رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الرابع عشر
في صباح يوم جديد، استيقظت ترنيم من نومها، محاطة بأجواء منزلها المألوف الرائقة، حيث كانت أشعة الشمس تتسلل برفق عبر الستائر، مرسلة خيوط ذهبية إلى زوايا الغرفة. نظرت حولها بدهشة، مُدركة أنها في غرفتها، حيث كانت تعيش مع ذكرياتها وآلامها. تذكرت أنها بالأمس كانت جالسة على الدرج، تتحدث مع سلطان، ثم فجأة، ذهبت الذاكرة في غياهب النسيان، كأنها كانت في حلم مروع. هبطت دمعة عفوية من عينيها، لكنها سرعان ما مسحتها بأناملها برفق، كما لو كانت تحاول مسح آثار الألم من روحها. ثم استقامت بجسدها وانطلقت بالخارج، ناظرة إلى والدتها بابتسامة حذرة، مفعمة بالمشاعر المتضاربة، وقالت:
“صباح الخير يا فوفه، وهو أنا جيت أوضي إزاي؟”
نظرت لها وفاء بحزن، وأجابت بصوت يملؤه الأسى:
“سلطان هو اللي جابك يا بنتي بعد ما اغمى عليكي على السلم. وكان قلقان عليكي جداً.”
أومأت ترنيم برأسها، وقالت بابتسامة حزينة:
“ماشي يا فوفه، فيه ممبار اللي طلبته امبارح ولا خلص؟”
أجابتها فوفه بابتسامة حنونة:
“فيه يا حبيبتي، شايلة ليكي في التلاجة.”
كان صوت فوفه يشبه العناق الدافئ، يشعر ترنيم قليلاً بالراحة وسط العواصف التي تحيط بها.
قبلت ترنيم وجنتها بابتسامة، ثم توجهت إلى المرحاض. وعندما أغلقت الباب، استندت بظهرها عليه، ونظرت أمامها بحزن، كأنها تحاول التقاط شظايا كيانها المكسور، وتنهدت بوجع يعتصر قلبها، تشعر أن كل نفس تأخذه كان عبارة عن صراع. وبعد فترة، خرجت، ارتدت ملابسها، ثم مشطت شعرها بحركات بطيئة، وكأنها تحاول إحياء جزء من نفسها الذي فقدتها. وعندما ألقت نظرة على إنعكاسها في المرآة، ارتسمت ابتسامة حزينة على وجهها، واسترجعت في ذهنها ذكريات جميلة اختلطت بألم الفراق, ثم خرجت من غرفتها متجهة إلى المطبخ، حيث كانت وفاء تحضر لها الطعام، شعرت بلحظات الألفة توحدهما برغم ما تمر به.
قبلت خدها وقالت:
“أنا همشي بقى يا فوفه علشان اتأخرت.”
أعطتها والدتها الطعام المغلف، وقالت:
“خدي دول معاكي يا بنتي، خلي بالك من نفسك.”
أخذت ترنيم الطعام منها، وقبلت يدها بحب واحترام، لكن عندما فتحت الباب، وجدت سلطان ينتظرها في الخارج. أغلقت عينيها بضيق، وكأنها كانت تأمل أن يكون مجرد إخفاء لواقعها. وتحدثت بصوت مختنق:
“واقف كده ليه يا سلطان؟”
شعرت برغبة قوية في الهروب من عيونه التي تراها بمزيج من الشغف والخوف.
رد بنبرة همسة:
“مستنيكي تطلعي علشان لو كنت دخلت، مكنتيش هترضي تخرجي من اوضك.”
كان صوته يختلط فيه القلق بالتصميم، وكأنه كان يقول لها:
“أنا هنا، ولن أتركك وحدك أبداً.”
زفرت برغبة في التخلص من الموقف، وأخذت تتحدث بنفاذ صبر، كأن كل كلمة تتفجر من روحها المثقلة بالهموم:
“كفايه يا سلطان، شغل المراهقين ده. قولتلك علاقتنا مستحيل ترجع تاني، انت خلاص بقى ليك حياتك بعيد عني، خليني اشوف حياتي أنا كمان بعيد عنك.”
كانت الكلمات تخرج منها كصراخ مكتوم، تتردد في الفضاء حولهما، وكأنها تطرد معه كل ذكريات الود والمحبة التي كانت تربطهما. لم تعد ترنيم تلك الفتاة السعيدة التي حلمت بحب دائم، بل كانت امرأة قوية في مواجهة رجل اعتقد أنه قادر على السيطرة على مصيرها.
أمسك سلطان ذراعها بغضب، وتحدث من بين أسنانه بلهجة تحملت الكثير من التوتر:
“حياتك معايا أنا يا ترنيم، ومش هسمحلك تبعدي عني مهما حاولتي. انتي بتاعتي أنا، كل حتة فى جسمك عليها بصمة أيدي، يعني كل حته فيكي تخصني، أنا مرضتش اقرب منك لما جيتي وعرضتي عليا نفسك، علشان كنت واثق أنك هتبقي في حضني يوم من الأيام. بس، صدقيني، لو فضلتي ماسكة على كلامك ده، ساعتها هخد منك حقي، وهتبقي بتاعتي برضاكي أو غصب عنك.”
كانت نبرته تهتز بين الحب والامتلاك، وكأنما يحاول إقناعها بأن قلبه لا يزال لها، رغم كل ما حدث. لكن في أعماق ترنيم، كانت مشاعر الاستقلال تزداد قوة، وتتمرد على كل ما قيل.
دفعته بقوة، ومن قلبها المحتدم، تحدثت بغضب كالعاصفة:
“بس كفااايه! ازاي مكنتش شايفه حقيقتك القذرة دي. أنا لما جيت أسلمك نفسي، كنت مصدقة أنك بتحبني بجد. كنت مفكرة أن حياتي معاك وانك ليا لوحدي، كنت عايزة أعمل كدة علشان أضمن وجودك جنبي، مكنتش لسه أعرف حقيقتك، بس الحمد لله أنه ما حصلش بينا حاجة، ربنا كشفك قصادي قبل فوات الأوان. ابعد عن طريقي يا سلطان، ركز مع مراتك وبنتك، دول دلوقتي أحق بيك، مع أنك مش محتاج توصية عليهم، أنت شايف واجبك معاهم وزيادة ماشاءالله، امشي يا سلطان، علشان أنا لو متقبله وجودك دلوقتي في حياتي، عمايلك دي هتخليني أمحيك خالص منها وكأنك مكنتش موجود، أنا لحد دلوقتي باقيه على شخص رباني وكبرني وكان بيهتم بيا في يوم من الأيام.”
كان كل حرف من جملتها كالسيف الحاد، يجسد الشجاعة التي اكتسبتها لمنع أي محاولات للعودة إلى ماضي كانت قد قررت أن تتركه خلفها.
امسك سلطان يدها وتكلم بترجي، كأن كل ألوان الفشل قد تجلت في عينيه:
“ترنيم، سامحيني. طيب، هقولك حاجة. تعالي نتجوز، وأطلق فريدة، ونربي أنا وانتي. رنيم، مش انتي حبتيها؟”
ولكن كان نداءه كأغنية حزينة تعزف آلام الفراق. فقدت ترنيم القدرة على تصديق وعوده، وبدأت تدرك أن الحب الحقيقي لا يتطلب من المرء أن يتخلى عن عائلته أو مبادئه. كانت هذه اللحظة تعبيرًا عن الصراع بين الحلم والواقع، وبين الرغبة في الاستمرار والاعتراف بنهاية القصة.
لم تُدرك ترنيم إلا ويدها تضرب وجه سلطان بقوة، وكأن هذه اللحظة كانت تجسد كل الألم الذي احتفظت به في قلبها. تكلمت بشفاه مرتعشة من شدة الألم:
“ده علشان يفوقك يا سلطان. سبق وقلتلك، أنا تربيتك أنت، قلتلك خاف من ردت فعلي، بس استهترت بكلامي.”
كان صوتها يخرج محملاً بمزيج من الغضب والندم، وكأنها تلقي بحمولة ثقيلة من المشاعر على كاهلها.
“خلتني أعمل حاجه مكنتش أتخيل أني أعملها.”
وتابعت بصوت ضعيف، لكن مفعم بالعزم، “ابعد عن سكتي يا سلطان، علشان انت دلوقتي بتتعامل مع واحدة قلبها مكسور، وانت اللي كسرته بأيدك، ومش باقيه على حاجة في الدنيا.”
مع اختناق الكلمات في صدرها، أنهت كلامها وتحركت سريعًا مبتعدة عنه، وكأنها تنتقل من زاوية قاسية إلى حلم مفقود تحاول أن تنساه.
وقف سلطان مكانه، عينيه متجمدة، محمرة من شدة الغضب. في تلك الأثناء، داخله بركان على وشك الانفجار، سيدمر عالمه بأسره. كان الصمت يجلد أذنه حينها، حيث استشعر كل شيء حوله كما لو كان قد انغلق في صندوق مغلق. أغلق قبضتيه بقوة، وتحرك بسرعة نحو الأسفل، يدمر كل شيء أمامه، ويحرق الأخضر واليابس. في لحظات قليلة، تمنى لو كان قادراً على استعادة كل الكلمات التي قالتها، العودة إلى نقطة البداية، قبل أن تتفجر هذه المشاعر المؤلمة إلى هذا الحد. لكن يبدو أن الأوان قد فات، وأن توازنه قد انزلق بشكل لا يمكن معالجته.
**************************
تحركت ترنيم بالسيارة بسرعة جنونية، وكانت الدموع تتسابق على خدّها، متساقطة بألم شديد. شعرت بأن الفوضى داخلها تتضخم مع كل لحظة تمر، حيث تعالت شهقاتها محاولةً التغلب على أصوات الضجيج التي كانت تحيط بها، كأن العالم كله يصرخ في وجهها. وفجأة، أوقفت السيارة بقوة، ورمت بنفسها إلى الأمام، وأسندت رأسها على المقود، ملاصقةً جبينها للزجاج البارد بينما كانت تنتحب وتبكي بحرقة، وكأن دموعها كانت تجرف معها كل مشاعر الحزن والألم التي كانت تخزنها منذ فترة طويلة. كانت تشعر بأن الفوضى من حولها تتلاشى مع صرخاتها، لكن الشعور بالاستسلام كان يسيطر عليها، وكأنها تقف على حافة الهاوية حيث لا يوجد مكان للعودة.
ثم دوّت ضجة فتح الباب، وحين التفتت بجوارها، اتسعت عيناها بصدمة، وكأن أحدهم قد أتى من عالم آخر. كان هناك شخص يجلس بجانبها، فاجأها حضوره الغامض، وكأن الحظ قرر أن يجلب لها المزيد من التعقيدات. تجمعت الكلمات في حلقها، وتحدثت بصوت محشرج من كثرة البكاء:
"أنت!"
لكن لأنها كانت بحالة من الانهيار، لم تفهم إن كان وجوده مُنقذًا أم مسببًا لمزيد من الكارثة. دون أن ينظر إليها، تحدث بنبرة أمر:
"أمشي."
نظرت له بعدم فهم واستغراب، وقالت: "نعم!"
كأنها تبحث عن طريقة لفهم ما يحدث في عالمها الفوضوي.
نظر إليها بعينيه المخيفتين، وكأنما يراها من خلف شاشة زجاجية عاكسة، وأعاد عليها تلك الكلمة:
"امشي."
تغلبت عليها نوبة من الغضب المنفجر وسألت بصوت مختنق:
"انت مجنون؟ انزل من عربيتي."
أحس بالرغبة في إغلاق الباب على هذه الحوارات الضبابية. أغمض عينيه بفعل نفاد الصبر، وحرك رأسه محاولاً الاسترخاء فيكرّس تركيزه فقط على الطريق المظلم أمامه. ثم، بحركة مفاجئة، أمسكها من خصرها وحملها بذراعه، مبتعداً قليلاً ليضعها بجواره، ثم توجه إلى المقود وكأن السكون الذي أصاب السيارة بعد تعامله معها قد أضفى نوعًا من الهدوء المؤقت.
صعقت من تصرفاته وضربته بيدها الصغيرتين على ذراعه، متحدثة بغضب:
"انت مجنون! مش طبيعي، على فكرة انزل من عربيتي بقولك."
لكن بينما كان يقود السيارة، تحول تركيزه عنها وفضل الصمت، كأنه كان يحاول إطفاء نيران النقاش بينما كانت مشاعرها تتضارب في فوضى، بين الغضب والاضطراب والخوف من المجهول.
ضغطت على أسنانها بغضب، وسعت جاهدة لإيقاف السيارة، لكن دون جدوى. عقدت ذراعيها على صدرها في نفاد الصبر وهي تتحدث، إذ كانت المشاعر تتأجج داخلها كبركان على وشك الانفجار:
"وادي زفت قاعدة لما أشوف أخرتها معاك، إيه بني آدم مختل."
شعرت وكأن العالم من حولها يتلاشى، وكانت تفكر في الطريقة التي يمكن أن تسيطر بها على هذا الجنون، لكن كلما حاولت أن تقنعه بالتوقف، زادت سرعته وكأنما هو في سباق مع الزمن. ضغط على الفرامل بشكل مفاجئ مما أحدث صوت احتكاك شديد للإطارات بالأرض، مما جعل قلبها يرتجف من الخوف. نظرت له بخوف وهتفت بصوت مرتعش:
"ه هدي السرعة شويه يا مجنون انت، العربية هتتقلب بينا."
كانت تأمل في أن يستوعب خطورة الموقف، لكن بين عينيه لم يكن هناك سوى شرار جنون.
تجاهل صوتها المرتعش، وضغط أكثر كأنه يقود طائرة تحلق في سماء مليئة بالعواصف، غير مبالٍ بمن حوله، ولا بالمصير المريع لسائقته التي كانت تموت من الرعب. شعر أنه في حالة هروب من واقع مفزع، وكان يقاتل رياح التغيير دون أن يدرك عمق الفوضى التي يسببها. بينما كانت دموع الخوف تلمع في عينيها، ظن أنها مجرد ضوضاء غير مهمة في عالمه المظلم.
أوقف السيارة بشكل مفاجئ، مما جعل ترنيم ترتد إلى الأمام وتضرب رأسها، ألتقطت أنفاسها بصعوبة ثم نظرت له بغضب، قائلة:
"يا حيوان يا مختل، انت بجد مش طبيعي."
كان بإمكانها أن تشعر بتجمد الوقت بينما كانت تتوجه نحو الغضب وكأنها تصدت للعبث، تشتعل كعود ثقاب مهدد بالانطفاء. ترجل من السيارة وتوجه نحو الباب، وأمسك بذراع ترنيم، مجبراً إياها على النزول والتحرك معه كأنما كان يحاول أن يجرها إلى عالم مظلم لم تستعد له.
حاولت التملص منه لكنه أمسك ذراعها بقوة، كما لو كان يحاول تأمين سيطرته على شيء ثمين لكنه كان في الحقيقة يؤذي نفسها. صرخت فيه بغضب:
"ا انت وخدني فين؟ سيب دراعي يا مجنون، خليني أمشي، أنت يا حيوان رد عليا."
سرت رعشة في صوتها، لكنها كانت تحاول إخفاء خوفها بفخر زائف. صرخ بها بغضب جعلها تنتفض:
"اخرسي، وحطي لسانك جوه بؤك، إيه راديو وانفتح."
كانت الكلمات تتسلل من بين شفتيه كالصواريخ، وانتابها شعور عميق باليأس، إذ بتلك اللحظة أدركت أنها في مأزق أكبر مما كانت تتخيل. ابتلعت ريقها بصعوبة وتلعثمت:
"ا انت عايز مني إيه ووليه جايبني هنا؟"
كان عقله يغلي من الهياج، بينما كانت الشكوك تكتسح قلبها.
أدخلها في مكان مثل الكهف مظلم، حيث بدا كل شيء غامضاً، وأغلق الباب خلفه بشدة كأنه كان يغلق على أسرار لا ينبغي لأحد أن يعرفها. ثم نزع سترته ليظهر السلاح الموضوع خلف ظهره، وأخذ نفسًا عميقًا كما لو أنه يستعد لمواجهة خاصة. جلس على المقعد ونظر إليها بصمت، مما زاد من حدة التوتر بينهما. ارتعبت عندما رأت السلاح ونظرت له بخوف عميق:
"ر رد عليا لو سمحت، أ أنا أصلاً عارفه انت مين و وبتعمل إيه هنا في مصر بس مش فاهمة عايز مني إيه، أ أنا معملتش ليك حاجة."
وضع قدمه فوق الأخرى، وتحدث بتساءل كما لو كان يُلقي بها إلى دوامة من الهواجس:
"امم... تعرفي عني إيه بقى؟"
ابتلعت ريقها بصعوبة مرة أخرى، كان لسانها يتعثر في فكرتها وهي تحاول أن تجمع أفكارها المشتتة:
"ا اسمك غ غريب ضرغام، و انك أخطر قناص في العالم، ووجودك في أي مكان يشكل خطر على الموجودين فيه، و وانك من تركيا أصلاً."
انفصلت كلماتها بحذر كما لو أنها تفكر في مدى خطورة الكلمات التي تتحدث بها، بينما كان الخوف يتسلل إلى قلبها كالسم.
أشعل سيجارة ونهض من مقعده، وضع المشروب في الكأس الكريستالية، ثم عاد للجلوس تحت ترقب ترنيم. كانت الغرفة مغطاة بدخان السجائر، مما جعل الأجواء أكثر كثافة. ارتشف منه قليلاً وزفر دخان السجائر في الهواء، متسائلاً بنبرة غير عادية:
"انتي إيه علاقتك بـ عبدالرحمن وتامر عبدالرحمن؟"
نظرت له باستغراب، شعرت بأن أسألتة تتعمق في حياتها الشخصية، فأجابت:
"عم عبده، ي يبقى جوز ماما، وتامر يبقى أخويا، بس انت بتسأل عليهم ليه!؟" استبدل نظرته الغامضة بأخرى صارمة، ثم رد عليها بنفس النبرة:
"وسلطان الدسوقي؟"
تجمعت الدموع في عينيها، وكأنها أحست بثقل السؤال، فراحت تسأل بقلق: "ماله؟"
نهض من مقعده وسألها بشدة، مما جعلها تشعر بالتوتر:
"علاقتك بي إيه؟"
أجابت بصوت مختنق، متضايقة من الاستجواب:
"ابن خالتي."
رد بغضب، كمن يشعر بأن هناك شيئًا غير مألوف في الإجابة:
"بس، ابن خالتك بس؟"
زفرت بضيق، وأشاحت بنظرها بعيدًا، ثم تحدثت في نفاد صبر:
"ممكن أفهم فيه إيه بدل ما انت عمال تستجوب فيا وكأنك وكيل نيابة؟"
ضغط على أسنانه بغضب، وكأن الكلمات لم تكن كافية ليشبع فضوله، فقال:
"ردي على سؤالي، سلطان الدسوقي علاقتك بي إيه غير أنه ابن خالتك."
ابتلعت غصة في حلقها، وتكلمت بصوت مختنق، ووضعت يدها على صدرها كأنها تكمن على قلبها:
"هو اللي مربيني، وكان خطبني، وفرحنا كان من كام يوم، بس محصلش نصيب."
نظر لها بعمق، كأنه يحاول قراءة مشاعرها، وتحدث بتساءل:
"بس؟"
حرّكت رأسها بعدم فهم، وشعرت بارتباكها يؤثر عليها:
"يعني إيه بس؟"
أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه بهدوء، كأنه يجمع أفكاره قبل أن يتحدث، ثم قال:
"يعني علاقتكم كانت مجرد خطوبة وبس؟"
أغلقت عينيها بوجع، وانهمرت منها الدموع، وكأن كل ذكرياتها الماضية ظهرت أمامها دفعة واحدة:
"لا، كان هو كل حاجة ليا في الدنيا..."
اقترب منها ببطء، ومسح دموعها بأنامله برقة، وكأن لمساته كانت محاولة لفهم عمق جراحها، وسأل بتساءل:
"كان؟ معنى كده أنه بقى مجرد ماضي."
أبعدت رأسها وتراجعت إلى الوراء في شعور بالعجز، متحدثة بضيق:
"لو سمحت، ممكن أعرف انت عايز مني إيه؟"
كان صوتها يحمل مزيجًا من الخوف والارتباك، وأسئلة لم تُطرح بعد تعكس عواطفها المضطربة.
جلس على المقعد، وضع قدمه فوق الأخرى، وتحدث بنبرة جادة، مثيراً قلق الغرفة:
"سلطان يخصني، ومحتاجك تسلميه ليا. كده كده الشرطة هتقبض عليه."
اتسعت عيناها بصدمة، وكأن كلمات الرجل كانت صاعقة كهربائية، وخافت:
"س سلطان!! ا انتوا مين، و عايزين سلطان ليه؟ والشرطة هتقبض عليه ليه فهمني؟"
كان الرعب في صوتها واضحاً، وكأن كل مخاوفها تجسدت في هذه اللحظة، متمسكة بأمل أن تكون الأمور أبسط مما تبدو.
رد عليها بصوت جاد، بنبرة لا تقبل النقاش:
"احنا مين ميخصكيش! أما بقى الشرطة هتقبض عليه ليه؛ ده لأنه بيستخدم تجارته ستارة لأعماله المشبوهة. اللي هو شغلنا اصلا، أنا كان ممكن أوصله بطرق كتير، بس قلت تيجي منك أحسن."
كان صوته حالكاً كظل داكن، مثلما كانت الحقيقة التي ألقاها مثل جرعة سم في جسدها. كان واضحاً من ملامحه أنه يعرف أكثر مما يخبرها، وأن هناك عالماً مظلماً يتخفى خلف أقنعة الأشخاص الذين تعتقد أنها تعرفهم.
حركت رأسها بدموع رافضة لما قاله وتحدثت بصوت مختنق، مشبعة بالأمل واليأس معاً:
"لا، مستحيل سلطان يعمل كده، أنا متأكدة أن الموضوع فيه حاجة غلط، سلطان بيكره الشغل المشبوه ده أصلاً، يبقى إزاي يعمل كده؟"
أومأ برأسه مؤكداً، وكأن كل شيء أمامه كان واضحاً تماماً:
"عارف، بس رجله موجودة في الشغلانة برضاه أو غصب عنه. يا أما كده، يا يشرف جنب حبايبه. وعندي حقايق كتيرة اوي عن أهلك."
كلماته كانت تسجل علامة حادة في قلبها.
تعالت أنفاسها بشدة، وجلست على أقرب مقعد، لم تحتمل قدميها على الوقوف أكثر من ذلك، فكأن الأرض تدور من تحتها. وتحدثت بصوت مختنق وحزين، حاملة عبء عواطفها:
"ارجوك، متأذيش سلطان، مش هقدر أشوفه بيتعذب، ابوس رجلك، سيبوه في حاله."
كان وجهها يحمل تمنيات حقيقية، وكأن كل كلمة تسقط من شفتيها كانت تضج بالخوف من فقدان من تحب، وكأنها كانت تدرك أن هذه اللحظة قد تكون الأخيرة.
اقترب منها بغضب وهمس في وجهها، مما زاد من توتر الأجواء:
"لدرجاتي بتحبيه بعد ما ضحك عليكي وطلع متجوز من سبع سنين وعنده منها بنت."
نظرت له بعينيها الدامعتين، ولمعت عواطفها كنجوم بين الغيوم:
"اه، لسه بحبه، وعمري ما هحب غيره."
ضغط على أسنانه بغضب وابتعد عنها، سار خطوات إلى الوراء مثلما تنحسر العاصفة، وأعطاها ظهره، وتحدث بنبرة حازمة، كأنما عزم على إصدار أوامر صارمة:
"اللي قُلتلك عليه تنفذي، تقدري تمشي." كادت أن تتكلم، لكن أشار بأصابعه لها بتحذير، يشي بقدره الجدي:
"مش عايز أسمع حرف واحد، امشي." نظرت له نظرة مطولة وكأن الزمن توقف لحظة، ثم تحركت نحو الباب وخرجت سريعاً، متمسكة بشجاعة قلبها.
نظر إلى أثرها بغضب، فقد كان انفعاله يتجاوز الكلمات؛ أمسك بكأس المشروب وألقاه بشدة على الأرض، فاندلعت شظايا الزجاج في كل مكان، كأنها تعبير عن حالة الفوضى الداخلية التي يعيشها. كان الغضب يتداخل مع الإحباط، تاركاً وراءه علامة واضحة على ما تخفيه القلوب من مشاعر متشابكة، وهي تعبر عن الصراع القائم في عالم مظلم يبشر بنهاية مأسوية محتملة.
***************************
بالمساء...
عادت ترنيم إلى المنزل، غائبة تمامًا عن الواقع، تفكر في كلمات غريب لها تدور في ذهنها، وكأنها تُحاصر بأفكار لا تستطيع التخلص منها. شعرت وكأن الأثقال تتعاظم عليها، مثل أكياس رمل تثقل كاهلها، وتتساءل كيف ستتعامل مع كل هذه الأمور التي تتصاعد في حياتها. لكن سرعان ما تذكرت سؤالًا غريبًا عن زوج والدتها وأخيها، والذي كان يعكر صفو تفكيرها. تحركت مسرعة نحو الدرج، لكن سلطان أوقفها، وجهه محتقن من الغضب، وأمسك بذراعها بقوة، مجبرًا إياها على التحرك معه وكأنه يجرها نحو مصير لا مفر منه. دخل بها شقة والدته تحت نظرات الصدمة من الجميع، كانت عيونهم تمتلئ بالقلق والترقب، حاولوا إيقافه، لكنه كان كالثور الهائج الذي لا يمكن إيقافه. دلف بها إلى غرفته وأغلق الباب جيدًا من الداخل بالمفتاح، وتركها عالقة في عالم من القلق والفوضى، وكل ذلك تم تحت صمت واستسلام ترنيم لما يحدث، وكأنها توقفت عن النضال. ألقى بها على السرير، وتحدث من بين أسنانه المتجهمة، غاضبًا: "بقى بتمدي إيدك عليا يا بت الطلبجي! أنا هعرفك دلوقتي إنتي بتاعة مين يا ترنيم."
نظرت إليه بضعف ووهن، ظلت صامتة، وهذا الهدوء الذي تملكها أثار فضوله وقلقه، كأنه سر بداخله يسعى لكشفه. اقترب منها، تغلب قلبه المحب على غضبه الدفين، وبدلًا من أن يؤذيها، احتضنها بكل قوته، وكأنّه كان يحاول أن يقدم لها حبل نجاة في بحر من العواطف الجارفة. كان ذلك تحت استسلامها التام، وكأن الحياة قد فارقتها، كأنها تخلت عن كل ما كان يجمعها بالعالم الخارجي. ابتعد عنها مائلًا برأسه، كاد أن يقبلها، ولكنه شعر بتغير في تعبير وجهها وادارته الاتجاه الاخر، وانهارَت دموعها التي كانت مخبأة في عمق عينيها، مما زاد من سبب هدوئها الغريب. مسح دموعها بأصابعه برفق متحدثا:
"هدوءك ده قلقني يا ترنيم، مش من طبيعتك السكوت ده. طمنيني عليكي، فيكي حاجه؟"
ابتسمت بمرارة، وكانت ابتسامتها تحمل ثقل الدموع والآلام المكبوتة، وقالت:
"غريبة أوي يا سلطان، تبقى أنت اللي دبحني، وتجي تسألني فيكي حاجه! لا، متقلقش، أنا كويسة وزي الفل، والدنيا وردي في عيوني. أقولك على حاجة، قلبي بيرقص من الفرحة جوايا، يارب تكون إجابتي رضت غرورك."
حرك رأسه برفض، وشرح:
"مش قصدي كده يا ترنيم. انتي حتى لما بتكوني زعلانه، بتكوني مشاغبة، بتثوري، بتغضبي، بس عمرك ما كنتي بالهدوء ده."
كانت نبرته تحمل مزيجاً من القلق والحنان، وكأن الكلمات تخطت حدود الحديث العادي لتكشف عن مشاعر عميقة متأصلة في قلبه.
تنهدت بوجع، وتحدثت بصوت حزين: "يمكن علشان مبقاش عندي روح من أساسه. أنا بقيت جسم خالي من كل حاجة، عبارة عن آلة الزمن بيحركها ويرميها في كل مصيبة شوية."
كانت كلماتها ثقيلة وكأن كل حرف فيها مُحمل بأعباء السنين التي مرت.
حرك يده على وجنتها، وتحدث بألم:
"في إيدك تنسي كل ده يا ترنيم. في إيدك تسامحيني وترجعي حياتنا زي الأول، كلها حب وضحك وهزار. عارف إن غلط وعارف إن جرحتك، بس إحنا بشر وبنغلط، ومافيش حد معصوم من الغلط يا ترنيم."
كانت عواطفه تتراقص بين الأمل واليأس، إذ أراد بشغف أن يعيد الحياة إلى عينيها، إلى تلك البهجة التي كانت تملأ فراغهما.
استقامت بجسدها، ونظرت له بعيون فاقدة للحياة، وقالت بمنتهى الاستسلام:
"أنا عندك، أهو، عايز تنفذ كلامك اللي قولت عليه الصبح. جسمي قصادك، مش عايز أفتح الباب. خليني أروح أوضّي."
كان صوتها خافتًا لكنه يحمل في طياته كل الألم الذي سكن قلبها، وقد شعرت بأن إطلاق كلماتها كان بمثابة تحرير لروح أسيرة.
وقف أمامها، احتضنها بقوة، وعبّر عن ندمه بأسف عميق لا يمكن تجاهله:
"أنا آسف يا ترنيم. مهما قلت بلساني، قلبي عمره ما هيقبل يأذيكي. هيفضل يحميكي حتى من نفسي."
كانت كلماته تسقط كحجارة في بركة من المياه الراكدة، لكن في عينيها، لم يكن هناك سوى السكون والفراغ. كان بإمكانه أن يشعر بقلبها المتألم، لكنه علم أنه هو من تسبب في تلك الجراح.
ظل ذراعيها بجوارها لم تحركهما، وكأنها قد استسلمت للقضاء، وتكلمت بصوت مسالم حزين، تكافح من أجل التحكم في دموعها:
"بس للأسف، قبل بأذيتي يا سلطان، قبل يأذيني، لما سمحلك تلمس واحدة غيري. لما سمحلك تلعب بمشاعري وتضحك عليا بكلامك الكداب. الأذى مفهومه غلط عندك، للأسف منحصر في عقلك على حاجات معينة، مع إن للأذى طرق كتير، وأنت استخدمتها كلها فيا."
كانت كل كلمة منها كالسهم الذي يضرب في عمق المشكلة، وكأنها تحاول أن تفتح له عينيه على كل الأذى النفسي الذي ترك أثره في روحها.
أنهت كلامها، وأبعدته عنها، وتحركت باتجاه الباب، لم تكن بحاجة لتفسير أكثر، فقط أرادت الهروب من حالة الألم التي تحاصرها، وقالت:
"افتح الباب يا سلطان، خليني أروح أوضّي."
كان باب الخروج بالنسبة لها بمثابة فرصتها الأخيرة للهروب من هذا الكابوس الذي تعيش فيه، لكن مشاعرها كانت أشبه بكابوس متكرر ترجع لتعيشه كلما تذكرته.
اقترب منها، وكاد أن يتكلم، لكنه وجد نفسه في حيرة من أمره. نظرت إليه بحزن عميق في عينيها، وكأنها تحاول أن تنقل له مشاعرها المغلقة، وقالت:
"أرجوك، كفاية يا سلطان. أنا معنديش حيل للمناهدة، افتح الباب."
كان صوتها يتأرجح بين الاستسلام والرغبة في الصمود، لكن الانكسار كان واضحًا، وكأن كلماتها تتوسل إليه ليفهم عمق إحساسها بالوحدة.
تنهد بحزن، وفتح الباب لها ببطء وكأنما يخشى أن يفقدها إلى الأبد. وقف أمامها، محاولاً أن يُظهر لها أنه ما زال يحبها، مقربًا رأسه أمام الجميع، مقبلًا مقدمتها بندم وأسف، كأن تلك القبلة يمكن أن تمحو كل ما حدث بينهما. لكن داخلها، لم تعود قادرة على التصديق أنه يمكن أن تُحَل الأمور بسهولة بهذه الطريقة.
ابتعدت سريعًا عنه، وركضت إلى شقتها، وكأنما تلك خطواتها تعبر عن رغبتها في الهروب من كل ما يربطها به. دلفت غرفتها، وارتمت على سريرها، وسمحت لدموعها بالانهمار. كانت دموعها سيلًا من الألم المكبوت، ووسادة سريرها أصبحت ملاذًا للمعاناة التي لا تستطيع التعبير عنها.
نظرت فريدة إلى سلطان بغضب، عابرة عن مشاعرها المتأججة، وحملت ابنتها على ذراعها، وصعدت إلى شقتها بغضب، ودفعت الباب خلفها بقوة، كأنها تحاول تعزيز الحدود حول أسرتها.
نظرت وفاء بلوم وغضب، وقد امتلأ قلبها بالقلق على ابنتها، وتكلمت بتوتر واضح:
"أنت عايز من بنتي إيه يا سلطان؟ حرام عليك، كفاية تعذيب فيها. بنتي دبلة بسببك، وحالها كل يوم في النازل. بترجاك يا ابني، ارحمها شويه، وابعد عنها، وسيبها تدواي جرحها."
كان ذلك الكلام ينبض بالحب، لكنه أيضًا كان تعبيرًا عن الغضب؛ رغبتها في حماية ابنتها من شخص كان يعتبره جزءًا من العائلة.
أنهت كلامها، وتحركت سريعًا إلى شقتها، تاركة وراءها دوامة من المشاعر المتخبطة. لم يكن هناك مكان آمن بعد الآن، وكانت كل كلمة تأخذ طريقها نحو إسدال الستار على فصل جديد من الألم.
نظرت صباح له بغضب، عاقدة النية على أن تنهي هذا الصراع الغازي:
"أقسم بالله يا سلطان، لو مبعدتش عن ترنيم وسبتها في حالها، لأكون رمياك أنت ومراتك بره البيت ده، وهعتبرك موت. فاهم؟"
كانت كلماتها كالرصاص، قوية وصارخة، مراهنة على أن يستوعب جديتها، لكن في أعماقها، كانت تخشى أن يفوت الأوان.
نظر لها بوجعٍ عميق، وكأنما كان يحاول أن يحمل كل الألم الذي يحيط بهم، ثم ربت على كتفها بحنان بينما أقبل برأسه على جبينها في حركة مليئة بالحب والاعتذار، متمنيًا أن يخفف عنها بعض ما شعرت به من مرارة. كانت تلك لحظة في غاية التعقيد، حيث كان عليه أن يوازن بين مشاعره كأب وبين مشاغل الحياة التي غمرت أسرته. بعد تلك اللمسة الرقيقة، تحرك ببطء إلى شقته بالأعلى، وكل خطوة كانت كرائحة الألم الواضحة في أجواء المنزل، حيث استشعر الفوضى التي خلفتها الانفعالات المتناقضة في قلوبهم.
نظرت سميه إلى والدتها بقلق، وقد برز الحزن في عينيها في تلك اللحظة، حيث انتابها شعورٌ عارم حيال الحالة التي وصلت إليها أسرتها. كانت تشعر وكأن الفوضى تستقر في قلوبهم، والعواطف المتضاربة تشكل عواصف في روحها الصغيرة. أغمضت عينيها للحظة، وتأملت في العائلة التي كانت في السابق متماسكة، لتتنهد بوجعٍ وصمت، كأنها تحمل على عاتقها عبء العالم بأسره، ثم اتجهت إلى غرفتها بحثًا عن ملاذٍ يجمع شتات أفكارها ويمنحها بعض الوقت لتنفس من ضغوط الحياة اليومية.
************************
في صباح يوم جديد، استيقظت ترنيم من نومها وهي تشعر بإرهاق شديد، حيث كانت الليلة الماضية مليئة بالأحداث المثيرة للقلق التي أثقلت كاهلها. اعتدلت على فراشها، وضعت رأسها بين يديها في محاولة للتخلص من الأفكار المزعجة. كان عقلها مشغولًا بالبحث عن حل لتلك المعطلة التي كانت تهدد سلامتهم. تذكرت زوج والدتها، عمو عبده، وأخيها، فنهضت سريعًا من على فراشها، وخرجت من غرفتها وهي تصرخ بحماس، محملةً بقدر من الأمل والقلق:
“ماما، عمو عبده راح الشغل ولا لسه؟”
خرجت والدتها من داخل المطبخ، تحمل بين يديها فنجانًا من القهوة، وابتسمت لها، قائلة بلطف:
“مشي يا بنتي من شويه. عايزه حاجه ولا إيه يا حبيبتي؟”
حركت ترنيم رأسها بابتسامة حزينة جوابًا على سؤال والدتها، وشعرت بضغط كبير على صدغها، ثم قالت:
“لا يا حبيبتي، بسأل عليه بس. طيب، تامر هنا ولا نزل؟”
أومات والدتها برأسها، ناظرة إليها بحنان، وقالت:
“أيوا يا بنتي، هنا في أوضة.”
ابتسمت لها ترنيم بصوت حزين يمتزج به القلق، ثم قالت:
“ماشي يا فوفه، أنا هدخله.”
تحركت ببطء نحو الغرفة، طرقت على الباب برفق، ثم فتحته ودلفت إلى الداخل. وجدته يجلس أمام الحاسوب الخاص به على طاولة فوضوية، حيث كانت الأوراق مبعثرة، يعبث بأصابعه وكأنه يتماشى مع نبض التكنولوجيا ولكنه يبدو مشغولًا جدًا. اقتربت منه وقالت بصوت خافت:
“صباح الخير يا تيمو.”
نظر إليها بعدم اهتمام، وكأن انشغاله بالحاسوب يمنعه من الرد بشكل ودي، وهو يتمعن في الشاشة الباهتة المليئة بالبيانات، وقال:
“صباح النور. خير، أول مرة تعمليها وتدخلي أوضي.”
جلست أمامه على المقعد الخشبي، مبتعدة قليلاً عن الشاشة المضيئة، وتحدثت بتساؤل يثير القلق:
“أنت تعرف حد اسمه غريب ضرغام؟”
تغيرت تعابير وجهه فجأة كالشمس التي تغطس في الظلام، ونهض بسرعة من مقعده بنعومة، وتحدث بتلعثم، وكأن هناك شيئًا يحاول الهروب من ذاكرته:
“م مين غريب ضرغام ده، وتعرفي منين؟”
استقامت بجسدها، ووقفت أمامه، شارحة بتوضيح، وهي تتمنى أن تساعده على تجاوز الصدمة التي ارتسمت على ملامحه:
“ده كان مريض عندي في المستشفى، كان مضروب بالرصاص، وأنا عالجته. المهم يعني، كان بيسألني عليك أنت وعمو عبدة، وأنا استغربت يعرفكم منين وبيسأل ليه عنكم؟”
ابتلع تامر ريقه بتوتر، وعبر عن قلقه بعبث أصابعه التي لم تتوقف عن التحرك، وتكلم بصوت مهتز مليء بالتردد:
“م معرفش مين ده، ولا يعرفنا منين، وإياكي تديله أي معلومات عننا، فاهمة؟”
نظرت له بعدم ارتياح، وأحسست بشيء مريب يكمن في هذه القصة، الأمر لم يكن مجرد صدفة. أومأت برأسها له، وبداخلها ألتفت للأفكار المزعجة التي بدأت تأخذ شكلها.
“تمام يا تامر، هسيبك بقى تكمل اللي كنت بتعمله.”
لكن ومن دون سابق إنذار، انطلق تامر بالحديث بسرعة، كأنه يريد التمسك بأهداب الأمل في معرفة المزيد:
“هو لسه عندكم في المستشفى؟”
نظرت له وحركت رأسها بالرفض، وأجابت:
“لا، بقى كويس وخرج.”
أنهت كلامها، وخرجت من عنده، تجول في ذهنها ألف فكرة، وعازمة على معرفة ما وراء هذا الأمر المثير للقلق. قام تامر بتغيير ملابسه بسرعة، وصافحته موجات من القلق قبل أن يتحرك خارج غرفته، متجهًا نحو باب الشقة، مغادرًا البيت بسرعة جنونية، وكأن شيئاً ما كان يدفعه بعيداً عن هذا الحوار الغامض الذي قد يغير كل شيء في حياتهما.
**************************
استيقظت فريدة من نومها واعتدلت على فراشها، وتوجهت أفكارها نحو قبلة سلطان، زوجها، التي أعطاها لترنيم بالأمس، مما أشعل ناراً داخلياً لا يمكن إخمادها. كانت تلك القبلة وكأنها شعلة أشعلت كل ما كان خامداً في أعماقها من مشاعر الحب والغيرة والقلق. نهضت بسرعة، وكأن شيئاً لدغها، محركةً نفسها بحدة كأنها فقدت السيطرة على زمنها، وبدلت ملابسها بأقصى سرعة، وكأن كل ثانية تمر هي فرصة تضيع منها. خرجت من غرفتها بعقل مشوش، متجهة إلى غرفة ابنتها، وعندما دخلت، وجدت سلطان وابنته غارقين في نوم عميق، يبدوان كأنهما في عالم آخر بعيد عن المشاكل والهموم التي تحيط بها. أغلقت الباب بهدوء، فقد كانت تدرك أنها لا تريد أن تزعج تلك اللحظة الهادئة، لكن داخلها كان تشتعل رغبة في الاحتفاظ بزوجها.
تحركت نحو باب الشقة، وانطلقت مسرعة على الدرج، كما لو كانت تركض نحو مستقبل غير معلوم، في تلك اللحظة، وجدت ترنيم تخرج من باب شقتها، وكأنها حلت كالعاصفة في حياتها. اقتربت منها بسرعة، وأمسكت بذراعها بغضب، قائلة بصوت مليء بالتحدي:
"أنتي عايزة إيه تاني من جوزي؟ سبيه في حاله بقي يركّز مع بنته ومعايا! كل ما يبقى كويس معانا، تتسهوكي عليه شوية علشان يحن ليكي ويرجعلك! بس بعينك يا ترنيم، مش هسمحلك تخدي جوزي مني، فاااهمة؟"
كانت عينا فريدة متسعتين دوماً من الغضب، كما لو كانت تحمي ما تبقى من عائلتها، وجسدها يتوتر كإحدى القنابل الموقوتة.
ابتسمت ترنيم بهدوء، وبحركة سريعة ضغطت بقبضة يدها على عنق فريدة، وأسندت ظهرها على الحائط، لتقف أمامها كضحية وكجلاد في نفس الوقت، وتكلمت من بين أسنانها بشغف غير عادي:
"أنا لو عايزة جوزك، مش محتاجة أعمل مجهود علشان أخده منك، لأنه كل يوم بيترجاني أرجع ليه، وأنا اللي برفض. أما بقى موضوع بُعده عنك، ده مش ذنبي، وشك العكر ده هو اللي مطفشه منك. وعلى فكرة، أنا عمري ما أفكر أرجع لورقة قديمة قطعتها بأيدي. فأهدي على نفسك كده، بلاش صرمك المدلل مني على طول ده، لأني لو حطيتك في دماغي، هخليكي تكرهي نفسك واليوم اللي جيتي فيه."
دفعتها فريدة بقوة، مضيفة دفعة من الأعصاب إلى غضبها، وتحدثت بغضب شديد:
"صدقتك، أنا كده يا بت! ده أنا شيفاكي وأنتي عمالة تنزلي ليه دمعتين علشان يرجعلك!"
فجأة، يصبح الصراع بينهما أكثر من مجرد كلام، كأنه يرسم لوحة من الصراعات النسائية، حيث تتجلى الغيرة والحب والتنافس في آن واحد.
أغلقت ترنيم عينيها، محاوِلةً تهدئة نفسها لتجنب ارتكاب جريمة مع تلك الشمطاء، قالت بهدوء حذر، كأنها تنظر إلى المستقبل من خلال زجاج مشروخ:
"تلاتة بالله العلي العظيم يا فريدة، لو ممشتيش دلوقتي من قدامي، لكون مقطعة شعرك اللي فرحانة بي ده. ولآخر مرة، بقولك أن سلطان ابن خالتي، واللي مربيني، وفي مقام أخويا الكبير. لو هطولي في الكلام بعد كده، هتشوفي مني معاملة هتعرفك مقامك ايه، فاااهمة؟"
كان صوت ترنيم يخرق الصمت الذي يحيط بهم، مليئًا بالتحدي والجرأة، على الرغم من أن قلبها كان يخفق بشدة من التوتر. كانت تشعر بالانزعاج من جراء الطعنات الكلامية التي توجهها فريدة، وأحست بأنها تتنافس مع كائن غير مرئي يُحاول سحب الثقة منها. ومع ذلك، تمسكت بتصميمها على عدم إظهار الضعف. كان كل حرف تطلقه كالسهم، وأرادت أن تترك في فريدة آثارًا من الصدمة التي أثلجت صدرها.
في تلك اللحظة، هبط سلطان من الأعلى، وهو ممسك بيد ابنته رنيم. نظر لهما باستغراب وسأل:
"فريدة ترنيم!! أنتوا واقفين ليه كده على السلم؟"
كان سلطان، بحكمته، يدرك أن هناك شيئًا غير عادي يحدث، وكان فضوله يزداد حدة كلما نظر إليهما.
ركضت فريدة سريعاً نحو سلطان، وارتمت في أحضانه، وبدموع كاذبة، قالت:
"الحقني يا سلطان! كنت نازلة أشوف ماما محتاجة حاجة ولا لا، قابلتني بنت خالتك وكانت عايزة تضربني!"
صوتها كان مليئًا بالاستنجاد، ولكن كانت هناك نبرة لا تخفى على أحد تشير إلى أنها في الواقع تلعب دور الضحية ببراعة. مشاعر القلق تخيم على وجه سلطان، وكان لديه رغبه في حماية ترنيم.
أبعدها عن حضنه ورفع حاجبيه باستنكار، قائلاً:
"ترنيم عايزة تضربك؟"
استدارت عيون سلطان نحو ترنيم، وكأن عقلها وفكرها يتسابقان ليتركوا انطباعًا عن الصراع الذي يجري في قلب هذه العائلة. كان ذلك السؤال بمثابة مفتاح للفتح على مفاوضات معقدة بنبرة مريبة.
أومأت برأسها بالتأكيد وزادت في بكائها الكاذب، قائلة:
"أيوه، وحياتك عندي يا معلم سلطان!"
هنا، في وهج التوتر المتصاعد، كانت فريدة تدرك تمامًا أن كل كلمة تنطق بها قد تعيد تشكيل الوضع، وأنها بحاجة إلى استخدام كل ما لديها من فطنة للبقاء في دائرة الحماية. وجدت نفسها عالقة في مصيدة من الغضب والخداع، ولكن كانت قدرتها على التحمل والصمود قد حددت مسارها، على أمل أن تكون النهاية لصالحها.
عقدت ترنيم ذراعيها على صدرها، وكانت تشعر ببرودة في قلبها، ورغم الألم الذي شعرت به عندما ارتمت فريدة في أحضان سلطان، والذي كان يبدو وكأنه حضن جامع لكل المشاعر الدافئة، إلا أنها أبت أن تظهر ضعفها، قالت بتهكم مستفز:
"طول عمري أسمع عن الحرباية اللي بتتلون، أول مرة أشوفها! ده أنا صدقتك يا شيخة! يا زين ما اخترت يا سيد المعلمين، ربنا معاك والله."
نظرت إلى سلطان، الذي بدت الابتسامة على وجهه عندما شعر بغيرتها عليه، حيث كانت دموعها تملأ عينيها، لكن لم تكن ترغب في أن تُظهر هذا الضعف، ولذلك استمرت في توجيه كلماتها المستفزة. رد سلطان بابتسامة عريضة كأنما يستمد قوة من كلماتها، وقال:
"ترنيم تعمل اللي هي عايزاه، هو إحنا عندنا كام ترنيم!"
ثم نظر إلى فريدة وتحدث بتحذير يعبّر عن حمايته الطاغية:
"دي دلوعة البيت كله، واللي يفكر يدوس ليها على طرف، أمحيه من على وش الدنيا دي. قبل أي حاجة، دي تبقى بنتي اللي مربيها، وهتفضل تحت حمايتي لآخر يوم في عمري، فاهمة؟"
نظرت ترنيم إلى فريدة وتحدثت باستهزاء، محاولة احتقار الموقف الذي تعيشه:
"بتحطي نفسك في مواقف بااايخة، يا رب صفار البيض اللي عندك يخف شوية."
ثم همست بصوت خافت، لكنها كانت تعرف أن كلماتها ذات تأثير:
"وليه حرباية بجد!"
تم تحركت باتجاه الدرج، عازمة على مغادرة هذا الجو المتوتر، لكنها وقفت مرة أخرى عندما سمعت صوت هتاف سلطان عليها. نظرت له بنفاد صبر واستفزاز، وقالت:
"أفندم؟"
رد عليها وهو يتكلم من على الدرج بشكل ينم عن إصرار عليه:
"استني أوصلك. ما ينفعش تروحي لوحدك."
حركت رأسها بالرفض وهو يرى عزمها، وقالت بحزم:
"سوري، مش هينفع. عندي مشوار مهم، ولازم أروحه لوحدي!"
نظر إليها بضيق، مستغرباً سلوكها، وسأل بتساءل ممتزج بالقلق:
"مشوار إيه ده؟"
حركت رأسها بالرفض مرة أخرى، وتحدثت وهي تكمل هبوطها على الدرج كل خطوة تتبعه عاطفة متناقضة:
"مشوار خصوصي مالكش فيه، ومش لازم تتدخل!"
أنهت كلامها واختفت من أمام نظره، تاركة خلفها عباءة التوتر ومشاعر غريبة. نظر إلى أثرها بغضب، حيث أنه كان يود لو استطاع أن يحتفظ بها بالقرب منه، ثم نظر إلى فريدة التي كانت تستشاط غضباً، عازمة على اتخاذ خطوة لتأديب تلك الفتاة المتمردة، ثم تحرك نحو شقة والدته، مستشعراً أن الأمور لن تنتهي هنا، وأن الأحداث ستأخذ منحى أكثر تعقيداً. أمسكت فريدة بيد ابنتها بغضب، وانطلقت نحو والدته عازمة على الانتقام في القريب العاجل، حيث كانت تنبض بالكراهية، وكأنها تحيك خططاً سرية في عقلها، تماماً كما تحيك الأفاعي أو تراقص الأنسجة في خطة مدروسة.