رواية ابتليت بها الفصل الثاني عشر بقلم قطر الندي
انزلقت الطائرة الخاصة على مدرج المطار كظلٍّ صامت، تحيط بها
أضواء كاشفة خافتة، كأنها ترافق سرًّا لا يريد أن يُكشف. على الأرض، تحرك فريق الأمن بكفاءة أشبه بآلات مبرمجة، بينما انسابت حنين خارج المقصورة حاملة لوجي بين ذراعيها. الطفلة، التي غلبها النعاس، غفت بعمق تحت دفء البطانية الحريرية وكأنها بعيدة عن كل ما يجري حولها.
في الداخل، ظلّ فؤاد يتحدث عبر الهاتف بصوت منخفض، نبراته حادة وجافة، أشبه بمسامير تثبّت حقائق لا مجال لمجادلتها.
خلال الإقلاع من أثينا، التصقت حنين بزجاج النافذة. رأت المدينة التي عاشوا فيها أيامًا مميزة تبتعد ببطء، تذوب في الأفق مثل لوحة مائية تحت المطر. البيوت البيضاء، زرقة الأمواج، وصخب الحياة هناك... جميعها تحولت إلى ضباب يتلاشى.
في الأفق، بدت إسطنبول تتمدد تحت سماء الليل ككائن حيٍّ يستعد لابتلاع القادمين إليها. مدينة تحمل بين أحيائها أسئلة بلا أجوبة، وقلوبًا معلقة بين الحنين والندم.
ما إن لامست عجلات الطائرة المدرج، حتى ارتجّت حنين وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها. لحظة واحدة فصلت بين شعورها بأنها تستيقظ من حلم طويل... وإدراكها المفاجئ أنها ربما تدخل فخًّا لم تدرك ملامحه بعد.
انحنت الشمسُ كأنها تودّعُ الأرضَ بلهفة عاشقٍ متعب، تلطّخت السماء بلون الخمر والياقوت، بينما انسابت السيارة بين التلال المتمايلة كموجٍ أخضر. أشجار السرو الطويلة تُلوّح لهم من بعيد، وكأنها حراسٌ صامتون لتاريخٍ مدفون في هذه الأرض.
جثمت حنين قرب النافذة، تاركةً زجاجها البارد يلامس جبينها. عيناها تتبعان خطّ الغيوم الذهبية التي تذوب في الأفق، لكن نظراتها كانت أبعد من ذلك... أبعد مما يُدركه أحد. في المقعد الخلفي، لوجي نائمةٌ بسلام، محتشدةٌ في زاوية المقعد مثل طائر صغير، بينما فؤاد يقبض على عجلة القيادة بقوة، كأنه يحاول أن يمسك بشيء غير مرئي يتسرّب من بين أصابعه.
الطريق إلى القصر كان متعرّجًا، كخيطٍ مقطوعٍ من حكاية قديمة. مع كل منعطف، كان القصر يطلّ من بعيد، شامخًا ومظلمًا، نوافذه العالية تلمع تحت ضوء الشمس الأخير كعيونٍ مراقبة.
في صمتهم هذا، كان هناك ما هو أعلى من الكلام:
همسات الريح التي تحمل عبق الماضي، صراخ الصقور الذي يُقطّع المساء، ودقّات قلب حنين التي تُنبئ بعاصفةٍ قادمة.
أدركت في تلك اللحظة أن القصر لم يكن مجرّد حجارةٍ وممرات...بل كان مرآةً عاكسةً لكل ما خبّأوه في صدورهم من مشاعر متضاربة و غامضة يحملها كل قلب تجاه الآخر.
💎💎💎
مع بزوغ شمس يوم جديد، بدا المقر الرئيسي للشركة وكأنه خلية نحل ضخمة. انفجر ضوء الصباح عبر النوافذ الزجاجية للطابق 56، مُنعكساً على شاشات الكمبيوترات اللامعة التي لم تَبرح تعمل منذ الفجر. المبنى الفولاذي الشاهق، بقلبه النابض من الأسلاك والبيانات، بدا وكأنه يستعد لاستقبال جنرال بعد غياب.
أصوات خطوات الموظفين تتسارع في الممرات، الملفات تُحمل من مكتب إلى آخر، وأجهزة الحواسيب تومض بشاشاتها أمام وجوه مشدودة تركّز على مهامها.
رائحة القهوة الطازجة تختلط بأجواء الترقب، فاليوم ليس كأي يوم، هناك صفقات تُحسم واجتماعات مهمة على جدول الأعمال.
وفجأة، هدأ الصخب تدريجيًا حين انفتح الباب الزجاجي الكبير.
دخل فؤاد كما يعتقد الجميع، ببدلته الداكنة المفصّلة بعناية، وربطة عنق أنيقة تتماشى مع وقاره، خطا بخطوات ثابتة تحمل في طياتها مزيجًا من الثقة والهيبة.
تعلقت به أنظار الموظفين لحظة، منهم من أخفض رأسه احترامًا، ومنهم من أسرع لينهي ما بيده خشية أن يلحظه متهاونًا. كانت ملامحه هادئة، لكنها تحمل صرامة تكفي لإشعار الجميع بأن أي تقصير لن يمرّ دون حساب.
مرّ بين الصفوف دون أن ينطق بكلمة، لكنه ألقى نظراته الفاحصة، تلك النظرات التي تكشف أكثر مما تقول. حتى الهواء بدا وكأنه يتنفس بحذر في حضوره، خطواته الواثقة تُصدِرُ صَوتاً جليّاً على أرضية الرخام الإيطالي. سترته الداكنة كانت كدرعٍ لا تشوبه شائبة، بينما عيناه تُجريان مسحاً سريعاً كرادار يلتقط كل
تفصيل.
"التقارير على مَكتبي قبل التاسعة"، قالها دون أن يُبطئ من
سرعته، لكن صوته قطع الممر كنصل سيف قاطع.
انتفضت الأقسام كخلية نحلٍ مُستنفرة. المُدراء الشبان هرعوا بملفاتهم كجنود متمرسون، السكرتيرات تنقلنَ المكالمات بلهجةٍ أسرع من المعتاد، حتى عمال الصيانة توقفوا عن إصلاح ماكينة القهوة المعطلة – كأن الزمن توقف انتظاراً لأمرٍ ما.
دخلت **حنين** المكتب الخاص بها بخطواتٍ واثقة و متزنة كأن أحدهم ألقى عليها هالته السحرية، حقيبتها الجلدية الثقيلة تتأرجح بتناغم مع إيقاع مشيتها الهادئة ترمقها العيون ببعض الحسد للمكانة التي منحت لها ببضع أشهر قليلة، احجية يصعب فكها فهي ليست بالحبيبة ولا بالقريبة لتنال هذا الحظ الكبير بل يذهب البعض برأيه أن النظام الصارم للمدير السابق قد اختل أو ذهب بذهابه.
ضوء الصباح الذهبي يتسلل من النافذة الزجاجية الكبيرة، يلعب على وجهها الهادئ بينما تضع الحقيبة على المكتب بحركة واحدة سلسة.
"صباح الخير"، قالت بابتسامة خفيفة لموظفة الاستقبال، صوتها ناعم لكنه يحمل ثِقلاً غريباً. لم تكن تحمل فنجان القهوة المعتاد، ولا ذلك التعبير المتوتر الذي اعتادته الزميلات. اليوم، شيء ما اختلف.
جَلستْ أمام شاشة الكمبيوتر، أصابعها تتحرك على لوحة المفاتيح بسرعةٍ مدروسة. الضوضاء خلف الزجاج – أصوات المكالمات، ضحكات الموظفين، صراخ المديرين – كلها بدت وكأنها خافتة فجأة. لم ترفع رأسها، لكن حضورها كان كافياً لجعل البعض يلقي نظرة سريعة نحو مكتبها.
💎💎💎
اخترق ضوءُ الظهيرةِ الزجاجَ المطليّ لمكتبه الشاهق، بينما كان فؤاد يُقلّبُ ملفاتٍ بيدٍ لا ترتعش. دقّتان خفيفتان على الباب، ثم دخلتْ **حنين** دون انتظارٍ للإذن. خطواتها كانت كقطرات المطر على زجاجٍ صافٍ – واضحة، هادئة، لكنها تترك أثراً خاصا على مسمعه فيطرب فؤاده بقدومها.
رفع عينيه عن الأوراق، نظرةٌ سريعة ألقاها عليها كفاحصٍ خبير. ثم قال، وكأنه يُلقي حجراً في بركةٍ ساكنة:
*"اجتماع العميل المراوغ.. سيكون بين يديكِ اليوم."*
توقفتْ للحظة، عيناها الواسعتان تشهران دهشتهما كسيفين.
*"أنا؟"*
ابتسم ابتسامةً أعطت جدران المكتب الزجاجي دفئاً غريباً:
*"نعم. لأنكِ الوحيدة التي لا تخافين من كسر القواعد.. عندما تستحقُّ الكسر."*
حملقتْ فيه، ثم أومأتْ بذقنها. كان ثِقلُ المهمة يُدغدغُ أعصابها مثل أولِ مرّةٍ تركضُ فيها دون عجلاتٍ مساعدة.
في قاعةِ الاجتماعاتِ التي تشبهُ حفرةَ أسود، جلسَ العميلُ خلف طاولةٍ من خشبِ الجوز النادر ببدلة فاخرة وابتسامة لامعة تخفي نوايا خبيثة. ابتسامتُه كانت كسكينٍ مُغلفةٍ بقطعةِ حرير.
بدأ حديثه بمحاولات ماكرة لجرّ الحوار إلى مصلحته، تارة عبر المجاملة الزائدة، وتارة بإلقاء شروط ظاهرها مغرٍ لكنها مليئة بالثغرات.
ابتسمت حنين بهدوء، لكنها لم تسمح لنفسها أن تنجرف.
بذكاء لافت، قلبت الطاولة بهدوء:
"سيدي، شركتنا لا تقدم تنازلات. إن أردتم التعاون، فالشروط واضحة... وإلا هناك شركات أخرى تنتظر."
ارتبك الرجل قليلًا، ثم حاول مجددًا أن يوقعها في فخ كلامي، لكن ردودها المحكمة وثقتها في حديثها جعلته يدرك أنه أمام شخصية لا تُكسر بسهولة.
بينما كان الاجتماع يتواصل على هذا النحو، كان مراد يراقب عن بُعد، يراقب ما يحدث عبر كاميرات المراقبة المترابطة، عينيه لا تغادر الشاشة، لكنه كان يبتسم بفخر. كان يعرف تمامًا أن حنين قادرة على التعامل مع مثل هذه المواقف، على الرغم من أن له أسلوبه الخاص في التحليل.
"أنتِ أكثر ذكاءً مما اعتقدتِ، حنين... كل يوم تثبتين لي انك تلميذة ممتازة."، همس مراد لنفسه، وهو يشاهدها تسيطر على الموقف بمهارة فائقة.
في النهاية، استطاعت أن تفرض شروطها، أن تفرض سيطرتها على اللقاء. الشروط كانت في مكانها، والصفقة على وشك أن تتم، وكل هذا كان بفضل ذكائها وفطنتها
*"سيدتي.. ألا تعتقدين أن شروطكم تحتاجُ إلى بعض.. المرونة؟"* قالَ بينما يعدّلُ ساعته الذهبية.
أمالتْ رأسها قليلاً، كطالبةٍ مجتهدةٍ تُفكّكُ معادلةً صعبة. ثم ردّتْ بصوتٍ كالماءِ الجاري:
*"مرونة؟ بل دقةٌ يا سيدي. ففي بحرِ الأعمال، السفنُ الوحيدةُ التي تصلُ إلى الشاطئ.. هي التي تبني جدرانها من المبدأ لا الرمل."*
ارتسمَ الارتباكُ على وجهه لثانيةٍ واحدة – ثمةَ كسرٌ في السيناريو الذي أعدّه. حاولَ التملصَ مرتين، لكن كلماتِها كانت كإبرٍ تخيطُ فمه بخيطٍ غير مرئي.
عندما وقّعَ أخيراً، كان ظلُّ هزيمته يُلوّحُ له من بين السطور.
خرجت حنين من قاعة الاجتماعات بخطوات ثابتة، تحمل في يدها ملف الاتفاق وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة رضا. لم تكن تعلم أن مراد تابع كل لحظة، لكنها شعرت داخليًا بأنها أنجزت شيئًا مهمًا اليوم.
عادت إلى مكتبها لاستكمال بعض المهام، بينما الوقت يمضي سريعًا نحو ما قبل الغروب.
كانت منهمكة بين الملفات حين رنّ هاتفها الداخلي.
على الطرف الآخر، جاء صوت سكرتيرة فؤاد بنبرة رسمية ممزوجة بنبرة خفيفة من المرح:
"آنسة حنين، يُرجى التوجه فورًا إلى قاعة الاجتماعات في الطابق العلوي."
استغربت حنين:
"الآن؟! هل هناك اجتماع طارئ؟"
أجابت السكرتيرة بابتسامة لا تراها حنين لكنها شعرت بها:
"لا أعلم فقط طلب مني ابلاغك بالذهاب إلى هناك."
انفتح باب القاعة ببطءٍ كشفَ الستارَ عن لوحةٍ لم تكُن تتوقعها. ضوء الشموع الذهبية يُنعكس على زجاج النوافذ الشاهقة، وكأن المدينة كلها تُشاركها الاحتفال. وقفت لحظةً تلتقط أنفاسها، بينما تموجات الدهشة تُزحف من عينيها إلى شفتيها المرتجفتين.
**على طاولةِ الاحتفال:**
- كعكةٌ من الشوكولاتة الداكنة – نوعها المفضل الذي لم تُخبر به أحدًا
- بالونٌ ذهبي واحد يحملُ حرف H
- زهور أوركيد زرقاء نادرة – النوع الذي يُذكرها بحديقة بيتها.
لمست الزهور بأطراف أصابعها. *كيف عرفوا؟* تساءلت في صمت. لكن عندما التقت عيناها بنظرة فؤاد من طرف الغرفة، كل شيءٍ أصبح واضحًا.
أومأ لها برأسه إيماءةً خفيفة، بينما يداه في جيبه. *"نعم، كل هذه التفاصيل من اختياري"*، حدثتها.عيناه حين التزمت شفاهه الصمت.
أجابت بنظرةٍ ممتنةٍ حادة: *"شكرا لأنك تذكرت"*
ابتسم نصف ابتسامة، ثم أدار وجهه نحو النافذة.
بعد لحظات، تقدمت السكرتيرة وهي تحمل إطارًا مستطيلًا مغلفًا بعناية، وقالت بابتسامة:
"وهذه هدية باسم الشركة، تقديرًا لجهودك المميزة."
مدّت حنين يديها لتستلم الهدية، ثم أزالت الغلاف ببطء.
تسمرت عيناها للحظة عندما رأت ما بداخل الإطار: لوحة أصلية لفنانها المفضل، بريشته التي لطالما ألهمتها، تجسد منظرًا شاعريًا لغروب هادئ ينعكس على سطح البحر.
ابتسمت بحرارة، ومررّت أصابعها بخفة على حافة الإطار، وكأنها تتحسس الحلم وقد صار بين يديها.
"إنها رائعة… لم أتوقع هذا أبدًا." قالت بصوت مبحوح بالامتنان.
تعالت أصوات التهاني مجددًا، بينما في الخلف كان فؤاد يراقب بصمت، ملامحه أكثر دفئًا من أي وقت مضى، وكأنه هو من انتقى اللوحة بنفسه.
💎💎💎
مع انتهاء العمل في الشركة، غادرت حنين المبنى وهي لا تزال تحمل في قلبها دفء المفاجأة والهدية التي غمرت يومها ببهجة غير متوقعة، تحتضنها بسعادة كبيرة جعلت قلبها يرتجف بين أضلعها. الطريق إلى القصر كان مغمورًا بألوان الغروب، والسماء تتزين بخيوط برتقالية تميل إلى الأرجواني، كأنها لوحة أخرى تليق بهذا اليوم.
وصلت إلى القصر حيث الأجواء هادئة، وأشعة الشمس الأخيرة تتسلل بين أشجار الحديقة، تنعكس على النوافذ الضخمة لتمنح المكان لمسة ساحرة. صعدت الدرج بخطوات بطيئة، لا تزال تحتفظ بابتسامتها الصغيرة، حتى وجدت فؤاد بانتظارها في الصالة الرئيسية.
كان يقف بثبات، يديه في جيبيه، وعيناه تتأملانها بنظرة عميقة يصعب تفسيرها بل يتملكها الوجل حين تحاول أن تستشف معناها، رأته في أشد حالات الغضب، في لحظات العمل الصعبة و أثناء الأوقات التي يكون فيها في أقصى درجات الهدوء، جميع ما سبق لم ترى في عينيه نظرة تشبهها، لا تعرف أو لا تريد أن تخمن طبيعتها لكن هذه النظرة يخبرها حدسها القوي بأنها خاصة بها.
اقترب منها بخطوات واثقة وقال بصوت منخفض لكن حازم:
"تجهزي… لدينا عشاء الليلة."
رفعت حاجبيها بدهشة لطيفة:
"عشاء عمل؟"
ابتسم بخفة، ابتسامة نادرة منه:
"عشاء احتفاءً بكِ… بيومك المميز، وبما فعلته اليوم."
سكتت لحظة، شعرت بحرارة مختلفة في صدرها، ثم أومأت برأسها بخجل ممزوج بالفخر.
"حسنًا… سأكون جاهزة خلال دقائق."
ابتعدت نحو جناحها، بينما عيناه تابعتا خطواتها حتى اختفت خلف الباب، وفي ذهنه تدور أفكار كثيرة، لا علاقة لها فقط بالاحتفاء… بل بما ينتظر في تلك الليلة التي لم تكن عادية أبدًا.
في الطابق العلوي، قررت حنين أن تمنح نفسها ليلة هادئة، خاصة بعد أن أخبرها فؤاد أنه سيأخذها للعشاء احتفاءً بعيد ميلادها.
دخلت غرفتها، أغلقت الباب خلفها، ووقفت للحظة أمام المرآة.
ابتسمت لنفسها ابتسامة خجولة وهي تهمس:
"لابد أن تكون هذه الليلة مثالية."
اختارت فستانًا بسيطًا بلون سماوي يعكس رقة ملامحها، بتصميم أنيق يظهر أنوثتها دون تكلف.
تركت شعرها البني المموج منسدلًا على كتفيها، ووضعت مكياجًا خفيفًا أضاء عينيها الواسعتين.
ارتدت أقراطًا صغيرة تلمع تحت الضوء، وعطرت بشرتها بعطر زهري ناعم سرعان ما امتلأت به الغرفة.
وقفت أمام المرآة مرة أخيرة، نظرت إلى نفسها وقد شعرت بارتباك غريب يخالطه حماس، قلبها يخفق كفتاة تعيش لحظة غير متوقعة. التقطت حقيبتها الصغيرة، أخذت نفسًا عميقًا وقالت بصوت يكاد لا يسمع:
"أنا جاهزة."
في جناحه الخاص، كان فؤاد يقف أمام المرآة للمرة الأولى منذ وقت طويل وهو يتفحص نفسه بعين مختلفة.
لم يكن يستعد لمجرد لقاء عمل أو مأدبة رسمية، بل لعشاء يحمل معنى آخر… أول موعد مع حنين، تلك الفتاة التي قلبت حساباته رأسا على عقب دون أن تدرك.
اختار بدلة رسمية بلون أسود فخم، قميص أبيض ناصع، وربطة عنق حريرية باللون الرمادي الداكن.
وقف لحظة وهو يعدل أكمام قميصه، تذكر كيف دخلت حياته في أشد الظروف التي عايشها قسوة فكانت خير مساند له، وكيف أصبح وجودها يشغل تفكيره رغم كل محاولاته لإنكار الأمر.
على الطاولة أمامه، وضع ساعة يد فاخرة، لكنه تردد قبل ارتدائها وكأنه يبحث عن شيء أكثر بساطة في هذه الليلة.
أمسك بزجاجة عطره المفضل، رشة واحدة فقط، نفحاته الدافئة تعبّر عنه دون مبالغة.
وقف أمام المرآة مرة أخرى، نظر إلى انعكاسه مطولًا، عيناه القاسيتان المعتادتان على الحرب والخداع تلينان للحظة وهو يتمتم بصوت خافت:
"لا مجال للتردد الليلة… هذه أفضل فرصة."
قبل أن يغادر جناحه، توقف عند طاولة صغيرة حيث وُضعت علبة مخملية صغيرة بلون زيتي أنيق.
فتحها ببطء، لتلمع في الداخل اسورة من الألماس، تصميم رقيق لكنه يحمل فخامة لا تخطئها العين، قطعة مختارة بعناية تناسب شخصيتها الهادئة والراقية.
أمسك بالاسورة في يده، مرر أصابعه عليه وكأنه يتأكد من نقاء كل حجر فيه، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة لم يرها أحد.
تمتم بصوت منخفض، وكأنه يحدّث نفسه:
"أتمنى أن تعجبكِ… وأكثر من ذلك، أن تعرفي كم يعني لي هذا."
أعاد القطعة الثمينة إلى علبتها بعناية، وضعها في جيب داخلي من سترته، ثم أخذ نفسًا عميقًا ليتماسك.
في تلك اللحظة شعر وكأنه ليس الرجل البارد الذي يخطط للانتقام، بل مجرد رجل يستعد لأن يرى بريق السعادة في عيني من أحب.
بخطوات ثابتة، غادر جناحه متجهًا إلى أسفل الدرج.
عندما خرج من جناحه، كان كل شيء فيه يوحي بالثقة والهيبة: خطواته الثابتة، ملامحه الحادة التي تخفي تحتها عاصفة من المشاعر، والنظرة التي انتظر أن يراها ترتسم على وجهها حين تراه.
عند أسفل الدرج، وقف منتظرًا… لمحها تنزل بخطوات بطيئة في فستانها السماوي فشعر وكأن الوقت توقف للحظة.
ابتسم ابتسامة خفيفة بالكاد تُرى، لكنه أخفى ارتباكه بصوت عميق وهو يهمس:
"مساء الخير… تبدين رائعة جدا."
لم تجد الكلمات لتشكره فاكتفت بهزة من رأسها لم ينتبه لها فقد انشغل بتأمل قسمات وجهها الرقيقة وهو منتشيا بحمرة الخجل التي غزت وجنتيها.
💎💎💎
رافقها إلى السيارة، التي قادها بنفسه إلى مطعم فخم يطل على البحر، مكان تتراقص أضواؤه على سطح الماء تحت ضوء القمر.
جلسا على طاولة منعزلة في ركن هادئ، أضواء الشموع تنعكس على وجه حنين فتزيده دفئًا.
كانت الموسيقى الناعمة تنساب في الخلفية، لكنها لم تطغَ على صوت نبضات قلب فؤاد الذي بدا هادئًا من الخارج، بينما في داخله صراع لا يهدأ.
تبادلا أحاديث قصيرة، بدأت رسمية ثم تحولت تدريجيًا إلى خفيفة دافئة، تحدثا عن تفاصيل اليوم، عن اللوحة التي أهدتها الشركة، وعن شغفها بالفنان الذي رسمها.
كان فؤاد يستمع أكثر مما يتحدث، عيناه تتابعان ملامحها وهي تتكلم، وكأنه يحفظ كل حركة وكل ابتسامة.
نظر إليها وهي تتحدث بحماس عن موقف طريف حدث معها في الشركة، ابتسامتها كانت تكفي لتنسيه كل شيء للحظة.
حين سكتت، مال قليلًا نحوها، صوته خافت لكن صادق:
"حنين… أنتِ… مختلفة. وجودك غير حياتي بطرق لم أتوقعها."
توردت وجنتاها، رفعت عينيها نحوه تنتظر أن يكمل، لكنه توقف فجأة. أحنى رأسه قليلًا، أصابعه تتحسس العلبة المخملية في جيبه، ملامحه مترددة بين الإفصاح والكتمان.
لو تعلم الحقيقة… هل ستبقى بجانبي؟
هذا السؤال ارتطم بعقله كصفعة، أعاد توازنه القاسي، فابتسم ابتسامة خفيفة ليغطي تردده. قال بهدوء مصطنع:
"أردت فقط أن تعرفي… أنك مهمة جدًا بالنسبة لي."
حدقت به لثوانٍ، وكأنها تحاول قراءة ما يخفيه خلف تلك الكلمات.
ابتسمت بدورها وقالت:
"وأنا أيضا سعيدة بالفرصة التي منحتها لي، أقدر جدا ثقتك بي."
تنهد في صمت، بينما في داخله تتصاعد رغبة جامحة بأن يخرج السوار ويقدمه لها الآن، لكن عقله يصرخ:
"ليس بعد… ليس قبل أن تنتهي اللعبة."
تحسس العلبة مرة أخرى وهو يخفيها عن الأنظار، الأسرار التي يخفيها عنها جعلته يتراجع عن خطوته، وقرر أن يجعل هذه الليلة ذكرى… دون أن يكشف كل أوراقه بعد.
حين قُدم الطبق الرئيسي، قال بمرح:
"اهنئك على نجاحك…اليوم الذي أثبتي فيه أن ثقتي بك في محلها."
ابتسمت ونظرت إليه بخجل:
"إلى مزيد من النجاحات معا."
ساد الصمت للحظة. صمتٌ لم يكن ثقيلًا، بل مليئًا بشيء آخر… شيء يوشك أن يُقال.
اقترب فؤاد قليلًا، نظر في عينيها مباشرة وقال بنبرة أعمق:
"حنين… هناك أمور كثيرة ستتغير قريبًا. أريدك أن تكوني مستعدة… أريد منك أن تثقي بي مهما حدث."
تجمدت نظراتها للحظة، قلبها خفق بسرعة، أرادت أن تسأله عمّا يقصد، لكنه اكتفى بابتسامة غامضة أعادت الدفء إلى اللحظة، دون أن تجيب عن أي من أسئلتها.
أنهيا العشاء بهدوء، لكن في داخل حنين كان سؤال واحد يتردد: "ما الذي كان يقصده؟"
وفي عيني فؤاد… سرٌ يقترب موعد كشفه.
بعد انتهاء العشاء، قاد السيارة عائدًا نحو القصر. كان الطريق هادئًا، والليل قد اكتمل بسمائه الصافية وضوء القمر الذي يرافقهما.
داخل السيارة، اكتفت حنين بالصمت، تفكر في كلماته الأخيرة، صوت في داخلها يخبرها أن هالة الغموض من حوله تزداد حدة، كلما اقتربت منه خطوة يأتي بحركة تجعل الهوة تزداد اتساعا... بينما كان هو يقود بعينين حادتين، صامتًا أكثر من المعتاد، يبتلع خيبة أمله بمرارة.
وصلت السيارة إلى البوابة الرئيسية للقصر، فُتحت بهدوء، لتدخل بين الأشجار المضاءة بفوانيس خافتة حتى توقفت أمام المدخل الكبير.
نزل فؤاد أولًا، ثم التفت نحوها بابتسامة قصيرة:
"ادخلي وارتاحي، كان يومك طويلاً."
أومأت برأسها شاكرة، لكن قبل أن تخطو إلى الداخل، ظهرت سيارة أخرى توقفت بهدوء.
نزل منها كامل بخطوات سريعة، يحمل بيده ملفًا سميكًا. كانت ملامحه متوترة، وعيناه تبحثان عن فؤاد مباشرة.
اقترب بخطوات واثقة لكنه لم يُخفِ الجدية في صوته:
"يجب أن ترى هذا فورًا."
أخذ فؤاد الملف بيد ثابتة، نظر نحو حنين للحظة ثم قال لها بنبرة هادئة لكن تحمل أمرًا واضحًا:
"اصعدي إلى جناحك، تصبحين على خير."
ترددت قليلًا، شعرت بشيء غير مريح في الجو، لكنها أطاعت وابتعدت بخطوات بطيئة مترددة.
ما إن اختفت عن الأنظار، حتى فتح فؤاد الملف بسرعة.
كانت بداخله صور ملتقطة من كاميرات مراقبة في أثينا، مأخوذة من عدة زوايا و في أماكن مختلفة.
في إحدى الصور ظهرت حنين وهي تسير في السوق القديم، لكن خلفها بخطوات متخفية كان هناك رجل بملامح حادة، يرتدي قبعة ونظارات سوداء، كان يتبعها مثل ظلها.
رفع فؤاد عينيه نحو كامل، الذي قال بصوت منخفض:
"تأكدنا أنه لم يكن مجرد عابر سبيل… هذا الرجل معروف بتحركاته المشبوهة."
شدّ فؤاد قبضته على الصور، و خرج صوته حادًا:
"كيف لم نرصد ذلك في حينه؟"
أجاب كامل:
"اختفى فورًا بعد تلك اللقطة… كأنه يعرف كيف يتلاعب بمراقبينا."
ظل فؤاد يتأمل الصور بعينين تضيقان أكثر مع كل ثانية، حتى قال ببرود يخفي خلفه بركانًا:
"إذا كان يراقبها في أثينا، فهذا يعني أن الخطر أقرب مما نتوقع."
ثم طوى الملف وأغلقه بقوة، وأضاف بصوت منخفض لكنه حاسم: "لن يمسّها سوء… ليس وهي تحت حمايتي."
رفع عينيه نحو كامل وقال:
"ضاعف الحراسة الليلة، وأبقِ عينيك على كل زاوية من القصر. إذا ظهر هذا الرجل مرة أخرى… أريده حيًا."
في الطابق العلوي، كانت حنين تقف قرب النافذة في جناحها، تحدق في أضواء الحديقة دون أن تدري أن عينًا خفية كانت تلاحقها منذ وقت بعيد…لا تعلم أن الليل الذي بدأ هادئًا، قد يحمل بين طياته بداية لعاصفة جديدة.
بعد أن اطمأن فؤاد إلى صعود حنين إلى جناحها، غادر القصر بصمت تام. لم يأخذ سيارته الخاصة، بل سيارة أخرى مظللة النوافذ كانت تنتظره عند البوابة الخلفية.
جلس في المقعد الخلفي دون أن يتحدث، وانطلقت السيارة في شوارع الليل المظلمة مبتعدة عن الأنظار.
مرت دقائق من الصمت حتى توقفت أمام مبنى قديم مهجور في ظاهر الأمر، لكن الأضواء الخافتة التي تنبعث من نوافذه العلوية توحي بأن داخله حياة أخرى.
ترجل بخطوات محسوبة، دفع الباب المعدني ليجد نفسه في ممر طويل تكسوه الظلال، لا صوت سوى صدى خطواته.
💎💎💎
في غرفة سرية، جلس مراد في الظل، سيجارته تحترق ببطء بين أصابعه، والهدوء يلف المكان.
لم تكد تمر لحظات حتى دخلت ملكة الليل بخطوات ثابتة، هيبة الستينيات تكسوها، عيناها الثاقبتان لا تعترفان بالخوف:
"أخيرًا، قررت أن تأتي يا مراد."
جلست أمامه دون مقدمات، وقالت بصوت منخفض لكنه حاد:
"سمعت أنك عصيت أوامري الليلة."
لم يرفع رأسه، بل نفث الدخان ببطء وقال ببرود:
"أوامركم لم تعد تهمني عندما يتعلق الأمر بمن يخصني.
ابتسمت بسخرية خفيفة:
"أنت تلعب بالنار يا... فؤاد....."
عند سماع الاسم، ارتجف شيء داخله، وعاد بذاكرته إلى تلك الليلة المشؤومة…
– المستشفى قبل أشهر
كانت رائحة المطهرات تملأ المكان، والأضواء البيضاء القاسية تصيب العيون بالدوار.
جلس مراد على الكرسي، رأسه بين يديه، والدماء ما زالت على قميصه.
أمامه في غرفة العناية، توأمه فؤاد مستلقٍ بلا حراك و الأجهزة تصدر صفيرًا متقطعًا.
فتح الباب فجأة، ودخلت ملكة الليل، معطفها الأسود ينساب خلفها كظل ثقيل.
اقتربت منه، وضعت يدها على كتفه وقالت بهدوء:
"آسفة مراد. فؤاد قد لا ينجو من هذا."
رفع رأسه بعينين حمراوين، صوته مبحوح:
"لن أسمح لهم بأن يفلتوا من عقابي… سأمزق كل من كان وراء هذا."
ابتسمت ببرود، ثم اقتربت أكثر وهمست:
"يمكنك ذلك… لكن ليس كمراد. العالم يعرفك، أعداؤك يترصدونك. إذا أردت الانتقام، عليك أن تختفي."
تراجع قليلًا، عينيه تتسعان:
"ماذا تقصدين؟"
قالت بثقة كاملة:
"أعلن للعالم أن مراد مات في الحادث… وأن فؤاد هو من نجا. تحت اسم أخيك، لن يشك أحد. ستكون حراً في ضربهم واحدًا تلو الآخر دون أن يعرفوا من أنت حقًا."
ارتعش صوته:
"وهل أعيش بكذبتي هذه؟"
نظرت إليه نظرة حادة، وأجابت:
"أنت لا تعيش… أنت تنتقم وهذه فرصتك الوحيدة.
الجهاز طلب منك ذلك لأن الشبكة التي نترصدها أخطر مما ظهر لنا، ماركو ليس إلا بيدق صغير في لعبة كبيرة، يجب أن تكون شركات طوروس غطاء لنا حتى ننجح في الإيقاع بهم لهذا يجب عليك أن تنهي اللعبة للآخر."
أغلق عينيه لحظة طويلة، ثم فتحهما وقد ظهر في داخله شيء جديد… جانب لم يعرفه من قبل.
همس بصوت منخفض لكنه حازم:
"ليكن ذلك إذن… سأكون فؤاد."
__________________________
، نظر في عينيها مباشرة وقال:
"الأمر لم يعد يحتمل التأجيل."
أطفأت سيجارتها ببطء، وأجابت:
"أعرف… لقد رأيت الصور. الرجل الذي يتبع الفتاة في أثينا ليس شخصًا عاديًا. إنه… شبح قديم عاد إلى الساحة."
ساد الصمت بينهما لثوانٍ، تتخلله فقط أنفاسهما الثقيلة.
قالت وهي تميل نحوه قليلًا:
"لكن قبل أن نخوض في التفاصيل، يجب أن تعلم شيئًا… هذه اللعبة أكبر من مجرد حماية فتاة. هناك خيوط تحركها قوى لا تراها بعد."
ابتسم مراد ابتسامة باردة وقال بصوت مبحوح:
"وأنا لا أهاب الظلال… أنا جزء منها."
في تلك اللحظة، انطفأ المصباح فجأة لثانية، ثم عاد ليضيء.
الغموض ازداد ثقلًا في الجو، والليل بدا وكأنه يستمع لما يُحاك داخل تلك الجدران.
نهضت ملكة الليل واقفة، سارت ببطء حول الطاولة وقالت:
"إذًا لنبدأ… فالوقت يداهمنا، وما سيأتي قد يغيّر كل شيء."
في الخارج، كانت السيارة السوداء تنتظر، بينما المدينة تنام غافلة عن خطط و مؤامرات تحاك في الظلام.
أطفأ مراد سيجارته ببطء، رفع رأسه نحو السيدة، عينيه الآن أكثر قسوة من أي وقت مضى:
"لقد لعبت لعبتك منذ البداية، لكن الآن… اللعبة صارت لعبتي أنا."
ابتسمت ملكة الليل بخفة، وقالت:
"أنت لم تخذلني حتى الآن… لا تجعل مشاعرك تفسد الخطة."
وقف، اقترب منها حتى صار وجهه قريبًا منها وقال بصوت بارد:
"أنا لم أعد ذلك الرجل الذي قابلتيه في المستشفى. تذكري ذلك."
ثم غادر المكان بخطوات ثابتة، تاركًا وراءه وعدًا بغضب قادم لا يرحم.
💎💎💎
تسللت أشعة الشمس إلى غرفة حنين بهدوء، لتوقظها من نوم عميق تخللته أحلام متقطعة عن العشاء والابتسامة الغامضة التي ختم بها فؤاد ليلتهما.
كانت ترتب شعرها أمام المرآة عندما طرق الباب طرقًا خفيفًا.
"ادخلي."
فتحت نور الباب ببطء، ملامحها مترددة ويديها تتشابكان بتوتر. اقتربت خطوة ثم قالت بصوت منخفض:
"صباح الخير آنسة حنين… أعتذر على الإزعاج، لكن… هناك أمر يجب أن أخبرك به."
رفعت حنين حاجبها باهتمام:
"ما الأمر يا نور؟"
ترددت الخادمة الشابة لحظة، ثم أخرجت من جيبها ورقة مطوية وضعتها على الطاولة.
"التقيت صباح الأمس بالسيدة ليلى… كانت تنتظرني قرب السوق الخارجي. قالت إنها ترغب بشدة في لقائك، وأعطتني هذا الرقم لتتصلي بها."
ارتسمت الحيرة على وجه حنين:
"ليلى؟ ولماذا تبحث عني أنا تحديدًا؟"
أطرقت نور رأسها وقالت:
"لا أعرف… لكنها بدت مصرّة جدًا، وكأن الأمر عاجل."
ثم أضافت بصوت خافت:
"حذرتني ألا أخبر أحدًا خاصة السيد فؤاد."
أخذت حنين الورقة، شعرت بانقباض غريب في صدرها وهي تقرأ الرقم المكتوب بخط أنيق لكنه بارد.
رفعت نظرها نحو نور وقالت بهدوء:
"شكرًا… يمكنك الذهاب الآن."
خرجت نور بسرعة، تاركة خلفها جوًا مشبعًا بالتساؤلات.
جلست حنين على حافة السرير، تحدق في الورقة الصغيرة بين أصابعها. قلبها كان مترددًا، عقلها يحذرها، لكن شيئًا في داخلها كان يدفعها لمعرفة السبب.
مرّت ساعات النهار ببطء ثقيل تحاول فيها حنين الانشغال بما بين يديها، لكن الورقة الصغيرة على الطاولة كانت تجذب انتباهها في كل مرة.
وأخيرًا، عند منتصف اليوم، لم تعد تحتمل أكثر. حملت هاتفها وضغطت الرقم ببطء، كل رقم كأنه خطوة نحو المجهول.
رنّ الهاتف طويلًا، حتى جاء صوت ليلى هذه المرة مختلفًا عما توقعت.
كان صوتها مرتجفًا، يختلط فيه القلق برجاء مكتوم:
"حنين؟ … شكرًا لأنك اتصلتِ. أرجوكِ… أحتاج مساعدتك."
تجمدت حنين لوهلة، ارتسمت على وجهها علامات حذر:
"ما الذي يحدث ليلى؟ ولماذا أنا؟"
ردّت ليلى بسرعة، بنبرة تكاد تكون توسلًا:
"لا أستطيع شرح كل شيء عبر الهاتف… لكن صدقيني، ليس لدي أحد آخر أثق به الآن. أرجوكِ تعالي إليّ، سأرسل لكِ العنوان حالًا."
ترددت حنين، قلبها ينبض بتسارع:
"ليلى… هذا ليس وقتًا مناسبًا، ولا أعتقد أن…"
قاطعتها ليلى بصوت مبحوح، وكأنها على وشك البكاء:
"أرجوكِ يا حنين، ساعديني فقط هذه المرة… حياتي ربما تعتمد على ذلك."
ساد صمت ثقيل للحظات، قبل أن تغلق الخط دون أن تعطي جوابًا واضحًا.
وضعت الهاتف جانبًا، تنفست بعمق وهي تحاول إقناع نفسها بعدم التورط، لكن بعد دقائق، وصلتها رسالة قصيرة على هاتفها: "العنوان: [موقع خارج المدينة]. أرجوكِ، لا تتأخري."
نظرت حنين إلى الشاشة طويلًا، ثم أغلقت الهاتف ببطء.
في تلك اللحظة تذكرت أن فؤاد كان منشغلًا في اجتماع بالشركة الأخرى ولن يعود قبل المساء.
ترددت للحظات، عقلها يحذرها، لكن فضولها وإحساسها بالمسؤولية دفعاها إلى أن تتخذ القرار فهي لم تكن يوما ممن يرفضون مد يد المساعدة.
ارتدت معطفًا خفيفًا، أمسكت حقيبتها، وغادرت الشركة بخطوات سريعة….
قادتها سيارة الأجرة بعيدًا عن الطرق الرئيسية حتى خرجت من قلب المدينة إلى أحياء أقل صخبًا وأكثر عشوائية. الشوارع هناك ضيقة، مبانيها متلاصقة بطلاء مقشر، والأسواق الجانبية تعجّ بالبائعين والمارة. كانت حنين تمسك حقيبتها بقوة، قلبها يخفق مع كل منعطف.
توقفت السيارة عند بداية زقاق جانبي يكاد يخلو من الناس. نظرت حولها بحذر، العنوان الذي أرسلته ليلى يقودها إلى مبنى قديم من طابقين، نوافذه محاطة بقضبان حديدية وبابه الخشبي يحمل آثار الزمن.
ترجلت من السيارة بخطوات بطيئة، شعرت بعيون فضولية من بعض المارة تلاحقها. الجو كان مشبعًا برائحة الخبز الطازج ممزوجة بدخان عربات الفحم.
وقفت أمام الشفة وترددت للحظة، رفعت يدها لتطرق الباب لكن الباب انفتح قبل أن تلمسه يدها.
وقفَت تتطلع إلى الداخل، فرأت ليلى… مسجاة على الأرض، تغرق في دمائها، وعيناها تلمعان ببراءة متلاشية تحت وهج الضوء الخافت.
تجمّدت حنين للحظة، قلبها يكاد يتوقف عن النبض، ثم اندفعت نحوها بسرعة، محاولًة إيقاف النزيف بيدها المرتجفة.
لكن الألم كان واضحًا على وجه ليلى، وهمست بصوت باهت:
"حنين… عليكِ أن تعرفي… الأمور أسوأ مما تتصورين…"
ارتفع صوت خطوات سريعة خلف الباب، وصدى أصوات لا تعرفها ملأ المكان، بينما شعرت حنين أن هذه اللحظة هي بداية لعاصفة لم يعد بإمكانها التراجع عنها.
ملأ صوت سيارات الشرطة المرتجلة الحي الضيق، وأضواء الزوارق الحمراء والزرقاء تومض بين الظلال، ارتجفت أنفاس ليلى بعنف ثم جحظت عيناها قبل أن تفصح عن سرها الذي قتلها.
تجمّع عدد من الضباط بسرعة، وطوقوا المبنى القديم بكل حذر. مكالمة من مجهول جعلتهم يهرعون إلى المكان.
لا تزال حنين جاثية بجانب ليلى التي أصبحت جثة هامدة، شعرت بيد قوية تمسك ذراعها بحزم.
نظر إليها أحد الضباط وقال بجدية:
"أرجو منكِ الابتعاد عن المكان الآن. هذه منطقة تحقيق."
جلست حنين في غرفة ، عينيها متسعتان، ونبض قلبها يتسارع داخل صدرها كأنه يريد أن يهرب من جسدها.
كانت تحاول أن تحبس تنفسها، لكنها شعرت بأن الهواء يثقل على رئتيها مع كل لحظة تمر.
وقف المحقق أمامها بنظرة حادة، وقال بصوت متقطع لكنه صارم:
"أنتِ آخر من رأى الضحية على قيد الحياة، لهذا يجب أن نأخذك معنا للاستجواب."
ارتجفت شفتاها، حاولت أن تقول شيئًا، لكن الكلمات لم تخرج، وحين حاولت استجماع شجاعتها، وجدت صوتها يئن بالضعف:
"أنا… لم أفعل شيئًا…لقد اتصلت بي تطلب المساعدة."
لم تستطع كبح دموعها التي بدأت تتجمع في عينيها، شعرت بغصة كبيرة تخنقها، كل ما حولها يدور بسرعة كأن الأرض تهتز تحت قدميها.
اقتربت منها شرطية، أمسكت بيدها وقالت:
"تعالي معي، أرجوك التزمي الهدوء."
نهضت حنين بصعوبة، خطواتها متثاقلة، وكل نبضة قلب كانت تنقلها إلى عالم من الرعب والضياع.
خرجت إلى الممر الطويل، حيث تنتظرها سيارة الشرطة، الهواء البارد لم يخفف من توترها، بل زاد إحساسها بالوحشة.
جلست في المقعد الخلفي، عيناها تلمعان بالدموع التي حاولت إخفاءها، والمدينة تمر أمامها كظلال لا تعرف وجهها.
سيحل المساء، لكنها لم تعد إلى القصر… بل إلى بداية دوامة مظلمة من الخوف والشك والاتهام.
في داخلها، صوت خافت يهمس: "كيف انتهى بي المطاف هنا؟"
💎💎💎
حلّ المساء، أجواء القصر غارقة في هدوء ثقيل لا يكسره سوى أصداء خطوات الخدم المتفرقة.
جلس فؤاد في مكتبه يتابع بعض الملفات بينما عقله مشغول بخططه الخاصة، معتقدًا أن حنين في غرفتها.
طرقت نور الباب بخفة ودخلت بخطوات مترددة، ملامحها يكسوها قلق واضح.
رفعت عينيها نحوه وسألت بصوت منخفض:
"سيدي… هل اتصلت بك الآنسة حنين؟"
توقف فؤاد عن الكتابة، نظر إليها باستغراب:
"لماذا تسألين؟ هل مازالت في الشركة إلى الآن؟"
ابتلعت نور ريقها وقالت بتوتر:
"اتصلتُ هناك منذ قليل لأستفسر… فقالوا إنها غادرت منذ منتصف النهار ولم تعد."
تجمدت ملامحه لثوانٍ، وكأن الوقت توقف من حوله، ثم قال بصوت بارد يخفي عاصفة:
"ماذا؟"
اقتربت نور بخوف وأضافت:
"لا أحد يعلم إلى أين ذهبت، والسائق لم يكن معها."
في لحظة، ارتفع صوت فؤاد وهو يرمي القلم على المكتب بعنف:
"كيف تغادر من هناك دون أن يرافقها أحد؟ أين كانت الحراسة؟!"
التقط هاتفه بسرعة، اتصل بكامل وصوته أشبه بحد السيف:
"كامل! أريد مكان حنين الآن… افحصوا جميع كاميرات الطريق من الشركة، كل تحركاتها منذ أن خرجت. لا أريد أعذارًا!"
أغلق الهاتف بعصبية، يداه ترتجفان غضبًا وقلقًا.
ضرب بقبضته الطاولة حتى اهتزت الأشياء عليها، عيناه تومضان بعاصفة لا تهدأ:
"حنين… ما الذي فعلتِه؟ وأين أنتِ الآن؟"
تركت نور الغرفة بذعر، قلبها يخفق من شدة التوتر، وهي تدرك أن هذه الليلة لن تمر بسلام…
فالاختفاء الغامض لحنين أيقظ في فؤاد شيئًا خطيرًا لا يمكن السيطرة عليه.
كان الليل كثيفًا، والشارع شبه خالٍ إلا من أضواء أعمدة متقطعة ترسم بقعًا باهتة على الإسفلت المبلل.
سيارة فاخرة سوداء اللون تقف في الظلال، محركاتها خامدة لكنها تنبض بهيبة من نوع خاص.
داخلها جلست ديلارا، أنيقة كعادتها، معطفها الفخم يغطي كتفيها، وعطرها يتسلل بخفة حتى إلى زجاج السيارة المغلق.
أمامها، على بعد خطوات، وقف رجل ضخم البنية بملامح قاسية، سيجارته تتوهج في العتمة.
اقترب من النافذة التي انخفضت بهدوء، فانحنى قليلًا لتقابله عينا ديلارا الباردتان.
قال بصوت أجش، خافت لكنه واثق:
"انتهى الأمر. الهدف لن يزعجك بعد اليوم."
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهها، نظرة رضا خالية من أي تعاطف:
"جيد… كنت أعلم أنك ستنجز المهمة كما يجب."
ألقى الرجل سيجارته على الأرض وسحقها بحذائه قبل أن يمد يده ليتسلم الظرف الأسود الذي أخرجته من داخل السيارة.ابتعد بخطوات ثابتة، واختفى في العتمة، بينما تحركت السيارة بهدوء، تبتلعها ظلال الشارع كما لو لم تكن هناك يومًا.
بلغ الليل ذروته، والقصر مغمور بسكون ثقيل لا يقطعه سوى دقات ساعة الجدار.
في البهو الفسيح، وقف فؤاد قرب النافذة الكبيرة، يراقب الأفق بعينين متوترتين.
يداه خلف ظهره، خطواته تدور في المكان، والقلق يأكل ملامحه كلما مرّت الدقيقة أبطأ من سابقتها.
صوت أقدام مسرعة قطع الصمت، فالتفت بسرعة.
دخل آدم بخطوات متوترة، أنفاسه متلاحقة وكأنه ركض مسافة طويلة. اقترب حتى صار أمامه مباشرة، وملامحه مشدودة بحدة.
قال فؤاد بلهجة حادة: "تكلم، هل وجدتم شيئًا؟!"
تردد آدم لحظة، وكأن الكلمات ثقيلة على لسانه، ثم نطق:
"سيدي… لدينا خبر سيئ. الآنسة حنين… الشرطة ألقت القبض عليها بتهمة القتل."
تجمد فؤاد في مكانه، عيناه اتسعتا حتى جحظتا من الصدمة، كأن ما سمعه ضربه في الصميم.
لبرهة، خيم الصمت على القصر، قبل أن يتطاير الغضب من صوته كالبركان: "ماذا قلت؟!"
رد آدم بسرعة، صوته متوتر:
"نعم، سيدي… وجدوا جثة ليلى، كانت مقتولة، وحنين كانت في موقع الجريمة. الشرطة تعتبرها المشتبه الرئيسي."
قبض فؤاد على حافة الطاولة القريبة منه حتى اهتزت، برزت عروق رقبته، عيناه تحترقان بنار الغضب والذهول.
همس بصوت عميق لكنه مليء بالوعيد:
"لن أغفر لكم هذا الإهمال."
ثم خطف معطفه بسرعة، وانطلق بخطوات عاصفة نحو الباب، تاركًا خلفه آدم يراقبه بإدراك كامل أن العاصفة الحقيقية ستبدأ الآن.
في مركز الشرطة، كان الليل أكثر برودة من المعتاد.
تم اقتياد حنين إلى زنزانة ضيقة ذات جدران رمادية باردة، تفوح منها رائحة رطوبة خانقة.
الإنارة القوية في الممر تقابلها إضاءة خافتة داخل الزنزانة، تكاد تلمح وجوه من فيها إلا عندما تقترب.
دُفعت إلى الداخل بهدوء، والباب الحديدي أُغلق خلفها بصوت حاد دوى في أذنيها كحكم لا رجعة فيه.
رفعت بصرها ببطء، لتجد ثلاث نساء يجلسن على مقاعد خشبية مهترئة في الزوايا المختلفة.
واحدة منهن كانت شابة بملامح قاسية، تراقبها بعينين لامعتين كالصقر و ابتسامة ساخرة ارتسمت على فمها.
وقفت حنين في مكانها، قلبها يخفق بجنون، تحاول أن تحبس ارتجاف يديها ثم جلست ببطء في أقرب زاوية للحائط، ضمت ركبتيها إلى صدرها محاولة الاتكاء عليه لتستمد منه قوة مزيفة.
في داخلها، الأفكار تتصارع:
"كيف انتهى بي الحال هنا؟ فؤاد… هل يعرف؟ هل سيأتي؟"
💎💎💎
في مركز الشرطة البسيط الذي بالكاد يكفي لاستيعاب من فيه، كان الضباط منشغلين بتقاريرهم، والهدوء الثقيل يلف المكان. فجأة، توقفت أمام الباب الرئيسي سيارة فاخرة سوداء، يتبعها موكب صغير من سيارات الحراسة.
أصوات المحركات الهادرة كسرت صمت الشارع، وجعلت أعين كل من في المركز تتجه إلى الخارج.
نزل من السيارة الأولى رجل طويل القامة، أنيق بشكل استثنائي، خطواته واثقة تحمل هيبة من يعرف أن لا أحد يجرؤ عليه. إنه رجل الأعمال المعروف فؤاد طوروس .
ملامحه حادة، عينيه تلمعان ببريق الغضب المكبوت، وكل حركة منه تنطق بسلطة لا تحتاج إلى كلمات.
فتح له الباب أحد الحراس، وتبعه رجل آخر يرتدي بدلة رسمية فاخرة، يحمل حقيبة جلدية، وجهه معروف لكل الحاضرين؛ إنه أحد أكبر المحامين في البلاد، الرجل الذي لم يخسر أي قضية. وراءهم، ترجل حارسان إضافيان، يقفان على الجانبين بصرامة.
تبادل الضباط النظرات بارتباك، بعضهم وقف احترامًا، والبعض الآخر حاول ترتيب نفسه في عجلة.
اقترب فؤاد بخطوات بطيئة لكن ثقيلة، صوته خرج منخفضًا لكنه حاد كالخنجر: "أين حنين عامر؟"
حاول أحد الضباط أن يتكلم:
"سيدي… التحقيقات لم تنتهِ بعد، ونحن—"
قاطعه فؤاد بنظرة جعلت الرجل يتجمد في مكانه، ثم قال ببرود مرعب:
"أنا لم أسألك عن وضع التحقيق، سألتك أين هي."
تدخل المحامي بخطوة هادئة للأمام، صوته ثابت لكنه لا يقبل النقاش:
"منذ هذه اللحظة، أي استجواب يتوقف. موكلتي لن تنطق بكلمة واحدة حتى أكون معها."
ازدادت الأجواء توترًا، والضباط تبادلوا النظرات بارتباك شديد. في تلك اللحظة، فهم الجميع أن وجود هذا الرجل في مركزهم البسيط سيقلب كل الموازين.
رنّ صوت جرس الباب الحديدي في قسم التحقيقات، وفتح أحد الضباط باب الزنزانة:
"الآنسة حنين، تم استدعاؤك للحضور إلى مكتب الضابط المختص."
نهضت بخطوات ثابتة لكنها متوترة، ترافقها شرطية، بينما ينتظرها في المكتب ضابط التحقيق، إلى جانبه محام لم تعرفه.
دخلت الغرفة، وتوقفت متأملةً الرجل الذي يقف أمامها.
فؤاد كان هناك، عينيه تعبران عن القلق والحزم، لكنه التزم الصمت احترامًا للإجراءات.
جلس الضابط وبدأ الحديث بنبرة رسمية:
"السيدة حنين، تذكري أن لكِ الحق في التزام الصمت، وأن يكون معك محام خلال التحقيق. هدفنا فقط معرفة الحقيقة."
نظر المحامي إلى حنين وقال بهدوء:
"تذكري حقوقكِ، وأي سؤال تريدين الرد عليه أو عدم الرد، هذا حقكِ الكامل."
انهارت قليلاً، وأمسكت طرف المكتب بارتباك، لكنها حاولت أن تجمع شجاعتها.
سأل الضابط:
"هل كنتِ في مكان الجريمة؟ هل يمكنك توضيح مكانكِ في الوقت المذكور؟"
أجابت حنين بصوت هادئ رغم التوتر:
"نعم، كنت هناك…."
استمر التحقيق مدة ساعة بين شد و جذب أظهر فيها المحامي المحنك براعة في صد التهمة عن موكلته يدفعه حافز قوي الا وهو نيل رضا السيد فؤاد و تقديره الذي سيعود عليه بنفع مادي كبير.
نظر المحامي إلى الضابط وقال بحزم:
"بما أنه لا توجد أدلة كافية لادانة موكلتي، أطلب الإفراج عنها بكفالة، وحقها في متابعة القضية من الخارج."
هز الضابط رأسه، وقال:
"سنرفع توصيتنا للنيابة، القرار سيكون من قِبلها."
وقفت حنين، يتملكها مزيج من القلق والخوف، لكنها شعرت بقوة الدعم من وجود محاميها، وأمل خافت بأن الحق سيظهر قريبًا. تنفس فؤاد بعمق، لكنه لم يخفَ توتره، وألقى نظرة طويلة على حنين:
"سنخرجك من هنا قريبًا، أعدك."
نظرت إليه، وابتسمت ابتسامة ضعيفة، شعرت لأول مرة منذ ساعات طويلة بنبضة أمل تخترق ظلمة الموقف.
بعد ساعات من الخوف و التوتر، خرجت أخيراً من مركز الشرطة، تنفست هواء الليل البارد، خطواتها ثابتة رغم التعب والقلق الذي يلوح في عينيها.
كان المحامي يرافقها، بينما يقف فؤاد عند الباب الخارجي، ينتظرها بصمت، عينيه تراقبانها بحذر مختلط بقلق دفين.
اقترب منها بهدوء، لم يقل كلمة في البداية، فقط أشار لها بأن تسير ساروا معًا نحو السيارة، والسكوت يثقل الأجواء بينهما.
أخيرًا، قال فؤاد بصوت منخفض، يحاول أن يخفي غضبه:
"أنت تعرفين المخاطر، و مع ذلك لم تكوني حذرة كما يجب."
رفعت رأسها، نظرت إليه بعينين تعبّران عن الندم، لكنها لم ترد مباشرة، فقط همست:
"لم يكن لدي خيار… أردت المساعدة فقط."
ابتلع غضبه، ونظر بعيدًا للحظة، ثم قال:
"الأهم الآن أن تبقي آمنة. لا أريدكِ أن تعرضي نفسك للخطر مرة أخرى."
شعرت بثقل الكلمات، صوته يرتجف من شدة غضبه،قالت:
"أنا آسفة."
"لم أطلب اسفك، فقط كوني حذرة مستقبلا"
غضب، قلق، وحب، مشاعر تتلاطم في وجدانه كأمواج بحر هائج، فتح باب السيارة بعنف فصعدت في صمت تخرقه عبراتها التي تحرق وجنتيها، أشاح يبعد نظراته عنها، لن يضعف أمام دموعها بعد الخوف الذي جعلته يعيشه.
💎💎💎
تنساب الليلة ثقيلة، والهدوء الذي يلف القصر يخفي شيئًا مظلمًا في الأفق. لم تستطع حنين الخلود للنوم بسبب القلق الذي ألم بها فخرجت إلى الشرفة لتهدئ أعصابها.
في الطابق السفلي من القصر، كان صوت ضربات القفازات يتردد في أرجاء قاعة الرياضة الخاصة.
يقف فؤاد أمام كيس الملاكمة، جسده المتناسق يتلألأ بقطرات العرق، كل حركة منه تعكس قوة انضباطه وصلابته.
أنفاسه متسارعة، عضلات ذراعيه تتوتر مع كل لكمة، عيناه مركزتان كالصقر، كأنه يفرغ كل ما بداخله في كل ضربة.
في تلك اللحظة، دوى إنذار خافت في أرجاء القصر.
رفع رأسه فورًا، التقط المنشفة ومسح وجهه بسرعة، ثم التقط سلاحه الموضوع على الطاولة الجانبية، عيناه أصبحتا أكثر حدة مما كانت.
خرج من القاعة بخطوات ثابتة، جسده مازال ينبض بالقوة، وصوته عبر اللاسلكي كان صارمًا:
"آدم، استنفار كامل! لدينا حركة قرب السور."
بدأ الحراس في الانتشار باحترافية كبيرة.
وبعد دقائق من البحث، جاء صوت آدم عبر الجهاز:
"سيدي، لا شيء… مجرد قط بري."
خفض فؤاد سلاحه، لكن صوته حين تمتم لنفسه كان حادًا:
"أحدهم يختبر حدودنا."
مر بجانب الممر وجد حنين تختبيء خلف عمود رخامي تراقب الخارج بقلق،تجمدت في مكانها، لم تجرؤ على التقدم نحوه. ترى رجلًا مختلفًا، قويًا بشكل يخيفها ويجذبها في الوقت نفسه، فتراجعت بخطوات خفيفة إلى الداخل.
عيناه ظلتا قاسيتين ترمقانها بحدة كأنه يوبخها لماذا تركت غرفتك و نزلت إلى هنا، هز كتفيه بيأس فمنذ ساعات قليلة كانت تعده بأنها ستكون حذرة أكثر في المستقبل.
انسحبت إلى غرفتها بصمت، قلبها ينبض بصورة جديدة عنه، صورة رجل لا يشبه أي أحد عرفته من قبل.
عاد فؤاد إلى جناحه بعد أن هدأ الوضع في الخارج، خطواته بطيئة لكنها مثقلة بالأفكار. دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه بهدوء، ثم اتجه نحو الطاولة الكبيرة قرب النافذة.
توقف فجأة…الملف الذي يحتوي على صور حنين مبعثر على سطح الطاولة، اقترب ببطء، أصابعه تلامس الأوراق المتناثرة.
التقط إحدى الصور؛ كانت صورة لها التقطت في لحظة طبيعية، ملامحها بريئة لكنها قوية، عيناها تحملان تلك النظرة التي لم يستطع تفسيرها يومًا.
جلس على حافة الطاولة، الصورة بين يديه، وعيناه تتأملان تفاصيل وجهها في صمت طويل.
مر شريط من الأحداث في ذهنه: لحظة دخولها حياته، جرأتها، ضعفها، وخطورتها في الوقت نفسه.
زفر ببطء، وصوت داخلي أشبه بمراد يهمس في عقله:
"هذه نقطة ضعفك… وستكون ثمنًا إن لم تحذر."
شد قبضته على الصورة، ثم تركها بلطف على الطاولة، وكأنها شيء ثمين لا يحتمل الخدش.
توجه نحو النافذة، نظر إلى ظلام الحديقة وقال بصوت منخفض بالكاد يُسمع: "لن أسمح لأحد أن يؤذيكِ… حتى لو اضطررت أن أكون القاسي الذي تكرهينه."
ظل واقفًا هناك، نصفه فؤاد الحامي، ونصفه مراد الذي لا يعرف الرحمة، يحدق في الظلام بينما أصابعه تتحسس الصورة الموضوعة على الطاولة.
صوت مراد في داخله كان يزداد قوة، يحرضه على الحسم:
"إلى متى ستنتظر؟ هي الخطر… واقتلاع الخطر يبدأ منها."
التقط هاتفه بيد ثابتة، ضغط الرقم الخاص بآدم دون تردد.
جاء صوت الحارس عبر الخط:
"نعم سيدي؟"
تكلم فؤاد بلهجة حادة، كل كلمة تخرج كأمر لا يقبل الجدل:
"آدم، استمع إلي جيدًا. سنتحرك الليلة… ديلارا. أريدها في قبضتنا قبل شروق الشمس."
ساد صمت قصير في الطرف الآخر قبل أن يتحدث آدم بتردد: "لكن سيدي… ملكة الليل طلبت أن ننتظر أوامرها بشأنها."
قبض فؤاد على الهاتف بقوة، وصوته أصبح أكثر برودة:
"أخبر ملكة الليل هذه المرة… أنا من يضع القواعد."
تنفس آدم ببطء، ثم أجاب بحزم:
"أمرُك يُنفذ في الحال."
أغلق فؤاد الهاتف ووضعه على الطاولة و عيناه تلمعان بعزم لا رجعة فيه.
في الخارج، بدأ الليل يزداد عمقًا، ومعه ازداد شعور أن مواجهة كبرى على وشك أن تشتعل. الظلام يلف المدينة بضباب خفيف، والأنوار المتقطعة للمباني تعكس جوًا من الترقب.
توقفت سيارة فاخرة أمام برج سكني حديث في منطقة هادئة.
ترجلت ديلارا بسرعة، عيناها تمسحان المكان بقلق. كانت متوترة، متأكدة أن هناك من يتبعها أو يترصد خطواتها.
دخلت إلى المبنى عبر المصعد، يدها لا تفارق حقيبتها التي تخفي سلاحًا صغيرًا.
بمجرد أن وصلت إلى الطابق الأخير، خرجت بخطوات حذرة. في الممر، لمحت ظلًا يختفي عند الزاوية، قلبها انقبض أكثر، لكنها تماسكت وفتحت باب شقتها بسرعة.
دخلت وأغلقت الباب خلفها، أخذت نفسًا عميقًا، ثم ضغطت على زر الإضاءة.
ومضة ضوء!
انكشف المشهد: آدم يقف أمامها بهدوء قاتل، يضع يديه في جيبيه وكأنه في منزله، نظراته ثابتة كالصخر.
تراجعت خطوة للخلف، وهي تبحث عن سلاحها في حقيبتها:
"كيف دخلت؟! من أنت بحق الجحيم؟"
ابتسم ببرود وقال بنبرة منخفضة:
"أنا مجرد رسول… الشبح يقرأكِ السلام."
قبل أن تستوعب معنى كلماته، أطلق رذاذًا خفيفًا في الهواء، مادة مخدرة ذات رائحة نفاذة غمرت وجهها.
حاولت ديلارا المقاومة، سعلت، تراجعت وهي تتمسك بالجدار، لكن جسدها بدأ يضعف بسرعة.
نظرت إلى آدم بعينين نصف مغلقتين، تمتمت بصوت مبحوح:
"فؤاد…؟"
ابتسم ابتسامة باردة قبل أن يقترب منها بخطوات بطيئة:
"بل الشبح أقرب مما تظنين."
سقطت على الأرض فاقدة الوعي.
رفع جهاز الاتصال إلى فمه وقال: "الهدف بحوزتنا. المهمة تمت بنجاح. جهزوا القبو."
خارج المبنى، تحركت سيارتان سوداوين بهدوء، محملتان بامرأة كانت تعتقد نفسها الصياد… لتكتشف متأخرة أنها كانت الفريسة أو مجرد طعم.
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
