رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثامن و العشرون
ابتلع ظافر ريقه بصمتٍ ثقيلٍ حين تسلّل إلى سمعه حديث سيرين عن عقدٍ ما وقد شعر بأنّ ذكر ذلك العقد بينهما ضربٌ من العبث لا جدوى منه ولا ضرورة لكنّ قلبه المُثقل بالخشية من فقدانها أجبره على التماسك، فقال بصوتٍ خفيضٍ تختبئ فيه اضطراباته:
"في هذه الحال… رتّبي الأمر أولًا."
تلك الكلمات خرجت من شفتيه مُحمّلةً بتحفّظٍ ظاهرٍ فهو ما كان ليقبل بأيّ شروطٍ لا يرضى بها قلبه.
ثمّ غادر المكان بعد أن بدّل ثيابه واستقلّ سيارته التي بدت له كحصانٍ صبورٍ يطوي به الطريق نحو قصر الغابة.
حين بلغ القصر استقبلته ظلاله الكئيبة كأنها أسرارٌ تُهمس إليه في عتمة الليل.
هناك، في إحدى الحجرات الباردة رأى نوحًا مستلقيًا على فراشه والدموع تتدفّق من عينيه كجداولٍ تُبلل وجنتيه.
بصوتٍ متكسّرٍ يكاد ينكسر تحت وطأة الحزن، قال نوح:
"أخيرًا جئت لتراني يا سيدي… هل أخبرت والدي كيف خطفتني؟"
ظلّ ظافر ينظر إليه بنظرةٍ جامدةٍ فقد كانت كلُّ محاولاته للحديث مع كارم تصطدم بأسوارٍ من صمتٍ موصدٍ.
رفع ظافر حاجبه في هدوءٍ قاتل، وقال:
"لقد علم بالأمر منذ زمنٍ طويل."
تخضب أنف نوح احمرارًا وتفجّرت دموع عينيه السوداوان كسحابةٍ حبلى بالأسى... وأردف بنبرة متقطعة:
"إذن… لِمَ لم يأتِ ليعيدني إلى المنزل؟ أفتقد المنزل… أفتقد أبي…"
أخرج ظافر من جيبه بعض المناديل قدّمها إليه برفقٍ باردٍ وهو يهمس كأنما يُلقي عليه تعويذةً:
"كفّ عن التفكير به إنّه لم يعُد يريدك."
اتسعت عينا نوح بدهشةٍ مرتعشةٍ إذ
بدا له ذلك الكلام ضربًا من الجنون أو محاولةً شريرةً لترهيبه فهو واثقًا من أنّ كارم لا يمكن أن يتخلّى عنه هكذا.
للحظة رأى نوح في ظافر وجهًا قاتمًا تتوارى خلفه ظلالٌ من الفساد وتساءل في قلبه كيف لرجلٍ أن يُرهب طفلًا هكذا دون رحمةٍ أو شفقة.
لكي يُثبت أنّه ما يزال طفلًا بدأ نوح يُحدث جلبةً وصخبًا في الغرفة وقد اشتعل صوته بالرفض:
"هذا كلامٌ فارغ! أبي لن يتركني مهما حدث! لقد وعدني ذات يومٍ أن يمنحني أخًا أصغر ألعب معه!"
عندها تغيّر وجه ظافر كأنما اجتاحته ريحٌ باردةٌ من شتاءٍ لا يرحم وساد الصمتُ الثقيل الغرفة لا يُسمع فيها سوى أنفاسٍ تتردّد كأنها صدى صرخاتٍ خفيّة.
تقدّم ظافر خطوةً للأمام وجاء صوته كالنصل:
"وهل والدك يخطّط لإنجاب طفلٍ آخر من والدتك؟"
وحين أبصر نوحٌ بوضوحٍ انزعاجه المفاجئ زاد من حدّة كلماته كأنه أراد اختبار صبره عمدًا:
"نعم! بل قال إنّه سيُحضر لي الكثير من الإخوة والأخوات حتى لا أشعر بالوحدة أبدًا."
اكتنف ظافر صمتًا يشبه سكون البحر قبل العاصفة، عيناه تُحدّقان في الفراغ وكأنهما تقرآن ما وراء ظلال الكلام.
وفيما انهمرت دموع نوح راح يرمق ظافرًا بنظراتٍ متسائلةٍ، يفتّش عن سرّ انزعاجه الحارق وهو الذي لا يُحب سيرين أصلًا، فما الذي يؤرقه هكذا؟
ثم دارت في عقل نوح خواطرٌ مُرّة:
"ترى… هل يشبه كلُ الأوغاد هذا الرجل؟ أوغادٌ لا يمنحون أحدًا ما لا يريدون أن يمنحوه ... فهو لا يحبها ولكن لا يتركها لغيره…"
رفع ظافر رأسه فجأةً وقال بصوتٍ خفيضٍ كمن
يريد أن ينتزع الحقيقة من قلب الصبي:
"إذا كان ما تقوله صحيحًا… فلِمَ عادت والدتك إلى المدينة؟"
لم يكن ظافر يعلم حقًا ما إن كان نوح سيبوح بسرٍ خفيٍّ لا يعرفه أحد لذلك سأله ببراءةٍ زائفةٍ كمن يزرع الحيرة في صدر طفل.
تجمّد نوح لبرهةٍ وقد ارتسم على وجهه ذهولٌ واضح فتعثّرت الكلمات على شفتيه وهو يقول:
"ربما… ربما تريد أن تلد إخوتي وأخواتي هنا… في المدينة…"
رمش بعينيه الواسعتين، كأن في صدره عاصفةً لا تجد مهربًا... وتصاعدت شرارة الغضب في عيني ظافر فقد كانت كلماته الأخيرة تنخر قلبه مثل خنجرٍ يقتل دون هوادة.
في هذه اللحظة أدرك ظافر أنّه لم يعد قادرًا على تجاهل ما يجري فقد أوعز مؤخرًا لرجاله أن يراقبوا كارم في كل مكان وكأنما في قلبه نارٌ تتّقد كلما ذُكر غريمه أو وُجد ظلٌ له في حديث الآخرين.
تسرّبت إلى ظافر فكرةٌ مُزعجة كدخانٍ أسود يتسلّل من شقوق الجدران: لا بدّ أنّ هناك مَن يُحرّك كارم من خلف الستار.
لم يشكّ ظافر للحظة في أنّ كارم يسعى جاهدًا للقدوم من أثينا وكأنّ ظافر يسعى خلف شبحٍ يطارده في الليل.
تدافعت الهواجس تتقاتل في رأسه إذ ظنّ ظافر أنّ كارم يريد العودة إلى هنا… إلى قلب الغابة التي لا ترحم ليسترد آخر بطاقة يحتفظ به في جعبته لإبقاء سيرين إلى جواره.
أما فكرة أنّ سيرين تُخطّط لإنجاب أطفالٍ في المدينة فقد بدت له أشبه بكذبةٍ باردةٍ لا حياة فيها.
اقترب ظافر من نوح وقال بصوتٍ خافتٍ يُشبه طرقات المطر على نافذةٍ مُغلقة:
"توقّف عن البكاء... فطالما أنك
تنصت إلي سأسمح لك برؤية والدتك."
ظنّ ظافر أنّ كلماته تلك تكفي لتهدئة الصغير فهو لم يكن يومًا خبيرًا في مخاطبة الأطفال ولا في تهدئة عواصفهم الصغيرة.
لذلك استدار ببرودٍ وهمّ بمغادرة الغرفة... لكنّ نوحًا باغته كعاصفةٍ مفاجأة في ليلةٍ مُظلمة... وقد أحاط ساق ظافر بذراعين هزيلتين وبكى كأنما انفتحت في صدره ينابيعٌ من الدموع... اختلطت دموعه بمخاطه فتساقطا على بنطال ظافر مثل غيمةٍ سوداء تُفرغ ما في جوفها:
"أريد أمي… أريد أبي… أنت شرير! سيدي!"
تذكّر ظافر اللحظة التي جُلب فيها نوح إلى هنا قبل أيامٍ فقط كان طفلًا هشًّا لا حول له ولا قوة لكن في تلك اللحظة التمعت في عينيه شرارةٌ خبيثة... إذ أراد نوح أن يجرّع ظافر كأس الألم كما جرّعته الحياة مرارة البُعد عن والدته.
تقلص وجه ظافر الذي بدا غاضبًا من مشهد الطفل الصغير الذي بدا كأنه يعلن حربًا صامتة:
"دعني وشأني وتوقّف عن هذا النحيب!"
لكنّ نوحًا لم يفعل… بل رفع صوته بالبكاء أكثر وكأن صدره يفيض بأنينٍ لا يهدأ.
قال ظافر بصوتٍ يقطر تهديدًا:
"إن واصلتَ على هذا النحو، فسوف أعاقبك."
ردّ نوح بصوتٍ مرتجفٍ يشبه الريح التي تعصف بورق الشجر:
"سيدي حقاً ستعاقبني… سيدي حتماظ سيؤلمني ما تخطط أن تفعله بي…"
وانهمك في نشر مخاطه على بنطال ظافر دون خجلٍ أو ندم كمن يزرع الذنب في قلب الرجل.
وفي محاولةٍ يائسةٍ من ظافر لكبح الفوضى حمل نوحًا بين ذراعيه، يتمتم:
"لا تبكِ…"
لكن قبل أن يُتمّ جملته شعر بدفءٍ غريبٍ ينساب على صدره.
حدّق
أسفلًا ليرى بنطال نوح رطباً والطفل قد تبول خوفًا وكأن جسده الصغير قد خان صبره تاركًا على صدر ظافر لعنةً لا تُمحى.