رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثامن والثلاثون
حدّقت سيرين في الشيك الموضوع أمامها كما لو كان قطعة قماش تُخفي خلفها قبحًا أكبر من أن يُقال.
لم ترَ فيه ورقة مالية بل إهانة مطوية توقيعها لا يحتاج حبرًا بل خنوعًا... لوهلة تسلّلت إلى صدرها موجة من الازدراء، حادة كحدّ السكين، لكنها لم تجرح سوى الكبرياء القديمة التي قرّرت دفنها.
قالت بصوتٍ خافتٍ لكنّه متشبعٌ بالخذلان المصطنع:
"ظافر لن يسمح لي بالمغادرة إلا إذا سددتُ ديني له... وفي الوقت ذاته ها أنتِ تعرضين عليّ المال، وكأنكِ تشترين خروجي من حياته كما تُشترى قطعة أثاث مستعملة... لا أدري... حقًا لا أدري ماذا يجب أن أفعل."
بدت كلماتها كأنها سقطت من فمها دون أن تمرّ على عقلها كأنها تستنطق الحيرة التي نبتت كالأشواك في ضلوعها... ولكن هيهات فسيرين الواقفة الآن أمام شادية تختلف تماماً عم كانت عليه منذ زمن.
رفعت شادية حاجبها وقد تقطّب وجهها بشيء يشبه
الدهشة، أو ربما الشك... ومن ثم سألت:
"ماذا تعنين بذلك؟"
ابتسمت سيرين لكنها لم تكن ابتسامة؛ بل كانت صفعة مضمَرة في شكل انحناءة شفاه. وهي تقول بنبرة تحمل سخريةً واحتقارًا شفيفًا:
"أعتقد أن عليكِ سؤال ظافر."
ظلت شادية لثوانٍ كمن ضُرب بعجز ثم ما لبثت أن ارتدت إلى لعبتها المفضلة... التلاعب بالمشاعر إذ لوعت نبرتها وجعلتها أكثر ليونة:
"سيرين لقد مضى على زواجكما أكثر من ثلاث سنوات، ولم تُرزقا بطفل واحد... أتعرفين ماذا يقول الناس؟ أرجو منكِ بعض المراعاة. لا تكوني أنانية."
كلمة أنانية اخترقت أذن سيرين كالرمح، لكنها لم ترتجف... فقط، ضحكة صامتة، كانت ضحكة امرأة تتذكّر كيف كانت تُجلَد وهي تبتسم للجلاد.
أنانية؟
أرادت سيرين أن تصرخ بها، أن تهزها بقوة، أن تقول لها:
يا لها من مفارقة... لِمَ لم تسألي ظافر إن كان هو مَن لا يريد الأطفال؟ أو... إن كان السبب في
رحمٍ لا يلد إلا الشوك؟
ولكن عوضاً عن هذا قالت بهدوء كأنها تلقي جمرًا في بحر:
"أخبرتكِ... اسألي ظافر... ولستُ أنا مَن يرفض المغادرة دعيني وشأني لقد مللت العيش بسببك أنت وابنك المدلل."
كانت شادية قد تجاوزت الخطّ الأحمر وها هي الآن تحاول أن تستعيد سيطرتها القديمة فاقتربت من سيرين بخطى متثاقلة، وقالت:
"هكذا تتحدثين إلى من هم أكبر منكِ؟"
ورفعت يدها كما كانت تفعل قديمًا، بكل تلك السلطوية التي اعتادت أن تفرض بها وجودها على كل من حولها لكنها لم تدرك أن الأيام تغيّر الأجساد... والقلوب.
فجأة، أُمسكت سيرين يد شادية المعلقة في الهواء... فشهقت الأخيرة بعد أن شعرت أنها لم تعد حرة فتوجهت بنظرها تلقائياً تستوعب ما حدث فرأت أن سيرين قد قبضت على معصمها كمن يكبل شبح ماضٍ حاول أن يعود.
قالت سيرين بنبرة كانت خنجرًا مغروسًا في كبرياء شادية:
"احترمي نفسكِ قليلًا يا سيدة
شادية."
قالتها ومن ثم دفعت يدها بعيدًا بقوة ناعمة... وخطوة إلى الأمام من قدمي سيرين كانت كفيلة بأن تجعل شادية تتراجع... لا بجسدها فقط، بل بكل غطرستها.
خرجت شادية من الغرفة بخطوات حاولت المحافظة على رزانتها ولكن شيء ما في داخلها يتداعى.... وقفت في الممر الطويل للقصر لا تكاد تصدّق أن هذه المرأة التي وقفت أمامها بكل هذا التحدي والصلابة هي ذاتها التي كانت تبتلع دموعها بصمتٍ مذلّ قبل سنوات.
هزّت شادية رأسها بغيظاً ورفعت هاتفها، وقالت تعطي أمراً لسكرتيرتها بنبرة صارمة:
"أريدك أن تتابعي كل خطوة يخطوها ظافر هذه الأيام... كل شيء."
ثم أغلقت الهاتف وحدّقت في الفراغ... تتذكر كلمات ظافر وقد ملأ الشك والضغينة قلبها غير مصدقة:
هو الذي قال يومًا إنه لا يُطيق سيرين...
هو الذي أقسم أنها لن تعني له شيئًا بعد اليوم.
فلماذا... لا تزال في قصره؟
لماذا يُصرّ على
بقائها؟
ولماذا... حين تنظر في عينيه، تشعر أنه يخفي بركانًا لا يتكلم؟
كانت تعلم أن عائلة نصران لو علمت بجنون أفعال ظافر ابنها، لن تترك الأمر يمرّ... الوقت ينهار من بين يديها... والريبة تنمو في صدرها كغابة لا نهاية لها.
ما إن أغلقت شادية الهاتف حتى تسلّلت رعشة غير مرئية إلى أطرافها... لم تكن مكالمة عابرة، بل خيطًا أخيرًا تحاول أن تُمسك به كي لا تسقط في هاوية الشكّ.
أسرعت أيضاً بالاتصال بماهر ثم سكرتيرات شركة ظافر واحدة تلو الأخرى كأنها تحاول التنقيب في صخور الصمت عن أي حجر صغير من الحقيقة لكنّ الأبواب كلها بدت موصدة والكلمات كانت كالماء الراكد... ابنها وتعرفه لا يخبر أحداً بشيء، ولا يدلّ أحداً على شيء.
وفي جناحٍ آخر من القصر كانت سيرين تجلس قرب نافذتها كأنها تراقب الحياة وهي تمرّ دون أن تطرق بابها.
تتابع انسحاب سيارة شادية بصمت لكن صوت المحرك الذي ابتعد في الأفق كان يثير في قلبها قلقًا لم تعرف له اسمًا.
فبالرغم من أن ظافر لم يُعر فكرة الإنجاب اهتمامًا يُذكَر، إلا أن عائلة نصران كانت تراها ضرورة مُقدّسة... كامتداد الدم، الخيط الذي لا
يجوز أن يُقطع.
في الماضي كانت شادية وسارة تُثقلان كاهلها بأصناف من المكملات التي تدّعي أنها "مغذّية"، بينما في الحقيقة كانت تُشعرها بأنها مشروع نسل أكثر من كونها إنسانة... كانت سيرين تعرف أن شادية تتلهف لحفيد... أجل كانت تعرف... لكنها لم تُرد يومًا أن تسمع شادية عن اسم *زكريا* ولا تريد أن تكتشف شادية هويته.
وفي ظلال الأشجار خلف أسوار القصر كان هناك ثمة طيفٌ صغير يراقب... لم يكن طيفًا مجازيًا بل جسد طفل يحمل فوق وجهه قناعًا وقبعة تُخفي نصف ملامحه.
إنه زكريا الذي أخبر السائق بصوته الصغير الواثق أنه سيقضي النهار مع صديق وسيتكفّل سائق الصديق بإعادته... لكن بالطبع لم يكن ذلك صحيحًا، فزكريا قد تعلّم كيف تصنع الأكاذيب حين تحتاج إلى معرفة الحقيقة.
قبل ساعات استقل زكريا سيارة أجرة وجاء وحده إلى قصر ظافر... إلى المكان الذي تسكنه تلك التي تعاني وحدها في صمت.... جاء فقط كي يطمئن على سيرين... يريد أن يرى ما إذا كانت بخير بعد ما أصابها.
وربما... ربما كان جزءٌ منه يريد أن يرى مَن
يكون ذلك الرجل الذي يعيش في منتصف ظله والذي قيل يومًا أنه والده دون أن يقال له حقًا.
بدأت السماء تميل إلى البنفسج والضوء يتراجع مثل نبضٍ خافتٍ في عروق المساء... ولم تظهر سيرين.
تردّد زكريا قليلاً ثم قرر أن الوقت قد انتهى وأن عليه العودة.
لكن الحيّ كان هادئًا بلا سيارات أجرة وسيتوجب عليه أن يقطع طريقًا طويلًا على قدميه...
كان جسده صغيرًا لكن قلبه يحمل ثقلاً لا يليق بالأطفال... وفي اللحظة التي كان يسير فيها على الرصيف الرملي مرّت سيارة فاخرة ببطء بجانبه.
وفجأة عينا شادية الغارقتان في تيه الأفكار سقطتا على جسده كمن تعثر بشيء ثمين دون قصد.
أشارت شادية للسائق كي يتوقف ومن ثم فتحت الباب ونزلت، خطواتها مترددة لكنها فضولية.
اقتربت، وعيناها تتفحصان الطفل كما لو أنه يحمل شيئًا مألوفًا في ملامحه وهذا معتقد ترسخ في ذهنها كلما وقع بصرها على زكريا... هناك إحساس غريب يتملكها تجاه هذا الصبي... شيئًا يقفز من الذاكرة دون استئذان... شيئًا تجهله حقاً وتتعجب له أيضاً.
وحين اقتربت بما
يكفي لتتبين ملامحه ارتخت قسوة وجهها فجأة كأنها سقطت من جبال التسلّط إلى وديان الحنان.
قالت بصوت فيه نبرة لم تستخدمها منذ سنوات:
"لماذا أنت هنا يا زاك؟"
كانت نبرة أمّ خفية أكثر منها نبرة امرأة مشتبِهة.
أما هو فقد تجمّد لحظة كأن الحقيقة انكشفت فوق صدره فهو لم يتوقّع لقاءها... لوهلة أراد أن يفرّ لكن الوقت خانه والقدر قرّر أن ينقله إلى قلب المشهد.
قال زكريا وهو يحاول أن يبدو بريئًا بينما يقاوم خفقان قلبه الصغير:
"مرحبًا سيدة نصران... كنتُ ألعب مع صديق لي هنا لكني ضللت الطريق... ولم أكن أقصد أن أتأخر."
نظرت إليه شادية طويلاً... هناك شيء في عينيه... لونٌ معين، عمقٌ معين، كل هذا جعل صدرها يتقلّب كصفحةٍ في كتاب قديم تعرفه لكنها نسيت نهايته.
قالت كمن يحاول أن يُقنع نفسه:
"أرى..."
لكنها لم تكن ترى شيئًا بقدر ما كانت تحسّ بفقاعة شكّ صغيرة قد انفجرت في صدرها، محدثة صمتًا هائلًا لا يُرى... لكن يُسمع داخليًا.
*هل يُعقل...؟*
قبل لحظات، كانت تُفكّر أن ظافر قد يكون يخفي سرًا.
والآن... ها هو السر يقف أمامها، يتنفس، يتحدث، ويكذب مثل الكبار.