رواية ابتليت بها الفصل الحادي عشر بقلم قطر الندي
الستائر المخملية الثقيلة لم تُسدل كما تفعل كلّ صباح. كانت أشعة الشمس تتسلل بوقاحة من بين ثناياها، تصفع وجه ديلارا بخفة، كما لو تُذكّرها بأنها لا تملك حتى حق الاحتماء من الضوء.
تمطّت ببطء، رأسها يئن من ثقل السُكر، والمرارة تتخثر في حلقها كغصة لم تبلعها بعد. كانت زجاجة النبيذ نصف الفارغة ما تزال مستلقية على الطاولة الجانبية، كأس بلّوري مائل يشي بأنها توقفت فجأة، ربما حين انسكبت دموعها. أو عندما فقدت وعيها من شدة الغضب.
رفعت يدها إلى جبينها، تدلكه بتوتر وهي تهمس من بين شفتيها المشققتين:
"أحمق... جبان..."
لم يكن واضحًا من تقصد: فؤاد الذي أفلت من قبضتها؟ أم الحظ الذي سمح للفتاة أن تسرق اللقطة الأخيرة؟ أم نفسها التي بالغت في الوثوق بخطّتها؟
نهضت ببطء، وقد تشابكت خصلات شعرها الفوضوية حول وجهها كأنياب ذئب لا ينام. سارت حافية القدمين فوق السجادة الناعمة، عيناها تتأرجحان بين السخط والإرهاق، فيما جسدها ينوء بثقل ليلة لم يكن بها سوى خيبات.
وقفت أمام المرآة، تنظر إلى وجهها بتمعن، الكحل الملطخ تحت عينيها، الأثر الشاحب لأحمر الشفاه، والبريق الغائب من نظراتها… لم تكن هي. ليست هذه ديلارا التي لا تُهزم.
"سرقتِه مني، أليس كذلك؟" تمتمت، وكأنها تحدث صورتها المنعكسة. "لكن اللعبة لم تنتهِ بعد…"
تقدمت، التقطت الهاتف من على الطاولة، تفحصت رسائلها بلا مبالاة، ثم ضغطت على رقم محفوظ باسم مستعار، كُتب بلغة أجنبية لا تتقنها جيدا، لكنها تعرف أنه يجيب دومًا.
رنّ الهاتف، ثم أتاها صوته المألوف، ناعماً كالنار.
"كنت بانتظارك، ديلارا."
اتكأت على طاولة الزينة، عيناها تضيئان من جديد، والبسمة عادت إلى شفتيها مثل خنجر يُشحذ في الظلّ.
"ماركو… نحتاج أن نعيد ترتيب الأوراق. فورًا."
ثم أغلقت الخط، وأخذت نفسًا عميقًا. لقد انتهت نوبة الضعف… والآن بدأت المرحلة الثانية.
🎉🎉🎉
هبطت الطائرة الخاصة بنعومة فوق مدرج مطار أثينا الدولي، وسط سكون يليق برجال لا يحبّون الضجيج. لم يكن في الاستقبال مصورون ولا مضيفون يهرولون بابتسامات زائفة، فقط سيارة سوداء فارهة من نوع "مايباخ" تنتظر عند الممرّ الخاص، وسائق يرتدي بدلة رمادية قاتمة يفتح الأبواب بلا كلمة، كأن حضوره امتداد لصمت الرحلة نفسها.
نزل فؤاد أولًا، وقام بتعديل سترته بعناية، عينيه تتفحصان الأجواء من خلف نظارته السوداء، قبل أن يلتفت نحو حنين التي كانت تحمل الطفلة الصغيرة "لوجي" بين ذراعيها، متألقة بهدوءها، ترتدي معطفًا بلون العاج، وشعرها مربوط بنصف رفعة فوضوية منحتها مظهرًا أنثويًا ناعمًا. رغم نعاس الطفلة في حضنها، كانت خطواتها ثابتة، وعيناها تتفقدان المكان بحذر، كأنها تستشعر أن هذه الرحلة تحمل شيئًا أكثر من مجرد تغيير في المكان.
اقترب منها فؤاد، صوته منخفض لكنه آمر:
"دعيني أحملها، الطريق طويل."
ترددت لحظة، لكنها سلّمته الطفلة بهدوء، وحين لفّ ذراعه حولها بحذر، بدا المشهد كصورة عائلية عابرة، غريبة، لكنها دافئة. دون أن يقال شيء، تبادل ثلاثتهم نظرة صامتة… ثم استدار نحو السيارة، واضعًا الطفلة في المقعد الخلفي المخصص لها بعناية وكأنه يفعل ذلك للمرة الألف.
بدأت المدينة تفتح عينيها للتو، شوارعها لا تزال باردة من أثر الليل، والضباب الخفيف يرسم خيوطًا رمادية فوق التلال البعيدة.
داخل السيارة، كان الصمت ناعمًا، يتخلله صوت "لوجي" وهي تتنهد في نومها الطفولي، بينما جلست حنين تنظر من النافذة إلى منازل بواجهات حجرية، حدائق مهملة، ومقاهي مغلقة، ثم عادت بنظرها إليه — إلى فؤاد الذي بدا شاردًا أكثر من المعتاد.
أرادت أن تسأله عما يشغل ذهنه، لكنها لم تفعل. كان الجو بينهما مشبعًا باحترام هش، لا يحتاج إلى كلمات حتى لا ينكسر.
بعد رحلة غلب عليها الصمت، عند سفح تل هادئ على مشارف أثينا، توقف السائق أمام منزل حجري أنيق يختبئ بين أشجار الزيتون والصنوبر. سور من الحديد الأسود يفصل المكان عن العالم، وبوابة آلية فتحت نفسها تلقائيًا.
ترجّل فؤاد أولًا، ثم التفت يساعد حنين على النزول. لم تكد تطأ قدماها الأرض حتى شعرت بشيء غريب… كأن هذا المكان يعرفها. كأنها رأت هذا البيت في حلمٍ قديمٍ ذات مساء.
مدّ يده نحوها ليأخذ حقيبتها الصغيرة، لكنها ابتسمت بخجل:
"لا داعي… أستطيع حملها."
"أعرف.".. ثم مضى أمامها، يحمل الطفلة بلطف بين ذراعيه، وهي تلتصق بصدره كما لو وُلدت هناك.
فتحت خادمة يونانية الباب، رحّبت بهم بأدب، ثم قادهم الممر الحجري الصغير إلى الداخل، حيث استقبلتهم رائحة الياسمين وخشب الأرز….
ما إن أغلق الباب خلفهم حتى خيّم على المكان صمت أشبه بطمأنينة. البيت بدا كملاذ لا يعرف الصخب، مسكونًا بعبق البحر القريب ورائحة الخشب العتيق، يختبئ خلف جدرانه تاريخ لا يُروى بسهولة. لم يكن ضخمًا كقصور العاصمة، لكنه أنيق، مصمم بذوق رجل لا يحب التباهي، بل الأمان والخصوصية.
مدّ فؤاد يده وفتح الستائر، فتدفقت أشعة الشمس الخفيفة تغسل أرضية الرخام بلونها الذهبي. حمل لوجي برفق إلى غرفة النوم الصغيرة المعدة لها مسبقًا، وضعها فوق سريرها المزهر باللون الوردي، وغطاها بلحاف ناعم ثم قبّل جبهتها بحنوّ لا يظهره لأحد.
في تلك الأثناء، كانت حنين تدور في المكان بفضول خجول. أراحت حقيبتها على الأريكة القطنية، ومررت يدها فوق رف الكتب المحاذي للمدفأة، قبل أن تستدير ناحية المطبخ المفتوح وتهمس باندهاش:
"لم أظن أنك تُجيد اختيار أماكن هادئة كهذه."
رد فؤاد من باب الممرّ دون أن يلتفت:
"أفضل الأصوات التي لا تُسمع… هي أكثر ما يمنحك السلام."
ابتسمت، لكن شيئًا في نبرة صوته جعل ابتسامتها تتلاشى ببطء، ينقلب مزاجه فجأة كأنه يأرجحها بين الإطمئنان و الحذر.
في الطابق العلوي، كان آدم يتحرّك كظلٍ مدرّب، صامت، دقيق. فتح باب الشرفة الخلفية، تفقد الأقفال، ثم تفقد زوايا النوافذ. بعد ذلك اتجه إلى الطابق السفلي، عاين الغرف واحدة تلو الأخرى، فتح خزانة المطبخ، ثم رفع غطاء التهوية الصغير ليتأكد من خلوّه من أجهزة غير مرئية.
لم يطلب أحد منه هذا المستوى من التدقيق، لكنه يعرف أن بعض الرحلات تخفي ما هو أكثر من السياحة أو الاستجمام. وقد عاش ما يكفي من القصص مع فؤاد… أو بالأصح، توأمه.
وصل إلى غرفة المكتب الصغير في الزاوية، أدخل رقمًا سريًا في لوحة مموهة إلى جوار الرف، ففتح باب مخفي صغير يكشف عن وحدة مراقبة حديثة. أدار الكاميرات، عدّل زوايا بعضها، ثم أخرج هاتفه، أرسل رسالة مشفّرة:
"الموقع آمن، تم تثبيت المراقبة. لا مؤشرات على أي اختراق."
بعد أن طمئنه حارسه الأمين عاد فؤاد إلى الصالون، أزال سترته، وفتح أول أزرار قميصه. جلس على الأريكة المقابلة لحنين، سحب كوبًا من الماء، وقال وهو ينظر نحو السقف:
"نحتاج لبعض الهدوء… فقط يومان من الصمت و الاسترخاء."
نظرت إليه، ولم ترد. ثم نظرت إلى الطفلة التي تنام في الغرفة المجاورة، وشعرت بشيء لا يمكنها تفسيره… كأن وجودها هنا، الآن، لم يكن مصادفة.
🎉🎉🎉
هبّت نسمات البحر فلفّت الشرفة برائحة ملوحة ناعمة. كان المساء قد تمدّد على أطراف المدينة يلقي عليها ستارة من الغموض تخفي أسرارها، ورائحة القهوة التي أعدّتها حنين تعبق في الأرجاء. جلست حنين قرب الطفلة لوجي، تداعب يدها الصغيرة وتراقب انعكاس الضوء على وجهها الناعم.
في الداخل، كان فؤاد يتابع بعض الملفات على جهازه اللوحي، إلى أن اهتز الهاتف في يده.
إسم الدكتور فرحات الحركي.
توقف قلبه لحظة. ردّ سريعًا، وقبل أن ينبس بكلمة، جاءه الصوت المرتبك:"بدأ يفتح عينيه. بدأ يستفيق."
لثانية، سقط كل شيء من حوله. الشاشة، الأوراق، كل ما شغله لحظة اختفى. نهض بسرعة، اصطدم بحافة الطاولة، كاد أن يتعثر لكنه تماسك، وجهه انقلب من هدوئه الصارم إلى انفعال نادر. لم يقل شيئًا. لم يشكر فرحات، لم يسأل كيف أو لماذا. فقط أنهى المكالمة، وخطى نحو الباب يبغي الوصول إليه بلمح البصر.
أثناء خروجه، التفتت إليه حنين، فوجئت بسرعته، علامات التوتر مرسومة على وجهه.
"إلى أين؟"
لم يجبها. كانت يده على مقبض الباب، ثم التفت نحوها وقال بصوت خافت، حاول أن يجعله هادئا هذه المرة:
"أمر طارئ… سأعود لاحقًا."
وغاب.
بقيت تنظر خلفه، تهمّ بأن تسأل، بأن تلحقه… لكن شيئًا في عينيه أخبرها أن لا تفعل. كان مضطربًا، متهورًا، كأن نداءًا مجهولا استدعاه فجأة.
سار مراد بخطى سريعة في ممرات المستشفى، لم يوقفه حراس أو موظفون رغم صرامة قوانين المكان. يعرفون من هو، لكنهم لا يعرفون أنه صاحب هذا الصرح في الظل. وصل إلى المصعد السري، خرج إلى جناح خاص لا تطأه أقدام الزوار.
كان فرحات في انتظاره أمام الباب، ابتسامة مختلطة بالقلق على محيّاه.
"لم يتكلم بعد… عيناه فقط، تحاولان استكشاف المكان."
مراد لم ينتظر أكثر. دفع الباب برفق، ودخل.
الغرفة هادئة، الضوء خافت، والآلات تهمس. على السرير الأبيض، يرقد فؤاد، شقيقه التوأم… النسخة الأخرى منه، تلك التي غابت طويلًا عن العالم. كانت عيناه مفتوحتين، تطرفان ببطء، كأنهما تتعرّفان مجددًا على النور.
اقترب مراد، انفطر قلبه وهو يرى توأمه هزيلًا، كأنه استهلك أعوامًا من النسيان. وقف قربه، همس بصوت لم يصدر عنه منذ زمن:
"فؤاد…أخي."
التفتت عينا المريض نحوه ببطء. لم ينطق، لكن جفنه تحرك، كأنه يعرف الصوت، كأن شيئًا بداخله أخبره: "لقد عدت."
اقترب منه أكثر، جلس قرب السرير، أمسك بكفه، قبلها بحنو وابتلع دمعة في حلقه.
"أنا هنا… سامحني، لقد تأخرت عليك. لكنني فعلت ما يجب… من أجلك."
الصمت فقط يطبق على المكان.
مجرد نظرات، ومشاعر تتزاحم دون كلمات.
ساد السكون في البيت الساحلي، لا يُسمع سوى ارتطام أمواج بعيدة تتكسر على شاطئ مهجور. عقارب الساعة تشير إلى ما بعد الواحدة، وحنين لم تنم بعد. كانت في غرفتها، مستلقية على طرف الأريكة، تحمل كتابًا بين يديها منذ ساعة لكنها لم تقرأ منه شيئًا.
كلما أغمضت عينيها، تراءى لها وجهه… تعبيره، انفعاله، خروجه المفاجئ، نظرته الغريبة التي لم تعهدها من قبل.
"مابه…" همست لنفسها، نهضت بتململ ومشت نحو الشرفة. وقفت هناك، عيناها تتفقدان الطريق المؤدي إلى المنزل، كأنها ترجوه أن يعود وتعرف منه ما حدث.
وفجأة… أضواء سيارة تقترب.
فتح الباب الخارجي بخفة، تقدم السائق أولاً، ثم ترجل فؤاد.
كان متعبًا. معطفه غير مشدود، خطواته أبطأ من المعتاد، وفي عينيه ظل تعبٍ دفين. حاول أن يبدو طبيعيًا… لكنه لم يكن كذلك.
حنين، التي لم تغلق النور في الردهة، لمحته.
ترددت لحظة، ثم نزلت درجات السلم بخفة.
"الحمد لله على السلامة…"
توقف عندما رآها، ارتسمت على وجهه شبه ابتسامة ممتنة، لكنها لم تلامس عينيه. أجاب بصوت أجشّ:
"لم أكن أنوي التأخر… حدث أمر مفاجئ."
صمتٌ قصير. لم تسأله "ما الأمر؟"، لكنه شعر بها تسأل.
"عمل خاص… شيء قديم عاود الظهور فجأة."
كاد أن يقول "شخص غائب"، لكنه بلع الكلمة في الوقت المناسب.
حدّقت فيه بتمعن، وشيء ما في داخلها تلوّى.
"تسمع ما يقول… لكن شيئًا آخر يحدث خلف هذه الكلمات."
قالت، تحاول أن تبقي صوتها هادئًا:
"بدوت مضطربًا عند مغادرتك… خفت أن يكون هنالك مكروه."
نظر إليها، طويلاً، كأنه تائه بين شكرٍ عميق لرقتها، وبين عجز عن قول الحقيقة. همس:
"بعض الأمور… لا يمكن شرحها، ربما أفعل لاحقا."
فأومأت برأسها، لكنها لم تقتنع.
عندما صعد إلى جناحه، وقفت وحدها في الردهة الفارغة. نظرت نحو الباب الذي دخله، ثم إلى السقف، ثم همست:
"هل تخفي عني شيئًا، يا فؤاد؟يوجد في حياتك سر، هذا ما يخبرني به حدسي"
ثم ابتلعت ريقها، وتراجعت إلى الظلال.
🎉🎉🎉
صباح يوم جديد – ضوء ذهبي يغسل شرفات البيت المطل على البحر في أثينا
فتحت حنين النوافذ، فاندفع نسيم مالح ناعم إلى الداخل، حاملاً معه رائحة الخبز الطازج من البيوت المجاورة وصوت النوارس التي تحلّق عالياً فوق الميناء. تنفست بعمق، كأنها تحاول ابتلاع لحظة سلام... لكنها مازالت تتساءل: ما الذي أخفاه عنها البارحة؟
دخل فؤاد إلى الصالة بقميص كريمي خفيف، يفتح أزراره العليا كعادته، يحمل لوجي التي تقهقه بصوتها العذب. عيناه تتلألأ فيهما حياة لم تراها فيهما منذ أسابيع.
"ما رأيك؟" قال، وعيناه تتنقلان بين الطفلة وحنين. "نخرج لتناول الفطور اليوم... مكان صغير وجدته بالأمس، قريب من البحر. الجو مثالي، والشاطئ شبه فارغ."
ابتسمت، رغم ارتباكها. "فطور في الهواء الطلق؟ أخشى أن نختطف الأضواء، بهذه الصغيرة الساحرة."
ضحك بخفة. "دعينا نسرق بعض الفرح، قبل أن يعيده أحد."
بعد ساعة، في مقهى ساحلي أثري،
جلسوا عند طاولة خشبية بسيطة تحت مظلة قش، أصوات الموج المتكسّر تلامس أطراف أحاديثهم. الطفلة تمضغ قطعة خبز صغيرة في حضنها، تتأمل الطيور كأنها تكتشف الكون.
طلب فؤاد قهوته السوداء، وطلب لها شايًا بنكهة النعناع.
"هل تعلمين؟" قال وهو يتأمل البحر. "لو كانت الحياة كتابًا، لأبقيت هذه الصفحة مفتوحة طوال العمر."
أجابت، وهي تنظر إلى قدميها تغوصان في الرمل: "لكن الكتب تُغلق في النهاية... أليس كذلك؟"
نظر إليها طويلاً، كأنه يفهم عمق ما قالت… لكنه لا يريد الرد.
بعد الفطور، تركا الطاولة وسارا على الرمال. لوجي في عربتها تلوّح بساقيها فرحًا، وحنين تمسك بذراعها قبعة خفيفة. فؤاد يدفع العربة وهو ينحني أحيانًا ليُضحك الصغيرة أو يلتقط صَدفة ويمنحها إياها.
ضحكهم يمتزج بصوت الموج، خطواتهم تترك أثراً مؤقتًا على الرمل الرطب… وكل شيء يبدو مثالياً.
لكنّ قلب حنين كان متقلّبًا... لا تدري، أهو الخوف من أن تفقد هذه اللحظة، أم الخوف من أنها ليست حقيقية كما تستشعرها؟
توقف فؤاد فجأة، نظر إلى الصغيرة التي غفت في عربتها، ثم إلى حنين التي كانت تسرّح شعرها بيديها.
همس كمن يتكلم مع نفسه:
"من كان يصدق أن بعض الظلال… قد تجلب هذا الكم من النور؟"
نظرت إليه، ولم تسأله ما يقصد. فقط ابتسمت، ثم التفتت إلى البحر… وخبأت قلبها.
🎉🎉🎉
في شقة فاخرة في الطابق السابع والعشرين — الساعة العاشرة صباحًا
كان عزّت قد أنهى اتصاله الصباحي بأحد شركائه حين وصله إشعار بنكي على هاتفه. لم يكن ليتوقف عنده لولا أن الرقم جذبه بقوة، كما يجذب الضوء الفراشة إلى حتفها.
“تمّ سحب مبلغ **** من حسابكم المشترك – المستفيد: فتون عزّت.”
ظلّ صامتًا للحظة، حدّق في الشاشة، ثم أطفأها ببطء. نهض من كرسيّه خلف المكتب الزجاجي، ووجهه جامد كقناع من حجر.
توجّه بخطى هادئة نحو جناح الملابس، حيث كانت فتون تقف أمام المرآة، ترتّب شعرها بعناية وهي ترتدي ثوبًا نهاريًا فاخرًا. لم تلاحظ دخوله أول الأمر، لكن حين انعكست صورته في المرآة، التفتت إليه بنصف ابتسامة.
فتون:"صباح الخير، عزّت... لم تنم جيدًا، أليس كذلك؟"
لم يرد. أخرج هاتفه من جيبه وقرّبه من وجهها، ثم نطق بهدوء لا يخلو من الجليد:
عزّت: "هلّا أخبرتني عن هذا؟"
نظرت إلى الإشعار بنظرة سريعة ثم أعادت عينيها إلى المرآة:"آه، نعم. لقد دفعت قسطا في السيارة التي رأيناها الأسبوع الماضي. بدا لي الوقت مناسبًا."
عزّت: "من حسابنا المشترك… دون علمي؟"
رفعت كتفها باستخفاف، وقالت دون أن تلتفت إليه:"عزّت، رجاءً، لا تتصرف وكأننا في سوق شعبي. سيارة جديدة لا تُعد أمرًا جللًا، ثم إنك وعدتلتفتها. أليس كذلك؟"
اقترب منها بخطوات ثابتة، لكن صوته ظل منخفضًا، فيه شيء من الألم:"وعدتك، نعم… لكن لم أعدك بأن تتصرفي بأموالي كما تشائين دون أن ترفّ لك عين."
ضحكت بخفة وهي تدير جسدها نحوه أخيرًا، نظرة لامعة في عينيها:"منذ قرّرت أن ترتبط بامرأة تعرف تمامًا ما تستحقه. أنا لا أطلب الكثير، عزّت. فقط حياة تليق بي. وهذا المبلغ لا يُذكر أمام مكانتي كزوجة لك."
رفع حاجبيه ببطء، ملامحه متيبّسة:"مكانتك؟ هل تقيمين حياتنا بالمال يا فتون؟ حتى حبي لك؟"
تقدّمت نحوه بخطوة، ثم قالت ببرود:
"أنت تحب التظاهر بأنك عاطفي… لكنك في النهاية رجل أعمال. تشتري، تبيع، تستثمر. ما الفرق بينك وبين أي صفقة أخرى؟"
سقطت الكلمات عليه كسكين باردة. لوهلة، لم يجد ما يقوله. فقط نظر إليها طويلاً، وكأنّه يرى فيها شيئًا لم يره من قبل.
"الفرق، يا فتون، أنني حين أحببتك… لم أضعك في خانة الأصول المتداولة."
ثم التفت مغادرًا.
ترك خلفه مرآةً انعكست فيها صورتهما… لكن لم تعد ترى فيها سوى نفسها، وحدها.
🎉🎉🎉
أغلق فؤاد باب مكتبه بهدوء، ألقى سترته على المقعد الجانبي، جلس خلف مكتبه يُقلّب أوراق الصفقة التي وقّعتها حنين صباحًا، لكن ذهنه شارد. طرق خفيف على الباب.
فؤاد (من دون أن ينظر): "ادخل."
دخل آدم، يحمل في يده جهازًا صغيرًا، ونظرة غير معتادة.
آدم (بصوت منخفض): "حصلت على ما طلبت، سيدي...."
اقترب، وضع الجهاز على المكتب، ضغط زر التشغيل.
بدأ الصوت مشوّشًا، ثم:
صوت ديلارا، حادّ وواثق:
"الواجهة تبقى نظيفة… شركة طوروس ستوقّع باسمها، والتمويل يُمرَّر عبر فرع زيورخ. المدير نفسه أعطاني الضوء الأخضر، ولن يجرؤ أحد على التشكيك في توقيعه."
صوت ماركو، هادئ كمن يختبر شريكه:
"أأنتِ متأكدة من ولائه؟ فؤاد لا يُسامح الخونة."
ضحكة ديلارا، باردة:
"لو كان فؤاد من يدير كل شيء فعليًا… ربما. لكني أشك في أنه حتى يعرف نصف ما يدور تحت أنفه. مدير فرع باريس؟ تحت قبضتي."
ماركو، متفاجئ قليلًا:
"مدير باريس؟ تقصدين عدنان؟"
ديلارا، بنبرة تهكم:
"الوفيّ المخلص؟ إنه لا يرى أكثر من دفتر شيكاتي… صدقني، في الوقت المناسب سيوقع، ويختم، ويفتح لنا الباب إلى الأصول الأوروبية."
التسجيل يتوقف.
سكون.
يرفع فؤاد نظره ببطء إلى آدم، لم تتغير ملامحه… لكنها لم تعد بشريّة تمامًا. حدّته الصامتة كانت كافية لتجمّد الهواء في الغرفة.
فؤاد (بصوتٍ عميق):
"عدنان…"
نهض واقفًا، يسير ببطء نحو النافذة، يزيح الستار قليلًا. (يكمل، وكأنه يُحدّث ذاته):
"رجلٌ كونته من الصفر، جعلت اسمه على رأس فرع حساس… وفي النهاية، يبيع شرفه لحفنة يوروهات."
آدم، مترددًا: "هل نُحرك الفريق الذي في روما؟"
فؤاد (بصوت من حديد):
"لا. نتركه… يتمادى. أريدهم يظنون أنفسهم أذكى منّا."
استدار نحو آدم و أضاف بثبات مرعب:
"ديلارا تلعب في منطقة لا تعرف خرائطها… لكننا سنرسم لها الطريق إلى الجحيم خطوة بخطوة."
أغلق فؤاد الجهاز ببطء، أصابعه ترتجف من شدة الانضباط… لا من الخوف، بل من الغضب المكبوت. عيناه مازالتا معلقتين على النافذة، حيث الأفق لا يعبّر عن شيء سوى سواد داخلي لا يهدأ.
طرقات خفيفة.
لم يجب.
دخلت حنين برفق، تحمل فنجان قهوة بين يديها، ملامحها متوترة بعض الشيء لكنها تحاول أن تبدو طبيعية.
حنين (بصوت ناعم):
"أهلًا... آسفة على الإزعاج. فقط أردت أن أخبرك أن السيدة إيلينا أصيبت بصداع، اضطرّت للعودة إلى منزلها، حاولت أن تُكمل اليوم لكنها كانت تتألم طوال الوقت..."
لم يتحرك، لم يرد.
تقدمت خطوتين بتردد، نظرت إلى ظهره المشدود.
حنين (بابتسامة خفيفة محاولة التخفيف من حدة الأجواء التي استشعرتها):
"أظن أن لوجي لم تكن متعاطفة معها… ظلت تراقبها كأنها تتوقع عطسة نووية."
لا شيء أيضا.
استدار أخيرًا.
كانت نظراته… قاسية، لكنها ليست موجهة لها. العاصفة داخله لم تنحسر، لكنه كافح بكل ما أوتي من رصانة حتى لا تنفجر.
مدّ يده، التقط الفنجان منها بهدوء.
فؤاد (بصوت أجش منخفض):
"شكرًا... سأُرتّب أمر بديلة صباحًا ان لم تستطع العودة."
لاحظت ارتجافة أصابعه وهو يحمل الفنجان.
حنين (بتوجّس):
"هل... كل شيء على ما يُرام؟ تبدو مختلفًا."
نظر إليها، ثم أغمض عينيه لحظة، تنفّس ببطء، كأنما ينتزع قناع الوحش عن وجهه ويُعيد تثبيت الملامح الهادئة.
فؤاد (بصوت أكثر نعومة):
"كل شيء بخير… مجرد بعض الأخبار السيئة. أمور عمل لا تستحق أن تعكّر هذا المساء."
ابتسم لها. لكنها لم تكن ابتسامة حقيقية… بل نوع من السلام الزائف.
حنين (بقلق): "لو احتجت لشيء... أيّ شيء، أنا هنا للمساعدة."
ترددت، ثم استدارت لتغادر، لكنها لم تقاوم أن تنظر إليه مرة أخيرة قبل الخروج.
فؤاد:"بما أن المدبّرة رحلت… سنضطر للتفكير في عشاء الليلة."
كادت أن تجيبه بجملة رسمية، لكنها توقفت، وابتسمت ببطء، وكأنها تستعد للدفاع عن مجد خفي. قالت بثقة لطيفة:
"أوه، هذا يعني أنكم ستتذوّقون مواهبي الخاصة."
رفع حاجبه بسخرية طفيفة و قال:
"مواهب؟ أي نوع من المواهب لديك؟ لا تقولي لي إنك تتقنين غلي الماء."
حنين (بضحكة مستفَزة):
"غلي الماء؟! اسمع…( و بدأت تسرد عليه قائمة من الأطباق التي تجيد اعدادها)... فلا تستهِن بي أو تتحداني!"
نظر إليها نظرة جانبية، ثم ارتشف بقية قهوته وكأنه يختبر ما سمع.
فؤاد (بمكر):" ما ذكرته يخيف أي معدة."
حنين (بمرح متحدٍ):
"أتحداك أن تتذوق... ولن تندم."
فؤاد (متكئًا على الطاولة، بنبرة هادئة):
"نتراهن إذا؟"
اتسعت عيناها.
حنين: "على ماذا؟"
فؤاد (بنبرة فيها مزاح ناعم):
"إن أبهرني ما ستعدينه، سأعترف بأنك لست مجرد موظفة ماهرة... بل طباخة يُعوّل عليها."
حنين (تضع يدها على صدرها وكأنها تتقبل التحدي رسميًا): "وإن فشلت؟"
ابتسم، ثم نهض من كرسيه، واتجه نحو الباب ببطء:"فأنتِ من سيتكفّل بطلب العشاء من الخارج… لي، ولوجي، ولآدم… ولمدة أسبوع."
ضحكت ضحكة قصيرة، ثم رفعت رأسها بثقة:
"صفقة. لكنّي أنصحك أن تُعدّ معدتك للمفاجآت."
فؤاد (وهو يغادر):
"أنا فقط أعدّ نفسي للنجاة."
تركها خلفه تبتسم بثقة ممزوجة بالحماس… المطبخ بانتظار إثبات الذات.
🎉🎉🎉
في المطبخ، الأجواء أشبه بمقطوعة ناعمة... تتداخل فيها أصوات التقطيع، رنين أدوات المطبخ، وهمسات فتاة تطهو بشغف.
وقفت حنين أمام الطاولة الطويلة، ترتدي مئزرًا أبيض نُقش على أطرافه ورود صغيرة، وقد رفعت شعرها بعناية، تاركة بعض الخصلات تتمرد حول وجهها.
على النار كانت اللازانيا تُطهى بهدوء في الفرن، رائحتها تملأ المكان بخليط من الأعشاب الإيطالية، صلصة الطماطم والجبن الذائب. على الجانب الآخر، وضعت آخر لمساتها على سلطة الزبادي بالفواكه — قطع كيوي، فراولة، وموز، نُظّمت بدقة على طبقة من الزبادي الكريمي، تزينها قطرات من العسل وذرات من الجوز المحمّص.
ثم التفتت نحو طاولة خشبية أخرى، أمامها باقة من الخضار الطازجة تنتظر: خيار، طماطم كرزية، خس مقرمش، فلفل ألوان، وشرائح رفيعة من الجزر. أمسكت بالسكين بحذر، وبدأت في التقطيع بحركات أنيقة. كل لون يوضع في سلطانية زجاجية على حدة، وكأنها تُشكّل لوحة فنية.
حنين (تهمس وهي تحرّك صلصة زيت الزيتون والليمون):"لو كان السيد فؤاد صادقًا في رهانه… سيفكر جديًّا في فتح مطعم، ظننته سيعرض المساعدة لأنه ذات مرة أخبرني أنه لديه تجارب في الطهي."
ضحكت لنفسها وهي تتذوق القليل من التتبيلة بطرف إصبعها، ثم مدت يدها إلى طبق تقديم واسع، وبدأت بترتيب المكونات بتوازن شديد — دائرة من الخس، تعلوها طبقات ملونة من الخضار، لمسة من الزعتر، ورشة خفيفة من الجبن الأبيض المفتت.
لكن قبل أن تنهي لمساتها الأخيرة، انفتح باب المطبخ بصمت.
استدارت فورًا، وكادت أن تسقط ملعقة التقديم من يدها…
وقف فؤاد في المدخل، بلا سترة، أكمام قميصه مثنية، شعره مبعثر قليلًا، ونظراته تتفحص المكان كما لو أنه يكتشف عالمًا جديدًا.
فؤاد (بعينين لامعتين ونبرة هادئة):
"أهذا مطبخ… أم محترف فنون؟"
ابتسمت رغمًا عنها، وكأنها تفاجأت بسرقته للحظة التي كانت تتفنن فيها.حنين (بسخرية خفيفة):
"لا تدخل قبل إعلان النتيجة… ما زال التذوّق مؤجلًا."
فؤاد (يقترب وهو يتفحص الطاولة):
"لازانيا… سلطة فواكه… وعصير برتقال. وتلك؟"
حنين (تشير إلى السلطة بابتسامة واثقة):
"تحفة صيفية من خضار موسمية… سرها في الترتيب، لا المكونات."
فؤاد (يميل برأسه):
"وهل أجرّب؟ أم أخشى أن يخيب أملي؟"
حنين (تضع يديها على خصرها):
"أنت من تحدّاني. وعليك أن تفي كلمتك معي."
اقترب، مدّ يده إلى شريحة خيار، وضعها في فمه، ومضغ ببطء… ثم اكتفى بنظرة جانبية فيها شيء من الاندهاش.
فؤاد (بصوت منخفض):
"قد أغيّر مجرى مسيرتك المهنية."
ضحكت بدعابة:
"تظنني سأترك طاولة الاجتماعات من أجل مئزر؟"
فؤاد: "ربما إن كانت الطاولة تُقدم بهذه الأناقة."
توردت وجنتاها، لكنّها تحاول إخفاء ارتباكها بانشغالها في ترتيب الصحون، بينما هو يراقبها بعين رجل نادرًا ما يستسلم لدهشته... لكن في تلك اللحظة، دهش و سعد.
في زاوية المطبخ، لوجي تراقب المشهد من كرسيها العالي، تمصّ إبهامها بعينين متسعتين. تلوّح فجأة بيدها نحو... شبيه والدها الذي انحنى نحوها و همس لها: "أخبريني، هل الطعام آمن؟ أم أننا ضحايا تجارب صديقتك؟"
رفعت حنين حاجبيها و قالت بنزق:
"إن لم يكن، فأنت المسؤول، أنت من راهن!"
ضحك… تلك الضحكة الحقيقية التي نادرًا ما يفلتها أمام أحد.
المائدة الصغيرة المستديرة، الواقعة قرب النافذة المطلة على حديقة المنزل الخلفية، ارتدت أفضل حلتها. مفرش ناصع البياض، صحون بورسلين لامعة، أكواب زجاجية مرصوصة بعناية، وكل طبق وُضع في موضعه كأن حنين كانت تخطط لتصوير إعلان.
جلست لوجي في مقعدها الصغير المخصص، ترتدي مريلة بنقوش زهرية، وتضرب بيديها على الطاولة بإيقاع عشوائي أثار ضحك حنين التي انحنت نحوها و قالت:
"أميرة العشاء جاهزة، فهل توافق صاحبة السمو على البدء؟"
ضحكت الطفلة، تلوّح بملعقتها الصغيرة في الهواء، فاقتربت منها تمسح فمها بحنان قبل أن تجلس في مكانها.
جلس فؤاد إلى رأس الطاولة، يتأمل الأطباق كما لو كان في مطعم خمس نجوم، لكنّ ما سحره لم يكن الطعام… بل الألفة، هذا الدفء الذي بدأ يتسلل إليه بلا مقاوممة، قال بصوته الهايء:"إن كانت هذه النتيجة من رهان بسيط… سأدخل معك في رهانات يومية."
تناولت السكين والشوكة بثقة و قالت:
"ليس بهذه السهولة… عليك إثبات جدارتك."
مدّ يده إلى طبق اللازانيا أولًا، قطع منها قطعة متوازنة، تذوقها ببطء… توقف لحظة، ثم نظر إليها نظرة صامتة.
حنين (بقلق مصطنع):
"أليست جيدة؟ أضفت لمسة خاصة… أو ربما كنت جائعة فقط وأنا أعدّها."
فؤاد (بكل جدية):
"لا… بل ممتازة. الطهي بإحساس، ليس مجرد مكونات."
حاولت إخفاء ابتسامتها لكنها فشلت:
"شكرًا، أيها السيد المتذوّق."
ثم توجهت إلى الصغيرة، تطعمها ملعقة من الفواكه المقطعة، بينما كانت الطفلة تتذمر وتدفع الطبق قليلاً. يراقبها فؤاد وهي تتعامل مع لوجي، عيناه تتعلقان بالمشهد أمامه: فتاة شابة، بسيطة، ولكن تحمل في عينيها تصميمًا لا يخبو، وطفلة صغيرة تملأ المكان حياة… صورة بدت له غير واقعية، لكنها كانت موجودة، هنا، أمامه.
قال بصوت خافت:"أحيانًا، الحياة تعرف كيف تفاجئك… حتى وأنت تخطط لها بحذر."
"أتقصد أننا انحرفنا عن الجدول الزمني للعشاء؟"
ابتسم… وأومأ:"بل انحرفنا عن كل الجداول… وهذا أجمل ما حدث."
سادت لحظة من الصمت الجميل، لا حاجة فيها للكلمات، فقط صوت لوجي وهي تدق بملعقتها على الطاولة، وضوء المصباح الدافئ فوق رؤوسهم، وأرواح ثلاثة تنسج شيئًا لم يُعلن بعد… لكنّه بدأ.
🎉🎉🎉
بينما كانت حنين تمسح يدي لوجي التي بدأت تملّ من الجلوس، تناول فؤاد رشفة أخيرة من عصير البرتقال، ثم وضع الكوب بهدوء على الطاولة، ونظر نحوها بتفكيرٍ بدا وكأنه ينسق الكلمات."غدًا… سنقوم بجولة في موقع المشروع الجديد. أحتاج أن ترافقيّ."
توقفت حركة يديها للحظة، ثم نظرت إليه بدهشة خفيفة: "أنا؟"
فؤاد (بثقة):
"نعم. أنت مسؤولة المتابعة. حضورك مهم… لا أريد أن أشرح كل التفاصيل مرتين."
ابتسمت ابتسامة خفيفة لم تستطع كبحها، رغم محاولتها التظاهر بالجدية.
حنين (مازحة):
"حسنًا، ما دمت لا ترغب في التكرار، سأتولى مهمة التفسير لاحقًا عنك."
نظر إلى لوجي ثم إليها:
"وسنأخذ الصغيرة معنا. الهواء الطلق سيُعجبها."
نظرت إلى طفلتها التي أخذت تثرثر بلغتها غير المفهومة، ثم ردّت بابتسامة واسعة:"اتفقنا… لكن إن بدأت بالتذمر، سأحمّل المسؤولية كاملة للمدير التنفيذي."
ضحك بخفة، ثم رفع حاجبه مازحًا:
فؤاد:"عقد واضح… أنتِ الشريكة في الربح والخسارة."
نظرت إليه، وقد شعرت، رغم خفة الحديث، أن شيئًا أعمق بدأ يتشكل بينهما… شيء لا يُقال بسهولة، لكن يمكن أن يُحسّ، بهدوء… تمامًا كهذه الليلة.
كان الليل قد بسط أجنحته على أطراف أثينا، ناثرًا سكونًا ناعمًا فوق المدينة القديمة. في تلك الشرفة الصغيرة، المطلة على حديقة المنزل المضاء بمصابيح خافتة، جلس فؤاد إلى الطاولة الخشبية، قهوته بين يديه، وعيناه تتابعان ضحكات الطفلة التي تشاغبه من حضن حنين.
كل شيء بدا… كاملًا و مثالي.
كانت حنين قد ربطت شعرها إلى الخلف برباط قماشي بسيط، وجلست تضحك من قلبها، تلوح للطفلة بلعبة قماشية، حتى بدا وكأنها نسيت أنها ضيفة في أرض لا تعرفها، وفي كنف رجل يخيفها أحيانًا بسلطته، ويجذبها أحيانًا بصمته.
كان يراقبها…
لا شيء مُبالغ فيه، فقط مراقبة رجل لم يعد قادرًا على تجاهل تيار يسري بين ضلوعه كلما رآها على طبيعتها. كانت تظن أن ضحكتها تخص الطفلة فقط، لكن الحقيقة كانت مختلفة.
وضعت الطفلة في حضنه و دلفت إلى الداخل، لتجلب بطانية خفيفة تحمي الصغيرة من نسمات الليل الباردة.
خلال غيابها، رنّ هاتفها المحمول على الطاولة مرةً أولى… « عزّت »، رقص الإسم على الشاشة فتجمّدت نظرات فؤاد عليه.
قطع رنين الهاتف تلك اللحظة، ثم عاد يهتز بإصرار كان كافيًا أن يجعل لون وجه فؤاد يتبدل.
حدّق في الإسم… جفّت القهوة في يده. ذلك الإصرار على مهاتفها جعل شيئًا ما في صدره يشتعل.
مدّ يده، و ضغط زر الرفض بصمت.
مرّت ثوانٍ.
عادت حنين وهي تضحك بخفّة، تمسك البطانية :
– « آه، نامت الصغيرة؟ ! كنت أحسبها ستُكمل سهرتها معنا. »
لم ترد ملامحه. جلسته لم تتغير، لكن شيئًا في عينيه… تغيّر.
كان يحاول إخفاءه، لكنها شعرت به، تلك البرودة التي تزوره بين الفينة و الأخرى فتجعلها تخاف النظر في عبنيه.
جلسَ في صمت، ينظر إلى الفناجين، ثم إلى الأفق، ثم إلى لا شيء.
أرادت أن تسأله، لكن شيئًا من الغرابة بدأ يتسرّب إلى ليلتهما و يعكر صفاء الأمسية.
أرادت أن تمازحه، لكنها ترددت.
رأته بعيدًا.
– « هل كل شيء بخير؟ »
همستها كانت حذرة.
رفع عينيه، ابتسم بخفة مصطنعة، وقال :
« كل شيء على ما يرام. لوجي أنقذت ليلتنا بعد يوم عمل طويل، أليس كذلك؟ »
أجابت بخفّة :
« بلى… تستحق مكافأة. »
لكن ما إن انهت جملتها، حتى رنّ الهاتف من جديد. مدّت يدها ببطء وأخذته، ثم ابتسمت توترًا : « عمي عمر… إنه يمرّ بوعكة بسيطة. »
كلمات عشواء تلفظت بها لكنها لم تقنعه.
مقلتيه ظلّتا معلّقتين بوجهها، لا يشكّ بكلمة، لكنه لا يصدقها أيضًا. هو لا يجهل عزّت… ويعرف جيدًا نوع العلاقات التي تزرعها هذه الأسماء في حياة الآخرين.
أومأ لها بصمت، ثم انحنى، رفع لوجي بلطف وهي تستند برأسها إلى صدره، وقال بصوت خافت : « الهواء بدأ يبرد… سأُدخلها. »
كان صوته هادئًا كعادته، لكنه لم يعد دافئًا.
راقبته وهو يحمل الطفلة بحنان بالغ، وكأنها تخصه.
حين اختفى في الداخل، عادت تنظر إلى الهاتف،
توقّف عن الاهتزاز و اختفى الإسم عن الشاشة.
شعرت بالأسف الشديد…لقد إنتهت الأمسية الجميلة التي تمنتها قبل أن تبدأ.
انطفأت الأصوات تدريجيًا خارج الغرفة، وبقي الصمت سيّد المكان. غير أن ذلك الصمت لم ينسحب على فؤاد، الذي وقف قبالة النافذة، يداه في جيبي بنطاله المنزلي، وعيناه ثابتتان على العتمة التي يلفها البحر عن بعد.
انقبض فكّاه حين استعاد المشهد؛ هاتفها يهتز... مرتين. نفس الاسم. عزت.
شدّ على قبضته ثم حرّرها ببطء كأنما يجاهد رغبة جامحة في سحق شيء ما.
فؤاد (بهمس ساخط):" إنسان ممل و متطفل."
تقدم نحو المكتب، أخرج ملفًا صغيرًا، لكن تركه مغلقًا دون أن يفتحه. جلس على حافة الأريكة، أراح ظهره على المسند، وأغمض عينيه للحظة، لكن عقله لم يمنحه هدنة:"إن كان هناك ما تخفيه عني… فستندمين يا حنين."
فتح عينيه فجأة، نهض كمن قرّر ألّا يُترك لوساوسه. اقترب من منضدته، تناول هاتفه المحمول، فتح تطبيق المراقبة السري، تأمل الشاشة للحظة، ثم أغلق الجهاز ببطء.
فؤاد (بصوت أكثر هدوءًا، لكنه حاد كالنصل):
"لا أظن أنك من هذا النوع… لكني لم أعد أؤمن بالظنون."
ترك الأنوار خافتة، وسحب الغطاء على جسده دون أن يشعر بالدفء. كان الليل طويلًا… والقلق أطول.
🎉🎉🎉
استيقظت حنين على همسات الشمس التي تسللت عبر الستائر البيضاء، تداعب وجهها بنعومة. تمددت قليلًا فوق الفراش، أطلقت تنهيدة متكاسلة، ثم رمشت بعينيها عدة مرات تحاول استيعاب ما يحيط بها. كانت ليلة طويلة، موشّاة بالهدوء، لكنها لم تنسَ تفاصيلها.
غادرت سريرها بخطى ناعسة واتجهت إلى الحمام المجاور. بعد قليل، خرجت ترتدي فستاتا قطنيًا أبيض، شعرها مرفوع بعفوية، ووجهها لا يزال يحمل أثر النوم.
نزلت إلى الطابق الأرضي تتوقع أن تسمع صوت الصغيرة أو نبرة فؤاد المعتادة حين يطلب قهوته، لكن الهدوء كان مطبقًا. تقدّمت إلى المطبخ، وهناك لمحت مدبرة المنزل، يوليا، تضع بعض الأكواب في غسالة الصحون.
رفعت المرأة عينيها، وابتسمت بودّ:
يوليا:
"صباح الخير آنسة حنين، نمتِ جيدًا؟"
بادلتها حنين ابتسامة فاترة، ثم سألتها بعفوية:
حنين:
"وأين لوجي؟ لم أسمع صوتها هذا الصباح."
تجمدت يدها على طرف الكرسي حين ردت المدبرة بهدوء:
يوليا:
"السيد فؤاد خرج بها منذ أكثر من ساعة… قال إنه سيأخذها في نزهة صباحية على الشاطئ."
ابتلعت حنين ريقها ببطء، وأجبرت نفسها على الابتسام.
حنين (بصوت متماسك):
"آه… جيّد، كانت بحاجة لبعض الهواء النقي."
لكن ما إن استدارت وغادرت المطبخ حتى خذلتها تعابير وجهها. عبست قليلاً، ثم تنهدت وهي تعود إلى غرفتها بخطى بطيئة. لم تكن تدري ما يؤلمها أكثر… أنهم خرجوا من دونها؟ أم أنها لم تعد جزءًا من تلك اللحظة الصغيرة التي كانت تتوق إليها؟
جلست أمام المرآة، أخذت تمشط شعرها ببطء، تحدث نفسها همسًا:
"ربما أراد بعض الوقت بمفرده مع لوجي… طبيعي… لا بأس، لا شيء يدعو للضيق."
لكن قلبها لم يكن بتلك القناعة. شعرت بمرارة خفيفة… لا خيانة، بل استبعاد ناعم، غير متعمَّد. وربما هذا ما جعل الأمر أشد قسوة.
ترجّل فؤاد من السيارة بخطى واثقة، لكنه بدا مغايرًا هذه المرة، يحمل بين ذراعيه الصغيرة لوجي، ملفوفة في بطانية بيضاء مطرّزة بخيوط ذهبية ناعمة. الهواء الصباحي البارد لامس وجهه، لكنه لم يتوقف. وجهه كان هادئًا… لكن في عينيه كان شيء ما يشبه الحنين… أو ربما الندم.
دخل عبر الباب الزجاجي الرئيسي للمستشفى، ألقى تحية مختصرة على موظفة الاستقبال، ثم توجه مباشرة نحو المصعد. كانت لوجي تنظر إليه بعينيها الواسعتين، تعبث بأزرار قميصه الصوفي، تثرثر بلغتها الصغيرة، وكأنها تشعر بشيء لا تدركه.
حين وصلا إلى الطابق المطلوب، فتح المصعد ليظهر ممر طويل تغمره إضاءة باهتة. خفف فؤاد خطواته، كأنه لا يريد أن يوقظ شيئًا — لا الرجل في الداخل، ولا ما يُخفيه قلبه.
دخل إلى الغرفة بصمت، كان فرحات واقفًا هناك، على بعد خطوات من السرير، يراقب النائم الذي بدأ يستعيد وعيه شيئًا فشيئًا.
فرحات (بابتسامة هادئة):
"بدأ يتحرّك، نظر إلي هذا الصباح… ثم أغلق عينيه مجددًا. عقله لا يزال في دوامة، لكنه يعود."
أومأ مراد دون أن يعلّق. تقدّم إلى السرير، وانحنى ببطء، قرّب الصغيرة من الرجل الراقد، وجهه شاحب لكنه ينبض بالحياة.
مراد (بصوت خافت):
"ها هي لوجي… ابنتك."
للحظة، عمّ الصمت الغرفة. لوجي تتأمل الرجل النائم، ثم مدّت يدها الصغيرة لتلمس وجنته. لم يتحرّك، لكنها هدرت بصوتها الناعم بعبارات لا تفهم. نظر مراد إلى هذا المشهد… أغلق عينيه لحظة. كأنما يعيد رسم الصورة في ذاكرته. لم يشعر بشيء كهذا من قبل — دفء، ضعف، ألم، وطمأنينة مؤقتة… كلّها في آن.
قبّل الصغيرة من جبينها، ثم قال لفرحات وهو يستدير:
"اسأعود لاحقًا."
وغادر الغرفة… تاركًا خلفه مشهدًا لا يشبهه، لكنه يحفر في أعماقه شيئًا لا يعرف كيف يسميه.
🎉🎉🎉
دلفت حنين إلى المكتب بخطوات مترددة، عذرها كان بسيطًا: تبحث عن شيء تقرأه. الكتاب وحده كان الملجأ الوحيد الذي لا يُحاكم قلبها، ولا يُطالبها بإجابات.
الضوء الطبيعي يتسلل من الستائر الشفافة، والهدوء يخيّم على المكان برائحة خشب قديم ممزوج بعطر خافت… يشبه كثيرًا رائحة فؤاد.
تقدّمت نحو المكتبة الكبيرة التي تشغل الجدار كاملاً، تمرر أناملها على العناوين المرتبة بعناية، ثم عيناها تلمح شيئًا غير متوقع… ألبوم صور، محاط بإطار جلدي بلون النبيذ الداكن، يكاد يختفي بين الكتب.
ترددت لحظة، نظرت حولها كما لو كانت ترتكب جرمًا صغيرًا، ثم سحبته برفق وجلست على طرف الأريكة القريبة.
فتحت الغلاف الأول… ووجدت نفسها أمام زمن لا يخصها.
ابتسامات مشرقة… أصابع متشابكة… عيون تبرق بشيء نادر.
زوجان. فؤاد… وامرأة لم تعرفها قط.
صورتان، ثلاث، عشر… ثم بدأت الصفحات تحكي: حفلة بسيطة في حديقة منزلهما، سفر إلى باريس، ضحكة مبللة بالمطر، لمسات مبعثرة على الخدود والكتفين، رسالة مكتوبة بخط اليد خلف صورة:
"إلى من جعل لحياتي معنى… لا أحد بعدك."
شعرت أن الألبوم لا يُطالع فقط… بل يُخترق.
صفحة بعد أخرى، كانت تشاهد حياة كاملة تنبض بين أصابعها. ملامح فؤاد في الصور… ذلك الفؤاد الهادئ، العميق، العاشق حتى النخاع، لم تره بهذه الطريقة من قبل. لم يكن رجل أعمال صارمًا، ولا الرجل الغامض الذي يطالعها بصمت… بل كان عاشقًا. رجلًا ذاب في امرأة.
أغلقت الألبوم ببطء. كأنها تغلق بابًا لا يجوز لها عبوره.
أعادته مكانه، بحرص مبالغ فيه، كأنها تودّع شيئًا لم تملكه قط.
وقفت، تماسكت، لكن قلبها لم يُطعها.
خرجت من المكتب بخطى أبطأ، نظرتها خاوية بعض الشيء. الهواء كان دافئًا، لكن شيئًا فيها أصبح باردًا.
تحدّثت مع نفسها، بصمت:
"رجل كهذا… لا يحب مرتين."
لم تستطع البقاء في ذلك البيت دقيقة إضافية… كل شيء فيه يخنقها الآن، كأن الجدران تضيق وتضغط على صدرها بشراسة غير مفهومة.
فتحت الباب بعصبية، وانطلقت خارجه بخطى حازمة.
كان آدم يقف في فناء المنزل، يتابعها بدهشة وهو يراها تنفلت من بين الجدران كما تنفلت العاصفة من سكون الصيف.
اقترب منها بخطوة:
"آنسة حنين، أظن أنّ الأفضل أن تنتظري حتى يعود السيّد فؤاد…"
توقفت، التفتت إليه بحدّة، وجهها يفيض غضبًا مزيجًا من الإحباط والخذلان:
"أنا لست طفلة تحتاج إذنًا كي تتنفس! ولا أطيق أن أُراقب طوال اليوم!"
تراجع آدم خطوة للوراء، لم يُجِب. فقط أومأ برأسه احترامًا لوجع لا يفهمه، لكنه يشعر بثقله.
تركت البوابة خلفها تُصفَق.
تابعت المسير نحو الشاطئ الصخري، ذاك الذي يمتد بهدوء على بعد مئة متر من المنزل… الموج لا يعلو هناك كثيرًا، لكنه يضرب الصخور بإصرار كما لو كان يحاول إقناعها بشيء ما.
جلست على صخرة مرتفعة، تطلّ على البحر بعينين ممتلئتين بالحيرة.
هدأ صخب العالم، لتبقى فقط مع هذا السكون الكبير… سكون البحر الذي يبتلع الكلمات والصراخ دون أن يُعطي إجابة.
تحدثت مع نفسها بصوت خافت، كأنها تبوح بسرّ إلى صديق خيالي:
"كنت أظن أنني… أقترب. أنني بدأت أفهم، بدأت أثق. لكنه رجل عاشق… كان، وربما مازال."
أخذت نفسًا عميقًا، وألقت بنظرتها إلى الأفق حيث يمتزج الأزرق بالرمادي:
"وأنا؟ ماذا أفعل في منتصف كل هذا؟"
الريح تداعب شعرها، تعبث بطرف فستانها، كأنها تقول لها: لا تتركي نفسك تغرق.
أغمضت عينيها وهمست:
"تعبت… من الظن، ومن الانتظار، ومن أن أبدو قوية وأنا لا أعرف حتى ما الخطوة التالية."
صمتت طويلًا، ثم ابتسمت بسخرية شاحبة.
"تضحك يا بحر؟ أراهن أنك التقيت آلافًا مثلي… وكلّهم رحلوا."
وساد الصمت.
فقط صوت تكرار الموج على الصخور، كنبض قلب يبحث عن نغمة مستقرة.
كانت تتأمل الأفق المسجّى بألوان غائمة، كأن البحر يعكس اضطراب قلبها. الرياح تداعب خصلاتها، لكنها لا تشعر بشيء… الشرود أعمق من أن تسمح للحواس بالعمل.
صوت خطوات خلفها قطع حبل أفكارها. التفتت فجأة ثم اتسعت عيناها بذعر.... رأت رجلاً يقترب بتثاقل. عيناه زائغتان، ووجهه شاحب من آثار إدمان لا يرحم. ابتسم ابتسامة مشوّهة:
"ما كل هذا الجمال؟ أنت وحدِك هنا؟"
تراجعت خطوة، شعرت بالخطر يتسلّل إلى جسدها.
"أرجوك… لا أريد المشاكل."
ضحك:"ولا أنا… أنا أيضا لا أحب المشاكل."
استدارت لتنصرف، لكنه سبقها ووقف أمامها. ارتبكت، حاولت الابتعاد عن طريق آخر… خطواتها تسابق نبضها.
ركضت — لكن الصخور لم تكن رحيمة بها.
قدماها انزلقتا على حجارة رطبة، ومع سُرعتها لم تلحظ الفجوة بين صخرتين.
علقت قدمها.
شهقت. حاولت السحب بقوة، لكن الحجر قبض على كاحلها كفخ.ارتفعت أنفاسها. "لا… لا.. ليس الآن!" فكّرت بجزع.
صوت خطواته يقترب، أصبح أقرب من أن يُحتمل.حاولت سحب قدمها بلا جدوى، تتشبث بالصخرة، عيناها تبرقان رعبًا، والدم يهرب من وجهها.
ركضت أنفاسه قبل خطواته، كأن حدسه سبقه إلى المصيبة. عينا فؤاد تمسحان الأرض والسماء والماء دفعة واحدة، حتى اصطادت نظراته تلك الظلال الثلاثة: حنين عالقة، الرجل يقترب، والخطر يلتف حولها كأفعى تُبطئ الضغط قبل أن تلدغ.
ارتفع صوته، حادًّا، غاضبًا، حاسمًا:
"ابتعد عنها فورًا!"
توقف الرجل في مكانه، ارتبك للحظة، لكنه تمادى، ظنّ أن القادم مجرد خصم إضافي… حتى رآه يقترب.
كان فؤاد يخطو بثبات، لكن الشرر المتطاير من عينيه أحرق المسافة بينهما قبل أن يُكملها. يداه ترتجفان — لا من الخوف، بل من الغضب.
بصوت منخفض، لكنه مشبع بالخطر:
"قلتُ لك… أبتعد."
لم ينتظر جوابًا. في لحظة خاطفة، انقض عليه وأمسكه من ياقة قميصه البالي، دفعه بقوة نحو أقرب صخرة، ارتطم الرجل بها ووقع أرضا.
— "هذه المرأة تخصّني. اقترابك منها كان خطأ فادحًا… لا تكرره ما حييت."
ركض الرجل كمن أفلت من الموت، يتعثر بين الصخور والرمل.
تحوّل فؤاد إلى حنين، كانت تتنفس بصعوبة، عيناها دامعتان، لا من الخوف فقط، بل من الصدمة أيضًا.
اقترب منها، جلس على ركبتيه دون أن يقول شيئًا. نظرة واحدة منه كانت كافية لتطمئنها: «أنتِ بخير.»
نظر إلى قدمها، رأى موضع الانحشار، تفحّص الصخرة، ثم رفع عينيه إليها:
"سيسبب هذا بعض الألم، تحمّلي."
أومأت برأسها وهي تحاول أن تثبت جأشها.
بخفة الخبير وقوة الحامي، فكك عالقها بثوانٍ، ورفعها بين ذراعيه دون أن ينتظر إذنًا.
"لن تلمس قدماكِ هذه الصخور ثانية، مفهوم؟"
همست بخجل، صوتها كأن لم يكن:
"كنت فقط… أحتاج أن أتنفس."
أجابها بنبرة هادئة لكنها صارمة:
"من الآن فصاعدًا… تنفسكِ سيكون تحت عيني، لن أسمح لك بالخروج دون اذني في المرة القادمة."
سار بها نحو السيارة، البحر في الخلف، والافق شاهده الوحيد… لكن القلب، ذلك الذي ظلّ صامتًا طيلة الرحلة، بدأ يُتمتم شيئًا لم يُفهم بعد.
فتح فؤاد الباب بيده الحرة، ثم أنزل حنين ببطء، كأنها زجاجة من البلور يخشى أن تُخدش. جثا أمامها، ويده ما تزال تساند كاحلها المصاب بلطف مذهل لرجل من حجمه.
أخرج من جيبه منديلاً نظيفًا وبدأ يزيل ذرات الرمل العالقة على بشرتها بحركات دقيقة. لم يكن يُحدّثها، لكن كل لمسة منه كانت تقول شيئًا: أنا هنا، لن أدعك تتألمين.
حنين، التي لم تكن تبكي حين هددها المعتدي، شعرت بدمعة ساخنة تحفر خدّها. لم تكن دمعة خوف… بل دهشة. دهشة من رجلٍ يحمل ملامح القوة، لكنه يعامل ضعفها وكأنه سرّ عظيم لا يجوز لأحد انتهاكه.
همست بصوت بالكاد خرج:
"لماذا أنت… طيب هكذا؟"
توقف للحظة، رفع رأسه إليها، نظراته تلمع بشيءٍ يشبه الألم، أو ربما شيء أعمق لا يُسمّى. أجابها بنبرة منخفضة:
"لأن العالم قاسٍ بما يكفي… فلا تكوني أنتِ وحدكِ من تتلقين ضرباته."
عادت تنظر إليه، وعيناها تمتلئان بأسئلة لا تجرؤ على طرحها. لم تعرف ما تقول، فاختارت أن تصمت، علّ صمتها يخبره بكل ما عجزت الكلمات عن حمله.
تحسس كاحلها برفق، ثم ضغطه بأصابعه بخفة:
"أشعر أنه مجرد التواء خفيف، لكن سنمر على الصيدلية في طريق العودة. لا مجال للمجازفة."
أومأت برأسها بخجل، ثم حاولت أن تشيح بنظرها عنه، لكن عينيه كانتا أقرب من أن تُتجاهلا. شعرت بدقات قلبها تتسارع، وجسدها يرتجف لا من الألم، بل من فرط ما شعرت به من أمانٍ نادر.
أغلق باب السيارة بلطف، واستدار إلى جهة السائق.
انساب هدير الطريق بينهما كجدار صامت، لا يقطعه سوى الأضواء المتقطعة التي تمر من نوافذ السيارة كل حين.تجلس إلى جواره، ذراعاها مطويتان أمامها، وعقلها يحاول أن يقنع قلبها بأنه بخير… وأنها بخير.
رنّ الهاتف المتصل بشاشة السيارة.
أضاءت الشاشة أمامهما، وكان الاسم واضحًا كضربة خنجر:
"ملكة الليل"
رمشَت، كأن عينيها خدعتاها. لكن لا… الاسم نفسه.
توسعت حدقتاها. قلبها ارتجف.
"أنا… أعرف هذا الاسم."
مرت لحظة، كأنها ومضة من ماضٍ قريب… تذكرت.
في إحدى الليالي، حين كانت في مكتبه، ورنّ هاتفه فجأة.
سحب الجهاز بخفة، نقره سريعًا، وقال بصوتٍ منخفض:
"عذرًا، مكالمة خاصة."
وانسحب إلى الخارج دون أن يشرح شيئًا.
"هل كانت هي؟ ملكة الليل؟"
ابتلع فؤاد ريقه، ضغط زر الرفض بهدوء، وكأن شيئًا لم يكن.
أعاد يده إلى المقود، واستمر في القيادة بصمت.
لم ينبس بكلمة.
أما هي، فقد أزاحت بصرها إلى الزجاج، لكن صدرها كان ثقيلاً.
"لماذا لم يجب؟ من تكون هذه المرأة التي تظهر كل مرة هكذا؟"
"ولماذا يُسميها… ملكة الليل؟"
توترت أطرافها، وشدّت قبضتيها على حقيبتها، ثم تركت تنهيدة صغيرة تهرب منها.
لم تلتفت نحوه. لم تسأله.
لكن قلبها كان يعجّ بالأسئلة، وكلها تحمل اسمًا جديدًا تجهل هوية صاحبته.
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم