رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السادس والثلاثون
حين وصل إلى مسامع كوثر أن سيرين طريحة فراش في المستشفى لم تتردد للحظة بل انطلقت نحوها في زحمة بعد الظهر يقودها قلب يهتز قلقا كأوتار عود شجي.
دخلت كوثر الغرفة في صمت ثقيل فلم تجد ظافر فيها كما لو أن ظلاله قد هجرت المكان.
وقفت كوثر تتأمل وجه سيرين المرهق
لماذا سألتها كوثر بصوت خرج كأنه طلقة في ليل مقفر. كيف تسمحين لنفسك أن تتجرعي طعاما تعرفين أنه سيؤذيك
ابتسمت سيرين ابتسامة خافتة كسيدة تخفي ألمها خلف ستار الكبرياء.
لا تقلقي علي لقد أجريت اختبارا ولا أعاني من حساسية .. الأمر ليس خطرا إلى هذه الدرجة.
هزت كوثر رأسها بعنف وكأنها تدفع عن ذهنها شبحا مخيفا تقول بحدة مبالية
كفى هراء سيرين! أعلم جيدا أن الحساسية قد تكون مميتة... إن كررت ذلك مرة أخرى سأفعل... سأصاب أنا أيضا برد فعل تحسسي! قالتها رغم أنها لم تجد تهديدا يليق بحجم قلقها.
ضحكت سيرين بشدة ضحكة كانت أقرب إلى بكاء مكتوم تقول بأنفاس متقطعة
أنا لا أكذب عليك يا غبية... إنها مجرد أعراض وليست مؤذية. لكن... أنا في داخلي شيء آخر... إنهما نوح وزاك اللذان أصبحا عالمي الآن فلماذا أخاطر بحياتي
ترددت كوثر وهناك شك خافت يعصف بقلبها
لكن لماذا إذا وضعت نفسك في هذا المأزق
خفضت سيرين عينيها وقد
تلاشى بريقهما في عتمة حزن طويل
ظافر... كان دائما يضعني تحت مجهره كأنني دمية زجاجية لا يخشى عليها من الكسر بل من الفقد وفي الوقت نفسه يكره وجودي ذاته... لم أعرف كيف أجعله يتخلى عن حذره... كنت أريده أن يندم لربما يفك حصاري... يا لك من حمقاء سيرين!! كل ما فعلته بالماضي هو أنني خبأت ألمي وأوهمته بأنني أعيش في نعيم زائف معه.
صمتت قليلا ثم أردفت بصوت متهدج
أعطيته انطباعا بأنني أستغل ثروته وها أنا الآن... أريد فقط أن يعرف كم عانيت.
في تلك اللحظة تذكرت كوثر ما أخبرتها به سيرين قبلها بيوم وها هي تأكده عندما استكملت قائلة
وهذا أيضا ما جعلني أحاول سداد الأموال التي سرقها تامر وسارة منه... لم يكن لدي سوى هذه الحيل لكني أدركت أن ظافر نفسه بارع في المراوغة أكثر مني.
تنهدت سيرين بعمق كمن يتخلص من عبء أثقل صدره طويلا وهي تقول
لم يعد هناك جدوى من أية حيلة. سأتصرف كما كنت دائما فقط أريده أن يرى بوضوح كيف كنت أحبه وكيف كان يعاملني.
رفعت كوثر رأسها وحدقت فيها وعيناها ممتلئتان بحزن عميق
أدرك أن هذا صعب عليك يا سيرين.
ابتسمت سيرين ابتسامة شاحبة تخبئ وراءها دمعة لم تجرؤ على السقوط
ولا تتجرأي أن تخبري زاك بما حدث اليوم... وإلا سيقلق.
أومأت كوثر برأسها وقد فهمت أن
الصمت أحيانا أصدق من الكلمات
لا تقلقي... لن أخبره.
حين أسدل الليل ستاره نظرت سيرين إلى صديقتها وقالت بهدوء
لقد تأخر الوقت... اذهبي الآن كوثر.
خرجت كوثر من الغرفة وقد شعرت أن روحها تركت جزءا منها هناك بين نبضات قلب سيرين المكسور بينما بقيت سيرين وحيدة تتوسد صمت الليل وتخفي دموعا تأبى أن تسيل... دموعا تحكي حكاية امرأة أحبت حد الألم.
حين غادرت كوثر غرفة سيرين وجدت ظافر أمامها يقف بشموخ وكأنما اعتاد أن يحكم العواصف بنظرة عينيه وحدها إذ بدا لها كنصب من صخر نحتته يد السماء ملامحه حادة كسيف يلمع في عتمة الليل وعيناه سوداوان تومضان بنار باردة.
هي قد رأته بالفعل من قبل على شاشات الأخبار صورة ملونة بلا حياة لكنها حين وقفت أمامه شعرت أنها تواجه زلزالا من الهيبة.
آنذاك فهمت لماذا كان زكريا ذاك الصغير البريء يبدو وكأنه وريث طبيعي لهذا السطو المهيب فالأب والابن صورتان منقوشتان على صخر واحد غير أن الظاهر ما كان يشبه الحقيقة فملامح الظافر لم تحجب عنها رائحة القسوة التي تتسلل من بين مسامه.
رفعت كوثر رأسها وواجهته بعينين تتحديان الغيم ومن ثم قالت بصوت خافت لكنه جاف
ربما لا تعرفني يا سيد ظافر. أنا صديقة سيرين... أريد أن أطلب منك معروفا صغيرا هل يمكنك أن تكون
أكثر لطفا معها فهي لا تدين لك بشيء.
لم يسبق لظافر أن رأى كوثر لكنه حين أمر ذات مرة بالتحقق من سيرين أمر كذلك بالتحقق من حياتها... وحين تذكر وجه كوثر لم تهتز شفتاه إلا ليقول
بدلا من أن تهدري وقتك في القلق علينا من الأفضل أن تكتسبي المزيد من الخبرة المهنية حتى لا ينتهي بك الأمر خلف القضبان مرة أخرى.
كادت كوثر أن تختنق غيظا إذ بدا وكأنه ينبش منذ فترة قصيرة ولا زال جثمان ذلها لم يبرد
ظلت كوثر متجمدة بأرضها للحظة يشتعل قلبها بنار خرساء قبل أن ترى ظهره يبتعد داخل جناح المستشفى كجدار أبدي لا يمكن تسلقه.
في تلك اللحظة أيقنت كوثر أن زكريا ما هو إلا امتداد لظافر... لعلهما يشتركان في الدم ذاته لكن الأسوأ أن كليهما يملكان موهبة قول الكلمات التي تزرع الاذى في الروح.
تنهدت وهي تراقب خطواته تختفي وفي صدرها أمنية يتيمة
ألا يصبح زكريا في يوم من الأيام نسخة أخرى من ظافر رجلا صلدا لا يعرف كيف قلب امرأة دون أن يجرحها.
ركبت كوثر السيارة تلعق بقايا ألمها في صمت غير أن الصمت لم يدم طويلا إذ خرج رأس صغير من خلف المقعد الأمامي وعيناه تبرقان بقلق طري
كوثر ماذا حدث لأمي
ارتعشت كوثر من هول المفاجأة كمن لمس نارا لم يتوقعها... تصرخ بهلع قائلة
يا إلهي زكريا! ماذا تفعل
هنا ألم يكن من المفترض أن تكون في روضة الأطفال