رواية عشق لايضاهي الفصل الرابع والتسعون 94 بقلم اسماء حميدة



رواية عشق لا يضاهي الفصل الرابع و التسعون بقلم اسماء حميدة


عض نوح على شفتيه بقسۏة كما لو كان يحاول أن يكتم قنبلة من الكلمات القاټلة ثم انحنى قليلا للأمام ونطق بصوت هادئ كالسم الزعاف وقد توهجت عيناه بوميض التحديسيدي... أأنت اختطفتني لأجل المال أبي لا يفتقر إلى الذهب ولا إلى النفوذ فأنا جوهرته المصونة وأنت باختيارك لي كنت أذكى مما ظننت.
تجمدت الكلمات في حلق ظافر كأنها ارتطمت بجدار صلب من الذهول ثم تساءل ببطء وفي صوته نبرة تحمل طعڼة في الصميم
إن كان والدك بتلك القوة والثراء... فلماذا تركك فريسة سائغة كيف سمح لي أن أختطفك دون أن تهتز الأرض تحت قدمي صاحب النفوذ يا هذا
ارتبك نوح للحظة إذ لم يتوقع أن يمتلك ظافر هذا النوع من المكر والحدة لم يعد يراه ذاك المختطف الأحمق بل بدا له كخصم يعرف جيدا أين يضع إصبعه على الچرح.
صمت نوح ثم شهق فجأة وهو يقبض على بطنه كأن نصلا من ڼار انغرس فيه تجعد وجهه بالألم وانحنى حاجباه كقوسين مكسورين وحالما لاحظ ظافر التغيير الطارئ اخترق الۏجع صدره كمن استشعر اقتراب عاصفة يتسائل بلهفة لا يعلم سببها
ما بك
همس نوح بصوت واهن بالكاد يسمع
بطني تؤلمني بشدة...
لحسن الحظ كان ظافر قد تهيأ لكل الاحتمالات فاصطحب معه طبيبا خاصا فأمر سائقه بالتوقف على قارعة الطريق واستدعاء الطبيب المتواجد بسيارة الحرس.
أجرى الطبيب فحصا دقيقا ممرا يده على مواضع الألم وهو يصغي لأنفاس نوح ثم تراجع بخفة حذرة وقال
سيد نصران... لقد فحصته بدقة ولم أجد ما يدعو للقلق وكذلك لا يبدو أن هناك خطبا عضويا.
لكن نوح كان يتلوى فوق السرير كمن تلتهمه الڼار من الداخل فيما قبض على بطنه بأصابع مرتعشة وصوته يتقطع بين شهقات الألم
سيمزقني الۏجع... سأموت... آه لا أحتمل...
عبس الطبيب وتسللت الحيرة إلى وجهه كظل ثقيل بينما نظر ظافر إلى وجه نوح الشاحب وذاك العرق البارد المتفصد من جبينه... لم يكن مشهد تمثيل.
رمق ظافر الطبيب بعينين كأنهما صقيع شتاء قاټل وقال بنبرة تنذر بالخطړ
ألم تقل إن كل شيء على ما يرام ألم تقل إن الأمر لا يستدعي القلق فسر لي سبب ما يحدث الآن
تردد الطبيب ثم أجاب بتوتر
ربما... ربما تكون المشكلة أننا نفتقر إلى أدوات الفحص الدقيقة داخل السيارة...
سحب ظافر أنفاسه كمن يكبت عاصفة ونظراته تنذر بانفجار وشيك...
أما نوح فكان لا يزال غارقا في الألم... أو شيء آخر خفي لا يراه أحد سواه.
بينما كان الطبيب مغمورا پذعر لا يوصف وكأن شبحا يطوقه من كل الجهات لوهلة جف حلقه وتعلقت الكلمات في حنجرته كأشواك وبرغم أن السيارة كانت باردة ككفن حديدي فإن جبينه كان يرشح عرقا ساخنا كما لو أن بركانا ثائرا ېحترق في صدره دون لهب.
وبنظرة من عيني نوح أدرك تلك الحالة المزرية التي آل إليها
ذاك المسكين فاندفع كطلقة من قلب القلق واقترب من الطبيب كمن يحاول نزع السيف من قلب صديقه يقول بصوت رخيم يشوبه الۏجع
لا تلم الطبيب يا سيدي إنني أعاني من نوبات مؤلمة في معدتي منذ الصغر... إنها لعڼة قديمة تسكنني.
ثم استدار نحو ظافر وابتسامة مرتجفة ترتسم على شفتيه المبللتين بالعرق والضعف وأضاف همسا وكأنه يبوح بسر دفين
أبي... كان له طقس غريب حين يعصرني الألم كان يضغط بوجهه على بطني لا أعلم كيف لكنه كان يسحب الۏجع بملامحه كما لو أن وجهه يتحدث مع الألم في داخلي... لماذا لا تجرب ذلك يا سيدي
تجمد وجه ظافر وعيناه اشتعلتا پغضب بارد كالثلج الذائب ببطء.
أي عبث هذا أي استجداء مريب ذاك إنه يتلاعب بالألم كأداة للسيطرة!!
بدأ الشك يرتسم جليا على معالم ظافر ونظراته تفيض بالاشمئزاز لكن نوح بعينين مغرورقتين تنهمر منهما الدموع كأنها تعبير عن ۏجع لم يعرف له أحد تفسيرا قال متوسلا
سيدي... ألا تراني أتلوى أتريدني أن أقتل على مهل... أرجوك الألم يمزقني...!
نظر ظافر إلى الطبيب بنظرة صامتة تحمل ألف أمر دون كلام ثم قال
أحضر له ماء ساخنا.
أسرع الطبيب وكأن الحياة قد عادت إلى جسده يلتقط زجاجة وملأها بالماء المغلي ثم عاد يركض ليقدمها لنوح كي يضعها على مكان الألم متوقعا أن يمد الصغير يده إليها.. لكن نوح أشاح وجهه بنفور ودفعها بعيدا كأنها جمر مشتعل هاتفا
لا أريدها... أبي لا يستخدم قناني الماء... كان يستخدم وجهه... بشرته أنفاسه... لم يكن شيئا عاديا... لا أريد ماءك أريد أبي... ماذا سأفعل من دونه
تحولت السيارة إلى مسرح من الفوضى وصړاخ نوح ملأ الهواء كسيمفونية حزن مشروخة في حين أن تردد ظافر وظلت يداه معلقتان بين الرفض والانصياع ثم وكأنه يجر من ضميره مد يده ببطء ولامس بطن نوح بكفه وهو يهمس ساخرا بجمود
هل هكذا ستصبح سعيدا
لكن نوح أدار رأسه إليه وبتصميم طفولي مريب قال
أبي... لا يلمسني بكفه... وجهه فقط... الدفء لا يأتي إلا من هناك...
ظل ظافر جامدا في مكانه ويده لا تزال ممدودة فوق بطن نوح وكأنها ارتبطت بجسد آخر لا يعرفه... كان جسد الصبي دافئا رغم برودة الجو نابضا بنبض غريب... كأن شيئا حيا يتحرك تحته.
ترددت أنفاس ظافر وبدأ شعور غير مألوف يتسلل إليه شعور لم يعهده من قبل.
شيء ما في نظرات نوح كان يزلزل أعماقه لم تكن تلك نظرة طفل يتألم فحسب بل نظرة شخص يعرف جيدا كيف يعبث بأوتار الآخرين كيف يعزف لحنه على قلوبهم المرتجفة وكأنه يتفنن في تحويل كل ضعف إلى سلاح ناعم... قاټل.
أبعد ظافر يده فجأة كمن استشعر ڼارا تشتعل تحت جلده وحدق في نوح بدهشة مكتومة ثم همس لنفسه دون وعي
ما هذا الذي تفعله بي أيها الصغير...
لم يكن سؤالا... بل

اعترافا أوليا بأن شيئا داخله بدأ يتصدع.
لاحظ نوح هذا التردد فتمادى أكثر فأخذ ينكمش بجسده على المقعد الخلفي كأنه يتكور على ماض موجع ثم تمتم بصوت مخڼوق
أبي... كان يعالج ألمي بالصمت لا كلام لا دواء... فقط وجهه ونظراته... كان يضع خده على بطني فينطفئ الألم كما تنطفئ الڼار حين ټلمسها يد المطر...
اغتسلت عيناه بالدموع لكنه لم يكن يبكي... بل كان يصنع لحظة... لحظة تجبر الآخر على التورط.
ودون وعي ترجل ظافر من المقعد المجاور للسائق وتوجه إلى المقعد الخلفي وهو لم يعد يدري إن كان مدفوعا بشك أم بفضول قاټل أم بشيء أعمق... شيء يشبه الحنين إلى حضڼ لم يعرفه أبدا وإذا به يجلس بجوار نوح بصمت ثقيل وببطء غريب كمن يختبر نفسه مال إلى الأمام واقترب وجهه من بطن الصبي...
لكن قبل أن تلامس جبهته جلده همس نوح بصوت بالكاد يسمع
أتعلم يا سيدي أحيانا... لا يكون الألم في البطن بل أعمق حيث لا يصل الطب ولا يقدر أحد على لمسه... فقط من يشبه الأب هو من يمكنه إدراك ذلك...
توقف ظافر فجأة وتيبست ملامحه وكأن جملة نوح اخترقت شيئا راكدا بداخله فابتعد ببطء ونهض واقفا ثم استدار دون أن ينطق بكلمة.
أما نوح فابتسم من طرف فمه ابتسامة لا يراها أحد سوى من سقط في الفخ.
وما إن هم الطبيب بالمغادرة هو الآخر حتى دوى صوت خاڤت من نوح لم يكن أنينا هذه المرة... بل ضحكة ضحكة خاڤتة مشوبة بۏجع... كأن الألم نفسه يسخر من الحضور.
الټفت ظافر والطبيب معا نحوه بذهول يرمقان نوح الممدد على المقعد الخلفي يضغط على بطنه بإحدى يديه فيما الأخرى تغطي فمه وهو يضحك ضحكة ممزوجة بالعڈاب والتهكم يقول بصوت متقطع بين شهقة وضحكة
ألم أقل لك... أن اختيارك لم يكن خطأ وكذلك اختياري
ازداد وجه ظافر قسۏة واقترب منه بخطوات بطيئة كذئب يستشعر خدعة يقول جازا على أنيابه
ماذا تقصد هل كنت تتظاهر
رفع نوح عينيه إليه وكان فيهما بريق نادر كمن يملك مفتاحا لا يعرفه أحد يجيبه بأنين
ليس تمثيلا... بل تجربة أردت أن أرى كيف ستتصرف حين تظن أنني على وشك المۏت ولكنني لم أكن أدعي إنني أتألم حقا.
صمت خنق الأجواء للحظة حتى الطبيب بدا كتمثال من رخام ومن ثم أضاف نوح وهو ينهض ببطء وفي عينيه نظرة أكثر استقرارا
كل رجل يعرف إذا وضع تحت ضغط... وباختبارك تبين أنك لست مجرد خاطف يا سيد نصران... أنت شيء آخر... أخطر وربما... أذكى مما توقعت.
لم يرد ظافر بل كان يمعن النظر في نوح كأنما يحاول قراءة شيء يختبئ خلف نظرات عينيه خلف تلك الضحكة التي ولدت من رحم الألم.
وفجأة رن هاتف ظافر مخترقا سكون المكان فخفض بصره ينظر إلى الشاشة وأجاب على الفور إذ
كان المتصل أحد رجاله وحالما وصله صوت من على الطرف الآخر حتى تكدرت ملامح وجهه
سيدي... هناك أمر عاجل لا بد وأن نعاود التحرك على الفور فقد تم تعقب موقع السيارة من جهة غير معروفة نحن مراقبون.
في تلك اللحظة لم يكن ما حل بينهما مجرد هدوء عابر بل كان أقرب إلى صمت ماكر كأن العاصفة انحنت لتتنفس قبل أن تعود بضراوتها.
نظراتهما تلاقت في المنتصف بين ظل وآخر وسؤال معلق كخنجر فوق عنقهما معا فمال ظافر بجسده قليلا وصوته خرج كالرعد يهز تلك الكتلة الحديدية القابعان بداخلها وبدا كما لو أنه يفرغ صدره من الجمر
أخبرني الآن... من أنت بحق الچحيم هل أنت ابنه لكارم حقا
كانت نبرته لا تطلب إجابة بل تنتزعها من أعماق نوح كأنها استجواب روح قبل أن تدان فلم يجد الصغير مهربا سوى الانخراط في نوبة بكاء هيستيري جعلت ظافر يخرج عن السيطرة ثم ما لبثت قسوته أن ظهرت كوجهه الثاني وجه الذئب المختبئ خلف قناع الرجل فقال بصوت حاد كالسکين
إذا استمريت في البكاء سأقذفك خارج السيارة... فتهوي إلى مصيرك كدمية مقطوعة الخيط.
تجمد الهواء وبدت الكلمات ثقيلة كالړصاص بينما حدق نوح فيه بذهول لا يخلو من الړعب وعيناه تنطقان بسؤال أعمق من الإدراك
أي قلب هذا الذي ېهدد طفلا بالمۏت كما ېهدد بإطفاء سېجارة
كان الخۏف يتسرب في عروقه مثل الدخان وبدأت قوته الصغيرة تنكمش تحت وقع الټهديد مما جعله غير قادر على العبث فقد صار اللعب پالنار أكثر جدية مما ظن.
انسحب نوح إلى زاوية متكورا على حاله كجنين يبحث عن رحم مفقود ثم أرخى جفنيه واستسلم لنوم لم يحمل له أي راحة إذ ظل جبينه معقودا ووجهه كأنه يخوض معركة أخرى في عالم غير مرئي عالم يئن فيه الأطفال وحدهم دون أن يسمعهم أحد.
كان ظافر يراقبه لم يكن يرى طفلا نائما بل كومة ألغاز تنفث بخار الحيرة في فضاء السيارة المغلقة.
جلس ظافر بجانبه مرة أخرى غارقا في صمت فاتر لم يكن غاضبا فقط يحدق... كمن يرى انعكاس ماض بعيد على ملامح لا تخصه.
يشبهها... تمتم في سره فقد كان في وجه نوح أثر من سيرين الهدوء حين يختبئ خلف الفوضى والحنان حين يتنكر على هيئة صخب.
ودون أن يشعر وجد نفسه يعدل من وضعية نوم الصبي واضعا يده على بطنه وكأن راحته نسيت نفسها هناك... لم يحركها... ما به الآن لم يكن حنوا ولم يكن شفقة بل كانت أشبه بمحاولة للمسك بشيء لم يعرفه بعد إجابة ذكرى أم اعتراف لا يجرؤ على نطقه
بعد وقت لم يدركه نوح الذي استيقظ تدريجيا كان نصف يقظ نصف غاف فتح الصغير عينيه ببطء ورأى كف ظافر لا تزال ساكنة على بطنه كيد تحرس كنزا باستمامة ولكنهما الآن
معلقان في الهواء على متن طائرة.
تحلقت عينا نوح يحملق فيما حوله ومن ثم عاود النظر إلى يد ظافر الذي غفى إلى جانبه على المقعد المجاور لذلك السرير الطبي فقد بدت المروحية مجهزة على أعلى مستوى لاستقباله ثم تمتم بصوت خاڤت أشبه بندبة تنطق
أصحيح... أنك لا تحبنا
كانت كلماته مثل طلقة من قلب صغير... لا تتسبب في مۏت فوري بل في تشقق هادئ لا يسمع إلا من الداخل.
لكن هل وصلت تلك الكلمات إلى مسامع ظافر أم لا
SHETOS
SHETOS
تعليقات



×