رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثانى و الاربعون
لم تستوعب دينا الكلمات التي خرجت من فم سيرين كأن الهواء ثقل فجأة في صدرها وكأن نبضها تعثر لحظة ثم عاد يركض بارتباك ومن ثم همست وكأنها تخاطب شبحا
لم تكوني هكذا من قبل يا سيرين... من هذه المرأة التي تتحدث بلسانك
من زاوية عقل دينا الضيقة رأت أن سيرين قد أحاطت نفسها بغلاف من الغرور البارد... فامرأة مثل سيرين كانت ذات يوم تعيش على أطراف الضوء ها هي الآن تساوم على رجل... مقابل المال!
أي عبث هذا!
أي قلب مات داخلك دون جنازة! وتدعين بأنني السيئة هنا سيرين! صبرا.
لكن سيرين التفتت نحوها وعيناها تشعان بجمود متكلف وقالت بسخرية لها طعم الزجاج المهشم
أوه وهل لقب السيدة نصران لا يساوي عشرة مليارات دولار
ضحكت دينا ضحكة تهكمية من الداخل تخفي خلفها حقدا مدفونا منذ سنوات وقالت
لقد تغيرت كثيرا... ما زلت أذكر حديثنا أيام الجامعة... حين قلت لي إنك لن تتنازلي يوما وتقاتلي امرأة من أجل رجل.... لكن ها أنت لم تأخذي رجلي فحسب بل تطالبين بثمن فراقه... قبل أن أمنحه فرصة
ليعود إلي.
كانت دينا بارعة وكأنها خلقت من مادة ناعمة تتشكل على هيئة ضحية كلما لزم الأمر لكن سيرين لم تبتلع الطعم.
كانت تضحك في سرها ضحكة من يعرف أن اللعبة مكشوفة... فكرت سيرين للحظة ومن ثم تمتمت تحادثها بنفس أسلوبها المسموم
الجميع يعلم أن ظافر لم يرغب بك يوما أنت اليتيمة التي حاول أن يتجنبها حتى في الظل... لم آخذ منك شيئا لأن ما لم يكن لك من الأصل لا يعتبر مسلوبا.
ارتسم على ملامح دينا عبوس شبيه بالغيم الثقيل قبل العاصفة وقالت بنبرة مشبعة بالغضب
كفى عبثا! هل أنت متأكدة أن كل ما تريدينه هو المال لا شيء آخر لا قلب لا بقايا حنين
أومأت سيرين بثقة هادئة كمن يوقع وثيقة فداء
تماما... لكنني أطلب منك شيئا وحيدا... دعي هذا الحديث يبقى بيننا...
إذا بلغت ظافر أنني طلبت مالا مقابل الرحيل... فالصفقة لاغية وسأبقى شوكة في حلقك إلى الأبد وسينتهي بك المطاف كما بدأته خارج حدود اسمه... لن تكوني سيدة نصران أبدا.
قالتها وعيناها تلمعان كضوء خافت في نفق طويل... لم يكن
تهديدا فارغا بل كان حجرا وضع بعناية في طريق القرار.
في الحقيقة كانت سيرين تتعمد إغراء دينا بأن تخبر ظافر... كان ذلك جزءا من خطتها التي حيكت بخيوط صمتها ومكرها المستحدث... وإن قررت دينا أن تدفع الثمن فلن تتردد سيرين لحظة في قبول العرض... لكنها في أعماقها كانت تعرف دينا جيدا... تلك الفتاة التي كذبت يوما أمام لجنة تأديبية لتورط سيرين في خطأ لم ترتكبه... هل ستفوت عليها فرصة كهذه حتما ستوشي بها إلى ظافر وهذا هو المطلوب.
أجابت دينا ببرود وهي تدير ظهرها
سأفكر في الأمر.
وقبل أن تغادر الغرفة مرت عينها مرورا عابرا على مكتب سيرين حيث تناثرت أوراق النوتات كأوراق خريف في انتظار النغمة الأخيرة.
توقفت للحظة وحاجباها ارتفعا بدهشة خفيفة ثم قالت في نفسها
ألم تكن تعاني من ضعف سمع ما حاجتها إذن للموسيقى
لكنها لم تفكر كثيرا فالغرور لا يمنحها الوقت للتأمل... فما لم تعرفه وما لن تتوقعه هو أن تلك الأوراق التي مرت عليها بلا اهتمام كانت خريطة قلب يتنكر خلف اسم مستعار...
سيرين
التي وصمت بالعجز هي ذاتها ساسو الملحنة التي يذوب الملايين في ألحانها دون أن يروا وجهها.
وما إن أغلقت الباب خلف دينا حتى انكمشت سيرين داخلة في شرنقتها الخاصة.
يدها المرتجفة التقطت أوراق النوتة من على الطاولة واحدة تلو الأخرى ثم أعادت ترتيبها بعناية لا طائل منها كما لو كانت تحاول ترتيب فوضى داخلها لا تطالها يد وما هي إلا لحظات حتى أسلمت جسدها للفراش كأنها تلقى بنفسها في حضن نسيان مؤقت بحثا عن هدنة من الضجيج الذي تصاعد في رأسها لكن السكون كان قاتلا حتى أن نبض قلبها بدا كقرع طبول مهجورة.
في الطابق المقابل كانت دينا تتجول في غرفتها كلبؤة حشرت داخل قفص عيناها تبرقان بشرارة مكر تخفي تحتها عاصفة... تفكر بصوت عال
لا يمكنني أن أخبره مباشرة... لن يصدقني.
فهي قد اعتادت أن تقتحم حياة ظافر ببلاغات مفصلة عن سيرين لكن كل بلاغ كان يضاف إلى رصيد فقدان المصداقية.
مرة أخرى
لو قلت له إن سيرين طلبت مالا مقابل الرحيل سيضحك في وجهي.
توقفت فجأة كمن باغته وحي ثم ابتسمت بتلك الابتسامة
التي تظهر في الزوايا المظلمة
من الحكايات السيئة.
وجدتها.
لن تزرع الشك في عقله بكلمة بل ستتركه يرى الحقيقة بنفسه على طبق من وهم مغلف بورق المال.
نعم... المال تلك الورقة التي تنقلب بسهولة إلى خنجر.
ستمنح سيرين جزءا من المبلغ مقدما. مبلغا يلمع بما يكفي ليجذب عيني ظافر كقطعة ذهب في جيب امرأة لا يجب أن تملكها.
كل ما أريده هو لحظة... لحظة يراها فيها وهي تخفي النقود أو تعدها أو حتى تتلقاهاحينها لن يكون بحاجة إلى تفسير.
ستهدم ثقته بها وسيتفتت وهم المرأة الهادئة التي لا تطلب شيئا وسيعود لي... نعم سيعود
دينا لم تكن تطارد الحب بقدر ما كانت تطارد النصر... تحارب من أجل الثراء... كانت تدرك أن المعركة لا تخاض بالسيوف دائما بل أحيانا تحسم بالابتسامات وبالنقود.
وفي تلك اللحظة بدأت عيناها تشعان بخطة من دخان وشفتيها تتمتمان بسحر أسود مغلف بأحمر شفاه...
الضربة القادمة لن تخطئ.
مع بزوغ أول خيط من الضوء حين كانت الشمس تحاول التسلل بخجل عبر ستائر
القصر الثقيلة صدحت أرجاء المطبخ بأنغام التحضير.
دينا بثقة لا يعرفها إلا من اعتاد انتزاع ما لا يمنح أصدرت أوامرها كأنها سيدة المكان وكأن جدران القصر انحنت لها اعترافا بسيادتها الجديدة.
وجهها لا يحمل أثر التردد وصوتها تقطر منه نغمة الاعتياد لا المجاملة.
الخادمة تعد الإفطار تحت أنظار دينا التي جلست تتابع الأمر وكأنها تنسج فصلا من روايتها الخاصة تزينه بنكهة السيطرة وعبير الانتصار.
وفي الطابق العلوي كانت سيرين لا تزال غارقة في سباتها الرمادي كزهرة مرهقة طواها الليل في وريقاته الثقيلة.
جفونها المطبقة كانت تحكي قصة التعب المزمن وكأن النوم صار وطنا مؤقتا تهرب إليه من واقع ينهشها كل صباح.
في الأونة الأخيرة كانت سيرين تنهض متأخرا كأن النهار لا يليق بها أو كأنها خلقت لتزهر في ساعات الغروب فقط.
وفي تلك اللحظة كانت المائدة قد بسطت بالفعل في غرفة الطعام الأطباق مصفوفة كجنود في عرض احتفالي والرائحة تتسلل بخفة إلى كل
زاوية تهمس بشهية مصطنعة.
في الصالة جلس ظافر متكئا على الأريكة الجلدية ملامحه منحوتة كتمثال إغريقي يراقب صمتا لا يكسره سوى صوت عقله.
الإفطار جاهز ظافر... نادت دينا بصوت ناعم لكنه مشوب بلهجة الادعاء.
رفع عينيه نحوها بنظرة خاطفة باردة كنسيم كانون وقال دون أن يكلف نفسه عناء المجاملة
تناولت فطوري بالفعل.. بعد الانتهاء من إفطارك عودي إلى منزلك دينا... وإن كانت العودة مرهقة فسأرتب لك إقامة في أحد الفنادق.
قالها بنبرة لا تحمل في طياتها مجالا للتفاوض كمن يضع نقطة النهاية تحت جملة طال انتظار ختامها.
ارتبكت للحظة لكنها أخفت ارتباكها خلف ابتسامة باهتة وقالت
ذلك سيكون رائعا... شكرا لك.
لم تحاول التوسل أو التمديد فهي تدرك أن كل كلمة إضافية ستخصم من رصيدها عنده... كما أنها لم تملك رفاهية الرفض بعد أن رفضت مرارا.
خرجت من القصر بخطى هادئة لكن في داخلها عاصفة... صعدت إلى سيارة الليموزين وجلست كملكة خلعت عن عرشها لكنها
تخطط للانقلاب.
وما إن أغلق الباب خلفها حتى أمسكت هاتفها وأصدرت أمرا حازما
أعدوا شيكا بقيمة مئتي مليون دولار.
ثم كتبت رسالة قصيرة بعناية صائغ يرص جوهرة في خاتم مسموم
جهزت 200 مليون دولار. لنلتقي في مقهى الساعة العاشرة مساء.. سأشعر براحة أكبر إن سلمتها لك بنفسي.
في تمام الثامنة صباحا تحركت يد سيرين ببطء لتلتقط الهاتف ولا تزال آثار النوم معلقة في رموشها كندى الصباح وعقلها يصارع بين الحلم واليقظة.
قرأت الرسالة بحاجب مرفوع بدهشة مكتومة ثم تمتمت في سرها
هاه... ألهذا الحد تقنعها ورقة لعب!
شعرت بشيء غير طبيعي يزحف في صدرها... شيء بلا اسم بلا ملامح أشبه بظلال الخيانة... ورغم ذلك لم ترد أن تقطع الخيط إذ أرادت أن ترى إلى أين تقودها تلك الدمية المصنوعة من مال وابتسامات زائفة.
كتبت سيرين ردا قصيرا لكنه حمل في طياته ألف نية
حسنا سأكون هناك.
ثم أعادت الهاتف إلى جوارها وأسندت رأسها إلى الوسادة لكن النوم قد فر هاربا خائفا
من عيون الحقيقة التي بدأت تفتح ببطء.