رواية من بعد خوفهم الفصل الثامن بقلم حمدى صالح
"لا تعتمد علىٰ أحدٍ مَا دام جسدك يسطيع؛ فالثرثرة في بعض الأحيان مؤلمة"
ليلةٌ فرحةٌ علىٰ"أدهم"وهو يمكث بجوارِ أخيهِ بولعٍ، لمْ يذق النوم بل استمع لكُلِّ كلمةٍ بصمتٍ، حلَّ الصباح ليشعر بالنعاسِ مُقررًا عدم الذهاب لأي مكانٍ، سيستغل وجودهُ معهُ،"الشـوق"كلمةٌ ثقيلة لا تُقال لأحدٍ، نابعةٌ مِن القلب، وتفقد الروح في وحدتُكَ وأنتَ تنتظر الخبر السعيد، حروفٌ صعبةٌ إنْ ابتعدتُ عن الأحبة فمَا بالك بالأشقاءِ، أفاق مُرتديًا ثيابه دون حركةٍ، يجر حزنه خلف ظهرهِ وهو يلقي السلام علىٰ الأمواتِ حتى وصل لقبرِ والدته، سنح لنفسهِ بالبكاء، في بعض الأحيانِ قوتكَ صورة فقط خلفها تصدعاتٍ مؤلمةٍ، الذكرياتُ السيئة ندبة لا تمحو أبدًا، القبور تضم الأحبة والأحبة مؤقتة حتى يأذن الله باللقاءِ.
رجع سريعًا تحت أنظارهما حتى أمسكهُ "أُبيِّ" لغرفتهِ، التُراب علىٰ ملابسهِ السوداء، عينيه الباكية، هدر بقوةٍ:
-لمَّ يا "أخي"؟!
-أنـا لم أنسَ قلبي الباكي مِن الفراق، الطاولة تنقصها ولم أراها يا شقيقي، أنتَ لستُ مِن دمي ولكنك أخي بالرضاعة وخالتي تهتم بيِّ، لا تنزعج مِن حديثي ولكن الأم لا تعوض يا "أُبيِّ"، أنتَ سندي ولا أقل إلا ذلك.. أصدقاءٌ مزيفين، يلتصقون بيِّ مِن أجل أهدافهم لا مِن أجل شيء، أنا وحيدٌ والكلمات تؤذيني، أنا أهرع فيمَّ أُحب غصبًا عنيِّ، عاجزٌ ومنكسرٌ، أقنع الجميع وأحبهم ولا يحبني إلا القِلة، النفوسُ تتغير يا أخي لأسـوأ، والأمور تتعقد، كبرتُ وكبرتْ الروح المسلوبة من جسدي.
ضمَّهُ بقوةٍ، رغم الرسائل المرسلة.. يخبرهُ عنهُ دون تردد إلا أنهُ فاقد الثقة!.. حاول تغيى المسار قائلًا:
-وهل"مؤيد" سيء يا فتىٰ!
-لو تعلم مَا مر به لحمدتُ الله علىٰ غربتكِ هذهِ، أخي الذي لم تلده أمي واللهِ، الحبيب الغالي.. يشاركني كل شيءٍ ونعلم خبايا بعض، والآن اتركني ولا تلتصق بيِّ هكذا.
رفع إحدى حاجبيه؛ مُجيبًا:
-علىٰ العمومِ أنا أكبر منك بعامٍ وانتهيتُ مِن دراستي بمعدلٍ كبيرٍ، شهران وسأصبح معيدًا عليك أتعلم هذا، ولن أسمح لكَ بأنْ تشاركني إلا هذا الشيء، الغربة مِن أفضل الأشياء تختلط بالجميع، والخبث فيهم كثير إلا أنَّهم شُجعان، تخلصتُ مِن الفجوة، ولا تنظر هكذا يا عم.. الفتياتُ هُناك كأعواد القصب الناشف.
كبت ضحكتهُ بقوةٍ؛ فقد أدرك المغزىٰ، غادر بعدما وعدهُ بمَّا يُحب في الوقتِ المناسب تاركًا إياه، كُل هذا تحت أنظار والدهُ، ينصتُ لهما ولا يعلم تِلكَ الغَصة علىٰ ابنه، هو الأم والأب لهُ ويخشىٰ عليه مطباتِ الحياة، الحقيقة لا روح بلا عائلة!
"الفتاة لا تُجيد الحديث إنْ واجهتْ، المواجهة إما خاسرة وتنكسر، أو تكون الفائزة بكُلِّ شيئًا ولو على حساب روحها"
تجلسُ علىٰ المقعدِ مُستندةً علىٰ الجدارِ وهى تنتظر خروجهُ، تشعر بفقدان توازنها كُليًا، دقائق معدودة؛ ليخرج الجميع بهمهاتٍ مزعجةٍ على تأخرهم، رأتهُ وهو يضحك برفقهِ "أدهم"، لهُ طلةٌ تأسرُ قلبها النقي، التفت"مؤيد"إليها ليستأذن منهُ مُتجهًا إليها بحدةٍ:
-لا يصح ما تفعلينهُ!
هدرتْ"عنود" بقوةِ:
-أنا أفعل الصواب وأخبر" أبي" رغم أي شيءٍ، ولا أجري ورائك مِن جمالك يا "مؤيد"، عِ أفعالك معي، المهم أتيتُ لإخبارك بشيء وقبل لسانك.. لا يمكنني قولهُ أمام أحدٍ.
-أصبحتِ تُجيدين الحديث إذًا!
-أُجيدُ أي شيءٍ وأفضل منك يا بن العم، أنت حقًا غريب الأطوار، على العمومِ لقد علمتُ حقيقة "أمي"، وما فعلتهُ"رهف"جراء تسليطها من الشاب الذي التصق بها، هى مَن خططت لكُلِّ هذا والباقي تعلمهُ، لا أهاب شيئًا مِنكَ؛ لأنَّك مُختلفًا كاره لوجودي، ولو علمتُ ما بيِّ ستحمد الله علىٰ حالك، أتَهرب من قدري وأعترف بهذا، لكنك لا تُجيد الهرب من عدوانك عليِّ، عُد لرفيقك هو أولىٰ بكَ.
سارتْ بجِنانٍ مطمئنٍ مِن تشبثها بالحقِ رغم فجوتها وضمور فؤادها حُزنًـا علىٰ حالها، استقلتْ العربةَ بهدوءٍ وهى تُلملم فستانها الفضفاض حِينما استشعرت ضيق الفتاة، شهر"رمضان" الذي تتنظرهُ بفارغ الصبر والسعادة أتىٰ؛ كي يشفي جُرحها، رمقتْ بائع الزينة لتقرر الذهاب رغم تأخرها، اتجهت ناحيتهُ وهى تأخذُ اثنان مِن كُلِّ شيءٍ لشقيقتها ولـ"رهف"بعدما أخبرتُها بما تَحتاج دون أن تعي، وقفتْ قليلًا وهى تتطلع لفانوسٍ خشبي عليه عبارات تُحبها.
-أأنهيتِ نقودكِ؟!
شرزتْ بغيظٍ وهى تدفع للرجلِ ببسمةٍ صغيرة؛ لتفرَّ مِن أمامهِ، لم يغضب منها بل عُلم مَا بها وهى تنظر لمَّ تُحب، عاد للرجل وهو يجلب لها مَا تُحب عائدًا للبيتِ، أخفاهم بحقيبتهِ وهو يُزيح الباب بهدوءٍ، ألقى السلام ومِن ثُم دخل لجدتهِ، راقدةٌ علىٰ الفراش تقرأ وردها، حمحم بهدوءٍ لترفع عينيها، تكاثفت لحيتهُ وبرز التعب خلف نظارتهِ، احتضنها بشوقٍ حتى غفل بجوارها، تبقىٰ القليلُ، الفتياتُ تحتضن "عنود" علىٰ رقتها في انتقاء الأشياء؛ لتخرج وهى تُرتب الطاولة، جدتها وزوجة عمها بغرفتها، وهى ترتدي إسدالها تتابع إحدىٰ البرامج القصيرة، ولجت للشرفةِ تضم ركبتيها، دقائقٌ معدودةٌ؛ ليمكث "عمها" أمامها بتمعنٍ، نطقتْ بطمأنينةٍ:
-نظراتُكَ قاتلة يا عمي، ابتسم.. ابتسم علىٰ حديثي، بدوني لا تعيشوا مِن الأساس.
-تضحكين الغير وقلبك الباكي؟!
استندت علىٰ السورِ، قائلةً:
-قلبي يبكي كُليًا ولكنني أؤمن بثقتي، لطالما أخذني "أبي" إليكم دائمًا حتى ترعرعتُ وسط بيئة مِن الحب، الحقيقة سأعرفها قريبًا ولن أُنزل دمعةً واحدةً، أحببتُ التّقيد في التعامل ولم يغلق قلبي حتى الحين، أخبرك سر.. اليوم واجهتُ ابنك المستفز، ولم يراعِ كلماتي ومِن ثُم قابلتُ العم واشتريتُ ما تحبه الفتيات وعدتُ سريعًا بعدما صرفتُ نقودي، سعادتي حينما رأيتهما فرحين لا توصف.
-أنا مستفز أيُتها البومة!
قالها "مؤيد" وهو يشير بالسبابة إليها، كبت "حسن"
ضحكتهُ وهو يجرهُ للداخلِ، مضىٰ اليوم بسلامٍ والغيظ يبرز عليهما، ولكنها تفوقت عليه في وجود عمها لولا ذلك لقفز عليها بكلماتٍ سامةٍ؛ ليقرر معاقبتها بطريقةٍ ستشعلها كُليًا حتى ولو رفضت!
علىٰ الجانب الآخر..
تجلسُ على الشرفةِ تُخطط لمكائدها السوداء، "الرسم" وجهتها الأولىٰ حينما مَثلتْ حبها لـ"رهف".. يومٌ عن يومٍ وهى تتقرب، تجلس بجوارها وعينيها معلقةٌ بأصدقائها، ثيابها الفضاضة والتصاقها بمجموعةٍ مِن الفتياتِ والتزامها، دخلتْ لغرائزها بسهولةٍ، البث المباشر والحديث عن الأمور التافهة عبر مواقع الإنترنت الشاسعة، التطبيقاتُ القصيرةُ والأذى الواسع عبر شرورها، نجحت لأيامٍ قليلةٍ اختراق روحها.
واليوم تراها كأول يومٍ، لم تُعيرها اهتمام بل عاملتها كنكرةٍ حينما مرَّت مِن جوارها، لم تراعِ الشهر المبارك وصفاء نفسها.. مِن الأساسِ كيف لفتاةِ نشئت في بيئةٍ مختلطة أن تحب الخير للجميع قبل نفسها، الشر الواقعي هو أفعالها، لم تكن ضحيتها الأولىٰ.. بل تكاثرت الأعداد وهى تراهم في عالمٍ آخر من الواقع.
تتمايل.. تتراقص.. ترتدي ثيابًا قصيرة وهى تبتسم علىٰ تعليقاتٍ سيئةٍ أشبهُ بالممات، تهتم بالدنيا القصيرةِ ولم تنظر لأفعالها؛ فبأي حق ستُحاسب إن دعمها والديها في أفعالها الشنعاء، تضحك على الغير وتقذف سمومها وهى الحية السامة في الأساسِ!
"اليوم الأول بشهرِ رمضان، مرَّ بسلامٍ رغم مُشاكستي لحبيبتي، كُنا صغار نلهو معًا تحت سقف عائلتي، عامٌ بعد عامٍ وفؤادي يتشبث برؤيتها، حتىٰ توقفتُ عن اللعبِ معها، الجميل في كُلِّ هذا تشبثها بالحق ولكنها لم تُراعِ مشاعري دائمًا، أنا أُريدها.. تحافظ على مشاعرها في أوقاتِ الشِّدة.
أخبرتني عن شيءٍ أفهمهُ جيدًا، مِن الأساسِ أنا أدرك ما يحدث حِينما أخبرني"عمي" منذ أشهرٍ.. ولكن تغافلتُ عن ما يخص شقيقتي، الكره في دماءها دون رؤية شيءٍ، كُنتُ أخبأ عنها السر؛ لتكشف جزءًا منها، أنا المستفز حينما تُحدثني.. "
انتبه للضوءِ المشعـل حِينما ولجتْ"رهف"إليه، جالسةٌ بجوارهِ:
-هل تكتب لها؟!
لا تُجيب ولكن أكنتْ تعلم موضوع "زينب" من خلفي!
-ولمَّ تنزعجين هكذا!
-أنا لم أنزعج بل غاضبة أن أدرك أسرار الجميع ولا تخبرني؛ كي لا أصفع مُجددًا، أنتَ غريبٌ يا "مؤيد" أحاول معرفة ما بك وتُخفي، هل ستخبأ شيئًا آخر أم ماذا! أنا إنسانة أشعر ويحق ليِّ معرفة أمور ابن خالتي، ثُم كيف أصلحت علاقتك به وأنتَ لا تُطيقهُ!
-أنا مَن هاتفتهُ حِينما حدث معكِ هذا مني، ولم اجد إلا إياه وتحدثنـا سويًا، لم أقصد ولكن تناسيت.
-حقًا! علىٰ راحتك يا أخي.
خرجتْ دون كلمةٍ منه تحت أنظار والديها، ضيق الكلام وطريقتهُ الهادئة أزعجتها كُليًا، حاول ارضائها بشتىٰ الطرق لأيامٍ ولكنها تختفي أمامهُ في حضورهِ وكيف لا وهى لها الحق في حديثها!