رواية ابتليت بها الفصل العاشر 10 بقلم قطر الندي

 

رواية ابتليت بها الفصل العاشر بقلم قطر الندي



مرت الساعات كالزحام على جرح غض، ثقيلة بوقت يتعمد الإبطاء، كأنه يعاقب حنين على وقوفها في ذلك المكان الخطأ، في تلك اللحظة الخطأ. منذ غادر فؤاد القصر وهو يتبع الحارس الذي يحمل ليلى بين ذراعيه، كأنه يحمل انفجارًا قابلًا للاشتعال، لم يعد هناك سكينة. ارتبك الخدم، وتسلل التوتر كدخان خفي في أرجاء القصر، ولكن لم يكن شيء يضاهي تلك الغصة التي تتمدد في صدرها، تحكم قبضتها على أنفاسها كخنجر خفي.  
جلست في الصالون وحيدة، أصابعها تلعب بطرف ثوبها كعادة من يحاول إقناع نفسه بالسلامة، وعيناها تراقبان الباب بشغف، كأنها تستجده أن يتحرك، أن يرد إليها نفسها المحبوس. لم تكن قلقة على نفسها، ولا على ما قد يقال عنها بعد اليوم… كل القلق كان على تلك المرأة، وعلى الجنين الذي قد يكون قد تأذى بالسقوط. رغم كل ما فعلته ليلى، رغم الألم الذي تسببت فيه، لم تستطع حنين أن تتمنى لها الشر. بل خشيت أن يكون القدر قد بارك خطواتها بعقاب أشد.  
"يا رب… احفظها، حتى لو كانت قاسية…" همست بصوت يكاد يذوب في الهواء، وضمت يديها في حجرها كأنها ترصد صلاتها بين السماء والأرض.  
وأما الأسئلة، فكانت تقضم عقلها كفئران جائع:  
هل صدق فؤاد ما رأى؟  
هل سيعود ليحكم عليها بإثم لم ترده؟  
أم أنه يعرف — في أعماقه — أن ما حدث لم يكن سوى ظل مشوه للحقيقة؟ 
ما سر هذا الحمل؟ لماذا لا أحد يعرف به؟ 
وقفت فجأة، بدأت تمشي ذهابًا وإيابًا، كأنها تحاول هز التوتر من أطرافها. ولكن كلما عادت إلى ذهنها نظرة فؤاد لها قبل أن يغادر، تلك النظرة التي أومأ فيها بـ "اصمتي" دون كلمات، شعرت كأن الأرض تميد بها.  
لقد نظر إليها بعينين خاليتين من القسوة… ولكن أيضًا دون فهم. تلك النظرة الغامضة علقت في ذاكرتها أشد من أي كلمة اتهام.  
ثم… توقفت فجأة. التفتت نحو الباب بحدة.  
هل سمعت خطوات؟  
هل عاد؟  
أم أنه لن يعود البتة؟  
رفعت يدها إلى صدرها، حيث القلب يخفق كطائر مذعور يحاول الهرب من قفص الضلع. كانت مستعدة لكل احتمال… حتى لأسوأه.

التهم الليل آخر أنفاسه حين سُمع أخيرًا صوت محرك السيارة يقترب من بوابة القصر.
حنين، التي كانت قد غرقت منذ ساعات في صمت طويل على الكنبة ذاتها، نهضت دفعة واحدة. قلبها كاد يقفز من مكانه، وجلست ثانيةً ثم نهضت مجددًا — لا تعرف ماذا تفعل بقلقها ولا بجسدها المتوتر.
دقائق مرت قبل أن يُفتح الباب بهدوء، ودخل فؤاد…كان التعب محفورًا في ملامحه. قميصه مجعَّد، ربطة عنقه ملفوفة بعشوائية حول يده، وعيناه تائهتان خلف سحابة شرود ثقيل. لكنه رغم ذلك، لمحها واقفة وسط البهو، تنتظره.
توقف لحظة، رمقها بنظرة قصيرة، ربما امتزج فيها شيء من الاستغراب. لم يتوقع رؤيتها بعد كل هذا الوقت.
– "ما زلتِ مستيقظة؟" سأل بصوت خفيض، جاف بعض الشيء.
اقتربت منه بوجل، كلماتها تسبق أنفاسها:
– "كيف هي؟ السيدة ليلى… هل…؟"
لم يجب مباشرة. أدار وجهه إلى الجانب، تنهد، ثم تمتم وكأنما يمرر الجملة كواجب لا أكثر:"فقدت الجنين."
خفق قلب حنين بشدة، شهقت رغماً عنها، ارتدت خطوة إلى الوراء، ووضعت يدها على صدرها كأنها تلجمه: "يا إلهي… لا… لا أصدق…"

أرادت أن تسأله أكثر، أن تفهم، أن تتأكد… لكن ردّة فعله أربكتها.
فؤاد لم يكن غاضبًا، ولم يكن حزينًا أيضًا. بل بدا كأنه يتحدث عن خبر عابر، حادثة عابرة في نهار مزدحم. رفعت عينيها نحوه، تمعن في ملامحه، تبحث عن شرارة حزن، دمعة خفية، حتى نفَس يرتجف… لكن لا شيء.مجرد برود ثقيل، ونظرات باهتة.
قال بفتور: "الأطباء قالوا إنها بخير، جسديًا على الأقل. سترتاح لبضعة أيام."
سكت، ثم أضاف وهو يتجه إلى السلم دون أن ينتظر تعليقًا:
"تصبحين على خير، اذهبي للنوم فعملك يحتاج إلى التركيز."
راقبته وهو يصعد، خطواته مرهقة لكن ثابتة، وقلبها يُحاصر بأسئلة لا تجد لها إجابات.
هل كان هذا حزن؟ أم شيء آخر لا تقدر على تسميته؟
ولماذا شعرت فجأة، أن ما لم يُقل في تلك الليلة… كان أكبر بكثير مما قيل؟
🪻🪻🪻

يوم جديد، مزدحم بالأرقام و التقارير، في الشركة الأم، أين السلطة الأولى للذكاء و المال، كانت القاعة الزجاجية في الطابق العلوي تعج بالحركة، تتناثر فيها الملفات والشاشات اللامعة، بينما كان الموظفون يجرون خلفهم خيوط التوتر كظلال طويلة تلاحقهم. هذا اليوم حاسماً.  
اجتماع مفصلي مع ممثلي شركة أوروبية عنيدة، صفقة شائكة طالما تملص منها الطرف الآخر ببراعة. والجميع كان يتوقع أن يتقدم فؤاد كالعادة ليقود المفاوضات... لكنه هذه المرة ألقى بالمهمة في حضن...... اليافعة حنين.  
دون مقدمات، جلس في نهاية الطاولة يتابع بعيون حادة كالصقر، يراقب بصمت، بينما تقدمت هي إلى الواجهة بثقة خجولة لكنها متقدة تحت السطح.  
بدأ حديثها متماسكاً، ذكاؤها لامعاً، وتكتيكها المحكم أجبر الطرف الآخر على تقديم تنازلات لم يتوقع أحد انتزاعها منهم. لم تهاجم حنين، بل تدفقت كالماء العذب... ناعمة وقوية في آن، لا تترك لهم مجالاً للمراوغة، تلميذة ناجحة لمعلم حذق يعرف كيف تدار الأفكار.  
مع انتهاء الاجتماع وتوقيع الاتفاق النهائي، ارتفع تصفيق خافت في القاعة مع عبارات الإشادة من البعض. ثم التفتت نحو فؤاد، وعيناه تحملان تلك النظرة النادرة - نظرة فخر صامت لا تحتاج إلى كلمات. اكتفى بإيماءة صغيرة... لكنها قالت كل شيء.  
"أحسنتِ."
كلمة واحدة، ألقاها في نهاية الممر بعد الاجتماع. لم تلتفت، لكنها سمعتها بكل كيانها. وابتسمت.  
*** 

أما ديلارا التي كانت تراقب المشهد من خلف الزجاج المظلل، فقد كان قلبها يتقلص غيظاً.  
كيف تحولت تلك الفتاة المطيعة إلى منافسة شرسة؟  
وكيف سمح فؤاد لنفسه بإظهار هذا الفخر العلني بها.... لو كان مراد ما سمح لها بالاقتراب من مجال سلطته قيد أنملة؟  
والأهم... لماذا توقف عن إشراكها هي في الاجتماعات المهمة كما كان يفعل دائماً؟ هل يتم استبدالها عن طريق تطوير تلك الساذجة؟
تكدست هذه الأسئلة في رأسها فوق قلق آخر كان ينخرها من الداخل - ليلى.  
ليلى التي اختفت فجأة، دون أي اتصال. هاتفها مغلق، وعنوانها الخارجي لم يعد صالحاً. حتى القصر رفض إعطاءها أي معلومات عنها.  
كانت تعلم أن هناك شيئاً ما يجري في الخفاء... وأن فؤاد يخبئه عنها عمداً. لكن لماذا؟ ومتى تحولت الموازين بهذا الشكل؟  
أمسكت هاتفها بعصبية وحاولت الاتصال برقم ليلى للمرة السادسة في ذلك اليوم... لكن دون جدوى.  
ضغطت على الشاشة بقوة حتى انطفأت، ثم رفعت نظرها نحو صورة حنين على شاشة مراقبة القاعة:  
"أيتها... الصغيرة... لن تدوم فرحتك طويلاً."  
همست الكلمات بصوت خافت، لكن عينيها كانتا تشتعلان بنار خبيثة.

في شقتها مساءا، جلست ديلارا أمام مرآة الزينة، تمسح آثار النهار من وجهها بحركات مدروسة، ليست كتلك التي تفعلها النساء منهكات بعد يوم عمل... بل بحذر صياد يعد عدته.  
كل شيء بدأ يتغير. فؤاد لم يعد الرجل السهل الذي تعرفه.  
حنين تجاوزت دور الموظفة المطيعة.  
أما ليلى... تلك الغبية، فقد اختفت في اللحظة الأكثر سوءًا، تاركة إياها وحيدة في منتصف الطريق. 
أغلقت المرآة الصغيرة بضربة خفيفة، وأدارت كرسيها نحو النافذة الشاسعة. أضواء المدينة تومض في الأسفل كأنها تسخر منها.  
"أنا من ضحيت لسنوات حتى أصل إلى رأس الهرم لدى ال طوروس لكن القدر كان ضدي... لا بأس الثنائي توأم فإن لم أحصل على الأول فلا بأس بالثاني."  
توقفت برهة، ثم نهضت بسرعة والتقطت هاتفها. مررت بأصابعها على قائمة الاتصالات حتى وجدت الاسم الذي تريده:  
"لارا – باريس"  
انطلقت النغمة... مرة، مرتين، ثم:  
"أهلاً بعودتكِ، يا سيدتي"  
"السيدة تطلب خدمة... مدفوعة مسبقًا هذه المرة."  
"كل أذني لكِ، ديلارا."  
"أريد فتاة. ليست كأي فتاة. جمال قاتل، فطنة، ذكاء، قادرة على إسقاط رجل مثل فؤاد طوروس بلمسة إصبع."  
"هذا تخصصي المفضل. المزيد من التفاصيل؟"  
"ستحصل على دعوة عمل رسمية. سنقدمها كخبيرة علاقات دولية... لكن مهمتها الحقيقية هي سرقة قلبه وتحطيم اللعبة من الداخل."  
سكتت لارا قليلاً... ثم انفجرت بضحكة مكتومة:  
"كم أحب ألعابك الدقيقة. سأرسل لكِ أفعوانية بملامح ملاك."   
أنهت ديلارا الإتصال الهاتفي، أمسكت بهاتفها مرة أخرى. فتحت صورة لحنين على الشاشة، حدقت فيها طويلاً كما لو كانت تحاول اختراقها بنظراتها، ثم همست بكلمات تكاد تتطاير شررًا: "استعدي يا عزيزتي... فالمعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، التخلص منك صار خطوة لابد منها." 
🪻🪻🪻

 بعد أسبوع، شركة طوروس _ الطابق العلوي صباحا، كان الاجتماع قد بدأ للتو عندما انفتح الباب بهدوء، لتدخل شابة غريبة الوجه. لم يحمل أحدٌ ذكرها من قبل. لا ملفات بين يديها، ولا أجهزة لوحية، فقط حقيبة يد أنيقة وابتسامة غامضة تعلو شفتيها.  
"أعتذر عن المقاطعة، لكني سمعت أن الاجتماع تأخر قليلاً."  
رفعت عينيها مباشرة نحو فؤاد، بنظرة تعرف الطريق إليه وكأنهما تقابلا من قبل. لكن ملامحها لم تكن مألوفة. تطايرت النظرات الحائرة بين الحضور، قبل أن تتدخل ديلارا بسرعة:  
"هذه رُبى كارادين، خبيرة العلاقات الدولية والاستثمارات الأجنبية. ستكون ممثلة مكتبنا في الشراكات القادمة."  
ارتسمت على شفتي فؤاد ابتسامة خافتة، أشار بإصبعه نحو كرسي شاغر: "أهلاً بكِ. تفضلي."  
جلست بانسيابية، رافعة ساقاً فوق الأخرى، ووضعت حقيبتها جانباً بترفّع. ثم اندمجت في النقاش وكأنها جزء لا يتجزأ من الفريق منذ سنوات. لكن فؤاد لم يفته ذلك التوتر الخفي في صوت ديلارا، ولا ذلك التأنق المُفرط في مظهر رُبى. امرأة لا توارب جمالها... بل تصقله سلاحاً. 
عندما انفضّ الاجتماع، تفرّق الجميع إلا فؤاد الذي بقي واقفاً قرب النافذة، عيناه مثبتتان على نقطة بعيدة في الأفق.  
"هل يمكنني التحدث معك لحظة؟" اقتربت رُبى خطوة، صوتها كحرير.  
"بالطبع." أجاب دون أن يلتفت.  
"كنت أتمنى أن يكون لقاؤنا الأول أقل رسمية، فنحن لدينا معرفة سابقة."  
"أنا أفضل الرسميات أثناء العمل و تجنبا لسوء الفهم."  
"سوء الفهم؟" ضحكت بخفة. "أوه، هل تخشى أن تسيء فهمي؟"  
"أنا لا أسئ الفهم، يا آنسة رُبى. أراقب، أحلّل... ثم أقرر ما إذا كنت أرغب في مواصلة الحوار أم لا."  
همّت بالانصراف، لكن كلماته أوقفتها: "أخبرني أخي عن محاولة الإيقاع به في باريس السنة الماضية لذا لا تحاولي تكرار اللعبة معي لأنك ستخسرين هذه المرة أيضا."  
التفتت عند الباب، وألقت بنظرة أخيرة تحمل ألف رسالة: "أليست الألعاب الذكية هي ما يجعل الحياة مثيرة؟"  
ثم اختفت خلف الباب. 
لم يبتسم فؤاد. فقط أدار كرسيه ببطء، جلس، وفتح حاسوبه. في عقله، كانت الأحجار تتحرك على رقعة الشطرنج... لكنه هذه المرة لم يكن مجرد لاعب. بل كان يعرف تماماً من حرّك تلك الأحجار أولاً. 

بعد الظهيرة كانت حنين منهمكة في مراجعة مستندات الصفقة الأخيرة حين دوى رنين الهاتف الداخلي. تجاهلته في البداية، لكنها التقطت السماعة أخيراً: 
"نعم؟... عفوا هل هذا أنت سيد فؤاد "  
"تجهزي لعشاء عمل الليلة."  
صوته كان كالحديد البارد، لكن مع حدة غير معتادة.  
"أنا؟"  
"نعم أنت. خلال ساعة. استعدي لذلك."  
"هل هناك تفاصيل يجب أن أعرفها؟"  
"ستفهمين كل شيء عند وصولك."  
انقطع الخط فجأة، كعادته في إنهاء الأحاديث قبل أن تبدأ.  
وضعت السماعة ببطء. لم تكن هذه المرة الأولى التي يدفعها فيها إلى موقف مفاجئ، لكن هناك شيئاً مختلفاً هذه المرة... لا تحضيرات مسبقة، لا جداول، لا تلميحات. حتى نبرة صوته حملت شيئاً غريباً – هل كان تحدياً؟ أم اختباراً؟ 

في مدخل مطعم فاخر، وصلت في الوقت المحدد بفستان أسود بسيط، تحاول إخفاء ارتباكها خلف ابتسامة مهنية. لكن ما رأته جعل قلبها يتوقف للحظة...  
فؤاد لم يكن ينتظرها عند المدخل كما توقعت. بل كان جالساً بالفعل على طاولة في الداخل... برفقة مجموعة من الأفراد بينهم امرأة آسرة بملامح دقيقة وشعر أشقر ينساب كالحرير. كانت تميل نحوه بثقة، بينما يبدو هو مستمعاً بانتباه.  
أخذت نفساً عميقاً وتقدمت. 
🪻🪻🪻
"مساء الخير."  
رفع فؤاد عينيه نحوها، وفي لمحتها رأت شيئاً غريباً في نظراته – لم يكن انزعاجاً، بل شيئاً أشبه بالارتياح. "أنتِ في الموعد تماماً." ثم أدار وجهه نحو المرأة التي تجاوره: "رُبى، هذه حنين، عقلنا الاستراتيجي في قسم العمليات."  
نهضت رُبى بسلاسة، مدّت يدها بمزيج من الأناقة والثقة: "لقد سمعت الكثير عنكِ."  
"آمل أن تكون الأخبار جيدة." ردت حنين بابتسامة دافئة، بينما جلست في الكرسي الفارغ مقابل فؤاد – كرسي بدا وكأنه خُصص لها منذ البداية.  
العشاء تدفق ببطء، كالنهر الهادئ الذي يخفي تيارات خطرة تحت سطحه. المجاملات المتبادلة، النظرات العابرة، الابتسامات المدروسة... كل شيء كان جزءاً من أداء معقد.  
حنين كانت تحاول جاهدة فهم دورها في هذا المشهد. أما فؤاد، فكان يراقب الجميع بعينين لا تخطئان شيئاً...  
اللعبة كانت قد بدأت بالفعل. لكن ما لم يدركه أحد حول تلك الطاولة، هو أن القواعد قد تغيرت... وأن فؤاد لم يكن مجرد لاعب هذه المرة، بل كان أيضاً من صمم رقعة الشطرنج بأكمله.  
الأنوار خافتة، الأطباق تُبدّل بهدوء، والنادل يسكب العصير في الكؤوس البلورية، بينما تُلقي رُبى بنكات ذكية بين الحين والآخر، تميل بجسدها نحو فؤاد كلما تحدّث، تضحك بخفوت، وتُقاطع حديثه بلمسات صغيرة لا تخطئها العين.
حنين كانت جالسة قبالتها، تُحاول التركيز على المحادثة، رغم شعورها بأنها حاضرة وغير مرئية في الوقت ذاته.
جلستها مستقيمة، ويدها على المنديل في حجرها، لا تعرف أين تنظر بالضبط. حتى بدأت تشعر بشيء مريب.

في البدء، ظنّت أن الأمر صدفة. ارتطام خفيف من تحت الطاولة عند قدمها، ثم تكرر، ثم… لم يعد عفوياً. ارتعش كتفها، ورفعت عينيها بحدة دون أن تلتفت. تنفّست بعمق، أبعدت قدمها إلى الخلف، لكن الحركة عادت من جديد، أقرب هذه المرة، وضاغطة.
كادت تسحب جسدها للخلف حين سمعت همسة الرجل الذي بجانبها، أحد الحضور من شركاء رُبى: "عذرًا… يبدو أنكِ أسقطتِ شيئًا."
قالها بنبرة ملساء، بينما انحنى قليلًا كمن يلتقط شيئًا وهميًا، ويده تنزلق إلى ما لا يليق. ارتج جسدها من الداخل، وشهقت بخفوت، تحاول كتم ارتباكها.
تراجعت إلى الخلف فجأة، كأنها تتعرض لصعقة كهربائية. أنفاسها توقفت لثانية قبل أن تعود متسارعة، ساخنة، محرجة. الدماء اندفعت إلى وجهها بغزارة حتى كادت تسمع دقات قلبها في أذنيها. يداها ارتعشتا فوق السفرة، عيناها اتسعتا كبريق زجاج مكسور.  
لم تستطع الكلام. لم تستطع حتى الصراخ. جسدها كله كان يهتز كوتر مشدود على وشك الانقطاع.  
في تلك اللحظة، ارتفع كرسيها قليلاً بفعل حركتها المفاجئة، فاصطدمت ركبتاها بقاعدة الطاولة المعدنية بقوة. الصوت الحاد كفيل بقطع أي حديث.  
كل العيون التفتت إليها.  
لكن عينا الصقر فقط فهمت ما حدث. 
فؤاد.  
وقف ببطء. كرسيه صرخ على الأرضية الرخامية كطلقة مدوية في ذلك الصمت القاتل.  
ثم تحرك بجسد مشدود.  
خطوات ثقيلة، مقصودة، كل واحدة منها تقرع كجرس إنذار. توقف أمام الرجل الجالس بجانب حنين – ذلك "الضيف" الذي بدا للجميع كرجل أعمال عادي.  
"قم."  
كلمة واحدة. جليدية، اختزلت سلسلة من العبارات التحذيرية.  
حاول الرجل التظاهر بالبراءة، ضحكة مفتعلة خرجت من بين شفتيه: "هل هناك مشكلة؟"  
لكن فؤاد لم يكن يمزح. عيناه – اللتان عادة ما تكونان باردتين – اشتعلتا بنار صامتة.  
"قبل أن أجعلك تتحسر على نفسك أمام الجميع... انهض. وأخرج من هنا."  
نظرة الرجل تحولت إلى رُبى كأنه يطلب النجدة، لكنها أطرقت بسرعة، بينما يد فؤاد الثقيلة هبطت على كتف الرجل كقبضة حديدية: "ازعاجك لموظفة تحت إدارتي ليس مجرد خطأ بسيط... إنه انتحار وظيفي."  
إشارة بسيطة من إصبعه، وانطلق آدم – ظله الشخصي – ليسحب الرجل من ذراعه كما يسحب قمامة كريهة.  
عندها فقط التفت إلى حنين. صوته تغير فجأة، أصبح أكثر ليونة، لكنه لا يزال يحمل ذاك الحزم الذي يربك من حوله:  
"أنتِ بخير؟"  
هزت رأسها، شفتاها ارتعدتا. أمال نفسه قليلاً: "متأكدة؟"  
"نعم... كنت سأدافع عن نفسي ..." همست بصوت بالكاد يُسمع.  
نظرة سريعة إلى رُبى – التي بدا عليها الإحراج الواضح – ثم عاد إلى حنين: "هيا بنا. كفانا عشاءً لهذه الليلة."  
أمسك بذراعها بلطف غير معتاد، وقادها خارجاً بينما جميع الحاضرين يتفرجون بذهول. 

انزلقت السيارة السوداء الفاخرة أمام بوابات الفندق بسلاسة، وانحنى السائق باحترافية ليفتح الباب الخلفي. تقدمت حنين بخطوات مترددة، تخفي ارتباكها خلف ابتسامة لا تصل إلى عينيها. شعرت بنظرات الحاضرين تتبعها وهي تنزلق إلى المقعد بجانب فؤاد، الذي سبقها بلحظات.
بدأت السيارة تتحرك في شارع نصف مضاء، بينما ساد صمت ثقيل المقصورة. عيناها مثبتتين على النافذة، لكنها لم ترَ سوى انعكاسها الشاحب على الزجاج. أصابعها تشبكت في حجرها، تضغط حتى ابيضت مفاصلها.
بعد دقائق من الصمت المطبق، انفلتت الكلمات من شفتيها المرتعشتين:"أنا... آسفة. لقد خربت كل شيء."
ظل فؤاد صامتاً لبرهة، كأنه يترك كلماتها تتردد في الفراغ. ثم التفت إليها ببطء، بعينين تحملان شيئاً مختلفاً تماماً عما توقعت:
"كفى."
نظرت إليه مذهولة، فوجدت في عينيه ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة دائماً.
"الاعتذار عن شيء لم تفعليه هو إهانة لنفسك. وإن سمعتك تكررينه، سأعتقد أنك لا تعرفين مكانتك الحقيقية."
احتبست أنفاسها في صدرها. أرادت الاعتراض، لكنه واصل بهدوء:"تصرفك كان مثالياً. تصرفتِ بكرامة... والباقي كان واجبي أنا."
انحنت رأسها قليلاً، بينما كانت زاوية شفتيها ترتفعان رغماً عنها. حتى وهي تشعر أن قلبها ما زال ينبض بسرعة.
"كنت فقط... مرتبكة."
هز رأسه، وعيناه تعودان إلى الطريق:
"الارتباك ليس عيباً. لا تقسي على نفسك."
ساد الصمت مرة أخرى، لكنه هذه المرة كان مختلفاً. أقل ثقلاً، أكثر دفئاً، سرب من الفراشات وجد حريته و انطلق يتراقص بين زوايا قلبها... في الأمام، ظل السائق يمسك بالمقود بإحكام، وكأنه لا يسمع شيئاً. بينما في الخلف، بدا أن المسافة بين الشخصين تقلبت رغم عدم تحرك أي منهما.
عندما ظهرت أضواء القصر في الأفق، كسر فؤاد الصمت بصوته الأكثر هدوءاً ذلك المساء:"غداً في المكتب لدينا عمل كثير...."
لم ترد، فقط التقت عيناها بعينيه للحظة... وابتسمت بثقة.... الأمان شعور عظيم.
🪻🪻🪻

اندفع فؤاد عبر الممر المظلم، حتى وقف أمام الباب العتيق المصنوع من خشب الجوز، الذي بدا كحارس صامت للأسرار. رفع يده المضمومة وقرع الباب ثلاث قرعات متتالية – إيقاعٌ سريعٌ ثم توقف. بعد صمتٍ طويل، انزلق الباب مفتوحاً ببطء، كاشفاً عن فجوة ضيقة تنبعث منها رائحة العفن والورق القديم.
في قلب الغرفة، تحت الضوء الخافت للمصباح النحاسي، كان كامل جالساً كتمثال من الشمع. ظلّ وجهه غير واضح المعالم إلا عندما ارتطمت أشعة الضوء البرتقالية بنظارته، فانعكس بريقٌ حادٌ في عينيه.
"أسرع مما توقعت." قال كامل بصوتٍ أشبه بحفيف الأوراق.
لم يرد فؤاد على الفور. وقف عند المدخل يدرس الظلال التي تلعب على جدران الغرفة المليئة بالخزائن الحديدية والخرائط المعلقة. أخيراً دخل وأغلق الباب خلفه بضغطٍ خفيف.
"لقد تجاوزت الخطوط الحمراء بسرعة قياسية." قال فؤاد وهو يخلع قفازيه الجلديين ببطء. "ما حدث ليس مجرد استفزاز... إنه تحدٍ صريح."
انحنى كامل قليلاً للأمام، فانعكس الضوء على جبهته العريضة. "ديلارا لا تلعب لعبة المال... بل لعبة البقاء. وهي تخوضها بقواعد خاصة."
اقترب فؤاد من المكتب الضخم ووضع كفيه عليه. خشب الماهوجني الباهت ارتجف تحت وطأة قبضته.
"لن أسمح لها بتمزيق نسيج تحالفاتنا." همس بأسنانٍ مشدودة.
مدّ كامل يده اليمنى ببطء وفتح ملفاً من الرف. صورٌ ووثائقٌ متناثرة تكشف عن شبكة معقدة من التحالفات السرية.
"انظر جيداً." قال وهو يشير بإصبعه المتجعد. "إزعاج حنين كان مجرد فخٍ صغير... القنص الحقيقي لم يبدأ بعد."
ارتجف فؤاد للحظة، ثم ضغط على حافة المكتب حتى ابيضت مفاصله. "هذه المرة تجاوزت حدها بمراحل.. سأكون أنا من يضع نهاية هذه اللعبة."
رفع كامل نظارته إلى جبهته، وكشف عن عينين غائرتين تحملان دهشةً محترمة. "المعركة ستكون قذرة... لكنك تعرف أنني معك."
فؤاد:" لا أريد أن تكون لي نقاط ضعف لكن.." 
كامل : حنين فتاة ذكية لكنها هدف سهل، يجب أن تجيد السيطرة على مشاعرك قبل كل شيء. 
فؤاد: سيكون ذلك صعب إن حاول أحدهم الاقتراب منها... تلك النار التي باتت تصيبني، لا أستطيع الصمود أمامها.... لم أكن أعرف أنها بتلك القسوة. 
ساد الصمت. فقط صوت تنفس فؤاد الثقيل وهدير المدينة البعيد كانا يخترقان جدار المكان. الضوء الخافت للمصباح كان يرسم ظلالاً متحركة على الجدران، كأنها أرواحٌ تتراقص على إيقاع صراعٍ خفي.

في شقة فاخرة، حيث تلعب أضواء الشموع على جدرانها المغطاة بورق الذهب الباهت. ديلارا تقف عند النافذة العالية، تشاهد حدائق المجمع التي غمرها ضوء القمر، بينما تنساب أصابعها على الستائر الثقيلة بقلق. ربى تجلس على الأريكة، ترتشف نبيذها الأحمر ببطء، عيناها تتابعان ديلارا باهتمام.
ديلارا: (بدون أن تلتفت)"لقد فشلتِ في السيطرة على الموقف."
ربى: (تضع الكأس بلطف)"اللعبة لم تنته بعد.. لم تخبريني أن تلك الفتاة متوهجة إلى حد أن ذلك الغبي لم يستطيع السيطرة على نفسه أمامها... المرأة الذكية مثيرة للفضول أيضا، ألهذا تخشين على مكانتك منها."
ديلارا:(تستدير فجأة، عيناها متوهجتان) "مهمتك هنا انتهت! فؤاد بدأ يشك، وحنين تقف كالشوكة في حلقي."
تمشي بخطوات بطيئة نحو ربى، صوت حذائها العالي يقرع على الأرضية الرخامية (تتوقف أمامها)"أريدك أن تسافري. الآن."
ربى: (ترفع حاجبها باستغراب)"سفر؟ إلى أين؟"
ديلارا: (تمتد يدها لتلتقط كأس النبيذ من أمام ربى): "إلى الجنوب. هناك أوراق يجب أن تُعاد ترتيبها، وعلاقات يجب أن تُصلح."تشرب من الكأس نفسها التي شربت منها ربى، ثم تضعها بعنف على الطاولة.
ربى: (تضحك بخفة)"أهرب مثل كلب ضال؟"
ديلارا: (تنحني فجأة، تمسك بذقن ربى بقوة)
"لا. تذهبين كصياد يغير استراتيجيته. هناك رجال آخرون بانتظارك هناك، رجال يمكنهم أن يكونوا قطعاً مفيدة في لعبتنا."
ترخي قبضتها فجأة، تمرر أصابعها على خد ربى بلطف مبالغ فيه.
ديلارا: (بنبرة حلوة)"أنتِ تعرفين كم أنتِ ثمينة. لن أضيعك."
ربى: (تنهض ببطء، تقف وجهاً لوجه مع ديلارا) "وماذا عن فؤاد؟أليس لدي فرصة معه"
ديلارا:(تلتقط سيجارة من الصندوق الفضي)"فؤاد... (تشعل السيجارة بنفس بطيء) سأتعامل معه بنفسي. حان وقت تغيير التكتيكات."
تمشي نحو المكتب، تفتح درجاً سرياً، تخرج منه ملفاً بنياً سميكاً.
ديلارا: (تمد الملف نحو ربى)"كل التفاصيل هنا. رحلتك تبدأ غداً فجراً."
ربى: (تأخذ الملف، تتصفحه بسرعة)"وهل لدي خيار؟"
ديلارا: (تطلق سحابة دخان كثيفة)
"لديكِ خيار أن تكوني بطلة هذه اللعبة... أو ضحيتها."
تسقط السيجارة في الكأس الفارغ، يصدر صوت أزيز خفيف.
ربى:(تضع الملف في حقيبتها)"إذاً سأكون وجهك في الجنوب."
ديلارا: (تمسك بيد ربى قبل أن تغادر)"تذكري... لا أصدقاء في هذه اللعبة. فقط حلفاء مؤقتون."
ربى: (تسحب يدها ببطء)"وهل أنتِ حليفتي يا ديلارا؟ أم أنكِ مجرد لاعبة أخرى؟"
تغادر الغرفة دون أن تنتظر إجابة، بينما تبقى ديلارا واقفة، ظلها المنعكس على المرآة يبدو أكبر من حقيقتها.
ديلارا: (تحدث نفسها) "أنا اللعبة نفسها."
(في الخارج، تقف ربى للحظة، تلتقط هاتفها وتكتب رسالة سريعة: "اللعبة تتغير. سنلتقي في المحطة الجنوبية". قبل أن تختفي في الممر المظلم، بينما تبدأ قطرات المطر الأولى بالسقوط على نوافذ القصر.)

سكون الليل يلف المدينة، والضوء الخافت المنبعث من مكتب فؤاد ينعكس على البلور كأنّه كاشف لأسرار لا تُقال. الوقت تجاوز منتصف الليل، ولم يبقَ في الطابق سوى صوت عقارب الساعة… ووقع خطوات آدم وهو يدخل بهدوء.
وقف أمام فؤاد بانضباط، لكن الأخير لم يرفع عينيه عن شاشة الحاسوب. ضغط زرًا، طُويت الشاشة، وعمّ الصمت الثقيل.
قال فؤاد أخيرًا، بصوت خافت لكن حازم:
"هل أثق بك يا آدم؟"
تفاجأ آدم قليلًا بالسؤال، لكنه أجاب دون تردد:
"أكثر مما أُظهر يا سيّد فؤاد."
نهض فؤاد من كرسيه، واتجه إلى خزانة صغيرة قرب الجدار، فتحها، وأخرج منها علبة صغيرة مستطيلة سوداء، مدّها باتجاهه.
"إذًا خُذ هذه."
فتح آدم العلبة بحذر… ثلاث أجهزة تنصّت، صغيرة، أنيقة، تكاد لا تُرى.رفع عينيه نحو فؤاد، فهم دون أن يُسأل.
"ديلارا..." تمتم فؤاد، وهو يحدّق عبر البلور إلى أضواء المدينة البعيدة. "أريد أن أسمع كل ما يدور داخل شقتها، كل شيء. الصوت، التحركات، حتى الصمت إن لزم."
تحدث آدم بتحفّظ:"أفترض أنك لا تريد كشف نفسك، لذا… أي عذر لدخول المكان؟"
ابتسم فؤاد ابتسامة قصيرة لا تصل إلى عينيه، وقال:"هي من ستهديني ذلك العذر. سأفتعل ضغطًا في العمل غدًا، وأطلب منها عدم العودة إلى شقتها لتُراجع بعض الملفات المهمة. حينها… تكون الفرصة بين يديك."ثم التفت إليه، نبرته تصبح أكثر جدية:
"لا تخبر أحدا. هذه اللعبة قذرة بما يكفي."
أومأ آدم موافقًا، لكنه لم يُخفِ قلقه:
"وهل أنت واثق أن ما تبحث عنه… يستحق أن تراه؟"
تجمّد فؤاد للحظة. عيناه تتبعان طيفًا في ذاكرته، شبحًا من ماضٍ لم يُصفّ بعد.ثم قال بهدوء: "أحتاج أن أراها كما هي لا كما تتصنّع. لا مجال للظن بعد الآن. لا يكفي قطع ذيل الأفعى حتى تموت."
خرج آدم بصمت، والعلبة الصغيرة في يده كأنها تحمل قدرًا. أما فؤاد، فعاد إلى مقعده… لكن عينيه بقيتا تحدقان في العتمة، حيث لا صوت… سوى صدى الشك.
🪻🪻🪻

في الغد، شركة "ال طوروس القابضة" – في الطابق التنفيذي – 8:45 مساءً
المبنى الشاهق يبدو كمجموعة من المكعبات الزجاجية المضاءة في قلب المدينة النابضة. في القاعة الزجاجية المطلة على أضواء العاصمة، تجمع النخبة التنفيذية حول طاولة الاجتماعات البيضاوية. فؤاد يقف عند رأس الطاولة، ظله الطويل يمتد على الجدار الزجاجي كساعة شمسية تشير إلى نهاية يوم عمل طويل.
"أقدّر بقاءكم إلى هذا الوقت المتأخر." قال بينما يمرر أصابعه على حافة الطاولة المصنوعة من خشب الأبنوس. "هذه الصفقة تستحق منا السهر حتى الفجر إذا لزم الأمر."
ديلارا التي كانت قد أغلقت حقيبتها الجلدية استعداداً للانصراف، تتجمد في مكانها. عيناها تومضان ببرودة تحت الضوء الخافت.
"بالطبع،سيد فؤاد." ترد بصوت يشبه حفيف الحرير. "نحن هنا لخدمة الشركة، أليس كذلك؟"
حنين التي كانت تدرس مستنداً أمامها، ترفع رأسها فجأة. تلتقى بنظرة فؤاد التي تحمل في طياتها رسالة غير مكتوبة. شيء بين التحذير والاعتذار.
في الخلفية 
- شاشات العرض تعكس بيانات مالية معقدة
- أصوات لوحات المفاتيح تتوقف واحدة تلو الأخرى
- رائحة القهوة التركية الثقيلة تملأ الجو
في نفس اللحظة – حي السفارات الفاخر
ينزلق آدم من السيارة السوداء كظل في الليل. حقيبته السوداء الصغيرة تحتوي على معدات متطورة لا يتجاوز حجمها علبة سجائر. ينظر إلى ساعته:*9:03 مساءً*
"لدينا ساعة بالضبط." يهمس لنفسه وهو يتفحص المفاتيح المقلدة في يده.... الشقة الفاخرة في الطابق الخامس تبدو خالية. نظام الأمن متوقف عن العمل "للصيانة الدورية" حسب ما ورد في رسالة وهمية أرسلت إلى شركة الحراسة.
داخل شقة ديلارا:الجهاز الأول يزرع داخل قاعدة تمثال "فينوس" الرخامي في صالة الاستقبال.
الجهاز الثاني يختبئ وراء لوحة "بيكاسو" المزيفة في غرفة النوم.
الجهاز الثالث والأخير يثبت داخل جهاز التلفزيون الذكي.
توقف أمام صورة قديمة لمراد وديلارا في حفل خيري. مرر إصبعه على زجاج الإطار:
"لو تعلمين كم هو بارع في لعبة الثأر الصامت." 
الساعة تشير إلى 9:17 عندما أغلق الباب خلفه دون أي أثر.

في مقر الشركة، أنهى فؤاد الاجتماع بتوجيه أخير:
"ديلارا، أريد مناقشة استراتيجية التسويق الجديدة. حنين، تقرير العمليات يحتاج مراجعة نهائية."
تبادلتا نظرة سريعة. ديلارا ترفع حاجبها بينما تضغط حنين على شفتيها. المصاعد الزجاجية تبتلع الموظفين المنهكين واحدا تلو الآخر.
في الخارج، تبدأ قطرات المطر الأولى بالسقوط على النوافذ الشاهقة. المدينة تلمع تحت الأضواء كساحة معركة مبللة. اللعبة الكبرى على وشك أن تبدأ، والخيوط الخفية بدأت فعلاً بالتشابك.

الطابق التنفيذي – بعد العاشرة ليلًا
هدأ صخب الشركة، لم يبقَ إلا ضوء خافت يتسلل من المصابيح الجدارية، ينعكس على الزجاج الفاصل بين المكاتب الفارغة.
في مكتب فؤاد، كانت الفوضى قد بلغت ذروتها: ملفات متناثرة على الطاولة العريضة، أكواب قهوة نصف فارغة، جهاز حاسوب محمول مفتوح على شاشة تتبدّل بين الرسائل والتقارير، وأصوات الإشعارات لا تنفكّ تتناهى من هاتفه.
جلس خلف مكتبه، ربطة عنقه معلقة على أحد الكراسي، كمّ قميصه مطويّ، وعيناه مسمّرتان على شاشة صغيرة أمامه. بدا مرهقًا، لكن الذهن لا يزال مستيقظًا.
الباب يُفتح برفق.
دخلت ديلارا بخطى محسوبة. لم تكن ترتدي سوى سترة خفيفة فوق فستان بسيط، وشعرها مربوط بإهمال أنيق. تحمل في يدها كيسًا أنيقًا وآخر فيه زجاجة عصير.
"جئت لأطمئن أنك لم تَفْنَ نفسك بين هذه الأكوام."
قالتها بنبرة فيها من اللوم الرقيق ما يكفي لتجعلها تبدو حنونة، لا متطفّلة.
لم يجب. اكتفى بإيماءة بطيئة وهو يعيد النظر إلى ملفّ بين يديه.
"فؤاد..." وضعت الطعام أمامه، وبدأت تزيح بعض الأوراق لتُخلّي له مكانًا:
"تناول شيئًا، على الأقل. جسمك بحاجة للطاقة، لا للكبرياء."
راقبها وهي ترتّب الطاولة، لم يمنعها. كانت تفتح العلبة بعناية، تفرد أدوات الأكل، ثم سكبت له العصير في كأس زجاجية أنيقة.
قالت بابتسامة خفيفة:
"هذا عصير برتقال مع لمسة زنجبيل. يقوّي التركيز… ويُهدّئ الأعصاب."
نظرة من فؤاد. طويلة. دقيقة.
أمسك بالكأس دون أن يشرب، عينيه لم تفارقا وجهها.
"تشعرين بالقلق عليّ؟"
سألها بهدوء لا يخلو من الشك.
ضحكت، بخفة:
"بالطبع. أنت رئيسي في العمل."
اقتربت خطوة إضافية، وقفت عند جانب المكتب، تُمرّر أصابعها فوق الغطاء الخشبي اللامع. ثم همست، كأنها تقرأ ما بين سطور الملفات المفتوحة:
"أراك غارقًا في العروض والمشاريع، كأنك تحاول دفن شيء."
"وهل جئتِ لإنقاذي؟"
سأل وهو يعيد الكأس إلى الطاولة دون أن يرتشف منها.
"بل لأخفف عنك… على طريقتي."
أجابته وهي تتناول الكأس الأخرى، ترفعها إلى شفتيها، تشرب ببطء، ثم تراقبه.
في ذهن ديلارا:"دقائق قليلة فقط… ثم سيتسلل الدواء إلى جسده. سيهدأ، يُبطئ، يُذعن. وفي تلك اللحظة… سأجعله لي. رغبة، غلطة، خطيئة… لا فرق... رجل ذو مباديء مثل فؤاد لن يتركني في مفترق الطرق."
في ذهن فؤاد:"تعالي، قدّمي مسرحيّتك كاملة. أشاهدك وأحسب خطواتك... لعبة قديمة، ديلارا، وأنا صرتُ أُتقن دور الضحية الظاهر."
وقبل أن تهمّ بقول شيء آخر، دوّى صوت خطوات تقترب من الممر الخارجي… ثم:طرقات خفيفة على الباب.
التفتا معًا، وفي عيني ديلارا ارتباكٌ لحظي، تداركته بابتسامة شاحبة.
"تفضّل…" قال فؤاد ببرود.
الباب يُفتح ببطء… وتطل حنين فيباغته شبح ابتسامة التقطته عيون تلك الحاقدة بذكاء، لتدرك ان هدفها غارق في العشق إلى حد النخاع.  
وقفت حنين عند الباب، يداها ترتعشان على طرف حقيبتها. الضوء الخافت يكشف عن شحوبٍ غزا وجهها فجأةً. عيناها الواسعتان تنتقلان بين:  
- **فؤاد** الذي خلع سترته الرسمية، تاركًا قميصه الأبيض بأكمام مرفوعة.  
- ديلارا، التي تقف بابتسامةٍ ثابتةٍ كالرسْم على وجهٍ من خشب.  
"أظن... أن عليّ الذهاب." همست بصوتٍ يكاد ينكسر. 
لكن فؤاد تحرك بسرعة الصاعقة، قطع المسافة بينهما بخطوة واحدة، وأغلق الطريق أمام المدخل بجسده.  
"انتظري." صوته ناعمٌ كالحرير، لكنه يحمل شيئًا لا يُرفض. "لم ينتهِ عملنا بعد." أشار بيده إلى الكرسي الفارغ بجانب طاولة الاجتماعات. ضوء القمر يتسلل من النافذة العالية، يلعب على سطح الطاولة المصقول كساحة معركة صامتة.  
حنين رفعت عينيها المبللتين. كان هناك شيءٌ في صوته... ليس أمرًا، بل اختبارًا.  
جلست ببطء، كمن يخشى أن ينكسر. ضغطت ديلارا شفتيها دون وعي، أظافرها تغوص في كفيها. كانت ستتدخل، لكن نظرة فؤاد الثابتة جمدتها في مكانها.  
**الصمت** يخيم كضبابٍ كثيف. حتى صوت جهاز التبريد بدا صاخبًا بشكلٍ غير معتاد.  

التقط فؤاد كأس العصير الذهبي من أمامه، داره بين أصابعه الطويلة. الضوء انكسر عبر السائل الأصفر ، راسمًا خطوطًا مائلة على الطاولة.  
"اشربي." قال فجأةً، دافعًا الكأس نحو حنين. "سيساعدك على الهدوء."  
كتمت ديلارا شهقةً في حلقها، كأن سكينًا اخترق صدرها. عيناها اتسعتا حين رأت الكأس يتحرك عبر الطاولة.  
رفعت حنين يدها الصغيرة، توقفت قبل أن تلمس الزجاج. نظرتها تنتقل بين:  
- السائل الغامض الذي يلمع كعسلٍ كثيف.  
- عيني فؤاد الغامقتين اللتين لا تُظهران شيئًا.  
"أنا..." صوتها ارتجف كخيطٍ رفيع في مهب الريح. "لست معتادة على..."  
لكنها أخذت رشفةً صغيرة. راقب فؤاد حركة حلقها وهي تبتلع السائل، كعالمٍ يراقب تجربته.  
ديلارا لم تنظر إلى الكأس. لم تنظر حتى إلى حنين. عيناها مثبتتان على فؤاد، تبحثان عن أي أثرٍ لـ:  
- صدمة.  
- ندم.  
- حتى ذرة رحمة.  
لكن كل ما رأته كان ابتسامة وديعة.
ليست ابتسامة نصر، ولا حتى قسوة.  
بل ابتسامة متيقن، حريص، في غفلة منها أطلع على فحوى حقيبتها و ما تخفيه.  
كمن يشاهد مسرحيةً يعرف نهايتها مسبقًا.  
على الجدار، عقارب الساعة الكبيرة تتقدم ببطء. آخر قطرة من العصير تلمع في قاع الكأس... كدمعةٍ لم تُذرف.
بعد لحظات من تقديم الكأس لغريمتها،هاهي ديلارا تلملم يدها بسرعة، تلتقط صينية الطعام والكأس الآخر، وتتنحى ببرود نحو الباب، قبل أن تهمس بغضب مكتوم لنفسها:
"سأترك الأمور تمضي... لكن هذا ليس إلا البداية."
غادرت الغرفة بخطوات هادئة تجر اذيال الهزيمة، مغلقة الباب خلفها، تاركة فؤاد وحنين في ذلك الجوّ المريب.

بدأت حنين تشعر بغربة مفاجئة تتسلل إليها من أعماق جسدها، كأن النعاس يزورها فجأة، والرؤى تزداد ضبابية.
ترمش عينيها بتردد، تحاول أن تركز على وجه فؤاد، لكنها تجد التعب يثقل جفونها. صوت فؤاد بات بعيدًا، يتلاشى، وكأن الكلمة تصير صدى في فراغ لا نهاية له.
بدأت تحس بثقلٍ غريب يزحف في أوصالها، كأن جسدها يتحول إلى تمثال من الرصاص. حاولت رفع الكأس مرة أخرى، لكن أصابعها ارتخت فجأة وكأنها فقدت السيطرة على أعصابها.
نظرت إلى فؤاد بعينين زائغتين، شفتاها ترتجفان محاولتين تشكيل كلمات:"فؤاد... أشعر... كأني..."
لكن صوتها تاه في الفراغ قبل أن يكتمل. سمعت كلماتها تخرج مشوّشة، كأنما تصفّح مذياعًا معطلاً.

قفز فؤاد من مكانه، قبض على معصمها الناعم بيديه، شعر بنبضها يخفق تحت أصابعه "أنت بخير، لا تقلقي". عيناها الزجاجيتان تنظران إليه دون تركيز، كأنما تنظر من وراء حجاب كثيف. 
أخرج فؤاد حنين من الباب الخلفي لمكتبه، وهي في حالةٍ بين اليقظة والغيبوبة، تثرثر بكلامٍ غير مفهومٍ بين الحين والآخر، تضحك أحيانًا دون سبب، ثم تهمس بكلماتٍ مبعثرة. فؤاد لا يستطيع إلا أن يبتسم، رغم قلقه، لسخافة الموقف.  
"يا فؤاد... هل تعلم أن السقف يتحرك؟" قالت بحماس طفولي، وهي تشير إلى الأعلى بعينين نصف مغلقتين.  
"نعم، يتحرك. " أجاب وهو يمسك بها بحذر كي لا تسقط، بينما يقودها نحو المصعد الخاص به. "سنصل إلى السيارة قريبًا."  
"لكن... أين الطائرة؟" نظرت حولها ببراءة، وكأنها تبحث عن شيءٍ غير موجود. "قلت لي أننا سنسافر إلى.... المريخ!"  
ضحك فؤاد، رغما عنه. "المريخ؟ حسنًا، ربما في المرة القادمة."  
عندما وصلا إلى السيارة، كان السائق ينتظر بجدية، لكن حنين أومأت له بيدٍ مرتعشة: "يا كابتن! هل لديك عصير برتقال؟ لأنني... لأنني أشعر أن الجاذبية اختفت!"  
تجاهل السائق كلامها، لكن فؤاد أشار له بإيماءةٍ سريعة كي لا يعلق. "افتح الباب، سنذهب فورًا."  
أما الحارس عند الباب، فقد ودعته بكل حماس: "وداعًا أيها الرجل الطيب! سأرسل لك بطاقةً من الكوكب الأحمر!"  
لم يفهم الحارس ما تقول، لكنه ابتسم مضطرًا.  
أما فؤاد، فقد أدخلها إلى المقعد الخلفي بسرعة، ثم أدار وجهه نحو السائق، كل علامات الضحك اختفت فجأة، واستبدلتها بنظرة جادة: "القصر. الآن."  
وبينما تنطلق السيارة، تهمس حنين بكلماتٍ غير واضحة، ثم تغفو أخيرًا، بينما يحدق فؤاد في الطريق، يفكر في صمت. 
🪻🪻🪻

كان الليل قد تمدّد على أكتاف القصر بهدوئه المهيب، حين توقفت السيارة السوداء عند بوابته الأمامية. أنوارها الخافتة انعكست على الرخام اللامع، لتكمل طيف السهر الهادئ الذي امتد من الحفلة إلى لحظة الوصول.
ترجّل فؤاد أولاً، أنيقاً، صامتاً، بعينين ترصدان حركة الباب الخلفي حين فُتح بتؤدة. نزلت حنين بخطى حذرة، كمن تتحسس الأرض تحت قدميها. كانت تبتسم ببطء، كأنها في عالمٍ آخر، عيناها لامعتان من أثر الإضاءة والسهرة، أو ربما… شيء آخر. لم يكن واضحًا بعد.
سارا معًا في الممر المؤدي إلى البهو، خطواتها خفيفة، لكنها تتعثر أحيانًا، فتتدارك الأمر سريعًا بابتسامة مرتجلة. بدت كفراشة سهرت طويلاً فوق وهج الشموع، ثم بدأت تترنح أمام انطفائها. أما هو، فكان يمشي إلى جانبها بصمت، كأنه يزن كل حركة، كل تنهيدة، كل كلمة لم تُقال.
حين وصلا إلى البهو الكبير، توقف فؤاد خطوات قبل حافة الدرج، التفت نحوها، يتفحّص تعابيرها بنظرة فاحصة لكنها متروية، ثم سأل بصوته العميق الذي بدا كأنه ينساب من داخل جدران القصر :
« هل أنتِ بخير؟ أتستطيعين الصعود وحدك؟ »
أجابت بصوت متهدّج، تخللته ضحكة مرتخية :
« أنا بخير… لست صغيرة، إن نسيت. »
مالت برأسها قليلاً، كأنها تحاول التركيز على توازنها، أو على مزاحها الذي خرج متثاقلاً. لم يُجب فؤاد، فقط أومأ بإيماءة خفيفة، ثم التفت ومضى نحو الردهة الجانبية، كأن شيئًا طارئًا استدعاه فجأة.
🪻🪻🪻
وقفت حنين عند بداية السلم، تحدّق في الفراغ المتصل بين الطابقين. لم يكن هناك من يدلها. ولا خارطة تُرشدها. شيء ما في دماغها بدا مشوشًا، كأن البوصلة اختلّت فجأة.
نظرت نحو اليمين… ثم إلى اليسار… زمّت شفتيها بتفكير طفولي، ثم أشارت بإصبعها المرتجف نحو جهة اليسار، وهمست لنفسها :
« أعتقد… هنا. »
صعدت بتأنٍ، يدها تنزلق على الدرابزين، وعيناها تمسحان الأروقة. عند رأس الدرج توقفت، شعرت للحظة أنها ارتكبت خطأً فادحًا، فاستدارت ببطء نحو الجهة المعاكسة. لم تكن متأكدة ما إذا كانت هي التي أخطأت الطريق، أم أن الطريق هو من بدّل وجهته عنها.
كان القصر صامتًا إلا من وقع كعبيها، يتردد صداهما وكأنهما طرقات على باب وهمي. لم تكن فقط تمشي نحو غرفتها، بل نحو عالم يتداخل فيه الواقع بالهواجس، بين التعب والسهو، بين ما كان… وما لم يُفهم بعد.

دفعت الباب المزخرف دون تردد، كمن يعرف طريقه ولو بعينين مغمضتين. لم يخطر ببالها أنه ليس باب غرفتها… أو ربما خطر، لكنه تلاشى في مكانٍ ما بين النعاس والرغبة في الأمان.
الضوء الخافت خلف الباب انسكب على الأرضية كدعوة ناعمة، وكأن الغرفة نفسها تنتظرها… أو تبتلعها.
دخلت بخطى خفيفة، أقرب للمشي في حلم. كل شيء بدا مألوفًا وغريبًا في آن : الأثاث الثقيل، الألوان الدافئة، لمسة الخشب التي تفوح منها رائحة الرجولة… لكنها لم تلتفت لذلك. أو بالأحرى، لم تفكّر فيه. عقلها كان يطفو، وحواسها وحدها هي من تقودها.
مرّت بأناملها على حافة كُرسي مخملي قرب النافذة، كمن يمرر إصبعه على ذاكرة قديمة. ثم تابعت السير ببطء حتى توقفت أمام السرير — كبير، فخم، داكن الألوان، له حضور لا يشبه غرفتها على الإطلاق. ومع ذلك… لم تتساءل… وقفت أمامه، رأسها مائل، عينيها نصف مغمضتين، وشفتاها ترسمان شبه ابتسامة. بدا السرير وكأنه يناديها، أو ربما كان يفتح ذراعيه بصمت. همست، دون أن تدري لمن : »ها هو… أخيرًا. »
جلست على طرفه أولًا، كأنها تختبر ثقل جسدها عليه، ثم مدت كفها تتحسس الملاءة المصقولة التي تنبعث منها رائحة لا تشبه عطورها. رائحة رجل. رائحة جلد ومسك وخشب قديم. لكنها لم تنفر… بل أغمضت عينيها للحظة، كأنها تستنشق الطمأنينة.
ثم، دون تفكير، ارتمت بكل جسدها فوقه. تمددت كما تفعل بعد نهار طويل من العمل المتعب، وراحت تنهيدة دافئة تفلت من صدرها، تنساب بين الوسائد الغارقة.
« آه… هذا هو المكان… هذا هو. »
سحبت الغطاء ببطء، لفّت جسدها فيه كما لو كانت تندمج مع السرير، تتماهى معه. الوسادة كانت أكبر من وجهها، ثقيلة بعض الشيء، لكنها ضمّتها إلى صدرها بعفوية، كأنها تحتمي بها من عالمٍ آخر لا تريده الآن.داخل الدفء، قالت بصوت شبه نائم، أقرب للهمس الذي لا يسمعه سواها :
« كنت فقط… أبحث عن غرفتي. أليس كذلك؟ »
ثم ابتسمت، ابتسامة لا تزن شيئًا، وانزلق عقلها أكثر نحو الغياب. المكان كله بدا وكأنه يُخدّرها ببطء، بعناية. كل ما حولها يهمس : ابقي. نامي. لا تسألي. غدًا رتبي كل شيء… أو لا. لا بأس. »
ضحكت بخفة، ضحكة ناعسة، ثم غابت تمامًا.
والغرفة… ظلّت صامتة، تراقب.
🪻🪻🪻

انفتح الباب بصوت خافت لكنه حاسم. دخل فؤاد بخطوات ثقيلة، ووجهه مشدود بتعب اليوم وضجره. ربطة العنق خنقته أكثر مما ينبغي، فمدّ يده إليها فور دخوله، جذبها بعصبية، فكّ عقدتها النصف مفكوكة ورماها بلا اهتمام على الكرسي القريب. لم يتوقّف، لم ينظر حوله. قميصه الأبيض التصق بجلده من ضيق اليوم، فتناول أول زر بسرعة، ثم الثاني، والثالث… أنفاسه حادة، كأنها تبحث عن مساحة للتنفّس.
ثم…
توقّف.
جسده تجمّد، وعيناه التقطتا شيئًا لم يكن جزءًا من ترتيباته المعتادة. السرير — سريره — لم يكن كما تركه. الغطاء غير مرتب. الوسائد مشوشة. وهناك… هناك شخص…… حنين.
مكوّرة في منتصف السرير، نائمة، مغطاة حتى الذقن، إحدى ساقيها ممددة والأخرى مثنية كطفلة وجدت مكانًا دافئًا فقررت أن تبقى. وجهها نصف مخفي تحت الوسادة، شعرها انسكب بحرية فوق الغطاء الداكن، يتناقض بحدة مع تفاصيل السرير الصارمة. هي لا تتحرك، لا تشعر به، تنام كمن أُلقي به في حضن حلم طويل.
لم يرمش له جفن، بقي واقفًا في مكانه، القميص نصف مفتوح، يده لا تزال على الزر الرابع. وكأن كل الضجر، كل التعب، كل ما كان يغلي في داخله… انقطع فجأة.
ظل يحدّق، بين الدهشة، والاستفهام، وبين لمحة لم يستطع كبحها من الذهول : كيف وصلت إلى هنا؟ ولماذا… هنا؟ لكنها لم تجبه. كانت تغطّ في نوم عميق، مطمئن، كما لو أن هذا السرير ملكٌ لها منذ البداية.

هدأ نفسه بهدوء لا يشبهه، أنزل يده من على صدره، وأخذ خطوة إلى الداخل… خطواته الآن أكثر حذرًا، وكأن الغرفة صارت شيئًا هشًا يجب أن يحترمه. ومن حيث لا يدري، وجد نفسه يهمس، لا لها… بل للغرفة : »…ماذا سأرى منك أيضا…؟ »
لكنه لم يتلقَّ جوابًا، فقط أنفاسها الهادئة…وكأن الجواب كان واضحًا جدًا… وغريبًا جدًا… وجميلًا أكثر مما ينبغي.
اقترب من السرير ببطء، حذِرًا كمن يخطو داخل حلم لا يريد أن يخسره، لكنه لا يعرف إن كان له حق البقاء فيه. توقف عند طرف السرير، نظر إلى ملامحها الغافية — تنفّسها المتوازن، ارتخاء يديها، وشحوب الضوء على وجهها. لم يبدُ عليها القلق… لا الخوف…ز لا حتى أدنى شك بأنها ليست في مكانها الصحيح.
همس باسمها، خافتًا : »حنين… »
لم ترد.
انحنى قليلًا، صوته صار أقرب :
« حنين، استيقظي. هذه ليست غرفتك. »
تحركت. شفتيها تمتمتا بكلمات غير مفهومة، ثم دفنت وجهها أكثر في الوسادة وهمست : »ممم… خمس دقايق… »
كادت ابتسامة ساخرة أن تُفلت منه. تنفّس بعمق، جلس على حافة السرير، هزّ كتفها برفق :
« أنتِ في المكان الخطأ يا مجنونة. قومي. »
رفعت يدًا ناعسة، دفعت يده كما تفعل طفلة ترفض النهوض للمدرسة، وتمتمت مجددًا بصوت نصف نائم، فيه من الدلال ما يكفي لإشعال حريق : »أنا فـي غرفتي… صدقني… أعرفها… »
ثم سحبت الغطاء فوق رأسها، كأنها أغلقت الباب بوجه العالم.
بقي فؤاد لحظة ينظر إليها، يده لا تزال معلّقة في الهواء. لم يعتد هذا النوع من الفوضى… ولا هذا النوع من البراءة. لكنه لم يغضب. شيء ما — شيء لا يمكن تفسيره — بدأ يتسلّل إليه. دقّة في صدره. فكرة. لا، ليست فكرة… جنون، لكنه ممتع و مغرٍ.
نهض بهدوء، نظر إلى شكل السرير، إلى الغطاء الذي سرقته، إلى الطريقة التي احتلّت بها عالمه دون استئذان… وابتسم.
« حسنًا يا حنين… » قالها بصوت لا يخلو من الحيلة، « نوم هنيئ، لأن صباحك سيكون… غير متوقّع. »
ثم خطا إلى غرفة الملابس الملحقة، فتح الباب الزجاجي نصف المعتم، ودخل بخطى واثقة. صدى حركة خفيفة سُمع من الداخل — القميص المزعج أُسقط بعنف على الأرض الرخامية، ثم صوت الماء البارد وهو يُغسل وجهًا متعبًا. لحظات، وخرج مجددًا، يحمل سترته على ذراعه، وقد بدا أكثر هدوءًا، لكن عينيه لم تفقدا حدّتهما.وقف عند عتبة الباب، نظر إليها نظرة طويلة، تلك النظرة الأخيرة قبل أن يُغلق خلفه المساحة، لا كمن ينسحب، بل كمن يؤجل المواجهة.
كانت قد استسلمت تمامًا. تغطّ في نوم عميق، تنفّسها ثابت، وجسدها ملتفّ كأن السرير يعرفها ويحتويها بلا مقاومة.
أغلق الباب خلفه بهدوء، لكن عينيه كانتا تبتسمان بخفة… كمن يخطط، لا كمن يستسلم.
🪻🪻🪻

في ظلمة الليل الدامس، نزل عبر السلالم الحديدية الضيقة نحو سرداب القصر. الهواء كان بارداً، رطوبة الجدران تلتقط أنفاسه بصوت مكتوم. ضوء مصباح كهربائي صغير يلمع بعيداً في نهاية الممر، يهدد بكشف الأسرار المخبأة.
لم يكن بابًا بل جدارًا ينشق عن ظله. تحركت الآلة المخفية بصوتٍ منخفض، كأنّها تهمس للظلام أن يستعد. انفتح الممرّ الحجري إلى الداخل، فاندفعت رائحة العفن الممزوجة برطوبة قديمة لا تزول، كأن الزمان ذاته توقف هنا… وقرر ألا يرحل.
خطا إلى الداخل بثقلٍ محسوب. حذاؤه الجلديّ الأسود يصدر صوتًا خافتًا على أرضية السرداب الحجرية، كل خطوة كأنها خُطت على صدر أحدهم. لم يكن "فؤاد" الذي يعرفه الجميع...
كان شخص آخر.... مراد🔥.
وجهه الذي ألفته الوجوه باللطف والهدوء، بدا الآن قاسيًا، حادّ الزوايا، وباردًا كالمعدن. الظلال التي تلعب على ملامحه لم تكن قسوة الضوء، بل قسوة يحملها قلب هذا الرجل. بدلته الداكنة لم تُخفِ الهيبة، بل زادتها فتكًا، وعيناه... لم تعودا تحملان الشفقة، بل تفضحان عقلًا يحترف الترويض والكسر.
خلفه، كان الحارس يسوق كلبًا ضخماً، فروه الأسود يلمع تحت الأضواء الميتة، أنيابه تلمع بلعاب الجوع، اسمه "هارون"، وقد اعتاد الشمّ والنهش دون أوامر.
اقترب مراد من الباب الحديدي الذي يحبس خلفه أنفاسًا مذعورة. رفع يده وأشار للحارس، فتراجع الأخير مع الكلب إلى الظلال، تاركًا له المسرح. أدخل المفتاح وأداره.
صرير الباب بدا كأنّه أنينُ روحٍ تتحلّل.
في الداخل، كانت ليلى. شاحبة، مرعوبة، بثوبٍ مكرمش وجسدٍ أنهكته الأيام. ارتجف كتفاها لمّا رأته، وارتدت إلى الجدار كأنّها تأمل أن يبتلعها. بدا أنها توقعت وجهًا آخر... لكن الذي دخل لم يكن وجه سار أبدا.كان الذئب الذي يحترس منه القريب قبل الغريب.
تعلقت عيناها بوجهه، انفتح فمها لتقول اسمه القديم، ذلك الذي ما عادت تملك حق النطق به، لكنها صمتت. لا أحد ينادي الوحش باسمه.
ابتسم بخفّة، بلا دفء "ألم تشتاقي لي، ليلى؟" سأل بصوتٍ هادئ، لكنه غلف السكون برهبةٍ خرساء.
شهقت، خطت إلى الوراء، جسدها ينتفض. "أنا... أنا لم أكن أعلم... لم أكن أعلم أنك..."
قاطعها بنبرة خافتة:"أنني لست فؤاد؟ حمقاء من بين جميع الحمقى الذين فكروا مثلك فأرادوا نهش أخي الطيب؟"
همست وهي تتراجع: "أنا... أنا كنت مهددة.."
اقترب منها ببطء، نظراته تفتشها، لا بحثًا عن الحقيقة، بل عن نقطة ضعف تدمي."أخطأتِ الحساب يا ليلى. كنتِ تعتقدين أن الطيب سيغفر. لكنني لست هو، لماذا أقول ما تعرفينه جيدا، الطمع صور لك أنك تستطيعين الحصول ما ليس لك فيه حق....
ألم تجدي كذبة غير التي خطرت لك، ألم يخبرك عقلك الغبي ان مراد طوروس حتى و إن كان في أقصى حالات الهذيان لا يقترب من امرأة رخيصة."
أشار بعينيه إلى الحارس عند الباب، فزمجر الكلب من جديد، مما جعل جسدها يتكور في الزاوية كجسد دجاجة مذبوحة ترتعد قبل السكون.أدار الكرسي أمامها وجلس. وضع ساقًا على ساق، وأخرج من جيبه علبة سجائر فاخرة، أشعل واحدة بهدوء، نفث الدخان في الفضاء الضيق وقال:" اشفق على من سيجلسون في مكانك هذا.... من كان يتصل بكِ بإستثناء ديلارا؟."
صرخت و دموعها تنهمر: "لا أحد غيرها! لا أعلم! أخبرتُك بكل شيء!"
تجاهل ارتجافها، ثم مالت عيناه إلى الظل حيث الحارس يهمس للكلب. "إذن... ستبقين هنا. أنتِ لا تستحقين حتى موتًا شريفًا. لكنني أبقيكِ لأجل وجه أمكِ التي أطعمتني خبزًا بملح يوم كنتُ طفلًا."
وقف، ثم أضاف ببرود: "أتمنى أن يحسن هارون حراستك هذه الليلة فهو على الأقل لا ينسى الرائحة التي خانته." 
واختفى في الظلام كما دخل… بلا صوت، بلا ندم، طيف يجوب أرجاء القصر يشعر به الجميع لكنهم لا يدركون حقيقته.

عاد إلى جناحه الأصلي، خطواته الثقيلة تتردد في الممر الفسيح كأصداء ضمير مضطرب. القمر المكتمل يلقي بأشعته الفضية عبر النوافذ العالية، فترسم مساراً ضوئياً على الأرضية الرخامية الباردة.
عند مدخل الجناح الداخلي، توقف فجأة. هناك، بين أكوام الوسائد الحريرية، كانت تنام بسلام. ضوء القمر يلعب على ملامحها الهادئة، فينحت وجهها من العاج في بحر من الظلام، ابتسامة ناعمة تزين ثغرها الزهري.
"يا لكِ من لغز..." همس بصوت مكتوم، كأنه يخاف أن يوقظ شبحاً. "كيف تستطيعين النوم بهذه الطمأنينة بينما العالم من حولنا يحترق؟"اقترب على أطراف أصابعه، معطفه الأسود ينساب خلفه كذيل ظل طويل. جلس على حافة السرير بحذر، خشبة السرير تئن تحت وزره الخفيف. 
يده الكبيرة، التي قبل ساعات كانت تقبض على خنجر بلا رحمة، تمددت الآن لتمسح خصلة شعر حريرية سقطت على جبينها الناعم. حركته كانت برقة عازف البيانو على المفاتيح العاجية.
"لو علمتِ كم من الخطر الذي يحيط بك" صوت خافت يكاد يكون تنهيدة. "ولو رأيتِ ما أراه كل ليلة في كوابيسي...انت ابتلائي الذي أصاب قلبي بداء لا شفاء من."
في الخارج، مرت سحابة عابرة فحجبت نور القمر للحظة. في هذا الظلام المؤقت، انحنى مراد، شفتاه تداعبان جبينها الساخن و تسرق قبلة خاطفة بغية ري قلب عاشق أنهكه الضمأ، سرق أخرى أشد خطورة، كسر بها كل القواعد الصارمة التي وضعها لنفسه.
"أنتِ خطيئتي الوحيدة التي لا أندم عليها." اعتراف أخير قبل أن ينهض.... عند الباب، التفت للمرة الأخيرة. كانت قد تحركت في نومها، وكأنها تشعر بغيابه الوشيك. ابتسم تلك الابتسامة النادرة التي لا يعرفها أحد سوى جدران هذه الغرفة" لا تخافي، أنت في مكانك الصحيح و الآمن".
أغلق الباب خلفه بهدوء، عائداً إلى عالمه من الظلام والعنف، حاملاً في قلبه تلك الصورة الأخيرة – ملاك نائم في بحر من الحرير، الذكرى الوحيدة التي تذكره أنه ما زال إنساناً.
🪻🪻🪻

أشرقت خيوط الشمس الأولى عبر الستائر الثقيلة، لتداعب برقة وجه حنين النائم بين رداءات الفراش الوثير.
تمطت بكسل وهي تفرد ذراعيها ببطء، كأنها تستعيد عافيتها بعد ليلة طويلة من النوم العميق، أغمضت عينيها ثانية لتهرب من الواقع للحظات.لكنها فتحتهما فجأة، بشكل حاد، حين أدركت المكان الذي وجدت نفسها فيه.
لم تكن غرفتها المعتادة، ولا سريرها البسيط، بل غرفة فخمة، كبيرة، تنضح بالرقي والرفاهية، بلمساتها الباهظة التي تخبر قصص أناس يعيشون في عالم مختلف، انتفض قلبها بعنف.
نظرت حولها بدهشة، تساءلت في نفسها:
«أين أنا؟ وكيف وصلت إلى هنا؟»
بدأ قلبها ينبض بسرعة، ممزوجاً بمزيج من الفضول والتوتر، وكل ما حولها يبدو وكأنه يشهد على ليلة لم تستطع تذكر تفاصيلها بوضوح. 
"صباح الخير" 
صمتٌ قصير ملأ الغرفة، كأن الزمن تجمد في لحظة شدّ الأعصاب، قبل أن ترتسم على وجه فؤاد ابتسامة خفيفة، رقيقة، تكاد تخفي خلفها مراوغة تتقنها أعوام من التماهي مع المواقف. 
رفع رأسه عن فنجان القهوة ببطء، ونظر إلى حنين بعينين تخترقان ضباب ارتباكها. "أعلم أنك لم تقصدي الوصول إلى هنا،" قال بهدوء يشي بفهمه، "إرهاقك سرق منك الحذر."
كانت متجمدة في مكانها، جسدها يرتجف بين تخمين سبب ما تعيشه وخجل الانكسار، عينيها تلمعان بمزيج من الخوف والتوتر، كأنها تقاوم رغبة الانسحاب تحت وطأة المجهول.
تنهد فؤاد ببطء، ثم نهض من كرسيه متجهاً نحوها بخطوات وئيدة، لكنها كانت خطوات من يملك سلطة هادئة لا تستجدي، بل تفرض نفسها بهدوء. ابتلعت ريقها بصعوبة، خديها يتوردان خجلاً. "يجب أن أذهب..." همست بصوت أجش، أصابعها ترتعش وهي تبحث عن حذائها.
وضع الفنجان جانباً، اقترب بخطوات بطيئة كي لا يفزعها. "قبل أن تهرولي كالأرنب الخائف..." ابتسم نصف ابتسامة مستمتعا بارتباكها، "أريد إخبارك أننا سنسافر إلى أثينا اليوم، هذا بعد تناول فطور متكامل، مزاجي دفعني لطلب تجهيزه في الحديقة، الطقس جميل هذا اليوم."
توقفت عيناها تتسعان بتفاجؤ. "أثينا؟"
"نعم. ولن نذهب وحدنا." أضاف وهو يعدل ربطة عنقه أمام المرآة. "لوجي ستكون معنا. أعتقد أن رحلة عمل و استجمام ستكون ممتعة لنا."
مازالت تقف متلعثمة، مشاعرها متضاربة بين الارتياح لوجود الطفلة والخجل من الموقف الحالي. "لكن كيف... لماذا..."
"الأوراق جاهزة، والتذاكر محجوزة." يقاطعها برقة وهو يمرر يديه في جيبه. "كل ما تحتاجينه هو أن تعودي إلى غرفتكِ وتجهزي حقيبتكِ."
التقطت أنفاسها العميقة وهي تحاول إخفاء ارتعاش يديها. "أفهم." همست، ثم اتجهت نحو الباب بخطوات سريعة.
"حنين..." ناداها قبل أن تخرج، صوته يحمل نبرة غير معتادة من اللطف. "ما حدث الليلة الفارطة... سيظل بيننا."
شهقت بذعر:" لكنه لم يحدث شيء بإستثناء الخطأ الذي وقعت به."... منحها ابتسامة اطمئنان لكنها تخفي الكثير.

تسللت خارج الجناح كما يفعل اللصوص، خطاها متسارعة، والهلع يسكن جسدها كزائر ثقيل. كانت تظن أن الهروب إلى غرفتها سيكون ملجأها الآمن، لكنها اصطدمت فجأة بنور التي وقفت بثبات في الممر، عيناها تلمعان بفضول لا يخلو من استفهام خفي.
شحبّت حنين، وخفق قلبها بشدة؛ كانت تخشى أن يُساء فهم تواجدها في تلك الجهة، أن يُرسم عليها صورة لا تعكس الحقيقة، وأن تتحول مجرد لحظة إلى دمار لا عودة منه.
ابتلعت ما كانت تستعد لقولِه من تبريرات، وحبسّت أنفاسها لثوانٍ، ثم التفتت بهدوء مشوبة بالخوف، وبدون كلمة واحدة، هرولت إلى غرفتها تحتمي بها.
أغلقت الباب بقوة أكبر مما قصدت، ثم وقفت تستند إليه وكأن ساقيها رفضتا حملها. الغرفة الصامتة تضخم صوت دقات قلبها التي كادت تختنق بها.
*يا للحمق.. يا للطفلة السخيفة التي لا تعرف كيف تتصرف!*
لكن تحت غضبها من نفسها، نبضت مشاعر أخرى أكثر إرباكاً. تذكرت كيف كان ينظر إليها قبل قليل - تلك النظرة التي لم تكن برودته المعتادة، بل شيء مختلف، شيء جعل صدرها يرتعش.
*لماذا ينظر إلي هكذا؟ لماذا يهتم؟*
أصابعها العصبية بدأت تطوي الملابس في الحقيبة بغير نظام. كل قطعة ملابس تذكرها بتفاصيل صغيرة عنه:
- كيف كان يصحح لها الأوراق المبعثرة في المكتب. 
- كيف يذكرها بتناول الطعام في وقته
- كيف يختار لها دائما المقعد الأكثر راحة في الاجتماعات
*إنه فقط رئيسك في العمل، لا شيء أكثر.. لا شيء أكثر! فلا تكوني حمقاء*
لكن قلبها العنيد رفض هذا المنطق: "أنت لست الموظفة الوحيدة التي تعمل معه، لماذا لا يفعل ذلك مع الأخرين، لقد نسيت انه كان استاذك منذ زمن بعيد." 
   لا... لا... لا، ليس صحيح ما تخمن به... يا إلهي لا أريد أن أجن... لا أريد مشاعر من طرف واحد... سأموت!!! ". *
وقفت فجأة أمام المرآة، تحدق في المرأة الحائرة التي تواجهها:
- خدود وردية من الخجل
- عينان تلمعان بإرباك
- شفتان ترتجفان بين توبيخ الذات وانتظار شيء لا تجرؤ على تسميته
*هل من الخطأ أن أستمتع بهذا الاهتمام؟ أنا التي لم يحمل أحدٌ همي من قبل..*
في الخارج، سمعت صوت خطوات الخادمات يستعدن للرحلة. ضحكاتهن البريئة زادت من ارتباكها. ماذا سيقولن لو عرفن؟ ماذا سيقول الجميع عن المساعدة التي تقضي الليل في جناح الرئيس؟... من الجيد أنه قال بأن لا أحد سيعرف بما حدث.
أغلقت الحقيبة بعنف، عيناها تلمعان بضوء جديد خليط من الخوف والترقب.. وكأنها على وشك اكتشاف سر خطير.

🪻🪻🪻

هدير محركات الطائرة الخاصة ينساب كأنينٍ بعيد، بينما كانت تقف شامخة على مدرج خاص بعيد عن أعين الفضوليين.
صعد فؤاد درجات السلم المعدني بخطى ثابتة، بذلته الداكنة تليق برجل أعمال لا يتنازل عن هيبته حتى في السفر. بين ذراعيه، كانت الطفلة لوجي تلفّ جسدها الصغير في بطانية ناعمة بلون عاجي، غافية بملامح بريئة لا تعي شيئًا مما يدور حولها.
خلفه، كانت حنين تصعد بتردد. نظرت إلى الطائرة كمن يتهيأ لعبور حدود جديدة — حدودًا لم تكن تعلم أنها ستصلها بهذه السرعة، ولا بهذا الكم من الارتباك.
كان السكون يلفّ الطائرة من الداخل، كل شيء مُعد بعناية: الأرائك الجلدية، طاولة الاجتماعات الصغيرة، عبيرٌ هادئ من العود يتسلل في الأجواء، وصوت المضيفة الخافت يرحّب بهم.
جلست في مقعدها بعد أن ساعدتها المضيفة، ثم نظرت إلى فؤاد الذي جلس قبالتها، وقد أسند لوجي برفق إلى حضنه. كانت الرضيعة تأتي بحركات بسيطة، تبحث عن صدر دافئ تطمئن إليه. ابتسم لها فؤاد، لمسة خفيفة من الحنان مرّت بعينيه، لكنها اختفت سريعًا خلف نظرة صارمة حين التقت عيناه بعيني حنين. 
"اطمئني، لن تكون الرحلة شاقة." قالها دون أن يشرح ما ينتظرهم هناك.
اكتفت بإيماءة خفيفة. لم تكن تعرف كيف تصيغ الأسئلة الكثيرة التي تثقل صدرها — عن سبب سفرها معه، عن مكانتها في هذا الترتيب الغريب، عن تلك الطفلة التي تسكن حضنه وتربك قلبها.
حين بدأت الطائرة تتحرك على المدرج، شبكت أصابعها تلقائيًا، محاولة كبح ارتجاف طفيف في أطرافها.

رمقها فؤاد بنظرة جانبية، ثم مال قليلًا وهمس:
 "هل تخافين من التحليق، أم من القادم؟"
لم تجبه، لكنها حولت نظرها إلى النافذة الصغيرة، تخفي اشتعال وجنتيها، وتُخفي نفسها، يريد طمئنتها لكنه لا يعي أنه الخطر الوحيد الذي تخاف منه، تغرق فيه و تركض إليه رغما عنها.

في الخارج، تقلع الطائرة… وفي الداخل، كانت قلوب كثيرة تطير، لكن إلى وجهات مختلفة.
 

شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1