رواية لطيفها عاشق الفصل الثامن بقلم سميه راشد
"فإن لم يكن العشق للدنيا فلمن سيكون إذًا"
رنين هاتفها جعلها تترك الكتاب الذي كانت تستذكر أحد دروسه لتجيب على الفور عقب رؤيتها لاسم عمها ينير الشاشة
- ألو
صمت غريب قابلها من الجهة الأخرى لا يقطعه سوى بعض المهمات الغير مفهومة إليها لتكرر كلمتها مرة أخرى إلى أن قطع الصمت حمحمة تعلمها جيدًا، بل تحفظها عن ظهر قلب، وكيف لها أن تنساها وهي التي كانت تتأمل أن يتخفى خلف كل رقم غريب يزين شاشتها ذلك الصوت بحمحمته المعتادة قبل الحديث ليعتذر منها عن جفائه ويفيض الندم من حديثه ويكرر مرارًا وتكرارًا باشتياقه إلى صداقتها معه ورفقتها الرقيقة ولكن بكل مرة كان يخيب رجائها فلم يتصل عبدالرحمن يومًا ولم يعرف الندم له سبيلًا.
- عاملة إيه؟
ازداد الصخب بقلبها أثر ارتفاع دقاته بطريقة غير معهودة لهفة إلى اهتمام تتعطش إليه جميع خلاياها وياحبذا لو كان نابعًا من عبدالرحمن رفيق روحها لتطلق تنهيدة طويلة قبل أن تجيبه بهدوء أجادته
- الحمد لله
التفت بنظراته إلى والده الذي يجلس منشغلًا بحذائه الذي يقوم بتنظيفه ولا يدري ماذا يقول، يخشى أن يتحدث بما يزيد الطين بلة فهو مشهور بأنه ملك إفساد اللحظات والجميع يعرف عنه العجز عن التعبير بل وإن خاطر وفعل فلا يجني سوى الخراب ليتجاهل كل هذا ويخاطر بقوله
-عارفة إني مكانش قصدي أضايقك صح؟
تنهيدة أخرى وصلته ليستمع إليها بعدها
-عارفة
ومن سواها سيعرف ما كان يقصد، فعبدالرحمن أبعد ما يكون عن تعمد زرع الألم بقلبها ولكن ما أثار مشاعرها فقط هو خوفها من أن يرى بعينيه من هي أفضل منها، تعلم أنه أخطأ كمعلم في ذل تلميذته ولكن لا يضر العفو هذه المرة. ليتابع
- بكرة إن شاء الله بعد العصر أمي هتروح معاكي تشتروا المستلزمات ولو حابة آجي أوصلكوا وأستنى برة مفيش مشكلة
لتهز رأسها عدة مرات سريعًا قبل أن تجبه بهدوء
-لأ ملوش داعي هنروح أنا وهي وخلاص
- تمام براحتك
قال سريعًا وكأنه كان ينتظر ردها لتزفر بإحباط قبل أن تسأله
- محتاج حاجة تاني كنت بذاكر
- لأ شكرًا كملي مذاكرتك السلام عليكم.
أتبع حديثه مغلقًا الهاتف لتقلب هاتفها بين يديها باستعجاب قبل أن تردد بذهول
- شكرًا!
*********************
بيت كبير بأساس عصري يدل على ترف ساكنيه خاصة وتلك السيارة ذات الماركة العالمية تستند خلف أحد أسواره ليشعر المار من أمامه بالغبطة والحقد على أصحاب هذا البيت، فلا يعلمون بأن بداخله ليس سوى شخص تراكم الحزن على شطوط قلبه وارتفعت موجات الهموم لتنصب جميعها بين شراينه الضيقة التي لا تقدر على تحملها، ذاك الشخص ليس سوى كريم، ذاك الذي استخدم الكذب ليعتذر عن عمله الذي لا يقدر على مواصلته، وكيف له أن يعش بشكل طبيعي ومَن من المفترض أنها أمه تتفنن في اختيار طرق عذاب قلبه!
نهض من فوق الأريكة التي كان يرتمي بجسده عليها ليتجه إلى المطبخ ذو الطراز الحديث ويأخذ كوبًا من الماء البارد ويتجرعه دفعة واحدة حتى تناثرت بعض القطرات على طرفي فمه، لا يعلم ما السبب العظيم الذي أدى به إلى هذه الحالة، فلقد وجد نفسه ينعزل عن جميع البشر بل وهجر هاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين ليكون بهذه الحالة التي تثير الشفقة، دارت عيناه تبحث بعدم اتزان في جميع الأدراج على شيء حتى بدى كالمعتوه إلى أن وقعت عيناه على بعض الحبوب البيضاء لتستقر عليها قليلًا بتردد إلى أن حسم أمره وأخذ واحدة منها دون أن يدع لعقله فرصة للرجوع عن تلك التجربة الجديدة التي ستكون بداية للجحيم الحقيقي الذي لم تراه عيناه حتى هذه اللحظة.
بينما كان هو يخطو الخطوة الأولى في ضياعه كانت رحمة أوشكت على الوصول إلى الدرجة الأخيرة من درجات القلق، حتى أنها هاتفت والد كريم الذي أخبرها ببرود أن ولده انعزل في العيش بشقته الجديدة ويجافيهم منذ محادثتها مع والدته لتستقر رصاصة الرعب بقلبها وترتجف أوصالها بعجز إلى أن رفعت هاتفها وحدثت زوجة صديقه الوحيد بيسان علها تستطيع استخلاص معلومات من زوجها تطمئنها عليه ولو بقدر يسير لتستأذن منها الأخرى دقائق قبل أن تهاتفها مرة أخرى وتخبرها أن زوجها قلق هو الآخر وبطريقه للإطمئنان على كريم الذي ينفر من علاقته به.
******************
مرت عدة أيام إلى أن جاء يوم عقد القرآن وها هو عبدالرحمن يجلس مقابلًا لعمه وكفيهما يتعانقان وكل منهما يتمنى لو ينتهي العقد وينتزع يداه من بين يدي الآخر الذي لا يطيقه، كانت الأعين مسلطة على عبدالرحمن الذي يرونه مبتسمًا دائمًا وكأنه يحرز أحد أهدافه، فأي شعور يوازي شعور الإنسان حينما يظفر بما يراود حلمه منذ أن أصبح الحلم عنده ذو معنى، تساقطت دموع الفرح من عيني عفاف التي كانت تتألق بعبائتها الأرجوانية وخمارها المماثل للعبائة باللون سوى من بعض القتامة التي امتاز بها، وزعت أعينها بين دنيا التي تجلس في ركن بعيد عن الرجال بفستان من اللون الأسود التي تشاجرت معها حينما اختارته لتقنعها الأخرى بجماله والحق يقال رغم أن الفستان بهذا اللون إلا أن تصميمه ينشر البهجة في الآفاق كما أن خمارها الصغير ذو اللون البيج جعل الفستان يكاد ينطق من السعادة، التفتت إلى ولدها الذي يجلس في النصف الآخر من الصالة الذي يضم الرجال تأملته ببدلته ذات اللون الكحلي القاتم لتتكاثر الدموع بعينيها من فرط سعادتها بمظهره البهي، شعرت بأحدهم يربت على كتفها لتجدها صديقة عمها لبني التي كانت تنطق السعادة من وجهها هي الأخرى فرحة فإبنتهما اللتان لم تنجباها دنيا.
ارتفعت الزغاريد عقب انتهاء المأذون الذي يدعى بالشيخ منتصر الذي تعرف على عبدالرحمن ذات مرة بالمسجد وبات على علاقة قوية به حتى وعده بأن لا أحد سيعقد القران غيره، تلقى عبدالرحمن الدعاوي والمباركات من الرجال إلى أن فاجئه الشيخ منتصر بقوله
-طبعًا مينفعش يكون عريسنا هو الشيخ عبدالرحمن اللي بننتظر خطبته الجميلة في المسجد ومنخليهوش يقول لنا كلمة جميلة دلوقتي عن شعوره بالحلال وعن الزواج.
أراد عبدالرحمن أن يفر من هذا الموقف الذي وضعه الشيخ به، ليس خوفًا من إلقاء الخطبة فطالما برع في شرح الدروس الدينية بل هي وظيفته التي يعشقها ولكن يخجل من أن تكون الخطبة بموقف كهذا، فبالحقيقة هو لا يلجأ لإلقاء الخطب بالمساجد سوى عند الضرورة كتغيب الإمام أو أشياء من هذا القبيل فوضعه الشيخ الآن بموقف محرج ولن يستطيع الرفض أمام كل هذه الجموع التي تنتظره.
سكنت جميع الأصوات انتظارًا لصوته هو ومع الجميع سكنت دنيا بلهفة واهتمام كبير ترى ماذا سيقول عبدالرحمن في هذا الموقف بعد عقد قرانه منها ليصدح صوته بعد حمحمته المعهودة
- السلام عليكم ورحمة الله
تعالت أصوات الجميع ردًا عليه ليبتسم لهم قبل أن يتابع
- أولًا أحب أشكر الجميع على الحضور المشرف دا وخصوصًا الشيخ منتصر الله يسامحه بقا
قال كلمته الأخيرة وهو ينظر إلى الشيخ مازحًا لترتفع ضحكات الجميع لتفهمهم لومه المرح للشيخ فتابع بعدما هدأت أصوات ضحكاتهم
- بالحقيقة أنا لا أعلم ماذا بإمكان من هو مثلي أن يقول بمثل هذا الموقف وهذه النعمة العظيمة من الله.. أشكر الله العظيم أن أنعم علي بهذه النعمة التي لم يكن الوصول لها سهلًا، فالله يشهد وزوجتي الآن تشهد أنني قد عانيت كي ألتزم بأمره بل وارتكبت خطئًا كبيرًا كي لا أعصيه وأصل لهذه الدرجة من السعادة والراحة التي أنا عليها الآن، أفتخر بأني رغم مرور الكثير من الأوقات كنت أنا وهي بمنزل واحد إلا أنني حافظت عليها وعلى نفسي كي لا نعصي الله أبدًا وهي فعلت المثل، أتسائل الآن هل لو كنت قد أغضبته تعالى وأخذت نصيبي من السعادة المؤقتة وأكرر قولي بأنها سعادة مؤقتة في فترة الخطبة كما يفعل البعض هل كنت سأشعر بالراحة التي أنا عليها الآن، سواء كان الجواب نعم أم لا فأنا فرحتي مضاعفة لكوني وصلت إلى هذه المرحلة برضا الله، لا أقول قولي هذا رياء والله لن أفعل أبدًا ولكني أحاول فقد أن أدعو البعض عبر كلماتي للالتزام بضوابط الخطبة كي لا تفوتهم هذه السعادة التي تغمرني الآن وفي الختام أحب أن أقول لها للمرة الأولى دون خجل كما كان حبيبي وقدوتي دائمًا يقول "إني رزقت حبها".
توقف عبدالرحمن عن الحديث لتتعالى التصفيقات الحارة من الجميع تأثرًا بكلماته الطيبة لتنهمر دموع الأقربين سعادة ومن بينهم من خصها وحدها بكلماته وأكثر من تفهمت كلماته الغامضة التي تعلم ما يتخفى خلف كل كلمة منها، لم تستطع التوقف عن ذرف دموعها وخاصة بعد كلمته الأخيرة التي أكدت لها أن عبدالرحمن يحبها كما ظنت حينما تقدم لخطبتها، مشاعر عدة تتراكم بقلبها في هذه اللحظة تفوق قدرتها على استيعابها، أكان يشعر بحبها حينما كانت تبكي على أطلال صداقته؟ أم كان يشتاق لها هو الآخر عندما كانت تبكي وحدتها، كان يحدثها ليلًا كما كانت تفعل عبر مذكراتها التي لم ترَ بها أحدًا سواه أم أنه كظم كل مشاعره بقلبه ليغرقها بين أمواجها بعدما تحل له؟
حاولت الكف عن إطلاق دموعها حينما شعرت برقية تمسح وجهها برفق باستخدام أحد المناديل الورقية لتستجمع قوتها خوفًا من أن يظن الجميع أنها تبكي لسبب آخر.
استمرت الأناشيد التي انتقتها رقية بنفسها خالية من الموسيقى تنفيذًا لرغبة عبدالرحمن لينسحب المدعوون الواحد تلو الآخر إلى أن غادر الجميع ولم يتبقَ سوى أفراد العائلة الذين ظلوا يمزحون لعدة دقائق إلى أن غادروا أيضًا ولم يتركوا سوى عبدالرحمن الذي اقترب بمجلسه من دنيا مبتسمًا ووالدته التي اتجهت للمطبخ تعد لهما الطعام بينما أحمد دلف غرفته برفقة ابنته التي أرهقتها حاجتها إلى النوم فهي قد بذلت مجهودًا في الرقص اليوم أدهش الجميع الذين جهلوا من الذي قام بتعليمها هذه الحركات رغم صغر سنها.
طرق الخجل الباب واستقر يجلس بقلب دنيا فور إدراكها انفراد عبدالرحمن بها، ذاك الذي ينتفض قلبها بقربه بطريقة أخافتها، أيعقل أنها تجلس وحدها برفقة عبدالرحمن!زوجها! حاولت التهدئة من دقات قلبها المتعالية والتي ظهر أثرها جليًا على ارتجاف أناملها الملحوظ لتهتز أكثر حينما التقط يدها بحنو فاجئها ورفعها إلى شفتيه ملثمًا إياها قبل أن ينطق بهيام
- عارف إن اعتذارات العالم مش هتكفي وإني غلطت في الطريقة اللي بعدتك عني بيها وعارف إن عمرك ما هتنسي الموقف دا وأنا نفسي عمي ما هنسى إني أذيتك، بس عايزك تعرفي إني كنت بأذي نفسي أكتر منك تخيلي تفرحي بفرحة شخص وتتألمي لألم الشخص دا وفي لحظة تلاقي نفسك إنك السبب الأساسي في حزنه، مش بس حزنه في كسرته.. المفروض مكنتش عملت كدا ومفيش مبرر لطريقتي الفظة ومكانه الموضوع يستحق كل الهجر دا عادي كان ممكن نتعامل عادي كأولاد عم وتاخدي نصيحتي وقت ما تحبي بس أنا بخطأ مني منعتك من حقك دا بس عايزك تعرفي إن السبب في دا كله كان حبي ليكي بلحظة واحدة أدركت إنك خلاص بقيتي بنت كبيرة ومينفعش أتعامل معاكي زي الأول.. لحظة أدركت فيها إن البنوتة الصغيرة اللي بعتبرها بنتي بقت آنسة كبيرة وبقا حرام عليا حتى إني أبص لها.. أني أدرك كل دا كان كبير على قلبي فاتصرفت غلط أنا آسف.
أتبع كلامه بقبلة أخرى طبعها على يدها التي لم تتوقف عن الارتجاف بل وارتفعت شهقاتها تبكي رغمًا عنها غير قادرة على استيعاب هذا القدر الكبير من مشاعره التي يفيض بها على قلبها بعدما كانت تشعر بأنها منبوذة، لا أحد يهتم بقلبها الوحيد، فبدلًا من شعورها بكراهيتها لقلبها من فرار الناس من مجاورته باتت تشعر عليه بالشفقة حينما أدركت أنه يستحق كل هذا الحب الذي يكنه له عبدالرحمن. فشخص واحد من الممكن أن يكون قادرًا على إشعارك بحب نفسك أو بغضها.
لم يدرِ ما يفعل أمام انهيارها هذا الذي أدهشه، كان يظن أن تصمت أو ترفض مشاعره بسبب ما فعل بها ولكن أن تنهار من فرط تأثرها هذا ما لم يحسب له حسابًا ليضم كتفيها إليه بذراعه ويمحو دموعها الغالية بيده الأخرى دون استعمال المحارم، ظلا هكذا على وضعهما لفترة طويلة صامتان إلى أن هدأت شهقاتها وتوقفت دموعها عن التوقف فابتعد عنها قليلًا يتأمل وجهها الذي اشتاق تأمله حد الألم لتشعر بما يفعل فأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى بخجل.
ابتسم على فعلتها الرقيقة ليقول مازحًا
- شوفتي بقا مخلتكيش تحطي ميكب ليه كان زمانك عفريتة دلوقتي؟
كشرت أنيابها واشتدت ملامحها غيظًا منه فور تذكرها لوالدته التي منعتها مرغمة قبل الخطبة بساعات من أن تضع شيئًا على وجهها مخبرة إياها بأن هذه رغبة عبدالرحمن الذي أقسم أن يجعلها تنفرد بالفتيات في غرفتها إن وضعت شيئًا على وجهها، لتلجأ إلى الخيار الأول وترضخ لرغبته بسبب حبها لمشاهدة عقد القرآن ومعاصرة أحداثه، ارتفعت ضحكاته فور رؤيته لمعالم وجهها المغتاظة منه ليقول بعدما رمقته بغضب
- يعني ينفع كل الرجال اللي كانوا حاضرين دول كانوا يشوفوكي بالزينة اللي ربنا حرمها أدام الأجانب.
صمتت عند عجزها عن إجابته الصحيحة ليتابع
- وبعدين الدنيا بتاعتي جميلة من غير حاجة ومش محتاجة تتزين أصلًا.
ابتسمت بخجل فور انتهاء كلماته سعيدة بعودة عبدالرحمن السابق، ذاك الذي لا يتهاون في وصف محاسنها ليرفع من غرورها كأنثى لا تريد مدح أحدا سواه، مشاعرها تجاهه لا تصنف حبًا كما العاشقين، بل هي أعظم من ذلك بكثير فهو كان أبوها الذي حرمت من حنانه وأمها التي تعطشت لاحتضانها، كان أخيها الذي هاجر ولم يعط لها بالًا بل كان رفيق روحها الذي يتعرف على ما تخفيه دون كلمة واحدة هو الاحتواء، الأمان، الفرحة، كل ما هو جميل كان يكمن في علاقتها به ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه لذا لم تقدم علاقتهما إلا أن فاجئتها علاقتهما اليوم بعودة تلك العلاقة دون أن تشعر.
ظل يغازلها ويمدح محاسنها بل أشبعها بكلمات عشقه وأشبع حواسها بالثناء على مفاتنها حتى مرت الساعات عليهما دون أن يشعران فنهض واقفًا على وعد بأن يحادثها في الهاتف فلن يضيع عبدالرحمن صداقتهما مرة أخرى وسيبذل كل جهوده ليعودا أحسن من السابق فأبدت عدم الاهتمام كما كانت تتصنع طوال الجلسة وتتدلل عليه ليقترب مقبلًا جبينها بحنان وهو يردد بخفوت اقشعر له بدنها
-من مثلك تستحق الدلال تستحقين اهتمام لم يجود به أحد على من أحب من قبل، بل تستحقين كل الحب، فالمرء بجوارك لا يريد سوى أن يغفو للأبد ورأسه فوق قدميك بينما أناملك الرقيقة تجوب بين سبل رأسه، فإن لم يكن العشق للدنيا فلمن سيكون إذا!
سحب الباب خلفه بعدما خرج لتنهار على أقرب مقعد غير قادرة على مواكبة كل هذه المشاعر التي تظلمها بالتكاثر عليها، ظلت الابتسامة تراود شفتيها بين الدقيقة والأخرى كلما تذكرت إحدى كلماته لتستمع إلى طرقات على باب المنزل فنهضت دون تركيز وفتحته لتجد أبيها يدفعها إلى الداخل بغلظة وبيده إحدى الأوراق، فيبدو أنه استكثر على قلبها أن ينام هانئًا ليوم واحد فأتى ليحقق مراده صائحًا وهو يرفع الورقة أمام وجهها
- خدي امضي على الورق دا
عقدت حاجبيها بجهل وخوف تحاول عدم إظهاره لتسأله
- ورق إيه دا؟
ضحك ساخرًا لينطق
- يا سلام يعني قاعد معاكي الساعات دي كلها ومحذركيش مني ماشي هعمل نفسي مصدق إنك مش فاهمة.. الورق دا تمضي لي فيه على الارض اللي كتبها لك عبدالرحمن الأرض دي من حقي ولازم تمضي
هزت رأسها بالنفي لا تفهم المغزى من كلماته ولا تعلم على ما يتحدث ليتابع بحدة
- المحروس كتب لك مع عقد الجواز جزء من أرضه باسمك والأرض دي تلزمني امضي
هزت رأسها بالنفي لا تعلم لما فعل ذلك عبدالرحمن ثم نطقت
- بس دي بتاعة عبدالرحمن وحتى لو كتبها بإسمي مينفعش أديها لك هي بتاعته
ليكون الرد على حديثها لطمة فاجأ بها وجهها الذي كان يتورد خجلًا قبل قليل فصرخت من ألمها ليخرج شقيقها الذي كان نائمًا من غرفته مفزوعًا يردد
- في إيه
لم يعطه أحد اهتمام سوى أن دنيا وقفت بجواره ليقترب منها أبيها ينتزعها من جوار أخيها يقول بأعين حمراء من فرط غضبه
- بقولك امضي يا بنت ال××× امضي
لتهز رأسها قائلة بعند وكأنها تحررت منه بعقد قرانها على من سيحميها منه
- مش همضي على حاجة إلا ما عبدالرحمن يقولي.. لو كانت من حقك كنت طلبت مني أمضي أدامه أو كان كتبها لك لكن أدام جيت من وراه تبقى خايف يعرف وأنامش همضي
ليثور كالمجنون أثر كلماتها كما أن الحبوب التي يتناولها يبدو أنها أثرت على عقله أكثر فجذبها من شعرها المختبيء خلف حجابها الذي لم تخلعه بعد صائحًا بصوت وصل إلى جميع سكان البيت
- خايف من مين يا بنت×××× أنا مبخافش من حد... حتة عيلة زيك بتهددني با بنت×××
بصعوبة انتزعها أحمد من بين يديه ولكن سبق السيف العذل وتجمعت أفراد العائلة على رأسهم عبدالرحمن الذي أسرع بخوف حتى فهم ما حدث فوقف أمام رجب قائلًا بلهجة خطرة
- كلمتين هقولهم.. امشي من هنا
رمشت عيني الآخر أمام لهجته ثم قاوح
- مش همشي غير لما تمضي.
- مش هتمضي.. دي بقت من حقها هي وبس وملكش فيها كفاية اللي ضيعته.
نظر إليه رجب بهدوء ثم التفت إلى ابنته التي تجلس بأحضان زوجة عمها ليصيح
- طول ما انتو هنا مش هاخد منكوا لا حق ولا باطل.. هتكتبها ليا.. وأنا وأنت والزمن طويل يا ابن رفيق أرضك هتبقى باسمي
قال كلمته الأخيرة ناظرًا إلى دنيا بقوة أرعبتها ثم التفت يهتف وهو يغادر البيت
- رايح عند عمك حسني تكلميني وتقوليلي يا بابا تعالى همضى وإلا هتعرفي إيه اللي هيحصل لك.. قال مش هتمضي قال دا أنا أقلب الدنيا.. بعد دا كله متمضيش.. هنشوف
ظل يردد العديد من الكلمات لينظر الجميع إلى أثره باستحقار إلى أن اختفى فظلوا يحاولون التخفيف عن دنيا التي كسُرت فرحتها بمن فيهم عبدالرحمن الذي أراد لليلتهما معًا أن تظل ذكرى لا ينساها القلب فجاء ذاك الدنيء وفعل ما كان يخشاه فتوعده عبدالرحمن وظل يحاول التخفيف عن دنيا إلى أن هدأت فغادر برفقة والديه لتأخر الوقت تاركًا إياها برفقة شقيقها ينعيان أبًا ابتلاهما الله به.
جلس أحمد برفقة دنيا يمزح معها ويقص عليها مواقف كثيرة مضحكة إلى أن ارتفعت ضحكاتها بل وخرجت من قلبها مع قرآن الفجر الذي تعالى معه رنين هاتفها برقم غريب عنها تعلم صاحبه جيدًا
ابتسم أحمد بمكر فور أن علم هوية المتصل واستأذن مغادرًا لتجيب هي بخجل من شقيقها فسألها عبدالرحمن بلهفة
- عاملة إيه
لتبتسم وهي تجيبه
- متقلقش أحمد عمل الواجب وخلانب أضحك بعد اللي حصل تقريبًا مبقاش عندي دم وبقيت أتضرب وأضحك عادي.
لم تضحكه كلماتهارغم أنها كانت تمزح بل أوجعت قلبه ليضم أنامله بغيظ ثم يردف بنبرة هادئة مغايرة لأعصابه المشدودة
- لا دا طلع أحمد بيعرف يهزر أهه وعمل إيه كمان سي أحمد.
قال كلمته متصنعًا الغيرة من شقيقها لتجيبه بسعادة
- أول مرة نتكلم كتير كدا
ابتسم على جملتها سعيدًا لأجلها وقبل أن يتحدث دلف عليه والده يقول بهدوء وكأنه ينقل إليه خبر طبيعي
- رجب.. اتقبض عليه في بيت حسني.