله..." همس لنفسه، ثم نظر نحو الهدف المثقوب، وأعاد تعبئة السلاح.
🏵️🏵️🏵️

في المقعد الخلفي للسيارة الفاخرة، حيث تخترق أشعة الشمس الذهبية زجاج النوافذ المعتمة، جلس فؤاد وحنين جنباً إلى جنب في صمتٍ مريح. 

كان هو يقلب صفحات تقرير عمل بينما كانت هي تحدق في المشهد العابر من النافذة، لكن أعينهما كانت تلتقي بين الحين والآخر في انعكاس الزجاج.

 انقطعت حنين عن تأمل المناظر الخارجية بنبرة هادئة:  
"تلقيت اتصالاً من عمي... دعاني لحضور زفاف ابنه نهاية هذا الأسبوع."  

رفع فؤاد عينيه عن الأوراق ببطء، درس ملامحها الجانبية للحظة قبل أن يسأل: "هل تنوين الذهاب؟"  
لفتت رأسها نحوه، شعرها الحريري يلامس كتفها: "أعتقد ذلك... لا يمكنني أن أرفض دعوته."  
في أعماقه،

 اشتدت قبضة غير مرئية حول قلبه. كان يعرف القصة كاملةً عن "ابن العم" هذا، 

عن ذلك الشاب الذي كاد أن يصبح شيئاً أكثر من مجرد قريب. 

لكن صوته خرج طبيعياً عندما قال: "سيكون أمراً جيداً أن تري عائلتك... 
بعيداً عن أجواء العمل لبعض الوقت."  

رفعت حاجبيها بدهشة، لم تكن تتوقع هذه الاستجابة: "هل تقول هذا لأنك تريد إبعادي عن القصر؟"  
ابتسم تلك الابتسامة الغامضة التي أتقنها:  
"بل لأن بعض المسافات... تساعدنا لنعود بأقدام أكثر ثباتاً."  

كانت الكلمات تحمل معاني متعددة، كالعادة معه.
 شعرت بحرارة خفيفة تنتشر في صدرها، وربما لهذا لم تفكر كثيراً في من ستراه في ذلك الحفل.  

– "سأعود مساء نفس اليوم، لا داعي للقلق."  

رد سريعاً، وعيناه تعودان إلى الأوراق:  

"لم أكن قلِقاً." 
لكن نظراته التي سرعان ما عادت إلى النافذة، والطريقة التي شد بها القلم بين أصابعه، كانت تقول عكس ذلك تماماً. 
 
حل يوم الزفاف، على عتبة القاعة الفاخرة، وقفت حنين كشاهدةٍ على زمن مضى. الموسيقى الصاخبة والضحكات المتداخلة تنساب عبر الباب المفتوح، لكنها بقيت لحظةً تتنفس بعمق، أصابعها الناعمة تلمس حافة فستانها الناعم كأنها تلمس جراحاً قديمة. 

"اليوم لست كما كنت"، همست في صمتها، كمن يردد تعويذةً تحمي القلب.

في انعكاس الزجاج، رأت امرأةً ناضجة بملامح هادئة، شعرها الأسود المرفوع بإتقان، وعيناها اللتان تحملان عمقاً لم يكن موجوداً قبل سنوات. 

لم تعد تلك الفتاة التي تختبئ خلف ابتساماتها... 

بل سيدة تعرف كيف تمشي على الجمر دون أن تحترق.

عندما دخلت، انساب الفستان بخفة حول جسدها، كأنه جزء من سيرتها الجديدة، عمها عمر كان أول من رآها، 

فانفرجت أساريره وهو يتقدم نحوها بحرارة: "بنت أخي الحبيبة! أنرت المكان بمجيئك". عانقته بعفوية، وشعرت بدفء العائلة يذيب شيئاً من الجليد حول قلبها
.
التقت عيناها بعينيّ العريس للحظة، نظرة سريعة، محايدة، كأنما تنظر إلى غريب. 

"مبروك لكما"، قالت للعروس بابتسامة مهذبة، صوتها لا يرتجف، لا يخون أي شعور.

 لاحظت كيف ارتعشت زاوية شفتي عزت، وكيف حاول إخفاء ارتباكه.

 لكنها لم تعد تبحث عن علامات الندم... فقد تجاوزت زمن المحاسبة.

"حنين؟!" انطلق صوتٌ من خلفها. التفتت لترى جنات، صديقتها المقربة، تقف مذهولة أمامها: "يا إلهي! أنتِ...

 لستِ نفس الشخص الذي عرفته!" ضحكت حنين ضحكتها الصادقة الأولى منذ زمن، بينما تحتضن صديقتها: "بل أنا نفسي... لكن بصورة أوضح".

عند الطاولة، مدت خالتها فريدة يدها المرتعشة لتلمس وجهها بحنان: "ابنتي...

 لقد أصبحتِ كالقمر". شعرت حنين بغصة صغيرة في حلقها، 

لكنها ابتلعت دموعها بابتسامة: "كل الفضل لكِ يا خالتي... أنتِ من علمتني كيف أكون قوية".

طوال الحفل، كانت تشعر بنظرات عزت تلاحقها كظلٍ غير مرغوب فيه، لكنها اختارت أن ترفع كأس عصيرها، تحتسي منه رشفةً ترمز لتحررها. لم تعد تهرب من الماضي بل تجاوزته.

الساعة منتصف الليل حان وقت المغادرة، جلست في مقعد السيارة الخلفي، جبهتها تستند إلى زجاج النافذة البارد. 

أضواء المدينة تلمع كنجومٍ أرضية، تذكّرها بأن الحياة تستمر. 

لم تشعر بالانتصار...

 بل بالسلام الداخلي لامرأة تعلمت أخيراً أن تضع نفسها فوق كل شيء.

في الظلام الدافئ للمطبخ، حيث لا يُسمع سوى تكتكة الساعة القديمة، انحنت حنين فوق الدرج الخشبي.

 أصابعها تبحث بخبرة بين أكياس الشاي المعطرة، حتى عثرت على كنزها المخبأ – لوح الشوكولاتة الداكنة الذي ابتاعته سراً قبل أسبوع. ضحكت في صمت، 
ضحكة الفتاة التي تعرف كيف تسرق لحظاتها الخاصة من بين بروتوكولات القصر الصارمة.  

جلست على حافة الطاولة، قدماها العاريتان تتأرجحان في الهواء البارد. 

مزقت الغلاف الورقي ببطء، وكأنها تؤدي طقساً مقدساً. عندما وضعت القطعة الأولى على لسانها، أغمضت عينيها، تاركةً المرارة الحلوة تعيدها إلى زمن أبسط، حين كانت الشوكولاتة مجرد متعة طفولية، لا ملجأً للروح المتعبة.  

"أنا بخير..." همست للظلال الراقصة على الجدار.  
يغط القصر في عتمة الليل الداكنة، حيث تخفت الأصوات كأنما تخشى إيقاظ الذكريات، وقف فؤاد في ظلّ المكتبة يراقب. 

سيجارته نصف منطفئة بين أصابعه، عيناه تتبعان ظل حنين وهي تمر كشبح من نور في الممر المضيء. 

شعرها الذي كان مرفوعاً بدقة بدأ يتراخى، قدماها الحافيتان تلامسان الأرض برقة، وكأنها تخلعت من ثقل اليوم مع ثيابها الفاخرة.

تبعها بصمت، خطواته لا تصدر صوتاً على السجاد الفاخر. وقف عند مدخل المطبخ يراقبها من خلف الباب النصف مفتوح. 

رأى كيف جلست على حافة الطاولة كطفلة متعبة، كيف كسرت قطعة الشوكولاتة بأسنانها الأمامية بعفوية نادرة، ثم أغلقت عينيها وهي تذوب في النكهة المرة الحلوة.

سحابة من الدخان الأزرق تتصاعد من سيجارته بينما يدرس تفاصيل المشهد:
- الطريقة التي تلتف بها قدماها حول بعضهما
- الظل الطويل الذي تلقيبه الثريا على عنقها الممشوق
- تلك الهمسة التي التقطها رغم بعده: "أنا بخير..."
دفع الباب بهدوء، فتحركت مفصلاته المعدنية بصوت خافت.

 توقفت حنين عن المضغ فجأة، وعيناها الواسعتان التقتا بنظراته في ضوء القمر.

"تختبئين من العالم أم من نفسك؟"  
ارتعشت حنين لصوت فؤاد، وكادت تسقط القطعة الأخيرة من يدها.

 نظرت إليه وهو يقف عند المدخل، سيجارته نصف منطفئة بين أصابعه، عيناه الذهبيتان تراقبانها بتلك الطريقة التي تجعلها تشعر أنها مكشوفة بالكامل.  

"كلاهما." أجابت بصراحة غير معتادة.  

"تختبئين هنا لتأكلي الحلويات سراً؟" قالها بنبرة أخف مما اعتادت.
أسرعت بيدها لمسح زاوية فمها: "ليست سراً إن كنت تعرف مكانها."
أخرج من جيبه لوحاً آخر مطابقاً،

 ووضعه على الطاولة: "كنت سأرشدك إلى مخبأي الخاص... 

لكن يبدو أنك وجدت طريقك بنفسك."
نظرت إليه باستغراب: "أنت...

 تأكل الشوكولاتة؟"

"هناك الكثير لا تعرفينه عني." أجاب وهو يتقدم نحو الضوء، آثار التعب ظاهرة في عينيه. 

تقدم نحوها، معطفه الأسود يلامس الأرض بصمت. أخرج من جيبه لوح شوكولاتة مطابقاً لوحها، ووضعه على الطاولة.  

"اليونان." قال فجأة. "سأسافر إليها غداً...
 رحلة عمل يوم واحد فقط."  
رفعت حاجبيها بينما تضع آخر قطعة في فمها. "آه، 

إذن هذا سبب توترك الليلة."  
"لست متوتراً." اعترض وهو يكسر قطعة من لوحه الجديد.  

"بالطبع لست كذلك." ضحكت وهي تشير إلى الطريقة التي كان يضغط بها على السيجارة حتى كادت تنكسر.  

سحب كرسياً وجلس مقابلها، صوت الخشب يصرخ تحت وزره. "لوجي... 
ستكونين أنت المسؤولة عنها."  
"كما دائماً."  

"و..." توقف، وكأنه يحارب كلماتاً تريد الخروج. 

"لا تنسي أن تأكلي جيداً... وأن تنامي في وقت معقول."  

ساد صمت ثقيل. في الخارج، بدأ الفجر الأول يلوح في الأفق.

 نهض فؤاد فجأة، معطفه يثير نسمة هواء حملت رائحة خشب الصندل والسيجار.  
🏵️🏵️🏵️

بعيدًا عن أعين الفضوليين، في قلب أحد أحياء أثينا الراقية،

 يقع مبنى زجاجي الطابع، تحيطه حدائق غنّاء وممرات صامتة لا تطأها إلا خطوات محدودة. 

إنه مصحّ خاصّ، أشبه بمعبد للسرية والسكينة، يديره الدكتور فرحات، الرجل الذي لم يكن يومًا طبيبًا فحسب، بل صديقًا حقيقيا يعرف خبايا عائلة آل طوروس عن ظهر قلب.... 

تاريخ فرحات مع فؤاد يعود إلى أيام الشباب الجامعي، حين تلاقت طموحاتهما في دراسةٍ صارت فيما بعد جسرًا للثقة المطلقة. 

لكن هذا المكان، لم يكن عيادة عادية، ولا نزلًا للمرضى العابرين، بل كان ملاذًا لفؤاد... وملاذًا لألمه الأكبر.

في الطابق الأخير، خلف باب مُصفّح لا يملكه مفتاحه إلا رجلان، يُقيم مريض واحد، لا اسم له في السجلات، لا زائر يأتي، ولا ممرّض يهمس باسمه. "الغرفة ١٤"، كما يطلق عليها العاملون، ظلت طي الكتمان، بأوامر عليا لا تُناقش.

في صباح خريفي هادئ، دخل فؤاد المصحّ دون مقدمات. 

لم يرافقه أحد، ولم يتبادل الكلمات مع أحد، سوى الدكتور فرحات الذي استقبله بنظرة طويلة صامتة، كأنها تحية مواساة لا تنتهي.

"ما زال كما هو، لكن الوضع هكذا أفضل..."، 

همس فرحات وهو يفتح الباب، فهز فؤاد رأسه دون أن ينطق.

دخل الغرفة ببطء، كأن كل خطوة تُسقط عن كتفيه عامًا من الحزن، ثم توقّف أمام السرير الأبيض الذي يسكنه جسد رجل... 
نسخة مطابقة له.
كان شقيقه هناك. ممددًا، ساكن الملامح، موصّد العينين، 
كأن الحياة قررت أن تتركه في منتصف الطريق بين الحضور والغياب.

 تغلّب فؤاد على الارتجاف الذي داهم أطرافه، واقترب، 
ثم جلس إلى جوار أخيه. 
أغمض عينيه للحظة، ثم فتحهما، 

وتمتم بصوتٍ خافت يكاد لا يسمع:
"أتعرف؟ قالوا إنك مِت... 
وأنا لم أجرؤ على إنكارهم. 

فقط خبأتك هنا، بعيدًا عنهم، عن كل من يريد استغلالك، أو قتلك من جديد."

"كل ما فعلته، فعلته لأني لم أحتمل أن أدفنك. 

لم أستطع أن أقول وداعًا، فقلت سرًا... 
قلت سأحميك بطريقتي."

مدّ يده المرتجفة، ليمسك بكفه الباردة، وقبّلها كأنها كنز نجا من الجحيم. 

كانت عيناه تُقاتلان دموعًا أبت الانصياع، لكنه واصل حديثه، رغم الغصة: 

"أحتاجك بجانبي أخي. 
كلما زاد ظلامي، أدركت كم كنت أنت النور. عد، إن كنت تسمعني... 

عد قبل أن أغرق تمامًا."
خارج الغرفة، وقف الدكتور فرحات يراقب صديقه بصمت.

 لم يكن بحاجة لقراءة التقارير الطبية ليعرف الحقيقة، يكفيه أن يرى فؤاد، ليدرك كم الألم على كاهله ثقيل....

مدّ يده ببطء نحو وجهه، لامسه بحذر كمن يخشى أن توقظه الأحلام، 

ثم تمتم بصوت أقرب للبكاء منه للرجولة:
"استيقظ، أرجوك... لا أريد أن أواصل هذه المسرحية وحدي.

 عد، وخذ عني هذا العبء الذي يكاد يقتلني..."

ثم سقط صوته في الفراغ، كأن المستشفى بأكمله ابتلع أنينه،
 ليبقى الصدى عالقًا في الجدران...
 وفي القلوب.

أغلق الباب خلفه، وكأن كل ما بداخله بقي هناك، فوق السرير الأبيض… بجانب رجل يُشبهه أكثر مما يُشبه نفسه الآن.

كان الدكتور فرحات ينتظره في نهاية الممر، متكئًا على الحاجز الزجاجي، يداه معقودتان خلف ظهره، ووجهه يشي بخليط من المراقبة والحزن. 

اقترب منه فؤاد، لكنه لم يتفوه بكلمة، كان صمته يقول ما لا يقوله الرجال عادة 
حين ينكسرون. 

قال فرحات بصوت منخفض:
"حالته مستقرة... لكنها جامدة. الجسد صامد، لكن الروح... 
ما زالت معلّقة." 

وقف فؤاد عند النافذة الطويلة، عيناه تسرحان في البعيد، 

لكن عقله كان حبيس تلك الغرفة التي ترك فيها شقيقه ساكنًا، بلا حركة... بلا وعي.

اقترب إلى جواره الدكتور فرحات بهدوء، خطواته مدروسة كما هي عادته، وعيناه تتابعان صديقه الذي حمل عبء المستحيل على كتفيه.

قال بنبرة رصينة، لكنها محمّلة بالامتنان:
"ما فعلته كان ضربًا من الجنون... أو الشجاعة، لا أدري أين الحد بينهما."

أجابه فؤاد بصوت مبحوح دون أن يلتفت:
"كنت سأفقده أمام عيني، ولم يكن لدي وقت للتفكير. فقط... 

أنقذته."
اقترب فرحات ببطء، وقف إلى جواره، ورفع يده ليربت على كتفه برفق: "لقد أنقذته حقًا. 

لو لم تُخْفِه هنا، لو لم تخاطر بكل شيء من أجل هذه اللحظة... 
لكان قد اختفى إلى الأبد."

تنهد فؤاد طويلًا، 

ثم التفت إلى صديقه وقال:
"ما زلت لا أعرف إن كنت أنقذته من الموت...
 أم من حياة لا تشبهه."
هز فرحات رأسه: 
"أنت فعلت ما عجز عنه الجميع. لا طبيب، ولا شرطي،

 ولا شقيق آخر كان سيفعل ما فعلت. 
في عينيّ… 
أنت احتفظت بروحه، حتى يستعيدها يومًا."
ساد صمت ثقيل بينهما. 

ثم قال فؤاد:
"أتمنى فقط أن يسامحني…
 حين يفتح عينيه."

ابتسم فرحات بحزن:
"وأتمنى أن تظل تذكر من تكون… حتى لا يضيع كلاكما."

ثم استدار فؤاد، وقبل أن يغادر، ألقى نظرة أخيرة نحو الغرفة المعزولة خلف الزجاج… 

حيث يرقد توأمه في هدوء أبدي.

همس وكأنما يكلم روحه:
"أنت نائم الآن… وأنا أعيش كابوسك بدلًا عنك."

وغادر بخطى بطيئة، فيما ظل فرحات يراقبه، يدرك أن ما بين التوأمين لم يكن مجرد دم مشترك… 

بل مصير يتناوبان على حمله.
🏵️🏵️🏵️

مثل شبحٍ من لهب، اخترقت الطائرة الخاصة حجاب الغروب القرمزي، محركاتها تزمجر كأنذار أخير قبل أن تلامس عجلاتها المدرج الخاص.

 أشعة الشمس المائلة لوّنت جسمها المعدني بلون الدم القديم، بينما تلاشت ظلالها الطويلة على الأسفلت الساخن.  

انفتح الباب ببطء كشفاح جروح قديمة، ليظهر فؤاد في الإطار، منحوتاً بلون الذهب الغاضب لغروب ذلك اليوم. 

معطفه الأسود التصق بجسده النحيل كجلد ثعبان، بينما عصفت رياح الشمال بأطرافه كما لو كانت تحاول انتزاع شيء منه.  

"سيدي..."  
صوت آدم الخافت اختنق في الهواء الثقيل. 

فؤاد لم يلتفت، عيناه - اللتان تشبهان فوهتي بندقية في ضوء الغروب - كانتا مثبتتين على الأفق حيث تذوب الشمس في بحر من النار.  

نزل السلم بوتيرة بطيئة متعمدة،

 كل خطوة تكشف تفاصيل جديدة:  
- ظل عينيه الغائرتين تحت الحاجبين الكثيفين  
- تقلصات عضلة فكه وهو يضغط على أسنانه  
- يديه العاريتين من أي مجوهرات، المليئتين بالندوب الخفية  
السيارة السوداء كانت تنتظر كوحش مطيع، أنوارها الأمامية تشتعل كعيني حيوان ليلي. 

عندما أغلق الباب خلفه، انعكس اللون القرمزي على الزجاج المعتم، 
فبدا وكأن المقصورة الداخلية مليئة بالدم....

من خلال النافذة، رآه الخدم وهو يخرج شيئاً صغيراً من جيبه الداخلي - صورة بالية يمرر عليها إبهامه بحنان غير متوقع، قبل أن يخفيها مجدداً كجريمة لا تُغتفر.  
المحرك همس بالحياة، والسيارة انطلقت ببطء أولاً، ثم بشراسة مفاجئة، مزيفة ظلها الطويل على جدار المطار. في الداخل، كان فؤاد يحدق في المرآة، 
يراقب الشمس وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة،

 بينما يلف العالم الخارجي بالظلام تدريجياً.  

"اليوم كان طويلاً..." همس أخيراً، وصوته كان أشبه بصرخة مكبوتة في صندوق مغلق.  
السيارة التهمت الطريق السريع، تاركة خلفها ذيلاً من الغبار الذي التهمته ظلمة الليل سريعاً.
 الشمس ماتت، وفؤاد عاد... 
ولكن أي روح عادت معه في تلك المقصورة المعتمة؟

اقترب المساء، بينما كانت أنوار القصر الذهبية تُلقي بظلالها على الجدران العتيقة، سمعت حنين صرخةً مكتومة تتصاعد من الطابق السفلي.

 لم تتردد لحظةً، 

هرعت باتجاه الصوت لتجد الخادمة الصغيرة "نور" مرتعدةً في زاوية الممر، وجهها يحمل بصمة كفّ ناري، بينما تقف ليلى أمامها بابتسامةٍ تفيض سمّاً.  

"ما هذا؟!"
 انطلقت حنين بغضبٍ مكتوم، تقدمت كالعاصفة بينهما، جسدها الرشيق يحجب نور المصباح عن الخادمة المرتعبة.  

ليلى لم تتراجع، رفعت ذقنها بتحدٍ: "مجرد تذكيرٍ للغبية بحدودها، لا أكثر."  

لكن حنين لم تكن في مزاج التسامح. 
أمسكت بمعصم ليلى بقوةٍ فاجأتها:
 "حدودك أنتِ هي التي يجب إعادة تعريفها!"  

في تلك اللحظة، وكأنها خططت لكل شيء مسبقاً، تراجعت ليلى فجأة نحو الدرج، عيناها تلمعان بالمكر قبل أن تسقط عمداً بدراماتيكيةٍ تثير الغثيان. 

صرخاتها المزيفة صدعت أرجاء القصر، 
بينما كانت عينا حنين تتسعان من الدهشة.  

**صوت خطوات ثقيلة**  
إنه السيد فؤاد ظهر فجأةً كشبحٍ من الظلام، عيناه الباردتان تلتقطان المشهد بكامل تفاصيله. 

ليلى بادرته بأنينٍ مبالغ فيه: 
"لقد دفعتنـ ـ ـي! أرأيتم كيف تعاملني؟!، 
إنها تريد أن تؤذيني"  
لكن فؤاد لم ينبس ببنت شفة.
 إشارةٌ واحدة من إصبعه،
 وانطلق آدم وحارسان لرفع ليلى. "المستشفى، الآن" كانت أوامره قصيرةً كطلقة مس دس. 

حاولت حنين الكلام و شرح ما حدث: "لكنها—"  
نظرةٌ واحدة من فؤاد أوقفتها. كأنه يعرف كل شيء. تلك العينان اللتان رأتا مؤامراتٍ أكثر تعقيداً من هذه، لم تخلو نظراته هذه المرة من الشك في ما يحدث.  

**في السيارة**  
بينما كانت ليلى تئن في المقعد الخلفي، التقط فؤاد هاتفه وأرسل رسالةً مختصرة: "جهز الغرفة المعزولة في الجناح الشرقي.

 ضيوفنا سيصلون قريباً."  
ثم نظر عبر الزجاج الأمامي نحو القصر، حيث كانت حنين تقف عند النافذة، يداها تضغطان على الزجاج وكأنها تحاول فهم اللعبة التي أُجبرت على المشاركة فيها.  

في تلك الليلة، بينما كان الجميع يظنون أن الأحداث تسير وفق رغباتهم، كان فؤاد ينسج خيوطاً أخرى في الظلام... 
خيوطاً لن يكتشفها أحد إلا عندما يحين الوقت المناسب تماماً.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1