رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثامن و الاربعون
سيرين
في الصباح الباكر كانت السماء ما تزال تئن من أثر الليل حين داست سيرين نعليها بخفة وغادرت غرفتها بصمت يشبه انسحاب الحلم عند انبلاج الصبح.
وها هي تقدم خطواتها الأولى خارج العتبة فارتجف الفراغ من حولها كأن حضور ظافر كان الغلاف الذي يدفئ هذا البيت وإذا بالغلاف .. فهو لم يكن هناك.
رفعت الهاتف وصوتها خرج خافتا لكنه مثقل بالانتظار تكمل تحديثها مع كوثر
كوثر... متى سنلتقي
جاءها الرد من الجهة الأخرى دافئا كهمسة في أذن الوقت
سوف نجتمع حوالي الساعة العاشرة صباحا.
أغمضت سيرين عينيها للحظة كأنها توزن ثقل الكلمات ثم همست
حسنا... سأكون هناك حالا.
وما إن أغلقت الخط حتى ظلت ساكنة كأنها تستمع إلى صمت الأشياء من حولها... ثم التفتت بنصف قلبها نحو هاتفها مجددا وكتبت رسالة قصيرة إلى ظافر تخبره بأنها ستذهب إلى منزل كوثر... لم تشأ أن تثقل عليه بالشرح فقط كتبت الحقيقة .. لكنها كانت تخبئ خلف تلك الرسالة حاجة للطمأنينة كأنها
تهمس له بين السطور
تراني ما زلت في بالك
ومع فكرة الذهاب إلى منزل كوثر انبثق ضوء آخر داخل قلبها... إن كان لها أن تمر هناك فبإمكانها أن تسرق لحظة مجرد لحظة ترى فيها ابنها زكريا... فلم تمض إلا أيام قليلة لكنها شعرت وكأن الفصول تتابعت دون أن تراه.
كان الشوق يتمدد داخلها كدوامة لا تنتهي كأن زكريا لم يكن مجرد طفلها بل قطعة من ذاكرتها من حنينها من لبها الذي لا يعرف كيف يتنفس دونه لا هو ولا نوح أسير ظافر.
راحت تتساءل وعيناها تبحثان في سقف الصمت عن إجابة
كيف حال زكريا الآن هل اشتاق إلي كما أشتاق إليه وهل نام نوح البارحة وما قبلها وفي قلبه فجوة على هيئة أمه
وعلى الجانب الآخر كان الليل قد انطوى والنادي الليلي صار أشبه بمسرح خال من الممثلين تهمس فيه الأرواح الهائمة على استحياء.
الضوء الخافت يتسلل من مصابيح السقف كأنفاس متقطعة والهواء مشبع برائحة القديم والحنين المعتق.
هناك في الركن الأبعد جلس طارق شاحب الوجه تتدلى بقايا الإرهاق
من عينيه كستائر ثقيلة مرتديا معطفه الطبي وكأنه لم يخلعه منذ ولادته.
رفع طارق نظره إلى ظافر كما يعبث الزمان ب البشر وقال بصوت خافت أشبه بزفرة من صدر ممتلئ
في هذا الوقت المبكر يا ظافر ما زال الصباح يحبو على أطراف المدينة... ولم أنل قسطا من الراحة منذ أيام.
أجابه ظافر بنظرة متأملة كمن يحدق في مرآة قديمة يرى فيها ماضيه يتشقق ببطء
وأنا أتساءل... ما الذي يشغلك إلى هذا الحد لا زوجة لديك... ولا ظل امرأة يطاردك.
ابتسم طارق بسخرية مريرة كأن قلبه ضحك قبل أن يتذكر ما يؤلمه ثم قال بصوت تخللته غصة جاهد لإخفاءها
ولماذا أنت هنا إذن رغم أنك تملك
. . تجمد وجه ظافر وارتجف شيء ما في عينيه كأن كتلة من الألم احتشدت في حلقه تمنعه من البوح... شعر طارق بذلك الصمت الحاد فأدار دفة الحديث سريعا كما يفعل المذنب حين يهرب من نظرات قاض يعرف الحقيقة
كنت أستعد للعودة إلى كلية الطب... لا تتخيل كم من العمليات أجريت خلال الأيام القليلة الماضية.
لكنه لم يكن يروي الحقيقة كاملة...
كان يجري جراحة على ذاته يحاول أن يفكك ألغازا لا اسم لها كوثر الذكريات المبعثرة الطفل الذي ظهر كفصل مفقود من رواية نسي أن يكتبها. كيف ولمتى لا إجابة. فقط سؤال يتكاثر كالأميبا في رأسه.
رفع ظافر حاجبيه كمن يمسك بطرف خيط لا يرى نهايته
لماذا
نطق الكلمة ليسأل عن أكثر مما يبدو.
أجاب طارق متظاهرا بعدم الفهم
لماذا ماذا
قال ظافر ببطء كمن يستدعي شبحا
ظننتك أقسمت ذات يوم أن الطب مقبرة لأحلامك.
غاص طارق في كأسه كمن يحاول أن يختبئ من ماضيه داخله ثم قال بصوت متكسر
كنت شابا... وغبيا... الطب ليس سيئا كما ظننت على الأقل أستطيع أن أعالج أحدهم أن أنقذ حياة ما قبل أن تنطفئ....
لكنه لم يخبره أن الحياة التي يريد إنقاذها... كانت سيرين... فمنذ عودتها بات يتتبع شكواها بصمت راصدا نزيف أذنها كما يراقب القمر حين يتآكل طرفه فقد تمنى لو استطاع أن يصبح طبيبا لا ليلبس المعطف... بل ليخيط بصمته جرحها الخفي ليمنحها
حياة أخرى خالية من الألم.
أما ظافر فكان يحدق فيه بنظرة مائلة كأن في قلبه سؤالا لا يريد له جوابا... أجل فهو يعرف أن طارق يخفي شيئا...
لكنه اختار أن يتركه في كهف أسراره يدفن فيه ما يشاء ففي النهاية بعض الجروح لا تشفى بالسؤال... بل بالصمت.
أضاءت شاشة الهاتف فجأة وسط العتمة التي تغلفت حول روح ظافر كوشاح ثقيل من الصمت وظهرت رسالة...
من سيرين.
لامست عيناه الكلمات كما يتحسس الجريح موضع الألم في البداية ظنها رسالة اعتذار كخيط نور يشق عتمة ليله الطويل لكنه فوجئ بها تخبره ببساطة باردة
سأذهب إلى منزل صديقتي.
لا سلام لا عتاب لا نبرة ندم... فقط بيان مقتضب كمن يغلق بابا دون أن يحدث صوتا.
كان طارق يراقبه من الجانب الآخر للطاولة بعينين ضاقتا كنافذتين تحدقان في عاصفة وانحنى قليلا يخفي وراء
نبرة فضوله شيئا من الغيرة التي لم تجيد التنكر في صوته
هل كانت سيرين تطمئن عليك
رد ظافر بصوت بارد كجدار لم يلمسه دفء قط
أخبرتني أنها ذاهبة إلى صديقتها.
ارتسمت ابتسامة خافتة على وجه طارق لكنها لم تكن بريئة بل أشبه بابتسامة من قرأ بين السطور
أوه... هل هي تلك الصديقة... كوثر
أجابه ظافر دون أن يلتفت إليه كمن يلقي بالحقيقة من نافذة قطار مسرع
أجل.
تبدلت ملامح طارق وظهر النفور في صوته
جدي لا يتوقف عن محاولة إقناعي بلقائها.
رفع ظافر حاجبيه قليلا كمن يلقي سؤاله في بحر راكد
أهي ليست على مستوى توقعاتك
هز طارق رأسه نافيا أشبه بمن يبعد عن نفسه غبار فكرة لا تليق به
ليست من النوع
صمت خفيف ثم جاءت كلمات ظافر كحكمة نسجت من تجاربه
ليس من الضروري أن تتزوج بمن
تعجب بها فقط... الأهم أن يكمل كل منكما الآخر... أن تلتئم الشروخ حين تلتقي الأرواح.
سكت طارق للحظة ثم سأله بنبرة مشبعة بالترقب يحاول فتح باب موصد خلف قلب
وهل كانت سيرين تكملك يا ظافر
جاء صوت ظافر خافتا كأن حنجرته مرت فوق رماد ذكرى
كانت تفعل ذلك...
ظل طارق يتأمل ملامحه المكسورة ثم همس بسؤال آخر أكثر خطورة كأنه يلقي بحجر في هوة عميقة داخله
وهل لم تعد تتفق معك بعد عودتها
لم ينطق ظافر. ثم نهض فجأة وقال
يجب أن أعود.
لكن طارق لم يكن مستعدا لإنهاء هذه المحادثة... كان ثمة شيء في داخله لا يزال يطرق الباب.
وقبل أن يغادر ظافر سأله بصوت محمل بالقلق والتهكم والصدق معا
هل يمكن للمرء أن يكون سعيدا وهو يعيش مع شخص لا يحبه يا ظافر
توقف ظافر والتفت نحوه ببطء وعينيه تبوحان
بالكثير ولكن لسانه لم ينطق.
تابع طارق بنبرة جمعت بين المكر والوضوح كأنه يلقي محاضرة على قلب خائف
إن لم تكن العلاقة تشعرك بالسعادة فالأفضل إنهاؤها... أظن أن ذلك سيكون أفضل لكليكما بدلا من أن تذبلان تحت سقف واحد.
كان طارق يؤمن بأن الحب شرط أول لا استثناء وأن الزواج بدونه أشبه بعقوبة مؤبدة لذا لم يرد أن يكون سجينا لأجل وظيفة أو إرضاء لأحد.
ركب ظافر سيارته والليل يغمر النوافذ كسيل من الأسى... كان صامتا لكنه ليس هادئا.
راحت كلمات طارق تتردد في رأسه كرجع صوت داخل كهف ثم نظر إلى هاتفه مجددا إلى تلك الرسالة الجافة الباردة...
ظل يحدق فيها طويلا وكأنما يحاول أن يسمع ما لم يكتب أن يشعر بما بين السطور.
وأخيرا بعد صراع داخلي كتب لها ردا...
كلمة واحدة كانت كطلقة
في فراغ
تمام.
ثم أطفأ الشاشة... وأظلم قلبه.