رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة التاسع و العشرون
ازداد وجه ظافر عبوسا حتى بدا وكأنه صخرة صماء لا يمسها ضوء... وما إن شعر بحرارة البلل تلطخ صدره حتى ود لو أنه يستطيع إسقاط نوح من بين ذراعيه كمن يلفظ جمرة متقدة من يده.
ظن للحظة أن الطفل الصغير غارق في خجله يبتلع دموعه وصوته المرتعش... ولكن هيهات في بالأخير هو ابن الذئب ظافر نصران وأخوه لزكريا.
توسل نوح بصوت متقطع متصنع يشبه خرير جدول صغير جف ماؤه
أرجوك سيدي لا تعاقبني أقسم أنني لم أقصد لقد كنت خائفا فحسب.
في الخارج عندما وصل صوت بكاء نوح المدوي إلى آذان المربيات بدا لهن وكأن الغرفة تحتضن شبحا شريرا يعذب الصبي وهذا ما أرده الجرو الصغير ألا وهو كسب تعاطف الجميع وتشويه صورة ظافر.
أما عن وسام التي رأت في عيني نوح بريق براءته لم تتمالك نفسها فدفعت باب الغرفة برعشة مرتعشة وهي تعلم أنها ربما تخاطر برزقها تتمتم برهبة
سيد ظافر إنه طفل صغير لا يمكنك ضربه أو إيذاؤه!
لكن عيناها اتسعتا ذهولا ما إن أبصرت بقعة صفراء تلوث صدر قميص ظافر الأبيض كزهرة ذابلة نمت في غير موضعها فأدركت فورا صدق ظنها بأن سيدها ذاك ما هو إلا وحش في زي أنيق.
خفضت وسام بصرها تواري نظرة اشمئزازها وابتلعت الكلمات التي كادت تهرب من شفتيها عنوة.
هل جننت يا سيدي لماذا تلتزم الصمت متى ستسمح لي برؤية والدتي
رأى ظافر في هذا البكاء سكينا تجرح صبره... فأعاد الطفل إلى سريره كمن يعيد طائرا صغيرا إلى عشه على مضض ثم اندفع مسرعا إلى الحمام.
هناك وقف تحت الماء
يكرر غسله لجسده يحاول محو أثر ذلك البلل الطفولي من صدره وروحه معا.
تسللت فكرة سوداء إلى عقله
كم هو شيطان صغير هذا الطفل لم أفهم كيف يمكن لامرأة رقيقة كسيرين أن تنجب ابنا بهذه الجرأة!
بعد ساعة من انغماسه في الماء خرج ظافر من الحمام نظيفا تفوح منه رائحة زكية تليق برجل يريد أن يطرد عن روحه كل أثر من الماضي... في تلك الأثناء تقدمت نحوه وسام بخطى حذرة تسبقها خشية معلقة في عينيها
سيد ظافر لقد توقف نوح عن البكاء... بل طلب مني أن أعتذر إليك بالنيابة عنه قال إنه سيكون مطيعا ويرجو منك ألا تأخذ روحه... كما أنه ما زال يتوق إلى رؤية والديه
سرت في جسدها قشعريرة كأن كلمات نوح أشعلت في صدرها أسئلة لم تجد لها أجوبة وتساءلت في سرها
ما الذي قصده نوح حين طلب من ظافر ألا يقتله أهو تهديد مبطن أم كشف لسر لا ينبغي لها أن تعرفه
نظر ظافر إليها وقد ارتسمت على وجهه دهشة باردة فقد أدرك للتو ما كان يقبع خلف دموع نوح وصرخاته.
همس لنفسه
الآن فهمت
لكن لم يكن في صدره متسع للضغينة تجاه صبي صغير فقبل أن يغادر أوصى وسام أن تعتني به كما يليق بطفل في عمره.
تنهدت وسام تنهيدة مطولة كمن نجا من موت محقق غير أن كلمات نوح بقيت كوشم على جدار ذاكرتها تأبى أن تزول.
في هذه الأثناء كان نوح يتكور على سريره كعصفور صغير يختبئ من الريح لكنه ابتسم خلسة عندما سمع صوت محرك سيارة ظافر يغادر بعيدا.
تذكر تلك الأيام حين كان هو وزكريا يتبولان على ثوب والدتهما سيرين فيضحكان
لبرهة وهي لا تغضب بل تحتضنهما في حنو أمومي لا ينضب...
لكن ظافر يا له من أب لقيط لم يحتمل الأمر سوى مرة واحدة!
ضحك نوح في سره وقد انبثقت في قلبه فكرة شيطانية
سأخدعه أكثر في زيارته القادمة لماذا علي أن أهرب مبكرا! سأظل هنا ما دام جسدي ضعيف ولن يسمح لي الأطباء بإجراء جراحة في الوقت الحالي حسنا سألعب لعبتي وأستمتع بماله وسأعتني بجسدي حتى يحين موعد الرحيل... لن أترك له فرصة ليلتقط أنفاسه.
وابتسم نوح وفي عينيه بريق يشبه لهيبا هادئا يرفض أن ينطفئ.
في تلك اللحظة كان ظافر يجلس داخل سيارته يتكور في مقعده الخلفي كظل قاتم يئن تحت وطأة ذكرى بائسة إذ عجز عن محو صورة نوح وهو يبول عليه وكأن البلل الذي لطخ صدره قد تسلل إلى قلبه فاستوطنه. ألقى ظافر سؤاله على حارسه ببرود يخفي خلفه شررا من الغضب
أين هي سيرين الآن
أجابه الحارس بصوت رتيب كصدى بعيد
ما تزال في القصر سيدي.
استنشق ظافر الهواء بعمق كأنه يتأكد ألا رائحة تشوب نقاءه ثم أغمض عينيه لحظة قصيرة طرد فيها كل الأصوات من رأسه.
تحركت السيارة ببطء في شوارع غارقة بالصمت حتى وصلت أخيرا إلى بوابات قصره بعد ساعة من الترقب الصامت.
ترجل ظافر بخطوات واثقة تشبه وقع الطبول في صدره ومن ثم دخل المنزل بخطوات تلتهم الرخام تحت قدميه حتى سمع موسيقى تنساب كحلم يرفض أن ينتهي.
اقترب من غرفة الموسيقى وعيناه مسمرتان على الزجاج الذي يفصل بينه وبين اللحن الغامض...
شعرها الطويل انساب على كتفيها
كسيل من الليل وأصابعها النحيلة تتنقل فوق مفاتيح البيانو كرقصة أشبه بهمهمة المطر على زجاج بارد.
كانت الموسيقى تتسلل من بين يديها كنور خافت في نفق مظلم.
أحيانا كانت تتوقف لبرهة تضع قدمها على الأرض كمن يحاول أن ينصت بقدميه لما لم تعد أذناه تسمعانه جيدا... وبالرغم من أن أذنيها قد تعافتا قليلا ولكن الذكريات ما زالت تنبض في رأسها كجمر تحت الرماد... تذكرت كيف أنها حينما سافرت قبل سنوات إلى الخارج أخطأت مرارا في عزفها فكانت تعيد الاستماع وتصحح بعناد لا يلين.
وعندما لم تجد مكانا يحتوي موسيقاها في المكتب الموحش تذكرت غرفة الموسيقى في قصر ظافر.
هناك حيث كل شيء صامت إلا صوت أصابعها وكما اعتادت أن تختبئ عن العالم كزهرة برية في شق صخرة ظلت لساعات تتمرن على لحنها الجديد.
لكنها تذكرت شيء آخر جعلها تعهد إلى عملها على النحو الأمثل إذ كانت كلمات ظافر تتناهى بقسوة كسيف بارد بمسامعها عندما قال لها ذات مرة
توقفي عن إضاعة وقتك في العزف ما نفع الموسيقى لأذن عاجزة
حين عادت إلى تلك الذكرى شعرت بوخز في صدرها كأن كلماته ما زالت تتردد صداها في قلبها.
عزفت أسرع وأصبح لحنها شبيها بصرخة مكتومة تفيض بالدراما والتمرد.
لم تدرك أن ظافر كان هناك يقف عند الباب مثل شبح يراقبها بصمت... عيناه كانتا نافذتين تمعنان النظر في روحها لا في أصابعها الراقصة.
انتهت المقطوعة أخيرا وتوقفت أناملها وأخذت تتنفس بعمق كمن أنهى اعترافا طويلا.
عندها فقط شعرت بوجوده فالتفتت
ببطء والتقت نظراتهما في فضاء مشحون بالصمت والأسئلة.