رواية عشق لا يضاهي الفصل الثالث و التسعون بقلم اسماء حميدة
رمقها ظافر بنظرة كأنها سکين غرس دون رحمة في خاصرتها وقال بصوت خرج من بين شفتيه كالثلج المنصهر فوق صفيح ساخنبما أنك اخترت الشهرة فعليك أن تعتادي الظنون وعواصف التكهنات هذا هو الثمن.
كان صوته... صوت ظافر لكنه بدا كما لو أن حجرا نطق.
برودته معها لم تكن عادية بل برودة رجل قرر أن يغلق قلبه بقفل صدئ ويرمي المفتاح في قاع هاوية.
تجمد الډم في عروق دينا وارتجفت أوصلها ولم يكن أمامها سوى أن تتشبث ببقايا رجاء لا تعرف كيف ولد داخلها ولكن ظافر كان يعلم أن طموحها لن يتوقف عند هذا الحد ولابد وأنها تفكر في خطة بديلة وللحقيقة هي لم تخيب رجاءه إذ قالت بصوت مكسور وصله كصدى بعيد
أنا خائڤة... أرجوك ابق معي قليلا... أرجوك لا تتركني الآن.
لكن ظافر لم ير فيها إلا ممثلة بارعة في مسرحية بائسة من تأليف قلب خائب فلم يتردد بل رد بنبرة تقطر احتقارا
أعرف تماما أن محاولتك للاڼتحار لم تكن سوى عرض مجاني على خشبة حياتك... وأعلم أيضا أن أمي تحلم بأن تنجبي لي طفلا... لا تحلمي بذلك حتى.
هوت كلماته كحجارة تسد مجرى الهواء إلى رئتيها حتى كادت أن تتقيأ ألمها ولكنه لم ينتهي منها بعد إذ أردف يقول بعينين لم ترى فيهما سوى لامبالاة رجل أحرق من الداخل حتى تحول رمادا
أفضل ما يمكنك فعله هو أن تلعبي دورك بإتقان كما تفعلين دائما ولا تطمحي في أكثر من ذلك. قالها ثم غادر دون أن يلتفت.
تابعته دينا بنظرات حائرة كأنها تبحث في ظهره عن تفسير... فكيف يمكن لرجل كان يوما حانيا أن يتحول إلى متاهة من الجليد
وبعد لحظات ابتسمت ب شړ فلا زال بجعبتها الكثير خاصة وأن والد ظافر كان دوما ما يطيل النظر إليها يبتسم حين تمر وكأنها نشوة مؤجلة لكن ظافر كان دائما عكسه صلبا كصخر لا يلين... أما شادية والدته فكانت تغرقها بالأمنيات فهي تحلم بحفيد تحتضنه لكن دينا... دينا كانت عاجزة عن فعل ذلك.
أطرقت دينا رأسها تتفقد الچرح الذي بيدها وكأنه مرآة لداخلها المنكسر ومن ثم التقطت هاتفها واتصلت بالطبيب حينها شعرت بأنها في حاجة لمن يضمد چرح الكرامة... لا اليد.
ما إن انغلقت خلفه أبواب شقتها حتى سقط قناع البرود عن ملامحه للحظة خاطفة ليتسع الظلام في عينيه فأخرج هاتفه واتصل بماهر وصوته اخترق السكون كطلقة صامتة
ماهر... كيف تسير الأمور
جاء صوت ماهر خاڤتا متوتر النبرة كأنه يسير فوق خيط مشدود بين جبلين
لقد رتبت الأمر مع الموظفين واستخدمت الطرق الرسمية بلا تجاوزات.... سيدي ربما نستطيع استعادة الطفل بالأساليب السلمية هذا إذا كان ابنك بالفعل ولكن لا يجب عليك الذهاب إلى هناك بنفسك!
تشنج وجه ظافر وتحولت نبرته إلى سکين بارد
ماذا تقصد بكلمة يجب
صمت
ثقيل ثم أجاب ماهر وكأنه يضع كلماته على ميزان من ڼار
كارم صار أكثر حذرا... هناك عيون كثيرة تحوم حول المشفى مؤخرا كأنها كلاب تشم رائحة اللحم.
تنهد ماهر ثم تابع
التعامل مع من حول هدفنا قد يستغرق وقتا ووقتنا ضيق فلا يمكننا أن نضمن ألا يشعر كارم بأي شيء أثناء ذلك... سيدي أي خطوة خاطئة قد ټحرق كل شيء.
ظل ظافر صامتا للحظة يحدق في الأفق وكأنه يفتش عن مصير لم يكتب بعد ثم نطق أخيرا بصوت أشبه بقرع طبول الحړب
جهزوا رحلة إلى أثينا فورا سأسافر بنفسي وسأعيده بيدي.
جاء صوت ماهر مستسلما كمن سقط في فخ لا مهرب منه
حسنا سيدي سيكون كل شيء على ما يرام.
انتهت المكالمة لكن بدايتها كانت شرارة شرارة لمعركة لم تعلن.
ةما إن انقطع الخط حتى كان ظافر قد انطلق كمن يحاول اللحاق بشيء يتبخر أمام عينيه تاركا خلفه شقة دينا بل الحي الراقي بأكمله واندفع إلى المطار كرصاصة خرجت من فوهة قدر لا تملك رفاهية التراجع فلولا تلك المهزلة المفاجئة التى زعمتها دينا لكان الآن فوق السحاب يعانق طريقه إلى أثينا وفي عقله كان الخيط واضحا
إن عاد نوح لن تجد سيرين مبررا للهروب وستسكت شادية شهوتها الأبدية لحفيد يركض في أرجاء القصر... كل خيط يؤدي إلى طفل وكل طفل مفتاح للهروب من سجن الوجوه المتوقعة وخواء قلبه الذي ظل يتضرع في أن يكون هو الأب الشرعي والبيلوچي للطفل.
كان الليل في ذروته والسماء ترقد فوق المدينة ككفن أسود تتلألأ فيه نجوم واهنة.
داخل مستشفى أثينا وتحديدا أمام جناح كبار الشخصيات كان هناك أربعة أشخاص ضخام الچثة يتناوبون الحراسة كذئاب تترصد فريسة يمشون ذهابا وإيابا أعينهم لا ترمش وكلاب الشك تنبح في صدورهم.
وفي لحظة كما تطفأ شمعة في عاصفة غرق الممر في ظلمة مفاجئة.
لم يكن هناك وقت للدهشة وقبل أن يلتقط الحراس أنفاسهم خرجت من الظل كائنات بشړية ترتدي السواد تتحرك كأنها ظل الفوضى... مدربين بلا صوت بلا ملامح كموجة سوداء اجتاحت الممر بل كمۏت صامت يسلب الأرواح دون ضجيج.
وبلمح البصر كمموا أفواه الحراس وأسقطوهم أرضا واحدا تلو الآخر ثم سحبوا إلى العدم كأنهم لم يكونوا.
كل هذا لم يستغرق سوى دقيقة... دقيقة فقط وانهار نظام الأمن الإلكتروني وارتبكت الكاميرات كأنها أغمضت عينيها عمدا وحين عادت الأضواء لتتنفس كان السرير خاليا والصبي بين ذراعي رجل لم يعتد الهزيمة.
اختفى ظافر في دهاليز الليل يحتضن الصغير كمن يحمل قطعة مکسورة من ماضيه وفي سيارة ليموزين فاخرة تهرول كالشبح وسط الطرقات جلس ظافر يتأمل ملامح الطفل.
كان نوح نائما لكن نومه بدا متقطعا كأحلام تطارده جبينه متغضن ونفسه قلق كأن الروح نفسها ترفض الاستسلام.
مد ظافر يده ومررها برفق على شعر الصغير... وشرد للحظة لم يكن يعرف فيها
ما إذا كان يعيد نوح إليه أم يخلص نفسه.
رفع ظافر يده إلى جبهته كمن يتحسس صدعا في ذاكرته أو كمن مسه خيط من صداع لم يفصح عن سببه وأمامه تململت تلك الكتلة الصغيرة النائمة وفتحت عينيها ببطء... بؤبؤان حالكان كقطعتي فحم ولدتا من ذات المنجم الذي سحبت منه عيناه هو.
كان نوح مستيقظا... لكن الوعي لم يزل مترددا في عينيه وحين التقت نظراته بعيني ظافر لم ينبثق منها الخۏف بل شيء أشبه بالحيطة الهادئة كأن الطفل ولد في عاصفة واعتاد ألا ېصرخ ولوهلة أدار رأسه الصغير يمينا ويسارا يتتبع تفاصيل السيارة الفارهة ثم رمق ظافر بنظرة غائمة لا تصرخ ولا تسأل فقط تترقب وبصوت خاڤت كهمسة نسيم في نهار قائظ سأل
سيدي... إلى أين تأخذني
كلمة سيدي ارتطمت بصدر ظافر كصدى قديم من زمن لم يذق فيه الراحة فلمعت عينيه بنظرة ضيق خفية وسريعة كشرارة تنطفئ قبل أن ترى ومن ثم رد محاولا أن يحتفظ بصوته متماسكا
سأعيدك إلى المنزل. قالها كمن يحاول إقناع نفسه أولا.
لم يظن ظافر أن طفلا لم يتجاوز الثالثة يحتاج إلى مراوغة أو تبرير لكن نوح لم يكن طفلا عاديا.
رمش الصغير ببطء وارتعشت أجفانه كأجنحة فراشة بللها المطر يصارع النعاس لكن فضوله يقاوم.
همس مجددا ببراءة تحمل وراءها نصلا
سيدي أرجوك أعدني وإلا سيغضب أبي.
تجمد الزمن للحظة قبل أن يكرر ظافر الكلمة بصوت أجش كأنه يصعد من بئر عميق
أبوك
مال ظافر برأسه ينظر إلى وجه نوح الصغير وجه لم تلمسه قسۏة الأيام بعد لكن فيه حدة نظرة كمن ورث الرفض عن أجيال ومن ثم عاود سأله والنبرة في صوته تتحول شيئا فشيئا إلى وعاء يغلي
ومن والدك يا نوح
في عيني الطفل لمع بريق خبيث.. لم يكن مجرد بريق بل شرارة لعبة يعرف كيف تلعب ويملك مقاليدها بل ويحسن استخدامها.
ابتسم نوح بمكر طفولي وقال بفخر لا يليق بسنه
أبي هو أقوى رجل في كافة الأنحاء ألا تعرفه
ابتسم ظافر بزهو وتسائل لا ليعلم فمن هو أقوى منه ليحتار
من!
أجابه نوح بأعين تقطر قلوبا
كارم.. اسمه كارم.
وفي تلك اللحظة انطفأت ملامح ظافر وكأن الرعد قرر أن يتلبس وجهه الذي تحول إلى كتلة من العاصفة ترتسم على ملامحه مزيج من الصدمة والڠضب والريبة كمن سال حبر أسود ليغطي معالمه حاجبا الرؤية عن عينين بدتا كصفحة من السماء الملبدة تنتظر البرق كي ينقض ڠضبها.