رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الخمسون 150 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الخمسون


ما إن أغلقت دينا الهاتف حتى خيل للكون أنه تنفس زفرة مشبعة بالغضب والسموم... لم تكد أناملها تهدأ حتى التقطت الهاتف من جديد وضغطت بإصرار بارد على الشاشة... وأرسلت موقعها إلى أنس وكأنها تدعو وحشا للانقضاض.
ثم انطلقت لالسيارة تشق طريقها مبتعدة عن القصر الذي بدا عند خروجها أقل فخامة وأكثر ثقلا... كأن الجدران نفسها كانت تنتظر شيئا ينكسر.
في تلك اللحظة في عمق القصر مدت كوثر يدها إلى أحد الأركان وأزاحت بإصبعين حذرين كاميرا صغيرة كانت مخبأة خلف لوحة حائطية وابتسمت ابتسامة من عرف أن الحقيقة لا تهزم.
قالت كوثر بنبرة مغموسة بدهشة الانتصار
أنت مذهلة حقا يا سيرين... كنت تعرفين أنها لن تتجرأ على الاعتراف علنا ولهذا طلبت مني أن أسجل كل ما يحدث.
أخرجت كوثر هاتفها وضغطت زر التشغيل فانبعث من الجهاز صوت الحقيقة واضحا كالشمس بعد عاصفة... وها قد ظهر وجه دينا على الشاشة متجهما مترددا وهي تنطق بكلمات الاعتذار تليها محاولتها الفاشلة لشراء صمت كوثر... كانت

كلماتها تشبه حبل المشنقة الذي غزلته بيديها وحين يشتد حول عنقها لن تجد من ينقذها.
تنهدت سيرين بنظرات غائمة كأنها تراقب ذكرى من الماضي تقول
أعرفها... دينا لا تعتذر إلا حين تجبر على ذلك... هي بارعة في التكيف تتقن تغيير جلدها لكنها دوما تفعل ذلك لتنجو... لا لتتطهر... ولهذا إن لم تحاصرها الظروف فلن تقدم على إعلان اعترافها أبدا.
كوثر وقد بدا النصر يرقص في عينيها تقول بنشوة
سأنشر التسجيل فورا!
لكن سيرين رفعت يدها في هدوء كأنها توقف زحفا وشيكا
لا... لا تفعلي... ليس الآن.
رمقتها كوثر في حيرة فقالت سيرين بنبرة يغلفها العقل والخوف معا
دينا الآن في ذروة شهرتها... في ذروة توهجها... وإذا أخرجنا هذا الفيديو الآن ربما ننجح في خدش صورتها لكننا قد نخسر أكثر مما نتوقع... الناس لا تصدق الحقائق إلا إذا جاءت في الوقت المناسب... لا قبل ولا بعد.
صمتت سيرين للحظة ثم أضافت
وإذا ارتكبنا خطأ التوقيت... فقد ترتد الضربة إلى صدرك أنت.
بدت كوثر وكأنها تقاوم رغبة اللهب في
حرق كل شيء لكنها فهمت... كانت نارها تبحث عن الانتقام بينما كانت سيرين تبحث عن العدالة... قالت كوثر باستسلام
كما تشائين... لن أنشره الآن.
وأسدل الليل ستائره على تلك اللحظة... لحظة كان فيها الصمت أثقل من الكلام والحقيقة محبوسة في جهاز صغير... تنتظر انفجارها الكبير.
كانت سيرين على شفا حفرة من القرار عقلها كغابة ملبدة بالضباب يبحث عن مخرج من بين أفكارها المتشابكة حين دوى صوت هاتفها فجأة كرصاصة تخترق السكون.
رفعت سيرين الهاتف بتردد لتقرأ الاسم الذي ظهر على الشاشة... إنه كارم.
ارتجفت أنفاسها للحظة... وأخذ قلبها يخفق كطبل إفريقي يعلن عن شيء قادم من المجهول... حتى تحدث قائلا بحماسة
سأصعد على متن الطائرة قريبا سيرين... سأكون في المدينة عند الحادية عشرة مساء الليلة... جاء صوته عبر الهاتف ناعما دافئا كنسيم مسائي يداعب وجه عاشقة وقفت على شرفة وحدتها.
تمام... همست بها لكن صوتها بدا كظل كلمة بلا حياة.
الحادية عشرة مساء...
كررت الرقم في ذهنها كأنها تجري
طقسا غامضا... لم تكن متأكدة أنها ستستطيع حتى أن تمسك الهاتف في تلك اللحظة... أصابعها شعرت بالتيه وكأنها تتحرك داخل زجاج مكسور.
وعلى الطرف الآخر من العالم كان كارم يمسك هاتفه ينظر إلى السماء يرسم غيمة على هيئة أمنية.
غدا عيد ميلادك أليس كذلك سألها بصوته الرقيق.
تجمد الزمن لحظة كأن قلبها تعثر عن الخفقان.
لقد نسيت... أو ربما دفنت تلك الذكرى في حفرة مظلمة لا تنمو فيها الزهور.... فبالنسبة لوالدتها سارة كانت ولادتها نذير شؤم بداية لانهيار عالم كانت تظنه محكم البناء... ومنذ أن عاشت سيرين بكنف عائلة تهامي لم يحتفل أحد بها... كانت تمر أعوام ميلادها كأيام شتاء صامتة لا ضوء فيها ولا هدايا... حتى بعد أن أصبحت زوجة لظافر كانت تمر تلك الليلة باردة كقبر تقضيها وحيدة تشرب الشاي وتتأمل وجوه من خذلوها... ثم مع الوقت كفت عن الاحتفال... وكف قلبها عن الانتظار.
نعم... أجابته أخيرا كمن يستخرج الإجابة من بئر بلا ماء.
قالها كارم وصوته هذه المرة بدا وكأنه نذر حب ولد
في عاصفة.
سكتت للحظة كأنها تزن
 

قلبها على كفة ميزان خفية ثم ردت
بالتأكيد... سأقلك بنفسي... سأنام الليلة في بيت صديقتي.
مرت لحظة من الصمت ثم سأل كارم بنبرة رقيقة كندى الفجر
وهل سيكون هذا مزعجا لصديقتك
نظرت سيرين إلى كوثر التي كانت تتبع المحادثة بعينين متسعتين كأنها تشاهد مشهدا في فيلم رومانسي فهزت الأخيرة رأسها سريعا بابتسامة صغيرة على شفتيها وقالت بصوت هامس من بعيد
لا لا بأس. دعيه يأت.
كوثر لم تر كارم إلا مرات قليلة خلال السنوات الأربع الماضية وعن بعد وكل مرة كان يشبه فيها شبحا جميلا عابرا لا يترك خلفه سوى أثر العطر... كانت تراه وسيما إلى درجة تؤلم ولو طلب منها أحدهم أن تصفه لقالت إنه نسخة ذكرية من غواية تمشي على قدمين.
نقلت سيرين الرد بنبرة دافئة
قالت إنه لا بأس... وتريدك أن تأتي.
ضحك كارم بخفة وصوته بدا كسهم ينغرس في لحم الفراغ
حسنا إذا... علي الذهاب الآن... أراك الليلة.

انتهت المكالمة.
لكن في قلب سيرين كانت بداية لشيء لا يشبه النهايات أبدا... بل يشبه أول همسة حب تقال على استحياء بعد سنين من الصمت وهي غير مستعدة لشيء كهذا الآن تخشى جرح قلب نقي ككارم.
ما إن أنهى كارم المكالمة حتى تسللت إلى وجهه ابتسامة حلوة لم يدركها عقله لكنها ولدت من عمق قلبه كأنها انعكاس الضوء على سطح بحيرة ساكنة لم يزدها الليل إلا صفاء.
اقترب الطبيب منه أثناء صعوده إلى الطائرة يحدق في الجرح الذي غرز أنيابه في جانب جسده ذات مساء.
قال الطبيب بنبرة حذرة كمن يخاطب قنبلة موقوتة
عليك أن تتجنب أي مجهود أي انفعال عنيف أو حركة غير محسوبة... الجرح هش... إياك وأن تدعه ينفتح فالالتهاب هذه المرة لن يرحم.
أجابه كارم وهو يشيح بنظره نحو النافذة نحو مملكة الغيم التي تعلو المدن
سأكون بخير.
كان كارم يمسك بيده صندوقا صغيرا محفورا برسومات دقيقة تشبه أطياف الذكريات.
.. وبدا عليه التوتر ذلك التوتر الجميل الذي يسبق اللقاءات التي ننتظرها منذ أعمار لا نملك أسماءها... في قلبه كانت شمس صغيرة تشرق رغم الغيم رغم الألم رغم المسافة.
وفي الجهة الأخرى من المدينة كانت سيرين قد أنهت المكالمة لكن ما أن أغلقت الهاتف حتى انفتح باب القلق على مصراعيه في رأسها. تساءلت بهمس
ماذا سأقول لظافر
وكوثر التي كانت تتكئ على حافة السرير كملكة اعتزلت الحكم عن طيب خاطر قالت بلا اكتراث وبنبرة خفيفة مثل نسمة تطفئ شرارة التردد
أرسلي له رسالة نصية فحسب... ليس كأنك مدينة له بالولاء... لم يكن يوما إلها يعبد.
ضحكت سيرين من بين شفتيها ضحكة ساخرة بطعم المرارة
هذا صحيح.
لطالما استخدم ظافر الرسائل النصية كوسيلة للإعلان لا للمشاورة... لم يكن يستأذنها بل يملي عليها كما لو أنها موظفة لا زوجة حضورها واجب وغيابها غير مبرر.
فكتبت سيرين وكأنها تطلق سهما
من قوس بلا تردد
سأقضي الليلة عند صديقتي لن أعود إلى المنزل.
ثم ضغطت إرسال وكأنها ضغطت على قلبه.
في ذات اللحظة كان ظافر جالسا على رأس طاولة الاجتماعات في شركة نصران مهيبا كقائد جيش يتفحص الخرائط قبل الغزو حين رن هاتفه بنغمة الرسائل.
أخرج الجهاز ببطء وما إن وقعت عيناه على الرسالة حتى تجمد الزمن من حوله.
تصلبت تعابير وجهه كأن صقيعا مر على ملامحه فشلها... عينه اتسعت وشفتاه انفرجتا دون أن تنطق بشيء... الرسالة كانت قصيرة لكن وقعها كان كطلق ناري في صدر الغرور.
سرت قشعريرة في القاعة وشعر الجميع بأن شيئا ما قد انكسر دون أن يسمع صوت تحطمه وكأنهم جميعا ارتكبوا ذنبا لم يفصح عنه بعد.
ثم وبلا مقدمات قال بنبرة أقرب إلى الزئير
تابعوا من دوني!
ونهض من كرسيه كما ينهض الإعصار من محيطه وخرج من القاعة بخطوات تنذر بعاصفة.
هذه الليلة لم يكن يدري أنه ليس المتحكم بالمشهد.
.. بل بات واحدا من ضحاياه.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1