أنسابت دموع "شهد" في صمت وهي تمرر يديها على كل مكان وضع فيه والدها لمسته وقد تَراءَى لها إنه يمدّ لها يده حتى تقترب منه ، هنا زرع بذور الورد ، و هنا حملها على كتفيه حتى تلتقط ثمرة البرتقال من تلك الشجرة التي زرعها السيد "رياض الزهار" من أجل حفيديه.
توقفت عن السير بالحديقة التي حاوط الظلام جزءً منها مع سكون الليل ونظرت حولها بفزع، أين هو والدها؟ إنه كان هنا ويبتسم إليها.
_ بابا ، أنت روحت فين.
نادته بصوت متحشرج ثم سقطت على ركبتيها وقبضت بيديها على تلك الأوراق التي تناثرت من الأشجار المزروعة داخل حديقة الفيلا.
_ أنا أسفة سامحني ، مش هقولك تاني إني عايزه أكون زي صحابي عندي كل حاجة، أنت قولتلي نفسك تشوفني دكتورة عشان ترفع راسك بيا وأنت اللي هتفتحلي العيادة وتقعد تستقبل المرضى وتقولهم بنت "عزيز" السواق هي الدكتورة، تعالا يا بابا أرجوك أنا مش زعلانه إن أنا بنت "عزيز" السواق والله ما زعلانه... أنا أسفة.
أستمرت بترديد ندائها له وأعتذارها عن ذلات لسانها نحو عمله كـ سائق وعمل والدتها ،فلِما لا يعملون بأي شئ أخر حتى تستطيع التباهي بهم أمام قريناتها.
نظرت حولها بأمل لعله أستمع إليها وعاد لكن لم تجد إلا السكون، فـ والدها رحل ولن يعود.
أبتلعت غصتها بمرارة وأخفضت رأسها وأخذت تغمغم بكلمات نادمة أخرى نحو تلك الليلة التي استباح فيها "سيف" ملامسة جسدها.
أرتعش جسدها بالكامل عندما أستعادت بذاكرتها تلك التفاصيل ثم أسرعت بوضع يدها على شفتيها، فهل ما حدث لوالدها بسبب هذا الذنب الذي فعلته؟
رفعت رأسها إلى السماء ثم أطبقت جفنيها بخزي وهطلت دموعها بسخاء.
أرتجفت شفتيها وفتحت عينيها عندما وصل إليها صوت بوق السيارة التي أرتفع لمرة واحدة ثم بعدها عبرت البوابة، بالتأكيد "سيف" هو من يأتي بهذا الوقت.
مسحت دموعها وقد تَلَطَّخ وجهها بما بقى أثره عالق على كفوف يديها ثم نهضت وبداخلها لهفة أن ترى النظرة التي أعتادت على رؤيتها في عينيه قبل تلك الليلة المخزية.
أختفت لمعة عيناها الحزينة ووقفت مُحدقة بتلك السيارة التي تعرف صاحبتها.
خرج "سيف" من السيارة وهو يحمل شئ بيده وعلى وجهه ابتسامة واسعة ثم غمز لها بطرف عينه وبعدها سارت السيارة إلى طريق خروجها من الفيلا.
لم تنمحي أبتسامته بل أزدادت إتساعًا ثم أسبل جفنيه مُتنهدًا وعندما رفع رأسه لأعلى لمح خيال "كارولين" وعلى ما يبدو كانت تنتظر عودته، فلا بأس لديه أن تكون هي...
أخفت "شهد" وجهها وراء تلك الشجيرة ذو الجذع القصير وتدفّقت دموعها مرة أخرى من مقلتيها، هي في نظره كما أخبرها مثل "نيرة" ولا يراها سوى الصغيرة "شهد".
تحرك "سيف" ثم ضاقت حدقتاه وأستدار بجسده سريعًا عندما أنتبه على صوت أقدام أحد وكأنه يركض.
الريْبة أحتلت تقسيمات وجهه وسرعان ما كان الأسترخاء يعود إلى ملامحه عندما أستمع إلى صوت مواء قطة.
...
رفرف "عزيز" أهدابه قبل أن يفتح جفنيه ويسحب نفسًا عميقًا خرج من صدره بأرتياح لشعوره بأنفاسها قربه.
مرر يده على خصلات شعرها وأبتسم ، إنها نائمة جواره بسلام ، فهو كان مغلوبًا على أمره لتركها تنام بعيدًا عنه.
_ أنتِ دُنيتي الحلوة يا "ليلى" ، جيتي ودخلتي حياتي عشان تغيريها وبقيت خايف على عمري عشانك، راحتي بقت في حضنك وكل حاجة بقى ليها طعم مختلف.
أغلق عينيه و زفر أنفاسه بعمق ،فعليه النهوض والذهاب إلى العمل الذي ثقلت أعبائه عليه وصار بحاجة إلى بعض الراحة لكنه لا يعرف من أين يأتي بها وهو بات مضغوطًا من كل شئ يحاوطه.
تحركت "ليلىى" على صدره ثم فتحت عينيها وأبتسمت بنعاس.
_ صباح الخير.
رد عليها "عزيز" سريعًا وهو ينقل أصابع يده بخفة هذه المرة على خدها.
_ صباح الخير يا حببتي، أرجعي نامي تاني لسا بدري.
خفق قلبه ودغدغ ألتصاقها به أحتياجه كرجل لكنه نفض أحتياجه جانبًا وضمها إلى صدره رابتًا على ظهرها.
_ أنا مضطر أقوم ،عندي شغل كتير النهاردة لكن هحاول أرجع بدري.
رفعت رأسها إليه وحدقت به بنظرة أدهشته.
_ أنت بتقولي إن أنا وشي باين عليه الأرهاق والتعب، ممكن تشوف نفسك أنت كمان..
أزدادت خفقات قلبه وهو يراها ترفع يدها حتى تُحركها أسفل جفنيه.
_ لو كنت في الأول بعدي ليك إهمالها في صحتك، دلوقتي لأ يا "عزيز".
أنمحت ابتسامته عندما وجدها تعود إلى البكاء، فأسرع بالأعتدال في رقدته يهتف راجيًا.
_ رجعنا تاني نعيط يا "ليلى"، تعرفي أكتر حاجة تعبه قلبي وتعباني وأنا شايفك منهارة كده ، "ليلى" أحنا اتفاقنا على إيه.
هزت رأسها إليه وتركته يمسح لها دموعها.
_ حاضر، هكون قوية عشان "شهد " و طنط "عايدة" وعشانه هو كمان.
حاوطها بذراعيه ومازحها بلطف.
_ وأنا نستيني يا "ليلى".
أبتعدت عنه بوَجِل وأسرعت بوضع يديها على خديه.
_ لأ طبعًا، أنت عارف إنك كل حاجة في حياتي يا "عزيز".
بعد وقت نهض من جانبها بعد أن أقنعها أن تغفو قليلًا وهو سوف يعود باكرًا من العمل وبعد عدة أيام سيأخذها هي والعائلة إلى المزرعة ليقضوا أسبوعًا هناك حتى يهربوا من كآبة المنزل.
ألقى "عزيز" نظرة خاطفة عليها قبل أن يُغادر الغرفة ويتخذ طريقه إلى الأسفل.
_ صباح الخير يا عم "سعيد".
هتف بها "عزيز" عند دلوفه المطبخ ووجد العم "سعيد" داخله جالسًا.
نهض العم "سعيد " من المقعد الجالس عليه وأسرع إليه.
_ صباخ الخير يا بيه، دقايق والفطار يكون جاهز.
كاد أن يعطي العم "سعيد" أوامره إلى تلك الخادمة التي تأتي لمساعدته كل يوم،أسرع "عزيز" بألتقاط ذراعه برفق.
_ لأ أنا خارج، هفطر مع العمال في المعرض.. أنت أهتم أرجوك بـ "ليلى" وغصب عنها خليها تفطر، هعتمد عليك يا راجل يا طيب.
أعترض العم "سعيد "حركته ووقف قبالته.
_ وأنت يا بيه حالك بقى عجبك كده، ليه متخليش "سيف" يشيل معاك الحمل شوية ولا بعد ده كله عايزها تاخده منك.
تنهد "عزيز" وربت على كتفه.
_ مش لازم نقول يا راجل يا طيب إننا تعبنا...
رمقه العم "سعيد" بنظرة حزينة وهو يختفي من أمام ناظريه، فهو ينتظر المبادرة من "سيف"... ينتظر أن يجد أبن شقيقه الذي ضحى من أجله بالكثير يقف وراء ظهره داعمًا له.
_ قولتله متسيبهوش ليها ، أهي أخدته منك على الجاهز وأنت اللي قولت هيكون سند ليك لما يكبر.
...
داعبت شفتي "صالح" أبتسامة عذبة ثم تقلب بجسده على الفراش ومازال مغمض العينين وبدء يتساءل قبل أن يفتح جفنيه المغلقين، لماذا الفراش بارد... هل ابتعدت عن حضنه منذ وقت طويل.
أخذ يحرك جسده بخفة نحو طرف الفراش ثم مدَّ ذراعيه حتى يقبض عليها وينال منها ما صار ترياقه الصباحي.
فتح عينيه على وسعهما وتلاشى ذلك الوهج الذي برق فيهما ونظر إلى الفراش.
زفرة ماقتة خرجت من شفتيه ثم أعتدل في تسطحه على الفراش لكن ابتسامته عادت تتوهج مجددًا وأصبحت أقرب للضحك وهو يتذكر معاناته معها ليلة البارحة حتى تنام جواره على الفراش وبنفس الغرفة ، فما الفرق بين رحلتهم بأسوان وهنا.
_ حاسس إني نشيط وكل حاجة في عينيا حلوة.
قالها ثم نفض الغطاء الخفيف من عليه ونهض مُمددًا ذراعيه وسحب نفسًا عميقًا.
_ لو كانت سمعت كلامي وقعدنا كام يوم كمان، دلوقتي بقى في ناس تانية مشاركاني فيها منهم أبني.
وأنفلتت من شفتيه ضحكة خافتة متذكرًا ما أخبرهم به صغيره في أخر مكالمة له معهم ، إنه سيعاقبهم أثنيهم لكن "زينب" أستطاعت ببضعة كلمات أن تجعل غضبه منها ينطفئ.
_ الفترة الجاية هحتاج مساعدة دكتورة "حورية" ودكتور "صفوان" وأبوس الأيادي كمان.
أتجه نحو باب الغرفة دون أن يهتم بأرتداء ما يستر جزعه العلوي.
_ أخيرًا يا سيادة اللواء رديت عليا، ديه خامس مره أرن.. لأ أنا زعلانه منك مبقتش خلاص "زوزو" الغالية.
ضحك "نائل" وجلس على فراشه بعدما ساعدته إحدى حفيداته من أبنته الوحيدة "رحاب" التي أتت ليلة أمس حتى تحضر حفل زفاف أبنة شقيقها.
_ محتاج حاجة تاني يا جدو.
تمتمت بها "هدى" الابنة الكبرى لأبنته والتي تشبه جدتها "هدى".
_ جدو هو في حد عندك.
وسرعان ما أتى في ذهنها مّجئ عمتها التي لم تراها إلا لمرات معدودة.
_ ديه "هدى" ولا "هالة".
نظر "نائل" نحو "هدى" التي غادرت الغرفة ولم ترغب بمحادثة "زينب" ، فأسوء ما زرعته "هدى" زوجته إنها وضعت حب أولادها لها أمام اعترافهم أن "أسامة" أبن تلك المرأة ليس أخ لهم ولا تربطهم به صلة قرابة.
تمالك "نائل" تلك الغصة التي تحتل قلبه كُلما لاحت ذكريات من الماضي أمامه.
_ ديه "هدى"، من أول ما صحيوا وهما مستعجلين على إنهم يروحوا عند "أشرقت".
أخفضت "زينب" عينيها نحو الطبق الذي تقطع فيه قطعة الجبن إلى شرائح وأبتلعت مرارتها في صمت... عمتها أتت من أجل زفاف "أشرقت" لكن معها هي تحججت بأنشغالها وأكتفت بتهنئتها وأرسال مبلغ مالي لها حتى تشتري به هدية زواجها كما تشاء.
وضع "نائل" يده على الفراش وتنهد مُستطردًا.
_ من ساعت ما صحينا وهما يلا يا جدو معانا، فاكرين جدهم شباب على المرمطه.
لم تنطق "زينب" بكلمة واحدة وأخذت تهز رأسها ،فهذا ليس جديد عليها منهم... هم يُعاملوها بلطف أحيانًا من أجل جدها والواجب لا غير.
سقطت السـ.ــكين من يدها بعدما باغتها "صالح" بأحتضان خصرها بأحد ذراعيه ثم دفن رأسه في تجويف عنقها هامسًا بخفوت.
_ صباح الخير يا زوجتي العزيزة.
تشتت تركيز "زينب" و أغمضت عينيها حتى تستطيع إلتقاط أنفاسها بعد فزعها من فعلته.
_ "زوزو" أنتِ معايا.
تساءل الجد بعد أن وصله صوت تلك الرَبْكة التي حدثت ، أستدارت "زينب" لتجده ينظر إليها مبتسمًا.
_ جدو على التليفون، سلميلي عليه.
أسرعت بالرد على جدها بنبرة صوت مهزوزة.
_ "صالح" بيسلم عليك يا جدو.
ضحك الجد ورفع أحد حاجبيه ومازحها بعبث.
_ سلميلي عليه وقوليله بلاش تتشاقى ويسيبك شويه ليا زي ما سيبتك له.
أوصلت رسالته إلى جدها سريعًا دون أن تنقص منها حرفًا ، فضاقت حدقتيّ "صالح" وألتقط منها الهاتف.
_ صباح الخير يا سيادة اللواء، كده برضو يا باشا...
تجلجلت ضحكات "نائل" التي أجتذبت انتباه أبنته ودلفت إليه الغرفة حتى تخبره بما أبلغتها به "لبنى" للتو ، هم سيأتون إلى هنا حتى يحتفل معهم الجد بـ ليلة الحناء المقتصرة على أفراد العائلة.
_ ساعة واحدة وتكون هنا عندي بيها، عايز أطمن على حفيدتي لتكون أكلت منها دراع ولا حاجة.
لم يتوقع "صالح" رد الجد عليه بهذا المزاح اللطيف، فانفجر ضاحكًا وهو يتعمق بالنظر نحو "زينب" التي أندهشت من تصرفه.
_ والله يا سيادة اللواء هي عايزه تتاكل أكل.
جحظت عيناها من وقاحته ودفعته على صدره، فتمتم بمرح.
_ بهزر يا حببتي مع جدو.
أستمر "نائل" بالضحك ،فأزذادت دهشة "رحاب".
_ هاتها وتعالا ليا عشان أطمن بدل ما أنت عارف ممكن أعمل إيه.
خلل "صالح" أصابعه في خصلات شعره المشعثة مبتسمًا.
_ عارف يا سيادة اللواء قدراتك وعُلم ويُنفذ أكيد.
اختطفت منه "زينب" الهاتف وقد عاد إليه شعور الأمان.
_ مسافة السكة يا جدو وهبات معاك كمان.
خرجت صَيْحة "صالح" بقوة وقد ألتقطها "نائل" قبل أن تتهني المكالمة.
_ شكل جوز "زينب" راجل محترم وأبن ناس وعلاقتك معاه كويسه يا بابا.
ابتسم "نائل" وأشار إلىها حتى تجلس بجانبه، فأسرعت بتلبية أمره وأحتضنته بشوق.
_ لو بتحبيني يا "رحاب"، أرفعي راس بنت أخوكي قدام جوزها وعامليها زي ما بتعاملي ولاد "مصطفى" و "هشام" ،كفايه يا ولاد "هدى"...أنا جوزتها عشان ترتاحوا وتنسوا نفوركم منها.
دمعت عينين "نائل" ، فلم يعد يتحمل حقد أولاده عليها كُلما رأوا محبته لها.
_ أنت بتعيط يا بابا.
أطبق "نائل" جفنيه بحزن ومرارة.
_ تفتكري مكنتش عارف ليه بطلتي تنزلي مصر.
هربت بعينيها بعيدً عنه خجلًا.
_ غيرتي من حبي لبنت أخوكي اليتيمة وطبعا "هشام" ومراته مأثرين عليكي أنتِ و أخوكي "مصطفى".
حاولت أن تجد حُجَّة تقنعه بها.
_ ما أنا علطول بطمن عليك بالتليفون وللأسف الولاد مبقوش يحبوا ينزلوا مصر.
_ لا يا "رحاب"، أنتِ بنتي وأنا عارفك كويس.
هزمتها دموع والدها، الراجل الذي دائما تراه قويًا وصلبًا.
_ أمكم عرفت تعاقبني في حياتها وبعد موتها لكن صدقيني أنا معترف إني غلطت في حقها وحاولت كتير أعوضها.
هي أكثر أشقائها معرفة بهذا وقد رأت بعينيها العديد من المرات التي حاول فيها والدها تعويضها وإسعادها.
_ لما تقدم ليكي أبن زميل ليا في الجيش رفضته لانه كان مطلق ومعاه طفل رغم إن الولد له مستقبل حلو وعيلته تشرف لكن قولتلهم بنتي من حقها يكون ليها زوج هي أول ست في حياته زي ما هو أول راجل في حياتها.
تذكرت هذا الأمر وربتت على كف والدها بحنان، فاستطرد قائلًا بقلة حيلة وضعه بها "هشام".
_ والأيام دارت وبأيدي رميت "زينب" وأنا متأكد إن "شاكر الزيني" عايز حفيدتي لحفيده لحاجة في نفسه وهي إنها تفضل تخلف له أحفاد عشان الإمبراطورية متضعش وتكون قليلة الحيلة قدامهم ، خلتوني أجوزها لراجل أرمل عنده طفل وأقولها شيلي مسئولية تانيه وأنجحي في حياتك الزوجية عشان جدك لما هيمشي هتضيعي من بعده...
_ أرجوك يا بابا خلاص، دموعك غالية عندي.
هز "نائل" رأسه بهزيمة أشد ، أثقلت عاتقه و فؤاده.
_ ذنبها إيه قوليلي ، ليه بتكسروا بنت أخوكم اليتيمة بقسوتكم.
أوجعها عتاب والدها لها وأرتعش جسده من شدة قهره.
_ غصب عني والله يا بابا، غصب عني... حبك للست ديه وإنها تشبهها وعلى أسمها خلوا حقدنا يزيد لكن أوعدك هقرب من "زينب" المرادي ومش هفرق بينها وبين "أشرقت" و "سما"
شدَّدَ "نائل" من أحتضانها وأرتاح قلبه قليلًا ،فأبتسمت إليه.
_ مقدرش على دموعك يا بابا ولا أقدر أشوف كسرتك قدامي ،سامحني يا حبيبي.
ربما الأبتعاد جعل قلبها يقسو بعض الشئ ويُعلمها الجفاء ،ربما ترك أذنيها لزوجات شقيقيها ازاد حقدها نحو "زينب" لكن دمعة واحدة من والدها جعلته تشعر بالندم حتى لو كان من أجل والدها.
...
نظر "صالح" إليها بدهشة وقد أخذت تتناول فطورها في صمت ،فمنذ دقائق أخذوا يمزحون لكن الآن هي صامته.
_ مالك يا "زينب" ساكته ليه؟
توقفت عن تناول حبة الزيتون وتقابلت عيناها بعينيه ، فأجتذب مقعدها إليه.
_ سرحانك ده غريب ومش متعود على سكوتك.
_ "صالح"ممكن تخلص شغلك بسرعة وتيجي تقضي اليوم معايا أنا وجدو وهات "يزيد" معاك.
حرك يديه على خديها وأنفرجت شفتيه بأبتسامة.
_ اول حاجة هنعملها هنخلص الفطار بتاعنا بسرعة من غير سرحان...
قالها ثم وضع قبلة خاطفة على شفتيها وأردف قائلاً :
_ وبعدين ندخل ناخد شاور سريع...
ومع كل خطوة يخبرها به وعليهم فعلها ، أخذ يلثم ثغرها.
_ وبعدين تختاري ليا البدلة بتاعي وأختار ليكي الطقم اللي هتلبسي وبعدين...
توقف عن حديثه وعما يفعله عندما لطمت صدره ضاحكة.
_ لو فضلنا كده هنلاقي جدو هو اللي جاي لينا...
غمز لها ضاحكًا.
_ ياريت، أه أكسب جوله قصاده.
أستطاعت بصعوبة التملص من حصاره ونهضت من أمامه.
_ عندك شغل يا كابتن وكفايه دلع بقى.
هرولت من أمامها نحو الغرفة التي كانت لها ومازالت ملابسها بها.
_ خد حمام سريع في أوضتك لحد ما أكلم طنط حورية أشكرها إنها بعتت حد ينضف الشقة ويحط لينا أكل في التلاجة وأقول لـ "يزيد" يجهز عشان ناخذه في طريقنا.
أسرع ورائها والتقط الهاتف منها مُعترضًا ما قررت أن تفعله.
_ لأ يا "زينب"، سيبي "يزيد" مع ماما وإحنا مروحين هناخده.
قطبت حاجبيها بغرابة بسبب إعتراضه.
_ النهاردة من حقك تكوني وسط عيلتك مش مسئولة عن أبني وقراري مفيهوش راجعه وأنا عارف كويس إن أبني مُرحب بي ديما في بيت سيادة اللواء لكن النهاردة وأي تجمع بعد كده فيه عيلتك لأ...
وحتى لا يفتح مجال للنقاش، انسحب من أمامها.
_ خلينا نجهز بسرعة.
...
نظر "عزيز" بدهشة نحو ما وضعه أحد العمال أمامه من طبق تحلية وقال العامل بسعادة واضحة على وجهه ونبرة صوته.
_ متكسفش أيدي يا "عزيز" بيه، أنا عارف إنها حاجة بسيطة أعبر بيها عن فرحتي وأشارككم معايا.
وواصل العامل كلامه مُعتذرًا وحتى يوضح له سبب سعادته.
_ أنا عارف حالة الحزن اللي أنت فيها يا بيه وسامحني لكن والله من الفرحة، ربنا جبر بخاطري بعد سنين والحمدلله رزقني بـ "عبدالله".
نهض "عزيز" من مقعده وأقترب منه ثم أسرع بدسَّ المال بيده.
_ أوعى ترفض مني النقوط بتاعه، ربنا يباركلك فيه يا رب ويجعله ذرية صالحة ليك.
_ ديما كرمك مغرقنا يا "عزيز" بيه عقبال ما ربنا يكرمك يا رب.
توهجت ملامح "عزيز" بتوق لهذه اللحظة وأستمر العامل يخبره عن معانته هو وزوجته لسنوات حتى رزقهم الله بـ طفلٍا.
_ مراتي بنت حلال فضلت صابره معايا وراضية والحمدلله ربنا رضانا، أصل العيب كان عندي أنا يا بيه وكنت بدأت أفقد الأمل، أنت عارف الموضوع صعب عندنا إزاي.
أنطفأت ملامح "عزيز" المُبتهجه ولا يعلم لِما أخترق فؤاده شعور الخوف وقد أستطرد العامل في سرد له معانته وكم من مره فقد صبره ويأس من أمل الأطباء و علاجهم.
...
وقف "مراد" مُنتصبًا ومُحدقًا في مظهره بالمرآة ليقترب منه مالك المتجر الذي يشتري دائما منه ملابسه الرسمية.
_ البدلة وكأنها متفصله عليك يا "مراد" بيه، ألف مبرووك يا باشا.
أَوْمأ "مراد" برأسه ساخرًا وألتف بجسده إليه.
_ ما دام شايفها حلوة يبقى هاخدها.
صدح رنين الهاتف ، فأسرع أحد الرجال المرافقين له جهته.
_ "عدنان" بيه يا باشا...
فتح "مراد" المكالمة وأنتظر صياح والده وكما توقع أن يصل له أمر ذهابه مساء الغد إلى اليونان.
_ أنت مجنون، سفرية اليونان إيه اللي هتطلعها... في واحد عاقل يسيب عروسته بعد ساعات من فرحهم، حد تاني من رجالتنا هيروح بدالك... متعملش ليا مشاكل مع أهل مراتك.
نظر "مراد" إلى الواقفين أمامه وبنظرة واحدة منه ،أنسحبوا من أمامه.
_ خلصت كلامك يا "عدنان" باشا، أنا مش فاضي وبلاش تبعت بدالي حد لأنك عارف كويس إيه ممكن يحصل من غيري وأنا بلغت الجماعه إني جاي بنفسي.
أنهى المكالمة دون أن يهتم لأمره ثم عاد لوقفته أمام المرآة وألتوت شفتية بأستهزاء.
_ وماله لما بنت المستشار تترمي وتتذل شوية ،خليك أنت بس في حالك يا باشا.
...
عاد "عزيز" إلى المنزل في الساعة الرابعة عصرًا وعندما وجد المنزل هادئًا أَيْقَن من وجودها بمسكن عمها.
زفر أنفاسه ثم صعد الدرج حتى يتحرر من ملابسه التي لم يعد يطيق رائحته فيها ويذهب بعدها إليها.
اشاح وجهه عندما وجد "كارولين" أمامه وتجاهلها ومضى في طريقه نحو الطرقة المؤدية إلى غرفته لكن ما ألقته عليه فجأه جعله يقف معقود الحاجبين غير مستوعبًا ما تُخبره به.
_ "سيف" يحتسي الخـ.ـمر ، أخبرته كثيرًا إنك ستغضب منه لكن...
توقفت "كارولين" عن الكلام الذي ألقته بلغة عربية تحسنت قليلًا عن قبل مما جعل "عزيز" يتأكد أن كل كلمة يسمعها منها صحيحة.
التف نحوها وفي عينيه نظرة أرعبتها، فأسرعت قائلة:
_ لقد بدء ينجذب إلى "بيسان"، إنه صار يُناديني باسمها حتى في علاقتنا الخاصة.