رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السابع و العشرون 127 بقلم اسماء حميدة

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السابع و العشرون


خرج نوح إلى الشرفة حيث امتدّت أمامه لوحةٌ خضراءٌ من الغابات والجبال التي بدت بلا نهاية كأنها تحرس القصر بصمتٍ مهيب.

وقف هناك عيناه تتفحصان الأفق البعيد قبل أن يعبس ويتمتم بسخرية خافتة:

"إنه لا يحتجز طفلًا بل وكأنه يضع مجرمًا في زنزانةٍ معزولة."

ظلّ واقفًا يراقب المناظر لفترة قصيرة لكن وهن جسده بدأ ينخر عزيمته... حاول التماسك كمن يقاتل ظلّه ثم انتقل ليستكشف الزوايا المجهولة من المكان يبحث عن ثغرةٍ يفرّ بها إلى الحرية المفقودة غير أنّ الحراسة كانت أشبه بجدارٍ من الفولاذ فحتى لو استطاع مراوغتهم كالظل، لن تقوى ساقاه على الركض ميلًا واحدًا قبل أن يسقط جسده المنهك بل ربما تزهَق روحه قبل أن يخطو خطوته الأولى.

وبينما كان يتأمل الطرقات والدهاليز بحذر شعرت وسام بغيابه كالطوفان الذي اجتاح قلبها فهتفت بذعر:

"نوح! أين أنت يا نوح؟"

تخيلت في خاطرها وجه ظافر غاضبًا ورأت نفسها ضحية سكينه لو أصاب الصبي أذى فارتجفت خوفًا حين داهمها هذا الهاجس.

في تلك اللحظة عاد نوح إلى الغرفة حاملًا كوبًا من الماء... دخل كمن يعتذر بعينيه قبل لسانه حين قال:

"هل أنتِ متعبة يا آنسة وسام؟ لقد أحضرتُ لكِ بعض الماء."

تنهدت وسام بارتياح وكأن صدرها انزاح عنه حجر ثقيل.

تذكرت في غمرة حلاوة

ذكائه أنها أمام طفلٍ صغير لا أمام ساحرٍ ماهر إذ امتدت جاذبية الأب لتتكون صورة مصغرة تتمثل في الابن.
تمتمت وسام تقول بتنهيدة من تلاقى خبر نجاته من حبل المشنقة:

"شكرًا لك يا نوح... لستُ بحاجة إلى الماء لكن تذكر دومًا أنه: عليك إخباري قبل أن تختفي هكذا.. لقد كدتُ أموت خوفًا عليك."

أومأ نوح برأسه في جدية كأنه يحمل وعدًا في قلبه... ثم بدت في عينيه ومضةٌ حزينة ودمعةٌ ثقيلةٌ انسابت كنجمةٍ انطفأت في الفجر.

سألته وسام بنبرة صوت ينبعث منها القلق:

"ما بك يا عزيزي نوح؟ لماذا تبكي؟"

تنهد الصغير تنهيدةً موجعة، وقال بصوتٍ مرتجف:

"أفتقد أمي وأبي يا آنسة وسام... هل يمكنكِ الاتصال بالسيد ظافر وإخباره بذلك؟"

عندما رأت وسام دموعه تسيل على وجنتيه شعرت وكأن قلبها ينزف... فمسحت على شعره بحنان، وأردفت تقول بطمئنة:

"حسنًا، سأجري اتصالًا بالخادمة الآن."

لكن الحقيقة أنها لم تملك وسيلةً مباشرة للوصول إلى ظافر... فكل بابٍ هنا مؤصَد، وكل همسةٍ تُراقب.

استعانت وسام بمربية أخرى لتراقب نوح ثم هرعت تبلغ الحراس بأن قلب الطفل ينزف شوقًا وأن دموعه لا تجف.

استمع الحراس إليها بوجوهٍ جامدة ومن ثم اتصلوا بخادمة القصر في منزل ظافر عبر جهازٍ خاص كأنهم يرسلون نداءًا في الظلام لاختراق ذلك الحاجز

الصلد الذي يفصل هذا المكان عن العالم.
وهناك فتحت سيرين عينيها ببطء كمن يخرج من بئرٍ عميقٍ من الأحلام وحينما داعبت أشعة الصباح جفونها برفق... أول ما وقع عليه نظرها كان ذراعًا قويةً تحيط بها كجدارٍ يحميها من رياح العالم.

رفعت رأسها قليلًا فرأت وجه ظافر، مغمض العينين، وسيم الملامح، 

عقدت حاجبيها بامتعاض ودفعت ذراعه برفق كمن يدفع الغيم بعيدًا عن شمسٍ يريدها أن تسطع... لكنه تمتم بانزعاجٍ خافتٍ وهو يفتح عينًا واحدة:

"لا تتحركي!"

مرت أعوامٌ طويلةٌ وهو يطارد النوم كمن يطارد السراب... لم تكن المشكلة أنّ وقته ضيّق بل إنّ الليل لم يُطع جسده يومًا وظلّ السهر ينهش عينيه حتى آخر رمق.

لكنّه الآن وللمرة الأولى منذ زمنٍ بدا وكأنّه أبديّ، شعر بثقل النوم يستسلم له ولم يعد يرغب في مغادرة هذه اللحظة.

همست سيرين بلهجةٍ أقرب للرجاء منها إلى الرفض:

"لا أريد النوم بعد الآن."

لم يدم هدوءهما طويلًا؛ إذ اخترق صوت الهاتف سكون الغرفة... عبس ظافر وكتم الغضب في صدره حين فتح عينيه بتثاقل.

أمسك سيرين بذراعٍ واحدة فيما امتدت يده الأخرى لتلتقط الهاتف الموضوع على الطاولة القريبة.

"ما الأمر؟" سأل بصوتٍ خافتٍ أجش.

كان صوت خادمة القصر على الطرف الآخر تخبره بشأن نوح.

ردّ بإيجازٍ مقتضب:

"

فهمت."
ثم أغلق المكالمة قبل أن يلتهمه الفواق تمامًا... فكّر أنّه ينبغي له أن يسنّ قاعدةً صارمة: لا أحد يجرؤ على الاتصال به قبل التاسعة صباحًا.

تنهدت سيرين وقالت بصوتٍ هادئٍ يكسر السكون:

"هل يمكنني النهوض الآن؟"

كان ظافر يرغب في البقاء معها  كمن يختزن دفء شمسٍ لا يريد لها غروبًا. لكن ذكرى نوح طفت في عقله فنهض بكسل كمن يُنزِل الستار على حلمٍ جميل، وقلبه يوكزه خوفاً لا يعلم سببه على الصبي.

قال وهو ينهض فجاء صوته ثقيلٌ كسحابة شتاء:

"نعم... عليّ أن أهتم بأمرٍ ما سأخرج الآن."

استدارت سيرين لتنظر إليه.... كان قد ارتدى ملابسه وبدت قسماته متماسكة كمن يستعدّ لمعركةٍ جديدة.

سألته بشيءٍ من الحزم والعتب:

"هل يمكننا التحدث لاحقًا عن فكرة أن تضمّني هكذا؟ يجب أن نضع حدودًا واضحة حتى لا يُظلم أحدنا مرةً أخرى... ما فعلته لم يكن منصفًا."

كانت قد قرأت الكثير منذ عودتها وعلمت أنّ الرجال يلهثون خلف ما يعجزون عن امتلاكه.

نظر إليها بعينيه السوداوين كسواد الليل الذي يحتضن القمر.... رآها مختبئة تحت البطانية شعرها مبعثرٌ على الوسادة كشرودٍ ساحر ووجهها الصغير بدا أكثر إشراقًا في هذا الضياع الجميل.

ابتسم ظافر ابتسامةً غامضة وقال بصوتٍ يقطر سخريةً وصدقًا معًا:

"وكيف ترغبين أن

أتعامل معكِ بعدل؟"
أجابته سيرين بلهجةٍ هادئةٍ تحمل في طياتها تصميمًا لا ينكسر:

"سأكتب العقد حين تعود."

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1