رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثالث و الاربعون 143 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثالث و الاربعون


حين لمعت شاشة الهاتف أمام دينا وانبثق فيها رد سيرين ابتسمت تلك الابتسامة التي لا يعرفها سوى من يتلذذ بلحظة الانتصار قبل بدء المعركة.
لم يكن في الأمر حنان أو دفء بل شهوة فضح مكتومة واحتراق خفي تحت جلدها يغذيه الحقد كأنه جمر في قارورة من زجاج.
فتحت نافذة الرسائل من جديد وكتبت بأصابع ترتجف بين الإثارة والانفعال
يا ظافر لا أعلم حقيقة ما يجمعك بسيرين حاليا لكن ما أعلمه يقينا أنها ليست المرأة التي تظن... إن لم تصدقني فتعال الليلة إلى مقهى في تمام العاشرة مساء... وسترى بعينيك ما لم يخطر ببالك.
ثم أرسلت الرسالة كمن ألقى طعما في بحيرة راكدة في انتظار دوائر الارتباك أن تظهر على سطحها.
وعلى الجانب الآخر كانت سيرين لا تزال نائمة غارقة في غيبوبة من كسل ناعم... ولم تكن تعلم أن سما خفيا يسري في

خطوط هاتفها ينتظر توقيته ليغرز أنيابه.
استيقظت بهدوء يشبه يقظة الكواكب كل حركة منها كأنها خلقت لتؤجل الارتطام بالعالم قليلا.
دخلت الحمام وتركت الماء يسيل على جسدها كأنه يكتب قصيدة على بشرتها لا لتطهر نفسها من تعب النوم فقط بل لتغسل شيئا غامضا لا يدرك شعورا حامضا لم تعرف له اسما بعد.
في الأسفل كان ظافر جالسا كتمثال من الصمت عيناه تسبحان في وهج شاشة هاتفه يقرأ ما لم ينطق بعد ويجتر سطور دينا كمن يحاول فك شيفرة لغم مدفون.
حين سمع وقع الخطوات تلاشت الرسالة من أمامه بضغطة حاسمة ومن ثم رفع رأسه وقال بنبرة عادية
لنخرج لتناول الفطور.
توقفت سيرين عند باب الصالة ورمشت تحاول استيعاب جملته حينما عبرت في ذهنها صورة المائدة التي أعدت والتي كانت تنتظرها منذ الصباح ولكنها لم تكن تعلم أن دينا هي التي أمرت بإعدادها.
.. أرادت أن تستفسر لكنها لم تقل شيئا بل مرت بجانبه كمن يعبر فوق سؤال غير مرحب به ورافقته إلى الخارج.
في المطعم حيث تدور الملاعق كراقصات محترفات على أنغام العطر المنبعث من الأطباق جلست سيرين دون اهتمام تطلب أطباقا لم تفكر فيها تلوكها كأنها لا تأكل بل تبتلع غصة.
أما ظافر فقد كان يراقبها بصمت يشبه صوت الريح داخل كهوف قديمة يبحث في ملامحها عن بقايا امرأة يعرفها.
ثم قال فجأة وصوته يكسر الجليد بسؤال قاتل
أليس لديك ما تقولينه لي
رفعت عينيها نحوه وداخلها ألف فكرة وفكرة لكنها تظاهرت بالدهشة وأطلقت سؤاله في مهب الريح
ماذا
رغم أنها فكرت للحظة في رسالة دينا إلا أنها آثرت أن تغلف ارتباكها ببطانة من اللا مبالاة.
رمقها بنظرة مطولة ثم اكتفى بجملة مقتضبة
لا بأس.
ولم يكرر السؤال.
في داخله كانت الأسئلة تمزق
صمته تفكك صبره لكنه قرر أن يراقب لا أن يواجه.
أما هي فبدأت تشعر بأن شيئا في إيقاع اليوم لا ينتمي للمعتاد.
بوعد انتهاء الإفطار أقلهما السائق إلى الشركة.
وهناك داخل مكتب تقاسماه يوما بعد يوم وجدت سيرين نفسها سجينة صمت آخر.
كانت الأجواء ثقيلة كأن جدران المكان بدأت تتقلص والموسيقى التي كانت تنقذها من نفسها باتت صامتة في صدرها تختنق.
تحاملت على نفسها ثم نهضت وتوجهت إلى مكتبه بخطى متوترة وقالت بصوت أقرب إلى النجاة منه إلى الطلب
أحتاج إلى الخروج لبعض الوقت.
توقف فجأة في منتصف الطريق كأن الزمن ذاته قد تجمد في عينيه وهو يقلب بعض الأوراق ببطء كمن ينقب في ذاكرة مفقودة.
ملامحه الوسيمة قد اكتساها الجد واهتزت شفتاه بهمهمة مختصرة كأنها توقيع صامت على ورقة لا يريد قراءتها إذ سمح لها بالذهاب.
لم تتوقع سيرين
أن يكون الهروب سهلا هكذا...
 
وقبل أن تستدير مودعة ألقت كلمتها الأخيرة كما يلقى حجر في بركة راكدة
لدي خطط هذا المساء... لذا لن أعود مبكرا.
تقلصت عيناه الضيقتان ببطء وحدق فيها كما يحدق صياد في طريدته حين تحاول الإفلات بخطوة جريئة... ثم ضم شفتيه في صمت خافت كقبلة مختنقة.
وما تلك الخطط سأل بصوت خافت... لكنه كان كمن يدس سكينا في قطعة إسفنج ويتابع مرورها بتمهل مدروس.
ابتسمت ابتسامة خفيفة يخالها من لا يعرفها بأنها بريئة لكنها كانت أشبه بستار دخان.
أمر خاص. همست وكأنها تنفث السر إلى الفراغ لا إليه.
لم يكن ذلك الرد الذي يتوقعه ولوهلة شحب وجهه قليلا وتلبدت عيناه بسحب من برودة لم تكن هناك قبل لحظة... وأردف قائلا
افعلي ما يحلو لك لكنني أذكرك... لا تزعجيني.
تلك الكلمات على الرغم من بساطتها إلا أنها بدت كجدار خفي بني بينها وبينه في لحظة ومع هذا
شعرت بقلبها يخفق بقوة غير مفهومة إذ كانت شبه متأكدة بنحو تسعين بالمائة أن دينا قد أفشت السر... ألا وهو طلبها المال.
لكن شيئا ما لم يكن منسجما فظافر لم يكن رجلا يجيد كتم الغضب أو مداراة الاشتباه فإن كان يعلم لواجهها مباشرة كإعصار لا يميل لا كماء راكد يخفي تحته بركان.
بقيت هكذا تتقاذفها الأفكار إلى عمق بحر التيه حتى حينما تجاوزت أبواب المبنى كانت لا تزال مشوشة... وعقلها كخريطة ضبابية لا طريق واضح فيها.
أخرجت هاتفها من حقيبتها بهدوء يشبه نداءا داخليا وأرسلت رسالة مقتضبة إلى رامي... ولم تمض سوى لحظة حتى توقفت سيارة أجرة أمام الرصيف كأنها خرجت من العدم... لم يكن السائق إلا رامي نفسه... ولكنها لم تتفاجئ ف رامي كان دوما ظل كارم ساعده الأيمن الذي لا يخطئ الموعد ولا ينسى التفاصيل.
صعدت سيرن إلى السيارة وصمتها يسبقها
وبصوت منخفض قال لها
هناك من يتعقبنا... لا شك أنهم من رجال ظافر.
التفت إليه بسرعة وعينه تعكس مزيجا من التوتر والاحتياط
هل نحتاج للتخلص منهم
هزت رأسها بسرعة
ليس الآن... إن حاولنا الهرب منهم سيثير ذلك شكه أكثر.
نظر إليها رامي عبر مرآة الرؤية الخلفية متسائلا
إلى أين نحن ذاهبون
تنهدت ثم مالت برأسها نحو النافذة
فقط قد السيارة في أي اتجاه... أحتاج للابتعاد قليلا... أشعر وكأنني أختنق.
أجابها رامي باحترام
كما تشائين.
غمر الصمت السيارة كأن الزمن توقف بداخلها بينما فتحت سيرين نافذتها ببطء وسمحت للهواء بأن يتسلل إلى داخل روحها كما يتسلل الضوء إلى غرفة مغلقة منذ قرون.
أخذت سيرين تتأمل الشوارع التي تمر أمام نظراتها فبدت مألوفة وغريبة في آن كأنها تعرفها من حلم قديم نسيته... ومع كل متر يبتعد بدأت ملامحها تسترخي... وعيناها
أصبحتا أقل حدة وكتفاها هبطا كأن عبئا ما أزيح عنهما.
في هذه الأثناء كان رجال ظافر يراقبون... لم يغب ظلهم لحظة... وحين لاحظوا أن تحركاتهم بدأت تلفت الانتباه أبلغوا ظافر... فأمرهم بالمتابعة بصمت.
وما إن اقتربت السيارة من تلة آل تهامي حتى شعرت سيرين بنداء داخلي صوت خافت ينبض من أعماق ذاكرتها
هل يمكنك أن تأخذنا إلى هناك رامي
كان المنزل كقصيدة كتبتها يد الزمن على ورق الخشب مبنيا على تلة تعانق السماء يعكس حنين والدها لكل ما هو قديم وأصيل.
الخشب يكسو الجدران كما يكسو الدفء القلب والصمت يتكلم بين أعمدته كما تتكلم الذكريات في العيون.
الحديقة كانت كغابة صغيرة من الأحلام... نباتات متشابكة أوراق تلامس الريح برقة وزهرة البيجونيا زهرتها المفضلة تنمو في كل زاوية وكأنها تحرس المكان باسمها.
لكن ما كان يؤلم القلب... أن دينا
هي من تملك هذا كله الآن.
تعليقات