رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السابع والثلاثون
لم يكن زكريا يعلم ما الذي ينبغي عليه فعله وهو ينكمش خلف المقعد الأمامي كظلٍ صغيرٍ مذعور، يختبئ من العالم ومن نفسه، فقد قضى وقتًا طويلًا في صمتٍ مُطبق داخل السيارة، لا يُسمع له صوت ولا يُشم له أثر، ورغم ذلك لم يكن قلبه ساكنًا بل كان ينبض كطبل حربٍ في صدره الصغير.
رفع عينيه البريئتين إلى كوثر، وقال بصوتٍ حاول أن يُلبسه الثبات وإن خانه الرجفان:
"سمعتكِ تنادين أمي هذا الصباح… بدا صوتكِ عاجلًا، ف... تبعتكِ إلى السيارة دون أن أُفكر."
نظرت إليه كوثر وقد تجمّدت كلماتها للحظة.
جمرة قلقٍ اشتعلت في صدرها، لكنها أخفتها خلف ستارٍ من الحزم المصطنع.
مدت يدها وربتت على كتفه بلطفٍ مشوب بالغضب وقالت بنبرةٍ تترنح بين العتاب والحب:
"أيها الوغد الصغير… لا تُعدها مجددًا أسمعت؟ ما فعلته خطرٌ كأنك مشيت على حافة ."
ثم أجلسته في مقعد الأطفال بحذر وشدت الحزام حوله كما لو كانت تلف حوله درعًا من حرصها وانطلقت بالسيارة تقودها دقات قلبٍ مثقلة.
وفي الطريق راحت تطمئنه تمسك كلمتها
كما يُمسك الجراح مشرطه:
"لا تقلق… أمك بخير، فقط…"
قاطعها زكريا، قائلاً:
"أصابها رد فعلٍ تحسسي... لقد استمعت إليك وأنت تحادثينها على الهاتف"
أجابته كوثر بتأتأة:
"إنه أمر بسيط، لا شيء يدعو للفزع."
لكن زكريا لم يبتلع الطمأنينة بسهولة فهو ذكي بما يكفي ليعرف أن الألم لا يُخفى خلف ستارة الكلمات.
عقد زكريا حاجبيه وقال:
"رد فعل تحسسي؟… تجاه ماذا؟"
كان يعلم أن أمه لا تعاني من حساسية سوى تجاه المأكولات البحرية… لا شيء آخر.
فرفع عينيه إليها كأنهما مشرطان يبحثان عن الحقيقة وسألها في يقينٍ هادئ:
"هل أكلت شيئًا يحتوي على مأكولات بحرية؟"
هنا أدركت كوثر أنها وصلت إلى نقطة اللاعودة... حقاً لقد وعدت سيرين ألا تُخبره… لكن الصغير قد قرأ ما بين السطور وحين يتسلل الوعي المبكر إلى قلب طفلٍ كزكريا فلا جدوى من الكذب.
تنهدت كوثر بصمت وطفقت نظرة من عينيها كأنها اعتذارٌ عاجز لكنها لم تنبس بكلمة.
أما هو فظل صامتًا للحظات قبل أن يهمس وكأن قلبه يعتصر بين ضلوعه:
"متى يمكنني رؤية أمي
يا كوثر؟"
كان صوته كنسمةٍ ضائعة تبحث عن دفء وكل ما أراده أن يحتضن والدته، أن يهمس في أذنها بأنه موجود… دائمًا من أجلها.
ردّت كوثر بصوتٍ خافتٍ يغلفه الحنان:
"ليس الآن صغيري… لا يُسمح بالزيارات... فقط… انتظر بضعة أيام وستراها كما تحب."
هزّ رأسه بتفهمٍ، وقال بتنهيدةٍ خافتة:
"حسنًا…"
لكن كوثر رأت تلك الخيبة الصغيرة تتسلل إلى عينيه كدمعةٍ لم تجد طريقها للسقوط.
في الجناح الأبيض الذي تغلفه رائحة المطهرات وبقايا الألم وقف ظافر يحدّق في جسد سيرين كأنما يُطالع كتابًا خُط بمداد العذاب، وإذا بالطفح الجلدي ينتشر على جلدها كوشمٍ من نار لا يخبو ولا يرحم، يغزو مساحاتها كأن الجلد نفسه يصرخ طلبًا للنجاة.
قطّب ظافر حاجبيه ونبرة صوته كانت أشبه بصوت رعدٍ مكتوم:
"لماذا لم يختفِ بعد؟"
أجابته سيرين بصوتٍ خافتٍ كأن الكلمات تسيل من بين أنفاسها بصعوبة:
"سيستغرق الأمر نصف يومٍ على الأقل… الطبيب قال إن ما تراه لا يمثل شيئًا، فالحكة وحدها تكفي لتجعلني أتمنى أن أنسلخ من جلدي."
كان ظافر
قد سمع من الطبيب أن ما يبدو كطفحٍ سطحي لا يعكس ما تعانيه سيرين من الداخل؛ الحكة كانت عذابًا صامتًا… أسوأ من وخز السكاكين، وأقرب إلى احتراقٍ داخلي لا يُطفأ.
لم يتصور يومًا أن أولى تجاربه في الطبخ ستكون بطاقة عبور إلى قسم الطوارئ، فقط أراد أن يُدهشها فكانت النتيجة أن أذهل نفسه.
تقدم خطوة وسألها بصوتٍ يغلفه الاهتمام رغم أن ملامحه ظلت كتمثالٍ من حجر:
"ما الذي لا تستطيعين أكله أيضًا؟"
رمقته سيرين بنظرة مشوشة كأنها تُفتّش عن نية خفيّة خلف سؤاله، ثم هزّت رأسها نفيًا وقد بدا لها سؤاله مفاجئًا مثل مطرٍ في صيفٍ قائظ.
وقبل أن يُكمل ظافر تساؤله التالي رنّ هاتفه… نغمةٌ وحيدة قطعت الصمت كصفعة حيينها لاحظت سيرين الاسم الذي ظهر على الشاشة: إنها "دينا"، وكأن اسمها فقط وخز إبر في صدر سيرين، لا يدمي ولكن يترك أثرًا لا يُمحى.
أمسك الهاتف وغادر إلى الشرفة دون أن ينبس بكلمة تاركًا خلفه فراغًا ثقيلاً يعبق بالاحتمالات.
لم تسمع سيرين ما قيل هناك لكن عند عودته كان صوته مشدودًا كوترٍ
على وشك الانفجار:
"لديّ عملٌ اليوم... ماهر سيتكفّل بإجراءات خروجك وسيوصلك إلى القصر."
فتحت فمها لتتكلم، لتعلن استقلالها كما اعتادت لكن كلمتها لم تكتمل قاطعها بصرامةٍ حاسمة:
"قررتُ أن أُعيّن لكِ سائقًا جديدًا... ماهر سيتولى الأمر."
لم تكن الكلمات تحتمل النقاش... فظافر لم يكن من أولئك الذين يسألون بل من أولئك الذين يقررون، يُخطّون الحياة بقلمٍ لا يعرف التعديل... وهي كانت تعلم أن السبب الحقيقي وراء هذا القرار لم يكن الحرص فقط بل الغضب الكامن مما حدث بالأمس حين اختفت بلا أثر.
ظافر لم يكن يترك شيئًا للصدفة، ولا لأشباح الماضي.
ابتلعت ريقها كأنها تبتلع حجارة صغيرة وشهقت داخليًا بلا صوت... لم تجادل... لم تعترض... لقد تعلّمت أن الحسم عند ظافر ليس موضع تفاوض.
بعد مضي بعض الوقت دخل ماهر بخطواته الرزينة يحمل في صوته شيءٌ من التوقير:
"كل شيء جاهز يا آنسة تهامي… سائقكِ في انتظاركِ."
أومأت برأسها فلا رغبة لها في الكلام... الكلمات أصبحت ثقيلة كالرصاص.
وفي السيارة التفت ماهر إليها وقال:
"لا تترددي في إخباري إن
احتجتِ إلى أي شيء."
"شكرًا،" ردّت بصوتٍ خافت كأن الحروف نفسها قد انهكتها.
وعندما وصلت إلى القصر ترجّلت بصمت ودخلت كأنها تدخل فصلاً جديدًا من رواية لا تعرف نهايتها… خطواتها تلامس الأرض وقلبها يطفو فوق بحرٍ من الأسئلة.
كان القصر غارقًا في صمتٍ غريبٍ تلك الليلة كأن الجدران قد قرّرت أن تحتفظ بأسرارها وأن تُغلق فمها على ما لا يُقال.
النسيم ينسل من بين النوافذ مثل شبحٍ ناعم، يتسلل إلى قلب سيرين ويعبث بأوتارها.
لم تستطع النوم كانت جفونها ثقيلة كأبواب معابد قديمة لا تُفتح بسهولة لكنها لم تُغلق.
عادت إلى ملاذها الأوحد… الموسيقى... جلست أمام البيانو كما عاشقة تمكث أمام قبر من تُحب، تلمس المفاتيح بأنامل مرتجفة كأنها تُحيي الأرواح.
لكنها لم تخلد طويلًا هناك… إذ تسلّل إلى أذنيها صوت باب يُفتح في الطابق السفلي... لم ترتبك إذ اعتقدت أن ظافر قد عاد... ولم تتوقف عن العزف أيضًا بل غاصت أعمق، كأنها تتحدى الصوت بالمزيد من النغمات..
. حتى جاء الطَرق على بابها خفيفًا لكنه واثق... توقفت ومن ثم أدارت رأسها لتجد أمامها ظلًا يطول شيئًا فشيئًا حتى تكوّن أمامها... شادية.
كانت شادية تتأنق بفستانٍ أسود يلتف حول جسدها كما تلتف الأفعى حول فريستها وخطاها على الأرض كأنها خطوات قاضية تأتي لتوقّع على النهاية.
كانت تلك أول مواجهة بينهما منذ أن اختفت سيرين كنجمة قررت ألا تشرق بعد الآن وها هما الآن في قصرٍ واحد وبينهما أكثر من سنوات… بينهما موت معلنٌ وكذبٌ حيّ.
دخلت شادية الغرفة كما يدخل الغزاة المدن المنهكة دون أن تنتظر الإذن... وجلست على الكرسي وكأنها تتربع على عرشها من جديد.
قالت شادية بصوتٍ مشدود كوترٍ قديم:
"دعينا نتحدث."
رفعت سيرين بصرها وكانت جالسة مقابلها هادئة كأنها عين عاصفة، ثم سألت بهدوء:
"عن ماذا؟"
لم تساوم شادية على المقدمة، لم تلفّ أو تدُر... قالتها مباشرة:
"لماذا عدتِ؟"
ابتسمت سيرين وكانت ابتسامتها مزيجًا من سخرية وحزنٍ دفين، ابتسامة من ذاق
الموت مرتين وعاد ليضحك في وجه الحياة... وقالت بصوتٍ ناعم لكنه كالسيف:
"هل أحتاج إلى سبب كي أعود إلى منزلي؟"
تغيّرت ملامح شادية إذ لم تكن مستعدة لمثل هذا الرد، فقد اعتادت أن ترى سيرين تلك الطفلة الوديعة التي تنكسر بصوتٍ عالٍ ولا تعرف كيف تُقاوم لكن ما أمامها الآن لم يكن ظلًا قديمًا… كانت امرأة تعرف ماذا تعني العودة من الموت.
رفعت شادية حاجبيها باستعلاء مصطنع، وقالت:
"تظاهرتِ بالموت وهربتِ كجبانة والآن تعودين، بلا مقدمات ولا تفسير... كيف يُفترض بي أن أصدق أنكِ لم تعودي لأجل المال؟ لا بد أن في الأمر طمعًا ما، أليس كذلك؟"
ثم أخرجت شادية شيكًا من حقيبتها الجلدية ووضعته أمام سيرين كمن يُلقي صدقة على قارعة الطريق.
دفعت شادية الشيك نحوها ببطء وقالت:
"ضعي الرقم الذي تريدينه… وانتهي من هذه المسرحية."
سكنت سيرين لكن عينيها لم تسكنا... كانت تحدّق في الشيك وكأنها ترى فيه انعكاسًا لكل سنوات الذل، كل السكون الذي كانت تُجبر عليه…
ثم رفعت نظرها إلى شادية وفي عينيها وهجُ نارٍ لا تحترق لكنها تُحرِق.