رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الواحد والثلاثون
انسل ظافر في عتمة الليل وكأنه شبح يذوب في أزقة الظلام... وبعد مغادرته بوقت وجيز استلمت سيرين رسالة إلكترونية مقتضبة من رامي تتردد أصداؤها في صدرها كما يتردد صدى النداء في واد سحيق
ظافر قد رحل سيرين... ابحثي عن وسيلة للخروج... لدي ما أقوله لك.
كانت القيود الحديدية التي تطبق على قصر ظافر أشبه بجدران من الصمت تخنق كل محاولة للاختراق أو الهمس لذا لم يكن بوسع رامي سوى أن يراقبها عن بعد كظل يختبئ خلف ستار الغيب.
في تلك اللحظة نزعت سيرين نوتاتها الموسيقية من بين أصابعها وغادرت القصر بخطى تخفي عاصفة من القلق... وبمجرد أن صعدت إلى سيارتها أمرت سائقها بأن يجوب الشوارع عبثا يطارد السراب في دروب ملتوية حتى يضيع الحراس الذين تعلقوا بها كأشباح الليل يتبعونها أينما غربت.
وما إن تلاشت الأضواء الراقصة لسيارات الحراسة عن زجاج سيارتها حتى أبصرت سيارة رامي تلوح على مرمى البصر كمنارة في بحر هائج.
ترجلت سيرين من سيارتها وفي اللحظة التي وطئت قدماها الأسفلت هرعت إليه وإذا به يفتح لها الباب المجاور له يقول بأمر خجل
اتركي سيارتك هنا واصعدي سيرين
فعلت ما طلبه على الفور وما لبثت أن تفوهت بعينين تتقدان بلهيب القلق
ما الخبر
أخرج رامي هاتفه كأنه يخرج خريطة لقدر غامض وحدد موقعا في غرب المدينة وهو يقول وقد ارتسم على ملامحه مزيج من الترقب والجدية
هنا هنا كان ظافر يختفي في وقت سابق من اليوم... سلكت الدرب ذاته ولاحظت أن الحراسة هناك أشبه بحلقة من فولاذ... أظن أنه أخذ نوحا إلى هذا المكان.
رفعت سيرين عينيها لتبصر حيثما أشار على الشاشة نحو الأفق
البعيد الذي كاد أن يبتلع أحلامها وتأملت المساحات التي لا تنتهي بعد أن قام بتكبير البؤرة المقصودة تتمتم بريبة
إنها تبدو كغابة مترامية الأطراف مخيفة في صمتها.
أومأ رامي برأسه ثم أخرج هاتفا جديدا من جيب معطفه وقدمه إليها بحركة حاسمة
هذا الهاتف ستستخدمينه من الآن فصاعدا... هاتفك الحالي قد يكون فخا يراقب أنفاسك... لا تقلقي السيد كارم وعد بأنه سيعود في غضون أيام معدودات.
التقطت سيرين الهاتف وكأنها تمسك بطوق نجاة في بحر من العتمة تقول بامتنان
شكرا...
قال رامي بصوته الهادئ الذي جاهد ليخبئ خلفه قلق لا يهدأ
السيد كارم يريدك أن تتواصلي معه لتخبريه بحالك بعد أن تصلك هذه الوسيلة الآمنة.
أومأت سيرين برأسها بتأكيد مردفة
حسنا.
قاد رامي السيارة إلى مكان مهجور حيث لا كاميرات تفضح خطواتهما ولا عيون تراقب ارتجاف أصابعهما... وهناك حين غمرتهما عبأة الظلام أجرت سيرين اتصالا.
رد كارم بسرعة وصوته ينساب في أذنها كنور شحيح يبدد بعض ظلمة قلبها
كيف حالك سيرين
أجابته بتلجلج تخشى من أن تنزلق الكلمات من شفتيها كأسرار محرمة
أنا بخير... لا تقلق علي... سأجد سبيلا لمعرفة مكان نوح.
لكن قلبها كان يهمس بأن العثور على نوح ليس بالأمر اليسير خاصة في ظل الحراسة المشددة التي حكى عنها رامي وحتى إن طالته إيديهما فهذا لن يكون نهاية ذلك الكابوس فظافر كان عبقريا في خبثه يعرف كيف يحيك الفخاخ بحبال غير ملموسة.
أجاب كارم بصوت حمل معه صقيع الفجر وحرارة الدم
كنت فقط أريد أن أعرف إن كان قد آذاك.
كان كارم واقفا هناك على قمة بناية عالية والريح تعبث بمعطفه كأنها يد باردة تداعب
جسده المثخن بالجروح.... السماء فوقه لا تزال سجينة العتمة والدم يتسلل من وجهه الوسيم مثل قصيدة تنزف على حواف الليل.
ابتلعت سيرين ريقها بصعوبة وخافت أن تبوح بما لم ترد الكشف عنه
لا.
رد كارم بحزم وكأنه يقطع
وعدا من نار
انتظريني... سأكون عندك قريبا.
لكنه شعر في صدى صوتها بشيء غامض شيئا لم يقله اللسان بل صرخ به القلب.
قالت سيرين وهي تمسك بالخيوط الأخيرة من رباطة جأشها
حسنا... لا تتعجل... هناك ضمانات وضعتها بيني وبينه لن يحدث شيء.
كانت تدرك في أعماق روحها أن عمل كارم محفوف بالمخاطر وكأنه يطارد شبح الموت كل يوم ومع ذلك لم يستسلم أبدا وبما لا يدع مجالا كونها تعرف أنه سيحضرو مهما كلفه ذلك.
ما إن انقطع صدى المكالمة حتى عاد كارم إلى الغرفة يمشي بخطوات واثقة تخفي وراءها خنادق من الألم.
سارع سيف إلى صديقه كارم يكمل تضميد جرحه يضغط على ذراعه النازف بيد من حنان صارم.
كان الجرح فاغرا يصرخ بلون الدم القاني أكبر من كف سيف وكأنه فتح ليبتلع أسرارا لا يعلمها سواهما.
قال سيف وهو يحدق في الجرح الذي ينهش ذراع كارم
من فعل هذا بك كان يريد دفنك حيا أراد أن يكتب آخر فصولك بمداد من دمك.
ورغم الألم لم يتزحزح الهدوء عن وجه كارم بل كانت نظراته تشبه بحيرة ساكنة لا تظهر ما يغلي في أعماقها.
انفرجت شفاه كارم الشاحبتان عن ابتسامة باردة يقول بتهكم
أما زلت تظن أنني ذاك الطفل الضعيف الذي كنته يوما
رفع سيف عينيه إليه يقول وقد ترددت نبرته ما بين القلق والوفاء
كارم... هل ستخبر والدك بما جرى
هز كارم رأسه بنفي وفي عينيه بريق كوهج قمر خافت
لو كان والدي يبالي بحياتي
لما تركني أواجه كل هذا وحدي أتعثر في شوارع المدينة الباردة سنوات طوال... لا أحد لنا سواه الله.... ألم نتعلم ذلك منذ زمن
أومأ سيف برأسه وكأنما يردد صدى الكلمات في صدره.
وبينما كان يضمد الجرح بعناية زائدة بدأ قلبه يثقل كأنه يحمل وزر الألم كله عن رفيقه فأردف سيف برجاء
ينبغي عليك ألا تخرج الآن يا كارم... إن الظهور أمام الناس ضرب من الجنون... الخطر يزحف في كل زاوية.
ترددت في الغرفة سحابة صمت قاتمة قبل أن يقطعها كارم بجملة تشبه الطعن
لا أستطيع. علي العودة إلى المدينة مهما كلفني الأمر.
لم يكن لسيف أن يعارضه فقد خبر عناده الذي لا يلين وعلم أن امرأة واحدة فقط تملك سلطة تغيير رأيه سيرين.
آثر سيف الصمت وراح يركز على تضميد الجرح كأنه يحاول خياطة بقايا هذا العالم المكسور.
في هذه الأثناء تذكر سيف وعد كارم القديم لوالده ذلك الوعد الذي قطعه وهو يلفظ بقايا صباه يرتدي عباءة أعمال أبيه بأن يكمل مشاريع والده في الخارج ليعود وفي جعبته مفاتيح المجد... لكن رصاصة غادرة سبقت أحلامه وتركت جرحا يئن تحت الضمادات.
شرد كارم للحظات يقر فيها بأنه لم يعد أمامه سوى العجلة آملا أن ينهي ما بدأه ويعود سريعا... لم يعد بوسعه أن يسمح لسيرين بالبقاء في مدينة تلتهم قلوب ساكنيها... لم يعد قادرا على تركها وحيدة في ليل يكتظ بالذئاب.
أنهى سيف تضميد الجرح لكن عينيه ظلتا مسمرتين على وجه كارم الذي شحبت ملامحه دون أن تهتز إرادته.
خرجت من بين شفتي كارم كلمات مرتجفة لكنها كانت تحمل وقع الرعد
الوقت يضيق يا سيف... والمدينة لا ترحم الضعفاء.
ثم تنهد بعمق وصوته يعلو فوق خفقات
قلبه
سيرين وحدها تعرف... أنني قادم مهما كانت الجدران التي تفصلنا.