رواية علاقات سامة الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم سلوى فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل التاسع والعشرون



ذهب إلى عمله الجديد بكل نشاط وحيوية، نما داخله نبع طاقة متجدد، لقد قابل حب الطفولة والمراهقة وانتشله من ضياعه مهديًا له طوق النجاة، قرر العمل بنصيحة والده السابقة متذكرًا كلماته الناصحة «ما تسيبش الدنيا تسوقك للي هي عايزاه، لأ، أنت حدد اللي عايزه وأعمله مهما وقف قدامك صعوبات، أدام واثق إنه صح ويرضي ربنا، يبقي عافر وقاوم»، عاد من شروده مبتسمًا، وعزم على التحدث مع نيرة، النور الذي دخل حياته فأضاءها وزينها. 

انتظر متلهفًا انتهاء اليوم، ثمَّ ذهب إليها، قابلته ببسمة سعيدة، اشتاقت له وكأن سنوات البعد لم تكن، تمنت داخلها رؤيته والجلوس معه، جمعهم بالصغر حاجتهما للدفء الأسري، انشغل والديها بمهنتهما وجمع المال عنها، كما انشغل والديه بحياتهما وخلافاتهما عنه، منذ أن عاد لوالدته وقدمه مقيدة بالجبس وهي تشعر بمعاناته، كلما رأت حزنه بمقلتيه تبتسم بوجهه وتتقاسم معه الحلوى وتشاركه الحديث، وحين أصبح بسن المراهقة ابتعد وانزوى عنها وبكل لقاء عابر تبتسم الأعين وتتحدث بما صمت عنه اللسان، تتشابك أنظارهما وتتعانق، يهديها بثوانٍ موجزة حنان واهتمام عجز أبويها بثها إيَّاه، تدلف بعده منزلها ليقابلها الخواء، قصة مكررة مريرة، أسرة صغيرة من ثلاثة أفراد، يجتمعون بوقت العشاء يعلو صوت معانقة المعالق للأطباق وتخرس الألسنة، أو تنطلق بمبارزة وتباهي بما وصلا إليه من مكانة أحدهما أو كليهما، تفوقت مثلهما والتحقت بكلية الطب علَّهما يلاحظا وجودها، ولم تكن إلا بندًا للتباهي كل منها ينسبها لنفسه؛ فتملكها اليأس، وتنحت مبتعدة عن ساحة نزالهما، مُتَّخذة من الوحدة صديقة لها، زادت وحدتها بسفر حسن وابتعاده، مفتقدة حنان نظراته، قطع شرودها صوته الحنون: 
-    هتفضلي سرحانة كدة، طيب ممكن أقعد. 

تحدث وهو يجلس أمام مكتبها، فردت وتعلو وجهها بسمة عريضة: 
-     أعتقد أنك قعدت خلاص، وبعدين المكان مكانك طبعًا، وبقيت زميل ومرحب بك في أي وقت. 
-     عايز أكلمك في موضوع مهم قوي، قوي، والمكان هنا مش مناسب. 
- مش هقدر أخرج معاك يا حسن، أنت عارفني، مش بعمل حاجة أقلق منها. 

ابتسامة سعيدة ارتسمت على وجهه؛ فأثارت دهشتها: 
-     صح، أنتِ دايمًا صح يا نوري. 

سيطر الخجل على ملامحها واصطبغ وجهها بالحمرة؛ فاتسعت بسمته وتحدث بما زاد خجلها وضاعفه: 
-     كده كتير عليَّا هموت شهيد نيرة. 

تسارعت دقات قلبها ودوى صداها، اخفضت وجهها تحاول السيطرة على حالتها؛ رأف بها واسترسل مهديها دفعة حنان واحتواء: 
-     نيرة، بصراحة كده أنا بحبك وعايز اتجوزك، النهاردة قبل بكرة وامبارح قبل النهاردة. 

رفعت وجهها إليه مدهوشة متلهِّفة لتأكيد كلماته، ولم يبخل عليها: 
-     القدر جاملني مرة وشالك ليَّا وأبقى غبي لو ضيعتك أو راهنت على الوقت، ربنا رأف بحالي أعطاني فرصة تانية ولازم استغلها وألحق قبل ما تضيعي مني، أنا بحبك من زمان، بُعدي عنك زود حبي، كنت كل ما أفكر في الجواز اتخيلك، وكل ما أقابل واحدة، أدور عليكِ فيها، سألت نفسي في كل مرة ممكن تكوني ما ارتبطيش وأحبط، إنسانة جميلة زيك ومحترمة وكمان طبيبة متأكد أنها شاطرة، أكيد مليون واحد يتمنى تكوني مراته، لما قابلتك رغم الحزن والهم اللي كنت فيه، إلا إني ارتحت مجرد ما شوفتك، وكنتِ الأمل اللي نور حياتي، بعد ما كان فارقني واليأس ملاني.

التمعت عينها بدموع الفرحة، ما يلقيه على مسامعها معزوفة رقيقة أطربت قلبها، كم تمنت منه نظرة حانية! والآن يعترف بحبه منذ الصغر، ويناشدها للارتباط، أيرجوها أن تحقق أمنيتها؟! رغم ما يجيش بصدرها ومشاعرها التي تكنها له إلا أنها خائفة، تخشى أن تصبح حياتهما جافة وشكلية كحياة والديها، فقد كانا يومًا حبيبين، تحدثت وعَبَراتها تنساب باستحياء: 
-    أنا كمان يا حسن دورت عليك في كل اللي اتقدموا، دايما صورتك تفرض نفسها عليا، لكن أنا خايفة، خايفة قوي. 
-    مني؟!! 

أومأت نافية وسردت مخاوفها: 
-    مِن الوقت والأيام، من إننا نبقي صورة من بابا وماما، إن الحب يتحول لرتابة، إن بيتنا تيحول لساحة لعرض الانتصارات، خايفة نجيب ولاد تعيش في وحدة وجفاف، تشتاق للحظة دفا، خايفة ولادي يتهموني في يوم بالتقصير، خايفة حبي لك يتغير، خايفة أفشل. 

شعر بوخز بقلبه لحالتها والتيه الساكن أعماقها، لكن سعادته فاقت مشاعره السلبية وحلق بالسحاب لاعترافها بحبه، قرر اقْـتناص السعادة لقلبيهما من الحياة رغمًا؛ فرسم بسمة رضى واسعة وسحب حوارهما للجانب المشرق: 
-    بتحبيني بجد!! أوعدك نكون لبعض أسرة وعيلة بحالها، أكون حضن دافي لكِ ولأولادنا، أكون لكِ أب، أخ، زوج وحبيب، وواثق إنك هتكوني عيلتي، أسرتي، أمي، أختي، حبيبتي ودنيتي كلها. 
-     مش هتزهق مني! مش هيجي عليك وقت وتمل مني يا حسن، هاتحب ولادنا وترعاهم، مش هتتخلى عني أبدًا. 
-    أبدًا، أبدًا، وعد، كلمي مامتك وباباكِ حددي معاهم معاد أجي أتقدم لك، عارفة لما اشتريت شقة حاولت أفكر ممكن تحبيها ازاي، حتى لما فرشتها تخيلت أيه اللي ممكن يعجبك وجيبته. 

عادت لخجلها، بداخلها احساسين متناقضين، تكاد تطير فرحًا وبنفس اللحظة ترتعش خوفًا، سحبها حسن من دوامة افكارها وادهشتها كلماته وكأنه سكن داخلها: 
-    ما تقلقيش ولا تخافي، اللي يفتقد حاجة وهو مقدر أهميتها أكتر واحد ممكن يديها، أنا وأنت افتقدنا الأسرة، وعارفين أهميتها عشان كدة إن شاء الله ربنا هيقدرنا نكون أسرة كلها دفا، حب وحنان ثقي فيَّا، زي ما أنا واثق فيكِ، هاتي بقي رقم عمي عشان أكلمه. 

تبادلا نظرات باسمة، أملة بغد افضل.

عقل خُلق لصنع الألم يتغذى على معاناة الآخرين، يتوعد لطيف التي فرَّت منه قبل أن يسمح لها، يطوق لحرق قلبها؛ ليشعر بلذة الانتصار، أتم كافة أوراقه وأنهى تجهيزات السَّفر، وبزحمة أفكاره غفل عن ابنته التي حرمها والدتها بأفعاله الشَّيطانــية، ولا يتوانى الترديد على سمعها أن والدتها هجرتها راغبة عنها، استجاب له عقلها الصغير وطوع مشاعرها؛ فلم تعد تشعر سوى بتخلي والدتها، تتجسد أمامها صورتها وهي تغادر راحلة مِن حياتها، يتردد صدى صوتها بأذنها وهي تخبرها أنها ستمضي لتعود قوية؛ تنفرد بنفسها ليلًا لتبكي اشتياقها، وللعجب باتت كأمها كلَّما اشتاقت لها تدلف ملجأها (المطبخ) تتخذ ذات الوضعية تضم نفسها، تبكي مرار الفراق، تطوق ليد والدتها تربت عليها بحنان؛ فتذهب عنها وجع البعاد. 

أما سارة فما زالت تحــترق بنيــران الحِـقْد، سيطرت الأنـانيَّة على عقلها وتفكيرها، تبحث على طريقة لهدم حياة طيف ومؤنس التي لم تبدأ بعد، لا تتقبل فكرة أن يعيشا حياة ناجحة هنيَّة بالوقت الذي تعيش به وحيدة، فقدت والدها مصدر قوتها وأمانها، وبعده تسرب من بين أصابعها حياتها كلها، اتصلت بوالدة مؤنس تشكي لها وتنتحب، سمعت منها ما بثها بعض الرَّاحة: 
-     حقك عليَّا يا بنتي، أنا والله كلمته كتير ومش راضية أبدًا عن أفعاله سواء معاكِ أو مع جارته دي، حاول كتير يقنعني، لكن أنا مُصِرة على رأيي أكتر منه، حتى لو قاطعته باقي العمر. 

ظلَّت تفكر كيف تثأر لنفسها، لا يملك شهاب ما تريد، تبغى ند لمؤنس، شخص يريد الثأر والقصاص منه مثلها أو أكثر، بعد تفكير طويل تذكَّرته، هذا الضابط مَن يبغض مؤنس ويتمنى له السُّوء، يدرك أنه أقل قدرًا وكفاءة منه؛ لذا يلجأ لاستغلال مكانته ومعارفه لتعويض الفارق بينهما، لم يكترث به مؤنس يومًا ولم يهتم مما جعل الآخر يكن له كرهًا بُغْضًا: 
-    هو كمال، كان غايب عني فين؟ 

حددت هدفها وبدأت رحلة جمع المعلومات عنه، وبمكالمة لأحد معارفها وبتلفيق سبب يبدو مقنع وصلت لغايتها، ضابط وصولي، فشل زواجه للمرة الثانية، مثار حوله الكثير من الشائعات، يحاول عمل شبكة علاقات فشل بتقويتها حتى اللحظة، لم يكف عن إعلان منافسته لمؤنس رغم عمله بإدارة مختلفة، شعرت بالنصر فكمال سيكون يدها الضَّـاربة. 

يوم رائع لم تتخيله حتى بأحلامها، كادت تسقط بالهاوية فحملها على جناحيه وحلق بها في سماء السعادة والأمل، بالصباح مر عليها رامي وذهبا معًا للمشفى، ومع خطوتها الأولي داخل المشفى وجدت الجميع ينتظرونها ويهنئوها وبمقدمتهم أسامة، نثرت غادة عليها الورود، تبدلت حالتها من التوتر إلى السعادة، تنحى ذبولها وتوردت ملامحها ولمعت مقلتيها بسعادة مبتهجة، نظرت إلى رامي بشكر وامتنان وسعدت بالزينة البسيطة والزهور، عمَّت الفرحة الأرجاء حتى المرضى القريبين من جمعهم سعدوا من أجلها، واشْـتعل المنافقين حقدًا أكل قلوبهم، ونقل أعداء وسيم سعادتها له شامتين، استقبل رامي التهاني من الجميع ودعاهم لحفل زفافهما، سعد أسامة واطمئن أن الأمور سارت كما خطط مع رامي، ثم ذهب لعمله وهو  يشعر بالرضا لحل مشكلة شيماء يتمنى أن تتحسن صورته بعين مَن شغلت عقله وقلبه ويحاول تغير سوءته لعله ينول قبولها. 

مرت بضعة أيام، تشرق الشمس وتغرب، يرى البعض منها نور الشروق والبعض الآخر لا زال يتحسس طريقه في ضي الغروب الخافت وسمائه الملتهبة بما تبقى من ألسنة الشمس، تحسنت حالة طيف الصحية، استغنت عن الممرضة، شغل بالها ما ستفعله بالأيام القادمة، يجب عليها البحث عن عمل، تدرك صعوبة الأمر فقدم تقدم بها العمر ولا تملك أي خبرة تؤهلها بسوق العمل، كما بدأ المال الذي لا تعلم صاحبه ينفذ، غافلة عن مؤنس الذي يتابع أخبارها، يحرص على ألا تشعر به كي لا تلعب برأسها الظنون. 

بدأت رحلة البحث، تخرج يوميًا وتغيب لساعات طويلة، ثُمَّ تعود عابسة الوجه ومتهدلة الأكتاف، يتابع مؤنس أخبارها ولا يمل من السؤال عنها، سعد عندما وجدها كسرت قيودها محاولة الاندماج بالحياة، لكن حالتها عند العودة أثارت تعجبه، قرر سؤالها والإفصاح لها عن نواياه. 
عادت محبطة ككل يوم، الجميع يبحث عن خبرات، حتى العمل بالمكتبات والعيادات الخاصة وما شابه رُفضت به، هي أيضًا فوجئت بحالتها، تهـاب التعامل مع الآخرين، تتلعثم وتضيع الكلمات منها، كما يتملكها الخــوف من الخطأ، تأكدت من ضياعها منذ زمن، أصبحت مجرد شبح، جرس الباب أعادها مِن دوامة أفكارها، تحركت تفتح الباب بوهن، تفاجأت من وجوده، تموج داخلها مشاعر مختلطة بحضرته لا تعلم ماهيتها أو مسماها، أبرز هذه المشاعر وأوضحها الخجل، طال صمتها ولم يستطع قراءة تعابير وجهها الذي أخفضته من اللحظة الأولى كعادتها، فسألها بنبرته العميقة التي تصيبها بالقشعريرة والرَّهْـبة، كما تحمل قدرًا من الاهتمام تفتقده: 
-     ممكن أدخل، عايزك في موضوع مهم وضروري. 

عجزت عن تحديد ما يجب فعله وتملكتها الحيرة، أبسط الأشياء لم تعد تستطيع فعلها دون توجيه، لاحظ حيرتها، كما حاز انتباهه خفضها لرأسها وانحناء هامتها، يغَضَب ويثور منها وعليها، بالكاد يسيطر على انفعالاته؛ كي لا تزداد رهبة منه، تحدث بحزم حنون: 
-      مش محتاجة كل الوقت ده للتفكير، إحنا كبار بما فيه الكفاية، هتكلم في حاجات مهمة، والأهم من الكلام ارفعي راسك. 

حزمه زادها رهبة وجملته الأخيرة صابت قلبها بقشعريرة أربكتها؛ فرفعت عينيها بنظرة بدأت خاطفة، ثُمَّ طالت وتشابكت مع نظرته الحنونة والمحتوية، وكأنَّه يرشدها للطريق الصَّحيح، أفسحت له ليدلف، وسرعان ما عادت لحيرتها، أتغلق الباب أم تتركه؟! تنهَّـد بتعب؛ فالطَّريق معها طويل، أرشدها دون الزام: 
-    لو قلقانة خليه مفتوح، أوعدك لا هقول ولا أعمل حاجة تضايقك. 

تمكن منها الحرج، تشعر بضآلتها وضياعها، لم تعد تدرك كل البديهيات تحتاج لمن يرشدها كطفل صغير يتعلم كيف يتعامل مع العالم بمحيطه، طال وقوفهما واستمرت حيرتها، شعر بها يجوب بخاطرها؛ فسب شهاب داخله سباب لاذع، لم يتوقع أن تصدر عنه تلك الكلمات يومًا، تحرك يغلق الباب احتوى كفها بعناية وحنان ثم أجلسها وجلس مقابلها، سحب نفس عميق مردفًا: 
-     دايمًا أسأل عليكِ صاحبي، جارك اللي فوق عشان لو احتاجتِ حاجة، قالي أنك بتخرجي كل يوم وترجعي مضايقة، في حاجة حصلت لك! محتاجة حاجة؟ 
-      كُـ.. كُنت بدور على.. شغل. 
-      أنتِ عارفة أنه صعب، صح!  أنا ... 
-     انا هسيب الشقة لأني.. مش هقدر أدفع الإيجار، أنا.. لو.. لو ينفع أكمل الشهر 

تفرك أصابعها بتوتر وتتقطع كلماتها، ظنته يلمح لمبلغ الإيجار، عذرها ولم يبخل بالتوضيح لها: 
-      مش قصدي الشقة أو الإيجار، كلامي عن الشغل، تفتكري ممكن تلاقي شغل بسهولة؟ 
-      لقيت في محل.. صغير، مـ.. ملابس رجالي، بس... 
-      وتعرضي نفسك لمضايقات أشباه الرجال، متخيلة اللي ممكن يحصل لك! 

نبرته الغاضبة جعلتها ترتعش بوضوح، أخفضت رأسها حتى كادت تلصقها بالأرض، ارتِـعـادها وضغطها على شفتيها، جعله يدرك مقدار رعْــبها، فحاول توضيح سبب ضيقه: 
-      أنا خايف عليكِ، أنت بعدتي عن الناس من كتير، لازم تخافي على نفسك، وأسمحي لي أخاف عليكِ. 

بالرغم من نيَّته لعدم مصارحتها حاليًا إلا أن تصرفاتها دفعته لذلك، هي بالفعل فقدت مهارتها للتعامل مع مَن حولها: 
-       بصراحة شديدة أنا عايز اتجوزك، كل واحد فينا بقي حر، أنا طلقت مراتي طلاق نهائي وده كان مريح لها قبل ما يكون ليا، وأنت كمان حرة شهاب طلقك طلقة بائنة، هكون جنبك في كل الإجراءات وحقوقك المالية، هاجيب لك محامي يتفاوض معاهم، وهكون مسئول عنك لحد ما العدة تنتهي، وبعدها نتمم الجواز، بعد موافقتك إن شاء الله، هنسكن هنا أي حاجة عايزة تغيرها أو تشتريها موافق عليها مهما كانت. 

جفلت من قوله، رفعت رأسها مصدومة تطالعه بمقلتين متسعتين وشهقة مرتعبة، سيطر عليها التوتر وارتعشت أطرافها، عقلها يردد أتتزوج ليتحكم بها رجل آخر؟!، ماذا إن كان شهاب جديد؟! تهاب نبرته الحازمة، ترتبك لرؤياه ولا تعرف سبب حالتها. 
أوجعه رد فعلها وتخبطها، دوما تعانده الحياة وتقتص منه، بالرغم من ضيق صدره، إلا أنه تمالك نفسه وكتم ألمه، حاول بثها بعض الطمأنينة: 
-     عارف أنك لسه خارجة من تجربة سيئة استمرت سنين، أكيد خايفة تكرريها، أوعدك عمرك ما تندمي، هراعي ربنا وأكون لك سند، هاساعدك تشوفي بنتك، وده مش مشروط بموافقتك، لأني في كل الأحوال هكون جنبك ومعاكِ، أمنع عنك الضرر واساعدك في كل اللي تحتاجيه. 

أخذ نفس عميق يخفف ألم روحه: 
-      هشوف لك شغل مناسب غير اللي لقتيه. 
-      أنا.. أنا.. 
-      مش عايز رد دلوقتي، فكري على مهلك، ما تشليش هم الفلوس، أنا مش عايز إيجار، واسمحي لي أطمن عليكِ. 

أخفضت وجهها وهي تستمع لكلماته، رجفتها واضحة، أوامر شهاب تترد بأذنها تخشى الحركة أو الخطأ، حالتها وصمتها يطعناه مخلفان ألم غائر وحرج عميق، وضع على الطاولة هاتف حديث أردف محاولًا إخفاء إرهاق مشاعره واستنزافها: 
-     التليفون فيه خط خليه معاكِ، واسمحي لي أكلمك أطمن عليكِ، ولو احتاجتي أي حاجة أنا مسجل رقمي. 

غصة قوية اعتصرت فؤاده فنهض ليغادر، قربه منها يؤلمه ويدمي قلبه كالبعد ربما أكثر!!َ لا يعلم، وضع كفه على المقبض، فوجد لسانه يطمئنها أو يرجوها الرحمة: 
-     ما تخافيش مني يا طيف، ما تخافيش. 

رحل هاربًا من قرب يضغط على جراحه الحيَّة التي لم تندمل ويظن أنها لن تفعل. 
ظلت قابعة محلها ترتعش، كلماته زلزلت كيانها، تشعر باضطراب شديد، خوف ورهبة من كل ما يحيطها، بالكاد فرَّت من حياة استبدادية حالكة السواد، لم تتجاوزها بعد، تحلم بشهاب وأوامره وحتى عِـقَـابه، تستيقظ متألمة تشعر بآثار أصابعه، يتألم جَـسَـدها، وكلما دخلت الغرفة تسري بها رجفة خوف؛ فشهاب ترك لها تذكار قميء السوط الذي أدْمَـاها والْـهب جِيـدها، فالممرضة وضعته داخلها، وكلما رأته هيئ لها أنه سيتحرك يضربها. 

طال بها الوقت وهي على حالتها، حتى تمالكت نفسها أخيرًا ونهضت، انتبهت لحقيبة هدايا كبيرة يبدو أنها كانت معه ولم تنتبه، خطت إليها ببطء، فتحتها فارتسمت على وجهها بسمة ذابلة، حَوَت داخلها بعض الملابس، اخرجتهم تتأمل تفاصيلهم، طقم مريح للبيت وآخر للخروج ومعهما إسدال رقيق للصلاة، فصلها عن واقعها وأعاد إليها شعورها كامرأة، بل طفلة فرحة بملابس العيد أو هدية غير متوقعة، ابتسمت بإعجاب؛ فذوق الملابس رائع بسيط وراقي، ألوانه زاهية مبهجة، انمحت بسمتها وتساءل عقلها: لمَ يفعل هذا؟ انسابت دموعها مع ترديد عقلها لكلماته عن ابنتها، كم اشتاقت لها! ثلاثة أسابيع مروا دون أن تراها أو تضمها، ودَّت مهاتفته لتسأله كيف يمكنه مساعدتها؟ لكنها ما زالت مقيدة بموانع وحواجز تحجبها عن العالم، ترى جميع أفعالها أخطاء شنيعة تستحق العِـقَـاب، كل حركة تقوم بها يترجمها عقلها لعِـقَـاب، ممن؟ ولمَ؟ دون جواب، انهارت جالسة موضع قدمها انسابت دموعها وفاضت بسخاء، ايقنت أنها أصبحت بقايا إنسان. 
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1