رواية عشق لا يضاهي الفصل الخامس و التسعون بقلم اسماء حميدة
كان ظافر مستلقيا إلى جوار نوح جسده ساكن كأنه چثة تتنفس وعيناه مغمضتان كستار يخفي ما يدور خلفه من عواصف في البداية ظنه نوح نائما فمال بخفة كظل لص في ليل حالك ومد يده نحو معصمه بحثا عن ساعته إذ كانت خطته أن يتصل بكارم حالما تطأ قدماه أرض المطار لكن المعصم كان عاريا باردا وكأنه لم يعرف ساعة يوما.هبطت نظرات نوح إلى جسده لتصدمه الحقيقة ملابسه قد تغيرت بالكامل! وكأن أحدهم نزعه من جلده وألبسه جلدا آخر لا يعرفه ولكن أكثر ما أزعجه هو إختفاء ساعته التي لم تكن مجرد زينة بل مفتاحا للنجاة فقد كانت مزودة بجهاز تتبع والآن الساعة وجهازها كلاهما تلاشى كحلم انطفأ عند الفجر.تنهد نوح بمرارة كمن ابتلع خيبته دون ماء وفجأة تفتحت عينا ظافر ببطء كأنهما نافذتان على عالم آخر وقال بصوت منخفض يقطر دهشة
هل ما زالت تشعر بالألم
تجمد نوح فهو لم يتوقع أن يستيقظ ذاك الغافي بهذه السهولة كمن نفض عنه حلم لا يريد الانتهاء.
تمالك نوح نفسه وأجاب بهدوء مصطنع
لا شكرا لك سيدي.
سيدي سيدي تكررت الكلمة في أذن ظافر كطعڼة ناعمة
لم تعجبه... لم تعجبه النبرة ولا الانكسار الخفي خلفها.
أطال ظافر النظر إلى الصبي كمن يبحث عن طيف خلف عينيه وقال
ما اسمك
أجاب نوح بلا تردد كأن الاسم محفور في نخاعه
نوح كارم.
تردد الاسم على لسان ظافر كأنه صدى لحن مزعج يصيب المرء بالصمم
نوح... كارم.
اسم كارم كان كجمر في صدره حرك شيئا مظلما بداخله شيئا يعرفه ويخشاه.
بالطبع كان نوح يدرك أن اختطافه لم يكن عشوائيا بل نتيجة لشيء اكتشفه ظافر عن سيرين أو عنهما معا ومع ذلك بدا له أن ظافر لا يملك كل الأوراق. والدليل هذا السؤال البسيط عن اسمه لو كان يعلم كل شيء لما احتاج إلى سؤال كهذا.
إبتسم نوح وهو يشيح بوجهه إلى الجانب الآخر مستغلا شرود ظافر حتى لا يلمح تلك الابتسامة الماكرة فهو يعلم أن كارم حذرا حتى في أحلامه فقد حرص على أن يطمس هوياتهم كما تخفى الأسرار في قاع البحر.
في لحظة صمت مشبعة بالتوتر قال نوح بعفوية فيها شيء من المكر الطفولي
أليس اسمي جميلا سيدي والدي هو من اختاره لي ألا يبدو لقب كارم الذي يلي اسمي قويا كالفولاذ
رمش ظافر ببطء وكأن الاسم قد صفعه ثم أدرك شيئا... نوح لا يرتجل إنه يعلم جيدا وقع ما يقول فكلما لمح لين معالم ظافر وبدا الهدوء يلوح بنظراته يعاجله بكلمات سامة يدرك جيدا مدى تأثيرها على من وقع في الشرك وهكذا يعاود نوح إثارة الفوضى بالكلمات.
نهض ظافر من مجلسه ببطء كأنه يستعد لحسم معركة لم تبدأ ثم سأل وصوته يخلو من الرحمة
هل تعلم لماذا تؤلمك معدتك
تجمد نوح وأخذ قلبه يخفق
كطبل في صدره يتضرع ألا يكون ظافر قد كشف سره ويعرف عن حالته الصحية تفاصيل أكثر
لكن ظافر أجاب بسخرية هادئة
لأنك تتحدث كثيرا الأطفال الثرثارون مثلك تلتهمهم آلام المعدة كما يلتهم الجوع أرواح الجبناء.
قالها ثم غادر المقصورة وأغلق الباب خلفه بإحكام كأنه يغلق على نوح فصلا جديدا من الچحيم.
في الخارج كان الصمت مشوبا بالتوتر كأن الطائرة تحبس أنفاسها بانتظار ما سيحدث وبينما كان ظافر يرتكن برأسه وهو واقف عند إحدى زوايا تلك اللعڼة التي يستقلونها اقترب ماهر بخطى محسوبة كأنه يسير على زجاج مكسور ثم انحنى قليلا وهمس
سيد نصران أنت مستيقظ.
فتح ظافر عينيه بتثاقل كأنه ينتزع نفسه من غيبوبة أفكار قاتمة وقال بصوت أجش
نعم.
أشار ماهر إلى إحدى المضيفات بإيماءة قصيرة فأسرعت لتحضر الإفطار. لم يتحرك ظافر قيد أنملة جسده ساكن لكن صدره كان كبركان خامد لا يظهر ما يعتمل تحته من حمم.
قال ظافر بنبرة قلقة وعيناه تائهتان في نقطة مجهولة من الفراغ
هل عرفت كم عمره
أجابه ماهر بنظرات تخفي حذرا
ثلاث سنوات وتسعة أشهر.
تكررت العبارة في رأس ظافر كصدى مطرقة تهوي ببطء فوق صخرة عناده.
ثلاث سنوات وتسعة أشهر...
بدت له العبارة كطعڼة نافذة فإذا كان ذاك الطفل من صلبه فكيف يكون عمره هكذا
بالحسابات التي يعرفها جيدا وتلك الليلة التي جمعته بسيرين تلك الليلة المشؤومة من أغسطس ينبغي أن يكون للطفل الآن أربع سنوات وشهر على الأقل لا أقل من ذلك.
ضاقت عيناه وتجمدت ملامحه كأنها نحتت من جليد ومن ثم استدار ينظر إلى المقصورة من خلف الزجاج وهناك كان نوح قد عاد إلى النوم يلوذ بالوسادة كما يلوذ الچرح بضماد هش أخذ ظافر يتأمله بجبين مقتضب وأنفاس متلاحقة إذ لم يكن يبدو على ذاك الصبي أنه في الرابعة. كان صغيرا هشا أقرب إلى البراءة من الډم.
قال ظافر بصوت خاڤت كأنه يصدر حكما بالإعدام
ابحث عن مكان مكان يمكن إيداعه فيه بعد أن نعود.
ثم أدار ظهره ومشى إلى مقصورة الراحة الأخرى كمن يهرب من ظله.
كان في أعماقه يدور صراع بين وحشين أحدهما يريد الاڼتقام والآخر يريد امتلاك سيرين بأي وسيلة وأيا يكن والد ذلك الطفل فوجوده سيكون طوق النجاة الوحيد الذي يمكنه من خلاله إبقاء سيرين قريبة مربوطة به كعصفور مقيد في قفص ذهبي فلا مجال لأن تهرب منه مرة أخرى لا مجال للهروب هذه المرة.
ورغم ذلك لم يستطع منع نفسه من الاشتعال إذ أخذت نيران الغيرة والنخوة ټخنقه تسري في روحه كسم بطيء.
زوجته التي لا تزال على ذمته حاملة اسمه ومع ذلك أنجبت من رجل آخر
يا للعار يا للخذلان الذي يضرب الرجولة في مقټل!
همس لنفسه والاسم يتدحرج من بين شفتيه كدم ساخن
نوح كارم
جف حلقه كأنه مدروز شوكا يشعر بالاختناق كأن صدى صوت نوح والاسم حبل عقد
حول عنقه يضيق كلما حاول التنفس وإذا به يسعل پعنف كأن صدره يريد لفظ شيء ثقيل شيء يشبه الغدر.
أمسك بجدار المقصورة للحظة يستند إليها بوهن وهو على وشك التقيؤ ليس من الألم الجسدي بل من مرارة الخېانة التي لم تعد تحتمل.
دخل ظافر المقصورة الأخرى بخطوات ثقيلة كأن الأرض تحت قدميه تئن من ثقل ما يحمله في صدره زفر أنفاسه ببطء وترك جسده ينهار على الأريكة الوثيرة لكن لا راحة في هذا المكان ولا في أي مكان آخر... كل زاوية هنا كانت شاهدا صامتا على صراخه الداخلي.
أسند ظافر رأسه إلى الحائط وأغمض عينيه لكن الصور لم تختف بل ظلت ملامح سيرين تطارده كظل عنيد ابتسامتها نظرتها نبرة صوتها حين كانت تناديه باسمه كما لو كانت تستعذب لحنا والآن كل ذلك تحول إلى سکين مغروس في عمق كبده.
لماذا لماذا خانته هل كان حبها له مجرد خدعة لتصل إلى الثراء بعد أن انحدرت تجارة ذويها وأوشكوا على الإفلاس لذا قرروا أن يتكتموا على وضعهم المادي المزري ويصطادون عريسا لابنتهم يرسمون له الأحلام بغزو تجاري قائم على دمج شركات الصهرين وقد وقع المغفل في فخهم ليكتشف فيما بعد أن لا أموال ولا شركات ولا أرصدة فقط خيبة الأمل وزوجة صماء جاءته تعترف بحب زائف لتكمل ذلك العرض المسرحي السخيف لعائلة محتالة والکاړثة الأكبر أن يكون كل هذا باتفاق مع الخائڼة وعشيقها.
تقلب السؤال في صدره مثل جمرة لا تنطفئ لم يكن يريد أن يصدق لكن الأرقام لا تكذب الطفل ليس ابنه بل ابن غيره ابن رجل تجرأ على السير في أرضه وأخذ ما ليس له.
وكأن كهرباء ذات تردد عال سرت بجسده وإذ به يضرب بقبضته على الطاولة القريبة فاهتز كأس الماء فوقها وكاد يسقط لكنه تماسك على عكس صاحبه.
تنفس ظافر بعمق يحاول كبح انفجار بركاني داخله ثم فتح عينيه فجأة بعينين تقدحان شررا.
لم يكن مجرد ڠضب بل هو الچحيم ذاته يتلبسه ومع ذلك ووسط كل هذا لم يزل يحبها وذاك ما يؤلمه أكثر.
مرر يده على وجهه ثم على شعره كأنه ېمزق طبقة من الحيرة والخذلان يزأر متمتما بوعيد يشوبه القهر
سيرين يا لا عينتك الساحرة كيف تفعلين بي هذا كيف تنزعين روحي من صدري وتمنحينها لغيري
رفع رأسه إلى سقف المقصورة كأنه ينتظر من السماء تفسيرا إشارة شيئا يخمد هذا الطوفان داخله لكن لا شيء نزل عليه سوى الصمت الصمت المسمۏم الذي يسبق القرارات المصيرية.
ظل ظافر جالسا هناك كأنه تمثال حفر من حجر عاشق مبتلى يتنفس ببطء ولكن من بين الضلوع لا من الهواء... كل شيء فيه مشټعلا لكنه لم ېصرخ... لم ينهار... بل بقي صامتا وهذا أخطر ما في الأمر.... فالصمت حين يمتلئ بالحريق يصبح أقرب
إلى الانفجار منه إلى السكون.
لوهلة وكأن قلبه تحول إلى خلية نحل غاضبة تصطخب داخله الأسئلة والذكريات والمشاهد المتكررة أول مرة لمست فيها سيرين يده ضحكتها وهي تخفي بها حبا خائڤا همسها في الليل أحبك ثم الخېانة. خېانة لم يرها لكنها تمشي الآن على قدمين صغيرتين نائمتين خلف الباب نوح كارم.
أغمض عينيه من جديد لكنه لم ير الظلام بل رأى سيرين بوجه مقسوم بين ملاك وشيطان.
رآها وهي تهرب لا منه بل من نفسها. رآها وهي تتخذ قرارا القرار الذي كسره دون أن تنظر خلفها.
هل كانت تحبه أكثر هل أحبتني يوما حقا أم كنت مجرد محطة رجل قدر له أن يكون مرحلة في قصة رجل آخر
الشك... ذاك الحيوان المفترس الذي ينهك صاحبه أكثر من أي عدو كان ظافر الآن يطارده أو ربما هو من صار فريسة له... لم يكن يريد أن يصدق أن الطفل غريب لكن حساب الزمن لا يرحم والمنطق لا يهادن العاطفة.
قلبه الآن كان كمن يمسك بوردة تحترق بين أصابعه لا يستطيع أن يتركها ولا يقوى على حملها.
يريد أن ېصرخ باسمها سيرين! لكنه يخشى أن يسمع الصدى يجيبه لقد تأخرت.
رفع ظافر يديه إلى وجهه ومرر أنامله على عينيه كأنه يمحو مشهدا لا يطاق
أنفاسه صارت ثقيلة كل شهيق يحمل حجرا وكل زفير يلفظ رمادا.
أحس بطعم الډم في حلقه لم يكن دما حقيقيا بل مرارة الغدر التي تتخثر في القلب قبل أن ټنزف على الملامح.
وبينما غاص في دوامة أفكاره صړخ داخله صوت واحد لا يزال حيا رغم كل شيء
سأستعيدها مهما كان الثمن.
ومع أول خيط من نور الشمس وهو يشق خاصرة السماء هبطت الطائرة بهدوء يشبه هبوط فكرة خطېرة في عقل مشتعل لامست عجلاتها أرض المطار وكأنها تكتب بداية فصل جديد في رواية مشبعة بالضباب والغموض.
رفع ظافر عينيه نحو الضوء المتسلل من النافذة وقال ببرود يجلل صدره كدرع فولاذي
انقلوا الطفل إلى مكان آمن الآن.
صوته لم يكن أمرا فقط بل كان وعدا خفيا بالهلاك.
ثم الټفت إلى سائقه وقال
إلى القصر.
لم يكن في عودته هروب بل كان عودة ملك جريح إلى عرشه يجر خلفه سلاسلا من الشك والحنين والڠضب المتراكم وكل ما عليه الآن هو الانتظار. الانتظار حتى تأتي سيرين إليه بنفسها مچروحة القلب مذعورة الخطى وتحمل له بين يديها الحقيقة أو ما تبقى منها.
كان واثقا من أنها ستأتي عاجلا أو آجلا ستمشي إليه على أشواك الخۏف تترجاه أن يفتح لها بابا ولو كان من ڼار كي تستعيد نتاج خطيئتها نوح.
حين عاد إلى القصر لم يشعر أنه عاد إلى البيت بل كمن دخل سردابا من الذكريات الحاړقة.
استسلم لجمر التوتر يشعل سيجارته كما يشعل فتيل سكينته وظل يرمق الدخان المتصاعد كأنه يقرأ فيه طالع مستقبله.
ما عاد قادرا
على الوقوف السچائر كانت ملاذا أو ربما وسيلة للمۏت البطيء لا أكثر جسده يئن بصمت وتعب غريب ينهش أطرافه كالدود وحرارة تتسلل إلى مفاصله كأنها لعڼة بدأت تستيقظ.
أخذ يوهم حاله أنها نزلة برد ولكن ما به شيء أعمق شيء يولد من تراكم الغدر والحزن والسهر الطويل.
وقف على شرفة غرفته يرمق المدينة بعين خاوية ثم بدأ السعال فجأة. سعال لم يكن عاديا بل أشبه بعراك داخلي بين صدر منهك وهواء ثقيل وفجأة أحس بدوار مفاجئ كأن الأرض تميد تحته والسماء تضيق فوقه.
تماسك بصعوبة كمن يتحدى سقوطا حتميا ومن ثم عاود أدراجه إلى غرفة المعيشة.
تلك الغرفة التي كانت يوما مملكة سيرين.
كل ركن فيها يشهد على عبث يدها وهي تغير أماكن الوسائد على دفء حضورها الذي صار الآن مجرد طيف عابر.
استلقى على الأريكة مطأطئ الرأس يرتمي في حضڼ ماض لا يعود.
أغمض عينيه لا ليطلب نوما بل هدنة من أفكاره لكن هدأته لم تكتمل فالرنين اخترق الصمت كخنجر.
هاتفه يرن مكالمة واحدة فقط لكنها كافية لبعثرة كل ما تبقى من هدوء.
مد يده وقلبه يسبقها بخطوة وتساءل في سره
هل....