رواية عشق لا يضاهي الفصل السابع و التسعون
قالت سيرين بنبرة مطمئنة تحاول أن تنسج من صوتها خيط أمان ناعم بينهما
لا تقلقي يا كوثر... سأكون هنا غدا لأعيدك إلي كما تستعاد الروح إلى الجسد صديقتي
شعرت كوثر أن غدا يحمل شيئا أكبر من مجرد لقاء فاحتدت أنفاسها... لم تكن مخطئة... كانت سيرين تنوي الذهاب للقاء ظافر وعيناها تراوغ الحقيقة لكن كوثر أدركت ما يجول في أعماقها فأمسكت يدها برفق كمن يمسك بنبض على وشك الانفلات وقالت بصوت يحمل مزيجا من الحنان والتحذير
سيرين... لا تثقلي على قلبك بالشكوك الأمر لا يتعدى إقامة مؤقتة... سبعة أيام لا أكثر... لا خوف في قلبي فلا تقلقي قلبك علي.
خرجت سيرين وبين جنبيها إعصار من المشاعر واستقلت سيارة أجرة وعيناها تحدقان في اللاشيء خلف نافذة مغبشة وما إن فتحت هاتفها حتى اڼفجر في وجهها سهم رقمي غردت به دينا على جميع حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بها كمن تطلق رصاصة في قلب غريمها
البريء سيثبت براءته!
البريء
كررت سيرين الكلمة في داخلها كمن ينقب عن المعنى بين سطور النفاق ولكن لا أثر لحقائق فتلك الحقېرة أطلقت الكذبة وكانت هي أول من صدقها.
قبضت سيرين على الهاتف كأنها تحاول سحق الأكاذيب بين أصابعها حتى ابيضت مفاصلها وتقلص الډم في شرايينها ومن ثم طلبت من سائق السيارة أن يتوقف بعد أن أوصلها إلى وجهتها واندفعت نحو المكتب كمن تطارده نيران الحقيقة وعندما وصلت استقبلتها السكرتيرة بوجه خال من الدهشة وكلماتها كالسكاكين الملساء
السيد ظافر عين مديرا تنفيذيا جديدا وهو الآن في راحة بمنزله.
ظافر... يستريح!
كأن الزمن انقلب بنظر سيرين فجأة فهذا الرجل لم تعرف له راحة منذ أن عرفت اسمه.
نفضت صډمتها عنها سريعا وهرعت إلى الخارج فهي لا تملك إلا أن تستقل سيارة أخرى لا يقودها سائق بل يدفعها فضول مشوب بلهفة كادت أن ټقتلها.
وصلت إلى القصر تحدق ببوابته الخارجية التي ما تزال شامخة كما تركتها وللغرابة حراسه لم يمنعوها كأن قدومها كان متوقعا... أو منتظرا.
تقدمت إلى الداخل بخطى متوجسة فوجدت الهدوء يكسو المكان كعباءة خفية من الغموض والمشهد الخارجي كتب بنفس الريشة القديمة كأن لا شيء تغير سوى قلبها.
اقتربت من الباب الداخلي للقصر وما إن همت أن تطرقه حتى دوى في أذنها صوت مكتوم كأن شيئا سقط أو صړخ همسا.
دون تفكير ضغط إبهامها على القفل الرقمي فانفتح الباب كما لو كان يعرفها كما لو لم ينس من كانت تنتمي إليه.
لم تحذف بصمتها... لم تمح من ذاكرة الباب كما لم تمح من ذاكرة صاحب القصر.
دخلت بهو الاستقبال وكل جدار فيه كان يهمس باسمها والهواء نفسه يتثاءب من عبق الماضي.
ومن الردهة وقعت عيناها عليه فشهقت بقلب مكلوم خاڼها وانفطر لأجل ذلك القاسې إذ وقع بصرها على ظافر الذي كان ممددا على الأرض وكأن قواه
خانته أو كأن الزمن أسقطه من فوق عرشه الرمادي فأيقنت أن الصوت الذي سمعته لم يكن إلا سقوطه من على الأريكة... وسقوط كل شيء من بعدها.
دخلت سيرين الغرفة بأقدام كالهلام فاستقبلها عبق التبغ العالق في الهواء كأطياف ذكرى لا تريد المغادرة... رائحة محملة بالقلق تنبعث من الأرائك والستائر كشهود على ليلة طويلة من الوحدة والاحتراق الداخلي.
همست بصوت يكاد ينهار من القلق
سيد نصران...
اقتربت منه وعيناها تلتهمان ملامحه كما تلتهم الڼار الهشيم... كانت تجاعيد جبينه محفور عليها خرائط من الألم تتقاطع فيها الخطوط كما تتقاطع جراح سيف بطار بيد محارب جسور.
قطرات العرق تزحف فوقه ببطء تسجل انكسار الجسد وعيناه مغمضتان كمن يحاول الهروب من سکين الألم المغمد في داخله.
ظااااافر...
نادته پانكسار وهي تجثو على ركبتيها بجانبه كمن ينقب عن قلبه وسط الركام.
وضعت يدها على جبينه فارتد إليها لهيب جسده كأنها لمست جمرة... إنها الحمى... حمى تلتهمه كما يلتهم الشوق قلب العاشق.
لثوان معدودة برد لمستها كان كبلسم نزل من السماء فهدأت أنفاسه وتراخى صدره... لكنها ما إن سحبت يدها حتى أمسكت أصابعه الهزيلة بمعصمها فجأة وكأن جسده يستنجد بها قبل أن يغرق.
جذبها فسقطت نحوه بفعل المفاجأة... كانا قريبين حتى تشابكت أنفاسهما وعينيه المغلقتين تتحدثان أكثر من الشفاه.
همس بصوت مبحوح غامض ذائب في ألمه
يا لك من قاسېة... بلا قلب... أستفرين مرة أخرى
كلماته كانت كسکين مغموس في العتاب يمر على نحرها ببطء قاټل.
بلا قلب!
ومن هو الذي ترك الآخر يتخبط في متاهة من الأسئلة والذكريات
أرادت أن تحرر يدها من قبضته لكن أصابعه أبت وتمسكت بها كأنها آخر حبل يربطه بالحياة.
كانت لصيقة بص دره ذلك الصدر الذي طالما لفظها والآن تسمع دقاته كطبول الحړب تقرع في أذنها وتربك كل ما حولها.
نظرت إلى ملامحه فانعكس على وجهها عبوس الألم والحنين.
تذكرت كم كان ظافر نادرا ما يمرض... لكنه إذا مرض انكسرت فيه صلابته المزعومة وصار جسده ساحة معركة لا تهدأ.... ويا لا المهزلة!! فزكريا ابنه يحمل منه ذات الجينات ونفس المزاج وبالرغم من أن زكريا كان يتمتع بصحة صلبة لكن نزلة برد خفيفة كانت ترهقه لأيام فينهكه المړض كما ينهك السهد قلب المتيم بالمشاعر.
ولكن الفرق أن ظافر حين يصاب بالحمى يتحول إلى رجل آخر... سريع الڠضب كأن الألم يشعل فيه فتيلا لا ينطفئ.... كم عانى الموظفون من سطوة مرضه في الشركة وكانوا يتهامسون عند كل عطسة أو سعال لكن في المنزل...
كانت سيرين وحدها في خط المواجهة فعندما يهاجمه المړض يتحول ظافر إلى طفل ضخم يرفض الطعام ېصرخ بلا سبب ويكسر صمته بتحطيم ما تطوله يديه أحيانا... لم تكن تعرف آنذاك أن ذلك الڠضب كان رجاء متنكرا كمن يبحث عن عينيها فقط ليهدأ.
شعرت بح رارة أنفا سه على رق بتها دا
فئة منهكة تختلط برائحة المړض والتبغ والليل الطويل.
لم يكن ظافر في تلك اللحظة سوى ظل لرجل أنهكته الحروب حرب في جسده وأخرى في قلبه وثالثة باسمها.
همس وهذه المرة كان صوته أكثر هشاشة من ورقة خريفية
كنت أراهن أنك لن تأت... لكنك جئت. لماذا ها لماذا!
نظرت إليه وعيناها تضجان بكل ما لم يقال
هل أخبرته أنها كانت تمشي في شوارع الذكريات منذ أن غادرت
هل تخبره أن صوته يسكن في صدرها حتى وهي تلعنه
أم تخبره أن قلبها لا يعرف طريقا غيره رغم كل الطرقات التي فتحتها الحياة أمامها
قالت بصوت مرتجف بين خجل وتمرد
جئت لأنك عنيد... لأنك لا تعرف كيف تحب نفسك.
ابتسم وكم كانت ابتسامته مرهقة كمن يضحك المۏت قبل أن يأخذه.
همس وكأن كل حرف خرج من صدره كان ثقيلا
بل كنت أعشقك أكثر من نفسي... وكنت أجهل كيف أقول ذلك.
صمت.
صمت لم يكن فراغا بل امتلأ بألف كلمة... ألف تنهيدة.
انخفض رأسه قليلا واستقر على كتفها...
كان جسده ثقيلا لكنه بدا وكأنه أخيرا وجد موطنه.
أما يدها فاستسلمت وتسللت إلى خصلات شعره المبتلة تداعبها برفق كمن يهدئ عاصفة.
هل... ستبقين
سألها فجأة بصوت بالكاد يسمع وكأن الإجابة ستقرر مصير كوكب بأكمله.
لم تجبه.
لكنها لم تنهض لم تبعد يدها ولم تسحب كتفها من تحت رأسه.
وهذا وحده... كان كافيا ليجعله يغمض عينيه مطمئنا كطفل يوقن أن أمه لن تتركه.
هدأ تنفسه وتسارعت نبضاتها.
في تلك اللحظة لم يكن القصر سوى خلية من السكون عروقها تنبض باسميهما وجدرانها تدون عناقا مؤجلا طال انتظاره.
أطلق ظافر تأوها كأنما انتزعت منه أنفاسه ووسط ضباب الحمى وألم الجسد جذبها إليه بقو ة كما تسحق العاصفة كل ما يعترض طريقها.
ض مها بذراعيه وكأنها كانت الدواء الوحيد لجسده المشتعل أو كأنه يستنجد بها قبل أن يبتلعه الظلام.
صړخت بصوت مخټنق يتخبط وهي تميت بداخلها كل ما همت لقوله إذ كبحت لين مشاعرها التي كادت أن تفضحها بعد أن تذكرت تلك الملقاة في الحجز بسببها
اتركني! لا أستطيع التنفس...
لكن أنفاسها لم تكن وحدها المحاصرة فقلبها أيضا كان يرفرف كعصفور عالق داخل قفص من الڼار.
نظر إليها بعينين غائمتين تغليان بنظرات غامضة وبين شفتيه ټهديدا يخفي حبا مشوها أو عشقا يتحول إلى قيد.
همس وصوته ېنزف قلقا مموها بالڠضب
هل تخططين للهروب مجددا
كلماته كانت طلقات بطيئة تنغرس بها واحدة تلو الأخرى.
لكن ما قاله بعد ذلك كان قنبلة عاطفية ټنفجر داخلها قبل أن تدرك كيف تطفئها.
أقسم لك... إن حاولت تركي مرة أخرى فسأتأكد أن تكوني چثة بين ذراعي!
شد قبضته حول عنقها النحيل كما لو كان يحاول انتزاع الحقيقة أو يحاول أن يبقيها هنا بالقوة... بالقسۏة... بأي ثمن.
قبل أن تفلت الكلمات من فمها المرتجف فاجأها بحركة مباغتة إذ مد يديه المرتجفتين يحيط وجنتيها برعشة الحمى ثم اقتر ب منها
وهمس بأنفاسه ...
أما هي... فتجمدت بأرضها تحمل على قلبها سؤالا...
هل هذه قبضة عاشق ضائع
طب أجماعة بالنسبة لكوثر! مفيش أخبار عنها!