رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثلاثون 130 بقلم اسماء حميدة


 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثلاثون


حين استفاقت سيرين مع خيوط الصباح الأولى تردد في أذنيها صوت خافت ينبعث من المطبخ المفتوح كأنه لحن غريب يدعوها للتيه في عوالمه.
خرجت من غرفتها تتحسس خطاها وهي تفرك جفنيها بكسل وللحظة جحظت عيناها حالما فتحتهما على مشهد لم تألفه من قبل
كان ظافر بقميصه الفاتح الذي بدا وكأنه يلتقط لون الصباح من نافذة المطبخ وبنطاله الرمادي الذي زاد قامته هيبة يلف خصره بمئزر أبيض يشبه ضوء القمر حين يلامس الماء.
توقفت أنفاسها لوهلة فهي لم تر ظافر يوما في هذا الدور. لم تسمع دينا قط تذكر أن ظافر طبخ أو حتى تظاهر بذلك... بدا لها المشهد كأنه مسرحية هزلية يعيد كتابة أدوارها على نحو غير المتوقع.
حين سمع ظافر وقع خطواتها على الدرج التفت إليها وعيناه تومضان بشيء لم تفهمه
أنت مستيقظة تعالي لتناول بعض الطعام.
ثم وضع طبقين من الطعام على الطاولة كأنهما عهدهما الجديد.
لم تر سيرين الفوضى التي خبأها الحوض ولا الأصابع التي تركت فيها النار قبلاتها الحارقة... لم تر كم من المحاولات التي ذابت في صمت المطبخ قبل أن يولد هذا الطبق المتواضع فظافر الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب يجهل حتى كيف يفتح صنبور الماء.
في تلك اللحظة بدا كطفل يحاول إعادة اكتشاف العالم من خلال الطبخ كأنه يكتب وصيته الأولى على صفحة جديدة.
وهو يحدق في يديه المحروقتين تمتم في سره يقول بعناد يبرع فيه
الطبخ ليس صعبا حقا...
لم يكن يعرف ما الذي دفعه للاستيقاظ فجأة وهو مملوء برغبة في تحضير الطعام ربما شعر بالذنب.

.. بالثقل الذي تركته كلماته الليلة الماضية في صدرها فحاول إصلاح ما لم يستطع قوله.
حين وصلت سيرين إلى غرفة الطعام توقفت أمام الطبق المزين بأصداف البحر وكأنها تتأمل لوحة حية... صدمها المشهد حتى نسيت كيف تلتقط أول قضمة.
ظن ظافر أن الصمت جرح جديد ينمو بينهما... فسحب كرسيا وجلس قبالتها ثم تذوق الطعام ليتأكد من صلاحية ما طبخه... صحيح أن الطعم كان بسيطا خاليا من البهارات المعقدة لكنه كان صالحا للأكل.
قال ظافر بصوت يختبئ خلفه خجل لم تعهده فيه
يمكنك رميها إن لم ترغبي في أكلها.
ثم مضى يأكل منها وحده لكن عيناه ظلتا معلقتين على وجهها كأنهما يبحثان عن غفران في نظراتها.
أما سيرين التي بدأت في تذوق أول لقمة ببطء تمتمت وكأنها تهمس لذكرياتها
هذه أول مرة يحضر لي أحد طعاما... وبالأخص المأكولات البحرية.
لم يدرك ظافر أن كلماتها تحمل ما هو أعمق من مجرد طعام بل لم ير كيف فتحت في قلبها بابا من الذكريات الموجعة.
قال بهدوء وكأنه يقدم لها طوق نجاة
ينبغي عليك أن تأكلي أكثر.
لكن صوته بدا لها كأنه وعد بالاهتمام... وعد لا يقال بالكلمات بل يثبت بالأفعال.
بعد أن أخذت سيرين أول قضمة من الطبق رفعت عينيها إليه وهمست بنبرة خافتة كأنها تستدعي طيفا من الماضي
لقد عرفنا بعضنا البعض منذ سبعة عشر عاما تقريبا أليس كذلك
ضحكت بداخلها بسخرية مرة كمن يضحك على انعكاس صورته المشوهة في مرآته المكسورة... فكيف لظافر سيد النسيان أن يذكر مثل هذه التفاصيل
نعم... رد عليها بعد لحظة صمت وقد
بدا صوته وكأنه يعبر ببطء بين الذكريات... ومن ثم استكمل قائلا
لقد مضى أكثر من عقد من الزمن.
ابتلعت سيرين لقمات متتابعة وعيناها تهربان من نظراته ثم تنهدت مردفة بصوت بالكاد يسمع
أنا... يا لي من حمقاء. بالطبع لم يكن ليهتم.
لم يفهم ظافر كلماتها لذا مال قليلا نحوها كأنه يحاول أن يلتقط بقايا همساتها متسائلا
ماذا قلت
رفعت نظرها إليه وفي عينيها خجل طفولي يختبئ خلف ستار الابتسامة
قلت... هذا لذيذ.
أجابها ظافر بصوته الواثق كمن يحاول أن يبرر عجزه المتأصل في مبادرة لم تحدث من قبل
أنت تطهين السمك دائما... لكن هذه أول مرة أجرب فيها ذلك بنفسي.
أنهت سيرين طبقها في صمت مطبق وقد خيل إليها أن الطعام كان طوق نجاة من ثرثرة قلبها.
انتبه ظافر فجأة وقال وهو ينهض بخفة
هل شبعت يمكنني أن أحضر لك المزيد إن شئت.
لكنها لم تجبه بل بقيت شاردة كأنها تسمع موسيقى خفية لا يسمعها سواها.
التفت إليها مجددا ليلمح حمرة غريبة  ويديها أشبه بزهور النار تتفتح على جلدها... لوهلة انقبض صدره وشعر بالذعر يتسلل إلى صوته
ماذا حدث
تمتمت سيرين بصوت بالكاد يسمع كأنها تخشى من صوت نفسها
أنا أعاني من حساسية تجاه المأكولات البحرية.
شهق ظافر بخوف حقيقي وقد بدا أن كل ما حوله توقف عن الحركة... سبعة عشر عاما من المعرفة وثلاثة أعوام من الزواج وهو لا يعلم هذا عنها! لوهلة شعر أن عقله تلاشى في العدم كأنه يهبط في هاوية بلا قرار.
لم يتردد لحظة بل حملها بين ذراعيه وركض بها إلى السيارة ثم انطلق نحو
المستشفى كمن يطارد شبحا يوشك على أن يبتلعه.
على الطريق كان صدره يضيق في كل ثانية وصوته يخرج مخنوقا بالغضب
هل فقدت عقلك لماذا لم تخبريني من قبل أنك تعانين من حساسية
ردت عليه وهي تغمض عينيها وكأنها تستدعي ذكرى بعيدة
لقد أخبرتك ذات مرة... ربما نسيت.
ترددت كلماتها في ذهنه كصدى حزين يعود من أعماق بعيدة.
تذكر وجهها في أيام المدرسة الثانوية حين جلسا معا في قصر نصران وراقبها وهي تدفع أطباق المأكولات البحرية جانبا خلسة... في تلك اللحظة أخبرته أنها لا تستطيع أكلها... تذكر وعده لها ذلك الوعد البريء الذي قاله بجدية مراهق
سأتذكر ذلك... ولن أنسى أبدا.
لعن تحت أنفاسه ذاكرته الخائنة... ففي هذه الأثناء لم يستطع ظافر أن يستعيد من ذاك الوعد سوى الفراغ... كل ما بقي له في عقله كان صورة سيرين وهي تطهو له السمك يوما بعد يوم وكأنه غذاؤها الروحي.
شعرت بحيرته فهمست بصوت متعب
أنا لا أطبخ السمك لأني أحبه... بل لأنك تحبه.
أحس ظافر كأن الطريق إلى المستشفى قد صار صحراء بلا نهاية وقد زادت كلماتها من غضبه بل من وجعه الذي لم يجد له اسما... فقال بحماقة غير محسوبة وقد خانه التعبير أيضا
لم يكن عليك أن تفعلي ذلك! تمتم بها بصوت واهن وكأنها طلقة خرجت من صدره.
عندها فقط أدركت سيرين ما لم تلتقطه طوال سنواتها معه
كل ما أراده منها لم يكن أكثر من ألا تبذل جهدا من أجله ألا تؤذي نفسها كي ترضيه.
همست وكأنها تلقي وعدا أخيرا
أعلم ذلك الآن... لن أفعل هذا بعد اليوم.
فهمت أخيرا أنها لن
تسمح لقلبها بأن يهدر ذاته في سبيل حب لا يراها... حب لا يشعر بها.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1