رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل التاسع 9 بقلم سلمي سمير


 رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل التاسع 

مرّ يومان كأنهما دهر من السواد،
غابت فيه روح عن الحياة، كما غابت الشمس عن نافذتها. كانت تتنفس فقط لأن جسدها لم ينسَ بعد كيف يتنفس، لكن قلبها… كان قد توقّف منذ أن سُلِب منها الأمان.

في نهاية اليوم الثاني، دلف بهاء إلى الغرفة،
بعينين مُتعَبَتين من السهر، وقلبٍ مشوش كأن كل الطرق تؤدي إلى الندم. رآها تزوي في ركن الفراش،
وجهها شاحب، شاحب كأن الحياة تخلّت عنه،
وعيناها…زائغتان، جافتان من الدموع، كأن البكاء صار حملًا إضافيًا لا تقدر عليه.

اقترب منها، وجذبها من ذراعها ليوقظها من غيبوبتها الصامتة، وصاح:
 إنتِ إيه اللي عملاه في نفسك ده؟ كان حصل ايه لكل ده، إنتِ مراتي يا روح…
مش هأنكر إنك  لسه صغيرة واتصدمتي، بس اللي حصل بينّا حلالي و شرع ربنا…

رفعت نظرها إليه ببطء، وابتسمت ابتسامة واهية…
ليست ابتسامة رضا، بل أقرب لانسحاب هادئ من كل شيء… احتار في صمتها واستسلامها خاف عليها  من الأكتىاب، إصابة  الارتباك لم يعرف ماذا يفعل بها،
فجأة حملها إلى الحمّام، وضعها في الحوض بلطف،
صاح بصوتٍ فيه من الوجع أكثر مما فيه من التأنيب:
يلا  خدي شاور يفوقك… بقالك يومين  وانت على حالتك دي! انا مش قادر أستوعب…
إزاي متحمّلة نفسك كده؟
اتحمّمي، وأنا هغير الملايات، وهجيب لك لبس نضيف…بس بالله عليكِ، فاهميني…اللي حصل ده… حصل ليه؟ وإزاي محسن عرف مكان وشومك…؟

لكن روح لم ترد،
أسندت رأسها على طرف الحوض كأنها تسندها على مقبرة قلبها… كأن صوتها دُفن هناك… وأي إجابة أصبحت غير ممكنة.
هزها بهاء في يأس، وقال بصوت مجروح ومرتعد:
 ارحميني يا روح… استسلامك للموت مش حل…
أنا مش حمل أفقدك بعد ما كسرتك بإيدي…
ثم من حقي أفهم… ده أبسط حقوقي كزوج… إزاي صاحبي كشف سترك وعرف مكان وشومك؟!

وابتسمت…نعم، ابتسمت، لكن كانت تلك الابتسامة أشبه بتهكم صامت علي قدر انسان سقط من علوّ، وعلم أن لا نجاة.
 أمام حالتها المربكة ضمها إلى صدره لعلّه يحتضن شيئًا من إنسانيته المهدورة،لكنها ارتجفت بشدة بين أحضانه كما لو كان يجلدها، فابتعد عنها مذهولًا من ألمها. فلم يعد يجرؤ حتى على ملامستها.

غسل جسدها بيديه، كمن يغسل ذنوبه في حقها، فبداخله يعلم أنها ظلمها وقضي عليها بغباء ورعونه،
 بعدما انتهي. حملها من الحوض، وأعادها إلى الغرفة،
أجلسها على فراش والدته، وبدّل ملاءات الفراش الآخر… ذلك الفراش الذي تلطّخ بدم طهارتها…

 ثم عاد إليها، ساعدها في ارتداء ثيابها،  اخذ المشط ومشط  شعرها الطويل بأصابع مرتجفة، يريد أن يعيد إليها شيئًا من الحياة… شيئًا من النقاء الذي نزعه عنها. حاول أن يضمها مجددًا لكي يتحوي يحزنها ويبث الامان في جسدها الواهن … لكنها ما ان لمسها ارتجفت  بشدة كما لو أنه يمزقها بسكين…
فآثر الصمت… ورحل للحظة.

عاد بعد دقائق وهو يحمل صينية عليها  العشاء.
جلس إلى جانبها، وقال بصوت ناعم، متماسك بالكاد:
 ممكن تاكلي… ولا تحبي أأكلك أنا بإيدي؟

هزّت رأسها نفيًا، دون حتى أن تنظر له،
فسأل بهاء بتعب داخلي:
 رافضة آكلك؟ ولا رافضة تاكلي أصلًا؟ ياريت توضحي علشان لو ناوية تموتي من الجوع…
أنا مش هسيبك تموتي مني. و ولو بالعافية، هأكلك.
 يعني هأكلك … المهم عندي تعيشي.

 طالعته بحيرة وتعجبت من  نظرته اليها التي  كادت  تنطق: 
 ارجوكي كلي وعيشي، لأن موتك… هو موتي."
لكنها لم تعد تسمع. كأن قلبها صار مكانًا مهجورًا لا تصله الكلمات. لا الطعام… ولا الندم… ولا حتى الحب، يصل إلى قلبٍ تمزق. بقسوة وعنف ،،،،،

عادت ورفعت عينيها إليه، دامعة النظرات، ثم انهارت في بكاء موجع خافت الصوت لكنه ثقيل الأثر.
زفر بهاء بضيق من بكائها المستمر، مدّ يده نحوها بالطبق، فأخذت منه الطعام في خضوع، وأكلت دون شهية كأنها تؤدي فرضًا لا رغبة فيه.
وحين شعرت بالشبع، دفعت يده برفق، ترفض أن تأخذ منه المزيد.

أخذ بهاء بقايا الطعام، وحملها إلى المطبخ، ثم عاد إليها وهو يقول بضيقٍ ظاهر:
على فكرة… بكرا عندي امتحان، ومش قادر أركز ولا أذاكر حرف وانتِ بالحالة دي. شكلي هشيل المادة وأخسر تفوقي!

ابتسمت نصف ابتسامة شاحبة، وقالت بصوت متهدّج:
 آسفة ليك… من بكرا هرجع لرعايتك ودعمك، بس دلوقتي… عايزة أنام، ممكن؟

هزّ رأسه بالموافقة وقال:
 مش مهم أنا… المهم إنك ترجعي لطبعك تاني.
ها، مش ناوية تفهميني حكاية مح…

توقّف عن الكلام حين رأى دموعها تتفجّر من جديد.
تأكّد في تلك اللحظة أنه لم يكن فقط ظالمًا… بل قاتلًا لروحها. كره نفسه، وكره يديه التي امتدت إليها ظلمًا، وبدأ الرعب يتسلل إلى قلبه… ويتساءل خوفًا
ماذا إن عادت والدته وأخوه وعرفا ما حدث؟
هل سيلومونها كما فعل هو؟
أما سيبصرون ما لم تره عيناه ويوثقه قلبها؟!

مرّ يومان، تغيّر خلالهما كل شيء. فقد غادرت روح فراشها لا لأنها شُفيت، بل لأن ما في قلبها مات.
تحركت كمن يؤدي دورًا لا يشعر به،
تهتم به، تطهو له، تجهّز له طلباته حتى يذاكر وينجح ويفرح قلب والدتها، رغم أن قلبها هي كان يُذبح كل يوم ألف مرة. وهي تتذكر امتهانه لها،،،،،

أما بهاء، فبدأ يتجنبها. لا لشيء سوى أنه لم يعد يحتمل ارتجافها كلما اقترب منها… كأن ظله صار سكينًا في عينيها.
********
 ظل علي هذا الوضع لا يتغير حتى أتى ذلك اليوم…
رن هاتفها، كانت المتصل  إيهاب، فتوترت أطرافها جميعها، تخشّى أن يأتيها صوت الموت من خلاله.
لكن صوته هذه المرة، حمل حياة. فقال لها بسعادة:
 روح، ماما خفت! وعايزة تكلمك، انا لسه مخلص ليها إجراءات السفر، هترجع مصر  عن قريب إن شاء الله.

شهقت، ثم بكت، بكت حتى أن من يراها يتخيل انها ذابت في دموعها من فرط الفرح. طلبت أن تحادثها، وحين سمعت صوتها، قالت والدموع تبلل وجهها:
 ماما… حبيبتي وحشتيني احمدك يارب، صوتك ردّ فيا الروح، ربنا ما يحرمني منك يا ست الكل…

ردّت عليها ابتسام بقوة ومرح لم يغب عنها:
 وحشتيني يا روح! طمنيني عليكي وعلى بهاء…
أوعي يكون زعلك،  خلاص يا قلبي كلها يومين وراجعة ليكم، ولو كان  زعلك… هقطّملك رقبته !!!!

ضحكت روح وسط الدموع،
كأن الحياة دبت في أوصالها من جديد، حادثتها دون أن تُشعرها بأي ألم أو حزن،
وواصلت الحديث معها حتى انتهى رصيد المكالمة.

جلست بعدها تبكي، لا وجعًا… بل امتنانًا. حينها عاد بهاء  من امتحانه الأخير، رآها تبكي فزعًا، تملك القلق منه حتى نطق بذعر:
 روح! مالك؟ حصل إيه؟ بتعيطي ليه؟ طمنيني… أوعي يكون اللي في بالي!

نهضت روح، وأسرعت نحوه، احتضنته بقوة تقبّله بجنون، وهتفت بفرح يكسر كل قيود الحزن:
 ماما  ماما خفّت خلاص ! وهترجع بعد يومين مصر!
الحمد لله يا رب، ماما هتنور حياتنا من تاني…

ركضت روح إليه تحت تأثير الفرح الطاغي، وهي تصيح:
 بهاء، أنا فرحانة أوي… أوي! يا الله، أنا بحبك أوي… أوي يا الله!

أخذت تقبّله بعفوية طفل فرح بلعبته بعد طول غياب، لكن قبلاتها المتتالية أيقظت فيه رجولته المكبوتة، وإثارة مشاعر ورغبته فيها، 
فردّ عليها بقبلة مشتعلة، ثم تعمّق فيها أكثر، فجأة حملها وأخذها إلى غرفته. 

لم تكن روح قد أدركت إلى أين أخذتها سعادتها،
لكن ما إن اقترب منها بهاء، ارتعد جسدها فجأة…
وأخذت تنتفض بشدة كأن الكهرباء سرت في عروقها.
تراجع بهاء عنها،  بجسد ملهوفً، وبصوت مرتعش قال  نادمًا: 
 آسف يا روح… آسف، أرجوكي اهدى، وحياة ماما عندك…اهدّي، أنا مش عارف جرالي إيه لما رجعتي لحضني. محستش بنفسي، اوعدك مش هتتكرر تاني

ثم صمت لحظة، قبل أن يهمس بصوت حاد:
 بس اسمعي… على كلامك ماما راجعة بعد بكره، 
مش عايزها تعرف حاجة عن اللي حصل بينا… مهما حصل، فاهمة؟ 
أنا حذرتك أهوه، لو فتّحتِ معاها الموضوع، الغلط كله هيبقى عليكِ… وانت حره هتجي علي دماغك؟

تقلّصت روح داخليًا من وقع كلماته، ونظرت إليه نظرة خاوية من النضال، فهو لم يرَ فيها سوى ذنب، رغم أنها كانت الضحية. 
فهو مازال علي سوء. ظنه بها لم يبرئها قلبه أبدًا، ولم تغفر لها عفّتها التي اغتالها بنفسه.......
******
مرّ أسبوع، وعادت ابتسام إلى بيتها، إلى أولادها.
احتضنت روح بشوق، لاحظت شحوب وجهها، لكن أرجعته لإرهاقها من إدارة للبيت في غيابها.

وحين أقبل الليل، ضمّتها إلى صدرها بحنان وسألتها:
يلا يا روح طمنيني، عملتِ إيه في غيابي؟ أخبارك إيه مع بهاء؟ العلاقة بينكما لسه أخوات، ولا ربنا هداها وبقيتي مراته؟

لم تستطع روح أن تجيب، صمتت طويلًا، ثم همست:
سيبك مني… أنا كويسة اهوه، المهم طمنيني عليكي.

بدأت ابتسام تحكي لها عن رحلة علاجها الطويلة،
عن خوف إيهاب واهتمامه، إلى أن غلبهما النعاس.

في الصباح التالي،
فتحت ابتسام حقائبها، وبدأت تُخرج الهدايا،
أخرجت ثياب نوم حريرية وقالت بضحكة دافئة:
بُصي الهدوم دي! جبتهم ليكي عشان تلبسيهم لعريسك، ونذر عليّا أعملك ليلة لله يوم دخلتك بإذن الله!  ها، إيه رأيك يا قلب أمك؟

لم تتمالك روح نفسها… امام أمنية امها الاي تبخرت فانهمرت دموعها فجأة، حاولت أن تداريها، لكن دون جدوى، فقلبها مازال يئن من الالم، لم تخدع ابتسام  في هروبها منها، فاسحبتها إلى صدرها، وسألتها بقلق:
 روح بنتي حبيتي ؟ مالك يا قلب امك؟ إيه اللي حصل؟ إيه القهرة اللي في عنيكي دي؟ طمنيني… حصلك حاجة؟ 

هزّت روح رأسها نفيًا، وحاولت أن تتماسك قائله:
 ماما أنا بخير… متقلقيش، بس… ندرك ملهوش لازمة خلاص…

انخفض صوتها، وارتبكت نظرتها. رفعت ابتسام وجهها بعطف وارتعاش:
 روح طمني قلبي قصدك ايه  بكلامك ده؟ هو بهاء دخل عليكي… وتمم جوازه منك؟ انطقي.

أومأت روح برأسها بالإيجاب، فانفرج وجه ابتسام بسعادة غامرة، ثم جذبتها إليها، وطبعت قبلة على جبينها وهي تهتف بفرحٍ غامر:
يا ألف نهار أبيض! يا فرحة قلبي! مبروك يا مرات ابني يا غالية… ده يوم سعدي النهاردة.

 لم تحتمل روح تلك السعادة الزائفه، فانفجرت في نوبة بكاء هستيري، ارتعد لها قلب ابتسام وسألتها بفزع:
 مالك يا روح؟ هو حصل إيه بالضبط؟ أوعي يكون غصبك… ودخل عليكي بالعافية؟ ده أنا هسود عيشته لو ده اللي حصل..الحياة بالرضا مش بالغصب.

زاد بكاء روح، ولم تعد تقدر على الكتمان أكثر…
فحكت لها كل ما جرى، بدموعٍ حرّى، عن ليلةٍ ما تمنتها، ولا اختارتها، عن إهانته، واتهامه، وخوفها من أن تبوح بما حدث منه ولازال. انتفضت ابتسام،
وثارت ثائرتها، وقالت بقسمٍ يهز الجدران:
 والله ما هسكت، لو ما جه واتأسف ليكي ورضاكي، ليكون آخر يوم له بينا هنا،،، هو اتجنن ابن خطاب
أم الكلب محسن ده أنا هربيه من جديد! ازاي يسكت على صاحبه اللي حاول يغتصبك؟ هو اتعمى؟
 لا كمان يجبرك ويهينك؟ أخص عليه… أخص على تربيتي فيه! 

حين رأت روح إصرارها علي عقابه توسلت إليها،
رجتها ألا تفضح أمرها، وقصت عليها عن تهديده لها إن هي أفشت السر، لكن ابتسام لم تكن لتسكت على إهانة كرامة ابنتها، فقررت مواجهته.
---

عاد بهاء منتصف النهار، مجهد ويشعر بالارتباك من مواجهة والدته، دلف الي الشقة ، وقبل أن يلتقط أنفاسه، انطلقت ابتسام في وجهه كالسيل:
إنت ازاي تعمل كده في روح يا بهاء؟ إزاي تهينها بالشكل ده؟ بقي دي تربيتي فيك 

لم تتوقع  ابتسام ردّه، فقد صدمها بجفاءه، وبقلبٍ ماتت فيه الرحمة:
 مين قالك إن حصل بينا حاجة؟ دي كذابة!
واحدة رخيصة بتغوي الرجالة… تتوقعي منها؟!

شهقت ابتسام بذهول ، اندفعت إليه، أمسكت برقبته،
صرخت فيه بنبرة غاضبة تهز الحيطان:
 اتقي الله يا غبي! روح دي مراتك، شرفها من شرفك!
إزاي تقول عليها كده وتسكت على اللي عمله صاحبك؟ فين نخوتك؟ فين رجولتك؟
دي مهما كان وليه،  وبنت حلال ......

ضحك بهاء ساخرًا، كأن قلبه مات، قائلًا ببرود شيطاني:
 هي مين دي اللي بنت حلال؟
فوقي يا ماما… دي ملهاش أب… يعني بنت حرام!
وانتِ وأخويا دبستوني فيها…بس خلاص، أنا هطهر نفسي منها.

صاح بهاء بأعلى صوته:
 روح…  أنت طالق! طالق! طالق!
 كده خلصت منها، وطهّرت نفسي من أوساخها.

شهقت ابتسام بذهول وصدمه ولطمت خدها وهتفت:
 ليه كده يا ابني حرام عليك ؟ ليه الظلم ده؟
حسبنا الله ونعم الوكيل فيك! يا مفتري عليك ربنا. كده تطلقها طيب كنت دخلت عليها ليه، ضيعتها منك لله 

قال بغلٍّ وسخط كأنه ينتقم منها لأفشاء سره:
قلتلك كذابة! أنا ملمستهاش!هي ضايعة، وفاجرة…
و لو علي صاحبي خد جزاءه، وأنا نظفت اسمي منها!
 بطلاقي ليها، خلصنا بقي...   

صفعته ابتسام على وجهه، وصاحت بعينين دامعتين:
 اتقي الله يا ظالم! حرام عليك… دي يتيمة، وملهاش حد ، هي دي وصية ربك: "فأمّا اليتيم فلا تَقهر"!
يرضى ربنا اللي بتقوله عنها ده؟

ثم نظرت إليه بعينين دامعتين وسألته بوجل:
 انطق! حق ربنا… دخلت عليها ولا لا؟

هدأت ثائرته شيئًا فشيئًا، وانحنى رأسه، كأن الحقيقة أثقلته، ثم قال بجمود متخشّب:
......

تعليقات