رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة التاسع و الاربعون
حل الصباح بوجهه المتأنق وتسللت أشعة الشمس إلى نوافذ منزل كوثر كأنها أصابع ذهبية تربت على الستائر برقة خجولة ومن ثم دخلت سيرين كنسمة دافئة تحمل في عينيها قلقا مكتوما لا تبوح به الكلمات.
جلستا على مائدة الإفطار وكانت رائحة الخبز الطازج تتعانق مع عبير الشاي لكن المزاج لم يكن بصفائهما المعتاد... شيء ما في الهواء يوحي بأن ثمة ما يخبئه القدر خلف ظهره.
قطعت كوثر الصمت بنبرة مترددة تشبه خطوة طفل على مياه ضحلة
سيرين لماذا تظنين أن دينا قد قررت الاعتذار فجأة أليست هي ذاتها من كانت تدفع المال بالأمس القريب كي تمحى آثار ما فعلته من على المواقع
كانت الدهشة تعيش في عيني كوثر ككائن غريب لا يجد مكانا يستقر فيه.
لم تجب سيرين سريعا بل تأملت السقف للحظة كأنها تبحث عن إجابة في نقش الجبس أو بين ظلال الذاكرة
ثم قالت بنبرة تحمل ثقل الحيرة
لا أدري... لكن شيئا ما قد تغير... لا أظن الأمر وليد ندم مفاجئ بل يبدو أشبه بخطوة اضطرارية... كما لو أن ظهرها انكسر على صخرة الواقع ولم تجد سبيلا سوى التراجع.
مرت لحظة صمت ثم تابعت سيرين وقد رسمت ابتسامة باهتة على وجهها
على أي حال لا تشغلي بالك كثيرا طالما ستحصلين على التعويض الكامل فهذا يكفينا... لا نحتاج أن نمنحها أكثر من ذلك.
أومأت كوثر برأسها ولكن في عينيها نار صغيرة لم تخمد بعد ربما كانت غضبا أو كبرياء مجروحا.
قالت سيرين وهي تخفض بصرها
حين تصل سأبقي نفسي بعيدا... لا أريد أن أكون جزءا من هذا المشهد... افعلي ما ترينه صائبا.
كما تشائين أجابتها كوثر بلين يخفي ما تعجز الكلمات عن قوله.
دقت الساعة العاشرة وحضرت دينا تخفي وجهها خلف قناع ونظارة شمسية كأنها تخشى أن تفضح
النوايا من نظرة أو أن تنكشف هشاشتها في مرآة عيون كوثر.
دخلت دينا القصر بخطى مترددة يتقدمها محاميها كدرع يحميها من العتاب.
وقع بصر دينا على كوثر الجالسة على الأريكة تنظر إليها بثبات مهيب يشبه اتزان البحر الغادر قبيل العاصفة... خداها يحملان امتلاء طفوليا يعكس صفاء داخليا لا يشبه بركان الغضب الذي يسكن بصدرها.
قالت دينا بصوت جعلته يبدو مكسور
مرحبا... آنسة كوثر.
لم ترد كوثر المجاملة بل لم تدعها للجلوس... لم تعرض عليها شيئا... كانت كمن يريد أن يقتلع الاعتذار من حلقها كما تقتلع الشوكة من اللحم الحي.
قالت كوثر بصوت حاد كالسيف
دعينا من الرسميات يا آنسة دينا... أتيت لتعتذري فابدئي بذلك.
ترددت دينا للحظة ومن ثم خفضت بصرها إلى الأرض ثم إلى المحامي وها هي تتنفس بعمق وكأنها تخرج من صدرها اعترافا ثقيلا
أنا.
.. آسفة.
لكن الاعتذار لم يكن كافيا ربما لأنه لم يحمل حرارة الندم بل كان أشبه بورقة ذابلة رميت على طاولة نارية.
كوثر ردت بنبرة متجمدة كأنها تتحدث من قمة جبل
لا أظن أنك صادقة... دعينا ننهي هذا.
كان الرد كضربة لم تكن في الحسبان وبعدها ساد صمت ثقيل أربك دينا للحظة لكن محاميها تقدم ليلملم بقايا الموقف يمارس مهارته في تطويع المواقف بينما بقيت كوثر في مكانها لا تنحني ولا تتزحزح كأنها تمثال خلق من الألم ولم يعد يعبأ بشيء سوى كرامته.
خلعت دينا نظارتها الشمسية كما لو أنها تخلع عنها قناعا لوجه لم تعتد رؤيته في مرآة الضمير ثم تبعها القناع الواقعي الذي كانت تتخفى خلفه فظهر وجهها الحقيقي مجردا من زيف التجمل كأن الحقيقة نفسها وقفت عارية في منتصف الغرفة... وقالت بصوت حاولت أن تطرزه بنبرة ندم مصطنعة ولكن ارتجافة
الكلمات فضحت هشاشته
أنا آسفة... أرجو أن تسامحيني على ما بدر مني... وأنا مستعدة لتقديم أي تعويض ترغبين فيه.
للوهلة الأولى لم تصدق كوثر ما تسمعه... دينا تلك التي كانت تتغذى على الغرور كما تتغذى الأشجار على الشمس تقف أمامها الآن منكسة الرأس وتهبها اعتذارا هشا منكسرا... يا للمفارقة.
ابتسمت كوثر في صمت ولكنها لم تسمح لتلك الابتسامة أن تعبر حدود الوجدان ثم ردت بنبرة جامدة كالمعدن
علاوة على الاعتذار فإن موكلتي تطلب إقرارا رسميا منك تقرين فيه بسرقتك الأدبية أمام وسائل الإعلام وأمام الجمهور... هل تملكين الشجاعة الكافية لفعل ذلك أم أنك لا تزالين تلوكين الكذب كما تمضغين العلكة
كان هذا الطلب قد نسج مسبقا في كواليس الحوار بين سيرين وكوثر ولم يكن هناك مجال للتراجع فثمن الخيانة لا يسدد بكلمات بل يكتب بالحبر على ورق العدالة.
ترددت دينا... بل تجمدت بأرضها كأن الكلمات علقت في حلقها مثل شوكة
سمكة لم تبلع ثم استدارت نحو محاميها كالغريق الذي يتشبث بطوق نجاة لا يطفو.
تقدم المحامي بوجه يقطر عرقا وبصوت حاول أن يخفي فيه يأسه
سيدة كوثر هلا فكرت في الأمر من زاوية أخرى أعني... هل يمكنك أن تقنعي موكلتك بالتراجع عن هذا الطلب ربما... ربما يمكننا أن نعوضك بطريقة أخرى... فمكتبنا مفتوح لك ويمكننا أن نمنحك أي وظيفة أي منصب ترغبين به... وفورا.
نظرت كوثر إليه كأنها تنظر إلى دمية تتحرك بخيوط المال ثم ابتسمت ببطء وقالت
أخشى أنكم لم تفهموا بعد... أنا لا أقيم وزنا للمكانة الاجتماعية الزائفة ولا أبيع ضميري بمنصب... ليس كما تفعل سيدتكم.
ثم توجهت نحو دينا بعينين تشعان برقا ساخرا وقالت بتهكم لاذع كمن يسكب الملح على جرح لم يشفى
يا سيدتي لديك موهبة نادرة في الانتحال حتى أصبح الأمر جزءا من كيميائك... بل إنك حتى عندما عدت من الخارج لم تحملي معك سوى الدمار لا الإبداع...
أنت لا تصلحين إلا لهدم البيوت لا لبنائها... لذا انسي الألقاب انسي المجد الورقي... جهزي نفسك للمحكمة... لقد انتهت رحلتك المهنية هنا وأنا لم أفكر يوما في قبول اعتذارك.
كان كلام كوثر كالسياط لا يدمي الجسد بل يلهب الروح... وتلقته دينا بذهول فاغر كأن الزمن توقف للحظة.
همست بشفتيها المرتجفتين
ماذا قلت للتو
ولم تكد الكلمات تذوب في الهواء حتى انفتح باب الغرفة الخلفية بهدوء مريب وخرجت سيرين كشاهد صامت يراقب العرض خلف الستار.
تجمدت الدماء في عروق دينا ثم اشتعلت كاللهب إذ أن حضور سيرين كان إعلانا صامتا لقد شهدت كل شيء.
صرخت دينا بوجه سيرين وصوتها يكاد يكسر الجدران
هل استخدمت صديقتك الوحيدة لتنتقم مني لأنك لم تستطيعي مواجهتي بنفسك!
لم تجب سيرين مباشرة كان بداخلها الكثير من الردود ولكنها انتقت الأكثر بساطة والأشد وقعا
وهل طلبت منك سرقة عمل غيرك
بهذا الرد انهارت آخر
جذور الاحترام التي كانت تحاول دينا التمسك بها ف لم تعد تملك رغبة في التظاهر أو الاعتذار أو التبرير... بل حدقت في سيرين بكراهية سوداء كأنها تتمنى لو تفنيها بنظرة ثم قالت بصوت بارد يقطر سما
بما أنك لا تودين أن نسلك الطريق السهل فسوف أتولى زمام الأمور بنفسي.
ثم استدارت عنهم كأنها تطوي فصلا من الخزي وخرجت من القصر وقد تخلت عن محاميها في لحظة كما يتخلى السارق عن سكينه عند أول ضوء.
وبمجرد أن جلست داخل السيارة أغلقت الباب بعنف كما أنها طردت مرافقيها بصرخة واحدة ثم التقطت هاتفها وطلبت الرقم الذي تحفظه أصابعها أكثر من عقلها.
اتصلت بأنس وجاء صوتها مرتجف من الغضب كما ترتعد السماء قبل العاصفة
ألم تقل إنك ستحميني أريد موت سيرين تهامي... نعم أريدها ميتة... وإن فعلت سأكون لك وحدك... وسأتبعك إلى الخليج دون سؤال.
ثم أغلقت الهاتف.
وفي عينيها كانت النار تشتعل... لكنها لم
تكن نار حب.... كانت نار انتقام.