رواية تؤام روح الفصل الرابع عشر بقلم يارا سمير
مرت عشرة ايام على وفاة والدة ملك .. مرت ثقيلة كأنها شهور ، فى تلك الفترة كانت مريم بجوار ملك يوميًا لا تتركها للحظات قصيرة .. طلبت ملك من مريم ان تعود الى دراستها اعترضت مريم ولكن اصرت ملك ع ان تعود لحياتها الطبيعية .. لم تكن العودة سهلة لكن مريم لبت رغبة ملك وعادت الى الجامعة .. ذهبت مريم الى الجامعة بعد انقطاع دام عشرة ايام توجهت الى مكتب ايهاب مختار قبل بداية السيكشن .. طرقت الباب بخفة وعندما فتح تفاجأ بوجودها ابتسم بلطف وطلب منها الجلوس وبعد لحظات من الترحيب الهادئ قالت مريم :
_ انا بعتذر ع تغيبي الفترة اللى فاتت حالة الوفاة كانت شخص غالي عندي .
_ الله يرحمها .. المهم انك رجعتي تاني واى حاجة محتاجها انا موجود .
_ شكرًا يا دكتور .
_ ايه دكتور دي ؟
_ شكرًا يا ايهاب .. عن اذنك هروح السيكشن .
_ زملائك قالولي هيقولولك اللى فاتك لو فى حاجة واقفة قدامك كلميني متترديش .
_ حاضر.. عن أذنك .
غادرت مريم المكتبه وبعد دقائق غادر ايهاب واتجه الى مكان السيكشن .. الطلاب فى اماكنهم المعتادة ومريم كانت تجلس فى هدوء وشرود لا تشارك ولا تبتسم فقط تنظر الى الامام بعينين تحملان أثقالًا من الايام الماضية .. كان ايهاب يتابع شرحه وعيناه تعودان الى مريم بين جملة واخرى لاحظ صمتها وشرودها وغياب بريقها المعتاد ..كان وجهها هادئًا .. انتهي السيكشن وتفرق الطلاب وطلب من مريم ان يتحدث معها قليلًا :
_ انتى مكنتيش معانا فى السيكشن يا مريم ؟
_ انا .. حاسه انى مكنش لازم اجاى
_ ليه ؟
_ ملك محتاجاني اكتر الفترة دي .
_ لكن انتى معاها مش سيباها .. مش معني نزولك جامعتك ومتابعة دراستك انك اتخليتي عنها ، انتى لما هترجعي هتعدى عليها وتقعدي معاها .. وعاوز اقولك معلومة قعادك معاها طول الوقت بنسبة كبيرة غير مفيد ليها .. سيبلها مساحة تقدر تفكر وتقرر خطواتها الجاية بدون ضغط.
_ انا مبضغطش عليها .
_ انا مقولتش انك بتضغطي .. مريم .. الانسان وقت فراق غالي عليه ايوه بيحتاج اللى بيحبهم معاه لكن فى نفس الوقت محتاح مساحة لوحدة يفكر ويستوعب الموقف ويشوف هيتعامل ازاى مع اللى جاى، هو بقى لوحده وفي فراغ كبير عايش فيه هو .. هو وبس .. عشان كدا بقولك يفضل شويا معاها وشويا لوحدها كدا هتبقى احسن اسرع ودا انا بقوله عن تجربة .. فراق الموت بيخل توازن الانسان ممكن وجود حد معاه والمجهود المبذول منه يبقى مش شايفه ولا سامعه ولا حاسه .. ف الافضل نكون موجودين لكن فى نفس الوقت عاملين مساحة له لانه محتاج يستوعب عشان يتأقلم ع وضع الجديد..
صمتت مريم واستكمل ايهاب حديثه وقال بنبرة هادئة :
_ اللى انتى عملتيه ليها ولوالدتها حاجة كبيرة يا مريم وانا متاكد ان والدتها كانت سعيدة لان امنيتها اتحققت وانتى ساعدتيها تتحقق .. ف انتي عملتي كتير وبتعملي وهتعملي .. زي ما بتفكري ازاي تساندي غيري فكري هو محتاج ايه لان احتياج شخص لتاني مختلف لان الحزن ودرجاته وتقبل الفراق مختلف .. لازم نفكر فى الشخص دا وندور على راحته ونفس الوقت احنا مش هنسيبه.. احنا معاه .
صمتت للحظة وقال :
_ تمام ..
تحدث ايهاب بنبرة هادئة :
_هتبقى كويسة لانك معاها يا مريم .. هتساعديها تكون احسن انا متأكد .
_ شكرًا لاهتمام حضرتك جدًا .
_ احنا اصدقاء ودا حقك عليا واى حاجة محتاجاها عرفيني انا موجود .
_ شكرًا بجد على كلامك وع وقتك
_ اهلا بيكي فى اى وقت .. وع فكرة الجروب كان كئيب من غيرك انتى روح الجروب يا مريم .. لما جيتي البهجة رجعت المكان .
ابتسمت نصف ابتسامة واستكمل حديثه :
_ هستناكي السيكشن اللى جاى بروح مريم اللى متعودين عليها اللى كلها طاقة ايجابية وحياة وروح ..
_ حاضر .. عن اذنك
غادرت مريم وظل ايهاب ينظر عليها وهي تغادر حتى اختفت وهو غادر ايضا ..
في يوم مريم عائدة الى المنزل ومرت على منزل ملك ، جلست معها قليل ثم رن جرس الباب وفتحت مريم الباب وكان أشرف شقيق ملك :
_ ازيك يا اشرف .
_ اهلا يا مريم.. عامله ايه ؟
_ الحمدلله ..
_ ملك جواه صح ..
_ ايوه اتفضل اتفضل .
كانت ملك جالسة وحين رأته تبدلت ملامحها :
_ ازيك يا ملك
_ الحمدلله ..
شعرت مريم بضرورة انصرافها :
_ طيب انا همشي وشويا وهنزلك تاني .
اعترضتها ملك واستوقفتها :
_ رايحة فين لا خليكي .. انتى مش غريبة .
_ طيب انا هدخل المطبخ اعملكم حاجة تشربوها .
دخلت مريم المطبخ وجلست ملك مع شقيقها ..ظلت ملك تنظر اليه فى صمت وتحدث :
_ انا جيت اشوفك عامله ايه واخبارك ؟
_ الحمدلله بخير ..
_ كنت عاوز اعرف كمان فكرتي هتعملي ايه ؟
نظرت اليه بتعجب :
_ اعمل ايه فى ايه ؟
_ فى الوضع الجديد.. والشقة دى هنعمل فيها ايه ؟
_ لحظة.. مش فاهمة .. هو احنا المفروض نعمل ايه فى الشقة اللى عايشة فيها ؟
_ ملك بهدوء كدا .. انتى كنتى عايشة مع ماما دلواقتي لوحدك فمش هينفع ، شوفي عاوزة تيجي معايا ولا تروحي لخالتك ولا عمك و..
قاطعت حديثه بنبرة حادة :
_ انا مش هتحرك من بيتي يا أشرف .
_ انا عارف انك متعلقة بالبيت .. بس هتقعدي لوحدك فى كل دا .. خلاص عندي اقتراح تاني نبيعها واشوفلك شقه جنبي .
نظرت اليه بتعجب :
_ دا انت مأ اقترحتش الاقتراح دا وماما عايشه.. دا احنا كنا جنبك يعتبر ايه اللى حصل ولا حاجة كنت بتيجي مرتين فى الشهر ةلما جينا اسكندرية بقت مرة .. عاوزني اكون جنبك ليه ؟
اجابها ب انفعال :
_ عشان الناس هتاكل وشي انى سيبك لوحدك يا ملك .. ازاى ؟
_ زي ما انت دايما سايبنا يا أشرف .. اللى حصل ان الحمل خف عليك وبس ..
_ يابنتى بقولك الناس هتتكلم انتى ازاى قاعدة لوحدك افهمي بقى ، اللى وقفوا معاكي مهما حصل دول اغراب مش هيكونوا معاكي دايما .
سمعت مريم كلماته عن قرب وشعرت بغضب وتحدثت ملك:
_ اهو الاغراب دول اقربلي منك يا أشرف .. الاغراب دول من وقت ما جينا هنا ومسبوناش لوحدنا دايما معانا ، الاغراب دول من بعد اللى حصل يوميًا مش سايبني ومعايا مش أنت يا اخويا يلي بس قعدت يوم واحد وسافرت قال ايه عشان تاخد العزا في القاهرة .. رغم اللى اتوفت هنا فى الاسكندرية واختك هنا .. سيبت اختك فى اكتر لحظة محتاجاك.. محتاجة تحس انك موجود وسيبتها زي ما انت دايما سايبنا .. اشرف خلاصة الكلام انا مش همشي من بيتي .
تحدث اشرف ب انفعال :
_ بس دا مش بيتك لوحدك يا ملك، انا ليا فيه اكتر منك .. عاوزاه اشتريه مني بنصيبك .
_ نعم ؟
_ زي ما سمعتي كدا .. ودا اخر كلام عندي شوفي عاوزة ايه تاخديه ولا اخده انا وفلوسي حاضره .. كدا كدا هنعمل اجراءات اعلان الوراثه شوفي عاوزة ايه وبلغيني ..
تركها وغادر وهي فى حالة صدمة من افعاله .. خرجت مريم من المطبخ وجلست بجانبها وقالت :
_ متخافيش يا ملك محدش هيقدر يخرجك من هنا مهما كان مين ؟
_ مش فاهمة ؟
_ انتى اتكلمتي صح لما قولتي محدش يخرجك من بيتك لانه دا بيتك فعلًا وب اوراق رسمية .
_ انتى بتقولي ايه ؟
_ بقولك اللى حصل .. كان باين ان طنط عارفه دا هيحصل ف باعت الشقة ليكي .
صدمت ملك وحاولت ان تستوعب كلمات مريم :
_ انتى بتقولي ايه من فاهمة ؟
_ بصي الحوار كله مش معايا .. اللى يقدر يفهمك ويعرفك كل حاجة .. كريم .
صدمت أكثر من قبل :
_ كريم ؟
_ ايوه .. هو جاى بكرة .. هعرفه اللى حصل ويقعد يفهمك ماشي .
ذهبت مريم الى السطح وتفاجأ زين بوجودها :
_ مريم.. فى حاجة ولا ايه ؟
_ هو ممنوع اطلع ولا ايه.. انت بقيت تجيب بنات هنا من ورايا
ابتسم زين:
_ هو انا مجنون اعمل كدا عشان ترميهم وترميني من هنا .. لكن انتى قولتيلي هنام .
_ حاولت انام معرفتش قولت اطلع اشم هوا شويا .
_ ليه يا فنانتنا ايه قلق نومك.. اوعي تكوني بتحبي من ورايا اوعي.
_ هو الحب بيعمل كدا ؟ انا مجربتش ومعرفش ؟
_ بيقولوا بيطير النوم ..
_ يا واد يا خبرة .
_ كان معاكي زيزو الحريف ..
ابتسمت :
_ مالك بجد؟
_ ملك صعبانة عليا اوي .. اخوها صعب اوي يا زين، تخيل مش هامه اى حاجة الا الشقة عاوزها لا فكر فى اخته ولا حالتها ولا نفسيتها ولا احتياجها ولا وحدتها .. خاف من كلام الناس وبس .
_ ع ما اتذكر انه اشرف طول عمره اناني يعنى دا نتيجة طبيعية لشخص كبر بيحب نفسه وبس .
_ بس دى اخته ؟
_ الشخص الاناني مبيفكرش فى اى حد غير نفسه وبس .
_ بجد صعبانه عليا ملك .. مش عارفه اعملها ايه اكتر من اللى بعمله .
قال زين مازحًا :
_ تنقلي هدومك وكتبك وحالك ومحتالك لعندها تحت
_ يا عسل ..
_ قولي لنفسك.. انتى يوميا معاها .. يعني الوضع الاول كان المسابقة والجامعة .. دلواقتي بقى المسابقة والجامعة وملك .. زين فين .. فى الباى باى لما تفتكري .
_ يعني انت شايف بنفسك الوقت ضيق خالص ازاى .. استنى عليا اخلص كل الحاجات دى وافضالك .
_ لما اشوف ..
_ بس تصدق وحشني المكان .. هو انت مكنتش بتطلع ولا ايه الزرع مات ؟
_ كنت بطلع بعدين بحس بخنقة لانك مش موجودة ف بقيت اكسل اطلع بدل ما اتخنق اكتر
غمزت له :
_ عشان تعرف قيمتى.
_ ليه الملكة فوزية قاعدة جنبي
_ انت عيل رخم وانا غلطانه انى طلعت انا هنزل انام .
امسكها من يدها واجلسها بجانبه:
_ دا انتى بقى خلقك ضيق اوي .. في ايه يا شق بهزر بهزر معاك .
_ هزارك رخم .
_ اكيد رخم مش انا رخم .
ضحكت مريم:
_ الاعتراف بالحق فضيلة .
_ فضيلة وبناتها
ضحكت مريم واستغل زين الموقف لاستمرار مريم فى ضحاكتها وحكي شيئًا كوميديًا حدث له بخفة ظله المعتادة جعلت مريم تنفجر فى الضحك تميل برأسها للخلق ويديها على وجهها وهو كان يتابع ضحاكها وكأن ضحكتها كانت انجازًا شخصيًا له لقد تحول الجو العام من حزن الى ضحكات متتالية دون فاصل .. فى خضم هذة اللحظة رن هاتفه .. نظر زين الى اسم المتصل كانت احدى الفتيات التى يعرفهم .. نظر الى مريم وهي تحاول ان تلتقط انفاسها لم يتردد اغلق المكالمة فورًا ثم اغلق الهاتف ووضعه جانبًا واستكمل حديثه وقال موقف اخر ضحكت مريم عليه وكأن شيئا لم يقطع اللحظة بينهم فكانت تلك اللحظة التى تجمعهما لا تقدر بثمن له ..
عاد كريم من السفر يحمل فى قلبه ثقل الاخبار التى نقلتها له مريم عبر الهاتف ، أول شئ فعله منذ وصوله جمع كرم ومحمود وسوسن وسناء وذهبوا جميعًا الى منزل ملك حيث كانت تنتظرهم فى صمت ..جلس الجميع فى الصالة والوجوه تحمل مزيجًا من الحزن والتعاطف .. جلس كريم امام ملك وضع امامها عقد بيع الشقة .. تابعت ملك حركته بعيناها تحاول ان تهئ نفسها لما هو قادم .. بدأ كريم يشرح ويوضح يقلب الصفحات امامها بهدوء وكانت عيناه مليئة بجدية :
_ ليه مقالتليش ؟ ليه معرفتنيش ؟
اجاب كريم:
_ عشان كانت عارفه انك هترفضي انها تعمل كدا .. خافت تهاودك وتضيع حقك .
مع مرور اللحظات بدأت ملامح ملك تتغير سكونها ينكسر ببطء وعيناها تمتلئان بدموع ثقيلة .. مدت يدها ببطء نحو الاوراق التقطتها ثم نظرت الى التوقيع فى اسفلها .. توقيع تعرفه جيدًا توقيع والدتها .. لم تتكلم فقط ظلت تمسك الورقة تقرأها بعينين دامعتين وصدرها تشعر بثقل اللحظة .. حولها جلس الجميع فى صمت يحترمون حزنها ويشاركونها الوداع الخفي الاخير الذي حملته تلك العقود بين سطورها .. كانت ملك نظراتها ثابتة على التوقيع لكن ذهنها كان بعيدًا تمامًا يتجول بين ذكريات قديمة وضحكات ولمسات ووصايا لم تقال بصوت بل عاشتها فى افعال الان .. كرم وضع يده على كتف كريم فى صمت دعم واضح على مساعدته لوالدة ملك ، محمود وسناء وسوسن تبادلوا نظرات فيها الكثير من التعاطف .. اغمضت ملك عينيها للحظات ومسحت دموعها بكفها ثم وضعت الاوراق على الطاولة وبدأ عليها بعض الهدوء :
_ شكرًا يا كريم .. شكرًا انك حققتلها حاجة كانت عاوزاها ( نظرت الى محمود وكرم وسناء وسوسن وقالت ) شكرًا لكم على وجودكم ومساندتكم لينا طول الوقت وهي موجوده وحتى بعد ما مشيت .
تحدث محمود:
_ ايه اللى بتقوليه دا يا ملك، احنا عيلتك وانتى مننا زي مريم بالظبط .
تحدث كرم:
_ زي ما محمود قال انتى بنتنا يا ملك ويهمنا انك تكوني مرتاحة .
تحدثت سوسن:
_ البيت دا بتاعك لكن انتى ليكي بيتين تانين فوق وقت ما تحبي تدخل زوقي الباب وادخلي .
اكددت سناء على كلمات سوسن وقالت :
_ احنا معاكي يا ملك ومش هنسيبك ..
_ بجد مش عارفه اقول ايه.. احنا اتحرمت من احساس العيلة لكن حسيته بوجودكم .
تحدث كريم:
_ انتى مش لوحدك ..كلنا موجودين ومعاكي يا ملك .
تحدث محمود:
_ اى حاجة محتاجاها متتردديش ..
قال كريم:
_ واشرف هيوصله نسخة من العقود دي .. انا بس محتاجك تعملي توكيل لمحامي صاحبي هو اللى هيتصدر فى اى حاجة مع اشرف انتى مش لازم تواجهيه ..
_ حاضر .. ان شاء الله .
تحدثت سوسن:
_ كنت عاوزة اقترح عليكي اقتراح يا ملك لكن مترفضيش .
نظرت اليها ملك واستكملت سوسن:
_ بدل قاعدتك طول اليوم هنا لوحدك.. ومريم مشغولة لان خلاص فاضل ااقل من شهر ع امتحاناتها هي وزين .. انا وسناء بنروح نقعد فى المطعم تعالى اقعدى معانا تغيري جو ايه رايك.
قالت سناء :
_ جربي ولو مرتاحتيش براحتك.. بس انا متاكدة هتحبيها وخصوصًا لما زين ومريم ياخدوا الاجازة بيقلبوا المكان .
_ حاضر هشوف ..
ظلت سوسن وسناء إضافة الى مريم بالضغط لاقناع ملك للذهاب برفقتهم للمطعم حتى تغادر المنزل ولا تبقى بمفردها .. كانت تتهرب دائما بتقديم أعذار ب استمرار ولكنها رضخت لاصرارهم .. ذهبت الى المطعم مع سوسن وسناء .. تحدثت سوسن :
_ بصي يا ملوكة المطعم مطعمك.. المكان اللى تحبي تقعدى فيه شدى كرسي واقعدى ومحدش هيزعجك ..
تحدثت سناء :
_ المهم تكوني مرتاحة ..
تركا ملك وتوجهت الى طاولة تطل على البحر مباشرة، فى زاوية هادئة من المطعم الهواء يحمل نسمات خفيفة تعبق برائحة الملح والصوت الرتيب للامواج يملأ الفراغ من حولها .. رغم جمال المكان وكوب العصير امامها لم تكن ملك حاضرة تمامًا .. كانت نظراتها ممتدة نحو الافق تتأمل البحر بعينين ساكنتين يحملان ظلال شرود ثقيل .. جلست فى صمت يحيطها عالم داخلي لا يشاركه أحد رغم وجود سوسن وسناء ولكنهم فضلا ان يتركا لها مساحتها ..
لم تكن زياراتها للمطعم متكرره بشكل يومي .. فى احدى تلك اللحظات الساكنة اقترب اليها كريم :
_ ملك..
انتبهت على الصوت والتفتت وقال لها :
_ ممكن اقعد .
_ اتفضل ..
جلس كريم وقال :
_ احمد صاحبي المحامي راح لاشرف وشاف العقود وكل حاجة تمام رصيد البنك بس اللى هيتقسم بينكم لان مفيش حاجة تاني باسم والدتك.
_ تمام.. شكرا يا كريم تعبتك معايا .
_ متقوليش كدا احنا اتكلمنا وقولنا اننا عيلة ولا ايه ؟
_ ممكن تعرفي اتعاب المحامي ايه ؟
_ اتعاب ايه... دا صاحبي ف مفيش بينا كدا .
بنبرة اصرار :
_ بعد أذنك يا كريم .. هو صاحبك انت لكن بالنسبالي محامي عملى خدمة ليها مقابل ، ممكن تعرفني اتعابه .
تفاجئ كريم من نبرتها الحادة وقال :
_ اوكيه.. نخلص موضوع البنك ويقولنا ع اتعابه كامله ..
_ تمام ..
تحركت من مكانها وقال كريم:
_ رايحة فين ؟
_ هرجع البيت .. انا هنا من بدري وحاسه انى عاوزة انام .
_ تحبي اوصلك انا كدا كدا راجع البيت ..
_ مش هينفع للاسف .. مش هينفع توصلني ونمشي فى الشارع مع بعض وفى العمارة يشوفونا داخلين مع بعض ، وضعي ميسمحش ومش هسمح لحد يقول كلمة عليا .. وبعدين انا بعرف ارجع البيت لوحدى غير انى عاوزة اكون لوحدى ..عن اذنك .
تركته مغادره للخارج وظل ينظر اليها بتعجب ..
فى الجامعة كانت مريم مع مجموعتها فى احد الورش فى الكلية كان جزء من الواجب مطلوب منهم رسم لوحة .. تجمعوا فى مكان وبدأوا يرسمون كل شخص ع حدا .. لمحت مريم احد اصدقائها وضع احدى رسومات ايهاب مختار امامه وينقلها من تغير فى تفاصيل بسيطة .. اقتربت اليه وقالت :
_ ايه دا يااحمد .. كوبي باست ..ليه ؟
_ لا يا ميما فى تغير بصي كويس .
_ انت مغير حاجات عشان اللى يشوفها ميقولش دى رسمة ايهاب مختار .
_ فوتي يا ميما بقى .. اهو كله رسم .
_ انك تنقل رسمة حد تاني دا بعيد كل البعد عن الابداع والابتكار والخيال .. انت فين فى رسمتك.. انت بتنقل شخصية وروح شخص تاني فى رسمتك انت .. ليه تنقل رسمة حد تاني .
_ دا مش اى حد ..دا ايهاب مختار
تحدثت بحده:
_ يعني ايه ايهاب مختار .. مين اصلا ايهاب مختار ؟
تفاجئ اصدقائها :
_ ايهاب مختار اللى انتى من اكبر معجبينه ودوشتينا به 4 سنين .
_ اه منكرش ان انا من معجبين فن ايهاب مختار ودا لاني معرفش ايهاب مختار شخصيًا غير من لوحاته ، ثانيًا انا بحترم فنه ورسوماته وهو شخصيًا جدا لكن دا مش سبب يخليني اكون كوبي باست منه .
تفاجي اصدقائها :
_ بتتكلمي بجد..مش حلمك تكوني ايهاب مختار ..انتى واعيه لكلامك ؟
_ واكون ايهاب مختار ليه لما اقدر اكون نفسي .. ليه اقلد ايهاب مختار او غيره وانا ب ايديا اكون نفسي بعيد عن التكرار والكوبي باست اللى بيموت روح الفن ، احنا مختلفين فى الشكل ومختلفين فى الهبه والقدرات .. احنا مختلفين واختلافنا هو اللى بيميزنا ..
صمت اصدقائها واستكملت حديثها :
_ انت مميز فى حاجة انا مش مميزة فيها ..كل واحد فينا مميز فى حاجة مختلفة .. احنا نقلد ايهاب مختار فى طريقه حلمه .. شخص حلم وسعي واجتهد فى طريقه وحياته ..صنع حاجة تميزه عن غيره .. دا اللى نفكر فيه لكن فنه وطريقته لا دا مجهوده هو وبس .. التقليد مبيعيش نهايته مؤكدة لكن النسخة الواحدة بتعيش وتستمر لمدة طويلة ودا اللى لازم نشتغل عليه نكتشف النسخة الواحدة من كل واحد فينا .. فهمتوا ..
قال احد زملائها :
_ وزي ما قال مكي متحاولش تكون حد تاني غير نفسك
ابتسمت مريم وقالت :
_ بالظبط كدا ..
اندمج الجميع فى غناء الاغنية وتحول المكان لغناء جماعي مليئ بالحماس والتشجيع ..
انتهى الغناء وقالت مريم :
_ كدا الرسالة وصلت.. يلا نخلص عندها سيكشن دكتور ايهاب مختار بعد نص ساعة يلا ..
فى تلك اللحظة كان ايهاب يمر بالصدفة من الممر القريب ولمح تواجد مريم وزملائها ، وقف من بعيد يشاهدهم لفت انتباهه حوار مريم بدأت كلماتها تسمع بوضوح حينما كانت تتحدث عنه، للحظات انعقد حاجباه بدأ له ان مريم كانت تنتقده او تقلل من شانه .. قبل ان يتسرع فى الحكم قرر أن يصغى لنهاية الحوار الدائر بينهم .. واصل الاستماع ولاحظ كيف تحولت نبرة حديثها شيئًا فشيئًا وكيف ان كلماتها رغم جرأتها كانت منصفة وعميقة .. تحدثت عن احترامها لطريقته وشخصيته المهنيه وفنه واسلوبه .. هدأ وجه ايهاب تدريجيًا واختفت ملامح الصدمة وحل مكانها ابتسامة خفيفة صادقة .. ادار راسه قليلًا وهو ينظر الى مريم من بعيد بعينين مليئتين بالاعجاب .. ثم اكمل طريقه بصمت ويحمل فى داخله تقديرًا خاصًا لشخصيتها التى تفوق سنها نضجًا وثقة ..
كان من التقاليد السنوية فى الجامعة عند مريم اقامة معرض خيري في نهاية العام تعرض فيه لوحات فنية بأسعار متوسطة يخصص ريعها كتبره بأسم طلاب كلية فنون جميلة .. كانت مريم وأصدقائها متحمسين للمعرض، وبدأوا التحضير له منذ فترة .. كان المطلوب منهم تجهيز 7 لوحات لكن بسبب ضيق الوقت والظروف الصعبة التى مرت بها مريم مؤخرًا تم تجهيز 4 لوحات فقط .. تحدثت مريم بملامح ضيق:
_ المعرض بعد بكرة ولازم نسلم اللوحات بكرة كاملة عشان تتحط فى مكانها .
صمتوا اصدقائها ونظرت الى شخص منهم بغضب وقال لها :
_ انا اسف بجد يا ميما .. بس حوارات حصلت عندي فى البيت وكنت فاكر انى تواصلت مع دكاترة يشاركوا معانا بعت لاتنين بس والباقي نسيت اسف بجد.
_ وجود اعمال لدكاترة هيساعد ان اللوحات تتباع اسرع واغلى .. كدا معانا لوحتين بس من دكتورين و2 مننا احنا كطلاب ..
تحدثت احد صديقاتها :
_ طيب ما نطلب من ايهاب مختار يساعدنا ..
نظر الجميع اليها :
_ ايوه نطلب منه مساعدة لينا ودا عمل خير يعني مش مساعدة شخصية واعتقد انه هيرحب .
اتفق الجميع وتحمس للفكرة وقال احدهم :
_ يلا يا ميما روحي قوليله .
تفاجأت مريم:
_ انا ..
_ ايوه..
_ ليه مش حد فيكم .
_ لاسباب كتير .. اولا انتى الليدر فهتتكلمي نيابة عننا ، ثانيًا بقى هتقنعيه انتى طريقتك مقنعة .. ثالثًا والأهم مفيش حل تاني وعاوزة اقولك وجوده معانا فى المعرض يعتبر تميمة حظ .. لوحاتنا لو هتتباع بسعر صغير ف لوحاته لو حطينا عليها اى سعر هتتاخد ودا مكسب لينا وخير للمكان اللى هيروح المبلغ له .
كانت كلمات صديقة اقناعها وتحمست ..
ذهبت مريم برفقة زميلها للتحدث مع إيهاب وطلب مساعدته .. رغم شعور مريم بالقلق والتوتر بدت ملامحها واثقة .. خبط على باب مكتبه ودخلا المكتب واستقبلهم ايهاب بترحاب وابتسامته المعتادة .. تحدثت مريم بثقة وأضحة خبأت ترردها خلف صوت ثابت :
_ احنا كل سنة بنعمل معرض خيري بأسم كلية فنون جميلة والفلوس اللى بتطلع بنتبرع بها ب اسم الكلية .. كنت حابه اسألك لو حابب تنضم معانا يعني .
تفاجأ إيهاب بالفكرة لكنه رحب بها بحماس :
_ موافق جدًا .. المطلوب ايه ؟
_ لوحتين من لوحاتك نعرضهم من اللوحات اللى معانا وانا واثقة انهم هيتابعوا بسرعة .
_ موافق جدًا .. محتاجينهم امتى ؟
تحدث زميل مريم:
_بكرة الصبح اذا امكن .
_ تمام ممكن نختار مع بعض اللوحات اللى انتم شايفنها مناسبة انا ، لكن مش دلواقتي لأن عندي سيكشن ممكن بعده اتفقنا .
ابتسمت مريم:
_ اتفقنا ..
كانت مريم تنتظر زميلها ليذهبًا معًا الى ايهاب لاختيار اللوحات لكن فجأة ارسل لها رسالة نصية يعتذر لحدوث ظرف طارئ استدعي ذهابها ..بعد انتهاء السيكشن خرج إيهاب من المحاضرة ليجد مريم واقفة بمفردها تنتظره .. نظرت اليه وابتسمت تلك الابتسامة الهادئة التى اعتادها منها فبادلها بنظرة قصيرة وابتسامة واقترب اليها :
_ انا بعتذر لو كنتى منتظره كتير .
_ لا لا ابدًا انا لسه جايه ..
_ اومال فين مصطفي ؟
_ حصل ظرف ومشي ف انا هختار ولكن طبعًا انت معايا والاساس .
ابتسم ايهاب :
_ طيب انا حاسس بصداع ممكن نروح نجيب قهوة ونقعد فى اى مكان ونختار الصور كلها ع الموبيل لان طبعًا مش هينفع اقولك تعالى البيت تشوفيها .
ضحكت مريم:
_ مش لدرجة البيت.. الموبيل هيقوم بالواجب واكتر .. يلا ..
_ يلا ..
فى تلك اللحظة وهما ذاهبان اتجاه الكافتيريا رن هاتف مريم ب أشعار من زين يخبرها انه ينتظرها بالخارج واخبرته ان ينتظر نصف ساعة .. ذهبا وطلب قهوة له وعصير لمريم وجلسا وفتح هاتفه وبدأت مريم تقلب فى الصور وتتناقش مع ايهاب عن اللوحات وايهم افضل ومناسب للمعرض .. تأخر الوقت وزين ما زال ينتظر مريم بالخارج، ينظر فى ساعته وباب الخروج بين الحين والاخر .. قرر ان يدخل الى الجامعة بحثًا عنها .. صادف احدى زملاتها فسألها عنها :
_ مشيت اتجاه الكافتيريا مع ايهاب مختار .
_ لوحدهم ؟
_ ايوه..
اتجه نحو المكان بخطى ثابتة تتسارع كلما أقترب وعيناه تفتشان بين الوجوه .. وحين أقترب وقعت عيناه على مريم جالسة بجانب إيهاب تمسك بهاتف وتضحك وايهاب يبادلها الضحك بنفس الروح الخفيفة ..المشهد كان بسيطًا ظاهريًا لكن لدى زين أثار غصة مفاجئة وشعر بالضيق فى صدره .. فشد ع اسنانه وتقدم بخطوات سريعة اتجاههم .. اقترب منهم ووقف امامهما وانتبهت مريم ونظرت اليه وتبدلت ملامح وجهها بين الدهشة والمفاجئة .. قال زين بنبره حادة :
_ اتاخرتي قولت ادخل تكون حصلك حاجة وانا معرفش .
وقف ايهاب ونظر لمريم وقالت :
_ اعرفكم.. دكتور ايهاب مختار...زين
مد زين يده الى ايهاب وقال بنبره حادة :
_ اهلا دكتور ايهاب مختار.. مش محتاجة تعرفيني يا ميما انا عارفه كويس .
ابتسم ايهاب وتحدث بنبرة هادئه:
_ تعرفني ؟
تحدث زين بتهكم :
_ ايوه.. من زمان.. ومريم دايما تتكلم عنك ولوحاتك وفنك بالنسبالها محدش بيرسم غيرك تصدق كدا .
ابتسم ايهاب وقالت مريم:
_ سوري يا زين اخرتك .. انا خلصت عمومًا ..
_ لو عاوزة تقعدى شويا اقعدى.. اصل حضرتك متعرفش هى كانت بتحلم تقابلك فى الحقيقة ( نظر الى مريم) حلمك اتحقق يا ميما بس فى مصر .
ارتبكت مريم وامسكت يد زين وضغطت عليها لاسكاته ونظرت الى ايهاب :
_ زين بيحب يهزر .. عمومًا احنا اختارنا خلاص تمام.. عن اذنك .
تحركت مريم وهى تسحب زين بيده ووقف ايهاب ينظر اليهم وهما يغادران بنظرات تعجب ودهشة .. وصلا للخارج وسحب يده :
_ انتى بتسحبي بقرة ..
وقفت ونظرت اليه بغضب :
_ ايه اللى عملته جوه دا .. ايه الطريقة الرخمة دي ؟
نظر اليها بتعجب :
_ ايه دا .. ضايقتك لدرجاتي فى ايه يا مريم هو انتى اول مره تتعاملي معايا ؟
_ بتتكلم بطريقة ولا عامل اعتبار لقيمة ولا احترام الشخص اللى اول مره تقابله فى حياتك، وداخل بطريقة رخمة ..
_ مالها طريقتي ان شاء الله ..
_ طريقتك مستفزة واسلوبك مش اسلوب تعامل .. انا بقول ايه بص انا هروح لوحدى .
ساد التوتر المكان وعلت الاجواء غيمة ثقيلة بعد المشادة الكلامية التى وقعت بين زين ومريم .. كانت ملامح مريم مشدودة ونظرتها حادة ادارت وجهها وغادرت المكان بخطوات سريعة تحمل فى كل خطوة صدى من الغضب .. زين بقى فى مكانه ملامحه مشوشة بين الدهشة والصدمة لا يتحرك ولا يتكلم فقط الصمت يحيط به وهو يراها تبتعد مغادرة ..
ليلًا مريم تجلس فى الصالة فى منزلها امام طاولة الطعام وامامها صندق طعام مغلف .. تلف يدها حول صدرها وعيناها معلقتان بالصندوق كأنها تدور حوار صامت بينها وبين صندوق الطعام لاتخاذ قرار نهائي .. بملامح تردد تحاول أن تقنع نفسها بشئ ان تتخذ قرارًا لكن التردد يعطل اللحظة .. وفى خلف باب المنزل المقابل منزل زين علبة بيتزا موضوعة على طاولة الطعام لايجلس با يقف امامها .. يحدق بها طويلًا وكأنها تحمل إجابة لا يستطيع قرأتها يتنقل من المكان ذهابًا وأيابًا تملوة الحيرة والتردد .. فى منزل مريم تحدق فى صندوق الطعام وقالت :
_ مفيهاش حاجة ما انا ياما جيبتله سندوتشات كبدة وسجق بسبب ومن غير سبب مجتش ع المرادي ومش معناه انى بعتذر عادي يعني صح .. عادي ع فكرة ..
قالت لنفسها تلك الكلمات وبالفعل وقفت وتنفست نفس عميق وامسكت العلبه .. وفى منزل زين يعود الى الطاولة ينظر من جديد يضع يده على رأسه ثم فجأة دون أن يعطي نفسه فرصة للتفكير أكثر امسك علبة البيتزوا وبخطى حاسمة تحرك اتجاه الباب ..
فى اللحظة نفسها فتح كل من مريم وزين باب شقتهما ليجد كل منهما الاخر امامه وجهًا لوجه ، تلاقت نظراتهما فى صمت غريب ملئ بالدهشة والمفاجأة والصدمة .. كان كل منهما توقع حدوث شئ أخر فكان اللقاء هكذا غير متوقع .. اقترب زين ببطء وعينيه لا تترك يد مريم التى تحمل صندوق طعام لمح اسم محل الكبدة والسجق .. علم فورًا ان داخل الصندوق سندوتشات كبدة وسجق من المحل الذي اعتاد أن يشتري منه .. فكان سبب شراء مريم لسندوتشات الكبدة والسجق هو محاولة صادقة من مريم للصلح عما بدر منها صباح اليوم .. اما مريم فبقيت واقفة فى مكانها تنظر الى علبة البيتزا وابتسمت ابتسامة خفيفة ثم عادت تنظر الى زين فى صمت تنتظر أن يبدأ بالحديث .. تقد زين خطوتين اتجاهها وقال وهو ينظر الى علبه البيتزا :
_ كريم كان جعان وطلب اكل وكانت البيتزا دى زيادة وقلت بدل ما تبوظ خسارة اديهالك لو عاوزها تمام لو لا ارميها وشيلي ذنب انك رميتي نعمة ربنا .
ضحكت مريم ع طريقة زين ومدت يدها بصندوق الطعام :
_ مشطشين ع فكرة .
تبادلا الطعام ووقف زين وقال :
_ انتى اتعشيتي ؟
_ لا ..
_ طيب هنفرش ع السلم وناكل تعالى نطلع السطح
وافقت مريم وتوجها الى السطح ووضعا الطعام وبدأ ياكلان وكأن شئ لم يحدث وتحدث زين :
_ ع فكرة كان عادي انك تقوليلي انك جيبتي السندوتشات اعتذار مفيهاش حاجة .
نظرت اليه مريم وبنبرة تعجب :
_ يا راجل .. ع الاقل مقولتش حاجة احسن من انى ألف حوار من غير تفكير .. كريم طلب أكل .. كريم طلب اكل وهو فى القاهرة جاله اسكندرية .
_ وانتى ايه عرفك كريم فين ؟
_ بابا قالي ان كريم سافر المغرب القاهرة يا ناصح.. انتى ليه فاهم ان فى اسرار او حاجات بتتخبى فى البيتين دول .. الشقتين دول مفتوحين ع بعض يعني متحاولش حياتنا انا وانت أوضة وصالة .
شعر زين بالاحراج وحاول ان يتجاهله وقال ب اصرار :
_ برضه كان عادى لو كنتى اعتذرتي .
_ ماهو انت بتاكل الاعتذار اهو لكن انت المفروض تعتذرلي .
اشار اليها :
_ ماشاء الله خلصتي الاعتذار بزلومتك اهو ..
خبطته وضحكت :
_ رخم ودبش والله ... ع العموم متزعلش منى ع طريقتي اللى اتكلمت بيها بس ع فكرة بقى انت السبب .. تصرفاتك اللى بتخليني اقول كلام واعمل حاجات تضايق ..
ترك الطعام واستدار لها ونظر بتعجب :
_ يا سلام.. مبتكمليش الاعتذار وقلبتي الترابيزة ع طول وشيليتينى الغلط .
_ بذمتك انت غلطان ولا لا ..
_ لا ..
_ يا زين ..
_ ماهو انتى سيباني ملطوع برا اكتر من نصف ساعة ولما دخلت لقيتك قاعدة بتضحكي ولا هامك ان فى حد مستنيكي برا .
_ مين قالك ها .. وبعدين اتاخرت مش بمزاجي .. انت عارف المعرض اللى هيتعمل بعد بكرة واللوحات الناقصة عرضنا على ايهاب مختار يشارك معانا ووافق كتر خيره .
تحدث وهو يكز على اسنانه :
_ وافق يشارك فى المعرض مش فى الضحك معاكي .
_ احنا مكناش قاعدين بيحكيلي اتغدا ايه امبارح.. كنا قاعدين بنختار اللوحات المناسبة للمعرض من الصور اللى ع موبيله عشان يجيبهم بكرة معاه من بيته .
بعصبيه قال :
_وليه انتى تقعدى تختاري وكدا هو انتى الوحيدة انتم مجموعة ؟
_ كنت انا ومصطفي وحصله ظرف مشي وكان ايهاب مختار ادانا ميعاد وانا اعتمدت ع مصطفى والكل مشي ولما مشي هو كمان اضطريت اروح لوحدى .. وبعدين ايه كلامك دا محسسني انك قفشتنا مع بعض .. احنا كنا فى الكلية قدام كل الطلاب والدكاتره دا انت عجيب والله ( استدارت لتستكمل طعامها وامسكت الكاتشب لتضعه ع قطعة البيتزا وقالت ) اومال لو كنت روحت البيت عنده كنت عملت ايه دا انت عجيب بجد..
بحركة لا ارادية قام زين بدفع راسها لمست قطعة البيتزا والكاتشب وتلطخ وجهها :
_ كنت عملت كدا ..
صمتت مريم وبدأت تحاول ان تنظم انفاسها ولاحظ زين تحولها وبدء يتحرك من جانبها :
_ انا بقول كفاية اكل كدا عشان هنام والحموضة ..
قبل ان يتحرك وضعت مريم كيس الكاتشب كاملًا افرغته فى يدها وركضت خلف زين فى السطح تحاول ان تلطخ وجه بالكاتشب كما فعل وزين يحاول الهروب منها وهو يعتذر ويطلب منها العفو وهي اصرت على تلطيخ وجهه كما تلطخ وجهها وأمتلأ السطح بأصواتهم كانهم بمفردهم في عالم خاص بيهم .
فى اليوم التالي فى الجامعة احضر ايهاب مختار اللوحات واستلمته منه مريم وزملائها .. ذهب زملائها وقفت مريم لتشكره :
_ حقيقي بجد مش عارفين نشكرك ازاى انت بالنسبالنا طوق نجاة اتحدفلنا السنادى
_ اولا مفيش شكر بينا ثانيًا انا لو كنت اعرف ان دا بيحصل كنت شاركت معاكم من غير متطلبوا .
_ شكرا من قلبنا .
_ بس واضح ان المعرض مهم السنادى فى حاجة مميزة يعني ؟
_ سنة التخرج واخر سنة لينا ف حابين ننهيها بشكل مميز للدفعات اللى بعدينا .
_ جميل .. انا متأكد انه هيكون ممتاز لانك انتى وزملائك طبعًا اجتهدوا فيه .
ابتسمت مريم :
_ ومشاركة حضرتك اكيد مميزة هتفرق معانا ..
_ كنت عاوز اعتذرلك ع سوء الفهم اللى حصل امبارح
_ مش فاهمة سوء فهم ايه ؟
_ لما كنا قاعدين بنختار اللوحات وزين صح.. زين جه.. مكنتش اعرف انك مرتبطة .
قالها وتفاجئت مريم بكلماته وضحكت :
_ مرتبطة .. بمين ؟ انا وزين .. لا لا مفيش حاجة زي كدا .. زين دا من العيلة متربين مع بعض من صغرنا .
_ بس دا ميمنعش يعني يكون فى ارتباط .
ضحكت:
_ لا في .. احنا الاتنين اخوات بالرضاعة او معني اصح انا اخته بالرضاعة ف احنا اخوات .. فلو تقصد ع تصرفه وطريقة كلامه.. هو زين طبعه كدا بينفعل بعدين يفهم وانا بصراحة كنت سايباه يستناني كتير وهو خلقه ضيق زهق فطلعوا وقتها .. انا اللى بعتذر حقيقي لو ضايقك.
ضحك ايهاب:
_ لا ابدًا .. بس حسيت ان وجودي ضايقه.. وجودنا مع بعض لوحدنا رغم اننا كنا فى الكلية ومكان عام وكنا بنختار اللوحات .
_ رد فعله بس من خوفه عليا بقولك احنا من صغرنا مع بعض فى كل حاجة .. بجد اتمنى متكنش زعلان منه .. لو تعرفه كويس هتحبه جدًا بجد.
ابتسم ايهاب:
_ لو ظروف جمعتنا نتعرف ع بعض ان شاء الله .
_ ان شاء الله .. عن اذنك .
يوم المعرض :
كان المشهد فى ساحة الجامعة ينبض بالحيوية والدفء .. زينت الجدران الخارجية ببالونات ملونة ويافطات كتبت عليها عبارات ترحبيبة بخط اليد تحمل عناوين ( معرضنا الخيري ..لوحتك تترك أثرًا ) .. ع طول الممر نصبت طاولات خشبية بسيطة عرضت عليها لوحات من مختلف الانواع بعضها بريشة طلاب موهوبين وبعضها الاخر كان تبره به دكاتره ومنهم ايهاب مختار.. كانت كل لوحة تحمل بطاقة صغيرة عليها اسم الفنان وسعر رمزي .. الطلاب كانوا يتجاولون بين اللوحات بعضهم يتأمل بدهشة وأخرون يلتقطون الصور ووجوههم مفعمة بالإعجاب .. هناك ركن صغير يقدم فيه متطوعون شاى وكعك منزلي لمن يشتري لوحة فى محاولة بسيطة لخلق جو ودي دافئ .. واكثر ما لفت الانتباه فكان الحماس الصادق فى عيون مريم والمنظمين وابتسامات الرضا التى ارتسمت على الوجوه لم يكن لهم مجرد معرض فني بل لحظة تعاون جميلة جمعت القلوب على حب الكلية وروح العطاء ..
فى قلب المعرض وقفت مريم وسط الزوار تنقل بين اللوحات بحيوية لافتة ..كانت تتحدث بثقة وأحتراف ..تشير الى تفاصيل كل لوحة وكأنها تحكي قصة من عالم آخر .. عيناها تلمعان بشغف ويديها تتحركان بانسجام مع كلماتها تضيفان الى الحديث طابعًا فنيًا جذابًا .. تجمع حولها عدد من الحضور انجذبوا لطريقتها فى العرض واستجابوا لإحساسها الصادق بالفن .. ومع مرور الوقت بدأت اللوحات تباع واحدة تلو الاخرى وفي كل مرة تباع فيها لوحة كانت مريم ترفع يدها بإشارة النصر تجاه زملائها ووجهها يضئ بفرح طفولي صادق .. المشهد كله كان ملئ بالحيوية والنجاح..
كان ايهاب مختار يقف مع مجموعة من المدرسين فى احدى الزوايا البعيدة يتابعان المعرض فى هدوء وسط احاديثهم البسيطة .. كانت اعينهم تتابع الزوار وهم يتجولون بين اللوحات لكن عين ايهاب كانت تسرح فى مكان آخر كان يراقب مريم عن كثب وهو يراها تتنقل بين الزوار تتحدث بحماس وتشرح بكل حيوية تفاصيل اللوحات .. ابتسامتها كانت مشرقة وجهها يعكس شغفًا حقيقيًا بما تفعل .. ابتسم بهدوء وهو يراقبها وتلك الابتسامة كانت تحمل بين طياتها اعجابًا مخفي احتفظ به لنفسه واستمر فى مشاهدتها عن بعد ..
بعد مرور وقت ومع انشغال الجميع بالمعرض ذهبت مريم للحصول على كوب شاى دافئ ووقفت تنظر الى المعرض بعيون سعيدة.. اقترب اليها ايهاب بهدوء ثم ابتسم بلطف :
_ نقول مبروك ع نجاح المعرض ..
بادلته مريم الابتسامة وهو حصل ايضا ع كوب شاى :
_ الله يبارك فيك .. المعرض جميل صح
قال ايهاب وهو مبتسم:
_ جدًا بصراحة.. انا كنت عارف انه هيكون جميل لكن بالشكل دا لا دا اكتر من رائع.
_ الحمدلله انه عجبك وعجب كل الحاضرين .
_ ماشاء الله عليكي بعيتي اللوحات كلها مفضلش غير لوحة .
_ ايوة..
_ لو ممكن اشتريها انا باى مبلغ هتقوليه ؟
_ لا ماهي اتباعت يعتبر .. زين هياخدها .
_ هو جاى ؟
_ لازم زين يحط البصمة بتاعته فى المعرض، مفيش مناسبة ليا هو مش موجود فيها .. هو فى مشوار مع باباه وجاي .
_ جميل فرصة نشوفه ونتعرف عن قرب غير المرة اللى فاتت .
_ ايوه فعلًا ..
_ انتم عندكم مطعم .
صمتوا للحظات وقالت مريم بحماس :
_ لوحاتك اول لوحات تتباع بسعر تحفة حقيقي اول ما شافوا اسمك قفشوا فيها قولت ياريت اللوحات كلها كانت بتوعك كنا قفلنا المعرض بدري .
ضحك ايهاب ومريم ايضا وقال :
_ فكرة هبقى افكر فى الحوار دا اعمل معرض خيري بلوحاتي بدل ماهما مركونين فى البيت سواء هنا او ايطاليا .
_ ازاى مركونين انا مش فاهمة .. لوحات ايهاب مختار تتركن .
_ لانى مبدهاش لاي حد لازم يكون شخص يقدر اللوحة والفن واللى جوه اللوحة .
_ صح.. انا كمان لما اعمل معرض هعمل كدا لان الاهم من انى ارسم اللى هياخد الرسمة هيعمل بيها ايه لانها مش مجرد رسمة دا وقت وطاقة ومشاعر موجودين بين ايديه .
ابتسم ايهاب :
_ انا متوقع انك هتكوني فنانة كبيرة فى يوم .
_ ياااه .. لو دا حصل والحظ لعب معايا هنفذلك اى طلب .
_ اى طلب ؟
_ اكيد لو فى مقدرتي هعمله .
_ خلاص اتفقنا وانا كدا اخدت منك وعد .
_ وعد ..
دخل زين المكان بحذر وعيناه تبحثان عن مريم وسط الحضور ..كانت الاجواء اكثر هدوء عن قبل والزوار يتنقلون بين اللوحات بينما ينساب صوت الحديث الخفيف فى المكان لكنه لم يكن مهتمًا بكل هذا .. كانت عيناه تبحثان ع مريم فقط حتى وجدها واقفة بجانب ايهاب يتبادلان الحديث والضحك مرة اخرى .. ظل ينظر عليهما ويشاهدهما شعر بغلظة فى صدره تضايق بشدة واختلطت مشاعره بين الغضب والغيرة .. لم يكن قادرًا على تحديد شعوره تمامًا لكن تلك النظرة التى تبادلها ايهاب لمريم أثارت فى قلبه شيئًا لم يستطيع فهمه ,, اغمض عيناه قليلًا حتى يهدأ ويذهب اليهم وولتجنب حدوث اى تصادم .. فتح عيناه ونظر الى ايهاب بنظرة حادة مليئة بالاستياء وكأن الغضب يشتعل داخله لكنه يحاول كتمه .. كانت يده مشدودة داخل جيبه وكأن ضيق صدره يزداد مع كل ثانية .. للحظة ثبت عينيه على مريم اخذ نفس عميق ليهدأ كانت هناك رغبة قوية فى الابتعاد عن التوتر .. بخطوات ثابته بدأ زين يتحرك نحوهم .. كان يحاول أن يبدو هادئًا رغم قلبه الذي ينبض بسرعة كان يحاول أن يطرد مشاعر الغضب التى كانت تتصاعد بداخله ويضع كل تركيزه على مريم ومشاركتها فرحتها بالمعرض كما العادة .. لمحته مريم :
_ زيزو ..
اقترب والقى السلام ومد يده ايها وب ابتسامة :
_ اهلا يا زين .
_ اهلا يا دكتور ايهاب .
_ لا مفيش دكتور .. اعتبرني زي مريم واصحابها .
_ اها .. فرصة سعيدة ..
_ انا الاسعد .. طيب انا هسيبكم براحتكم .. مبروك لنجاح المعرض يا مريم .
_ شكرًا
تركهم وابتعد خطوات وخبطت مريم كتف زين:
_ كل دا تأخير كنت فاكراك هتكون معايا من بدري .
_ يعني بتضربي وتزعقي وانتى عارفة اللى فيها .. كنت مع حودا بيعمل تحاليل المتابعة وخلصت وصلته للمعرض وجيت جري .
_ جيبت الفلوس طيب .
_ ايوه معايا ..
_ طيب تعالي معايا تاخد اللوحة هي اللى فاضلة .
_ تمام يلا .
ابتعدت مريم وقبل ان يلحق بها زين استدار لينظر الى ايهاب الذي كان واقفًا مع احد الموجودين ويتحدث معه بهدوء .. نظرات زين كانت حادة مليئة بالغضب والغيرة