رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الخامس عشر 15 بقلم دودو محمد


 رواية ترانيم في درب الهوى الفصل الخامس عشر


تحركت ترنيم بالسيارة بسرعة، حيث كانت تشعر بضغط الوقت يعصر قلبها، ثم توقفت فجأة في مكان بعيد نسبياً عن الأنظار. كانت تعلم أن أحد الأشخاص سيظهر أمامها في غضون ثوانٍ، وبالفعل، لاحظت ظلاً يتقدم نحوها. كان غريب، وعلى ملامحه الجادة كان يبدو كأنه يحمل الكثير من الأسرار، جلس على المقعد بجوارها وتحدث بنبرة موغلة في الجدية:
"كنتي مستنيه حد؟"
دون أن تنظر إليه، أجابت بصوت ثابت وذو نبرات حاسمة: 
"مستنياك انت!"، 
ثم أدارت عجلة القيادة بعنف وتحركت بها بسرعة، كأنها ترغب في الهروب من هذا الحديث المشحون بالتوتر. بعد فترة ليست بطويلة، أوقفت سيارتها في أحد الأماكن النائية، ثم التفتت إليه وتحدثت بتساؤل لطالما حيرها: 
"أنا عايزة أفهم أنت ليه سألتني امبارح عن جوز ماما وأخويا؟"
ترجل من السيارة دون أن يرد، ثم أعطاها ظهره ببطء، عاقدًا ذراعيه على صدره كأنه يحاكي الغرباء الذين ينتظرون جواباً مجهولاً. ظل ينظر أمامه وكأن في عينيه تعكسان كل الأفكار التي تشغل باله. لم تستطع ترنيم الانتظار، فنزلت من السيارة بسرعة، وتوجهت نحوه، وقفت أمامه ورفعت رأسها للأعلى لتصل إلى عينيه الغامضتين، وقالت: 
"ممكن لو سمحت ترد عليا؟"
نظر إلى عينيها وعَمِق في فهم مشاعرها، ولكن صوتها الغاضب واهتزاز الكلمات أعاده إلى الواقع: 
"أنا بكلمك، رد عليا، إيه علاقتك بأخويا وعم عبدة؟"
رد عليها بطريقة أثارت غضبها، حيث كانت رده لا يحمل الإجابات التي تشتاق لسماعها:
"طيب وانتي جايه تسأليني أنا ليه مروحتيش تسأليهم ليه هما؟"
ضغطت على أسنانها بغضب واستشاطت بأفكارها وهي تتحدث بنفاذ صبر: 
"علشان انت اللي سألتني عليهم مش العكس!"
مال بجسده حتى اقترب وجهه من وجهها، ثم تحدث بنبرة همس تجعلها ترتعش من الرعب: 
"أي حد ليه علاقة بيكي في إيدك مفتاح خلاصه، وقرارك في اللي جاي يا هيكون المنقذ ليهم يااا هيكون الهلاك." 
بدا كلامه كأنه يحمل نذرًا من القوة الغامضة التي يستطيع من خلالها التحكم بمصيرهم، مما زاد من حدة القلق في صدرها.
ارتجفت عينيها وهي تنظر داخل عينيه، ترى نظرته القاتلة التي تخبرها بكل شيء لكنها تفشل في فهمه، فتحدثت بصوت مرتعش: 
"قراري في إيه؟ أنا مش فاهمة حاجة!"
استقام بجسده مرة أخرى، وتحدث بنبرة جادة وكأنه يرسل رسالة تحذيرية:
"هتعرفي كل حاجة في وقتها." 
كان لديه ذلك الزخم من الثقة، مما جعلها تدرك أن الأمر أكبر من مجرد حديث عابر، بل يتعلق بمصائر وأسرار عائلتها المنسية التي ستظهر في زمن قد يكون أكثر غموضًا من المجهول.
وضعت يدها على ذراعه، مشاعر الخوف والقلق تتأجج داخلها، وتحدثت بنبرة مختنقة تتجلى فيها جميع مظاهر الإحباط:
"أنا مبقاش فيا حيل لأي صدمات، اللي فيا مكفيني. لو ناوي تأذيني، معنديش أي مشكلة، إنما بلاش حد من أهلي. مش هقدر استحمل وجع حد فيهم، بترجاك، فهمني إيه علاقتك بأخويا وجوز ماما، وليه عايز تقابل سلطان؟ وعايز تأذي أهلي ليه؟ أنت مين؟ وليه بتعمل معايا أنا بالذات كده؟"
ارتجف من لمسة يدها له، وكأن رعشة غير متوقعة اجتاحت جسده، لكنه تمسك برباطة جأشه رغم العاصفة الداخلية، وتحدث بنبرة أقل حدة، محاولًا التخفيف من حدة التوتر، وهو يحرك يديه على وجنتيها برفق: 
"قولتلك يا ترنيم، في إيدك خلاصهم. تقدري  ترميهم للهلاك، أو تكوني انتي المنقذ ليهم. أنا عمري ما اديت اختيارات، طول عمري أنا القرار، إنما معاكي الوضع مختلف. معاكي حرية الاختيار."
دفعت يده بعيدًا عنها، بدموعها تتلألأ في عينيها كأنها تستجدي الأمل، وتكلمت بنبرة تعكس هول العبء الذي تحمله: 
"طيب، ما تفهمني، علشان أعرف أختار إيه بالظبط؟"
ابتعد عنها وصعد إلى السيارة أمام المقود، الحيرة تتجلى على ملامح وجهه، وقال:
"اركبي علشان أوصلك." 
زفرت بضيق وأغلقت عينيها بنفاذ صبر، حاولت أن تسيطر على مشاعرها قبل أن تحسم قرارها. ثم صعدت إلى السيارة، ونظرت إليه بغضب يسري في عروقها، لكنها كانت تدرك أيضًا مدى ضياعها. كان تعبيره يفصح عن تجارب مر بها، لكنه لم يتزحزح عن صمته. أدركت أنها محاصرة في لعبة أكبر منها. أدار السيارة وانطلق بها، تاركًا خلفه عددًا كبيرًا من الأسئلة بلا إجابات وأملًا ضعيفًا يتأرجح في فؤادها.
          **************************
عادت ترنيم بالمساء، صعدت الدرج بحزن شديد، بينما كانت الأيام تذكرها بأحمال الذكريات. كل خطوة كانت كأنما تعيدها عقودًا من الزمن، والحزن يتسلل إلى قلبها كأنما يحاول أن يخنق أنفاسها. بينما مرت من أمام شقة صباح، لمحَت سلطان وهو يجلس بجوار ابنته، يمسك بيدها الصغيرة في لُعبةٍ مليئة بالضحك والبراءة. كان يلعب معها بحب وبساطة، وكأنه لم يمر يوم دونها، وتذكرت كيف كان يراعي مشاعرها، مداعبًا إياها بنفس الأسلوب، وما زالت تذكر الضحكات التي كانت تدوي في أركان الشقة الصغيرة. هبطت دمعه حارة من عينيها عندما تذكرت طفولتها معه وكيف كان يجلس في هذا المكان ذاته، يلاعبها كما يفعل الآن مع ابنته. لقد كان كالأب المثالي الذي يحلم به كل طفل، والآن هي ترى هذا الحلم يتجسد أمامها من جديد، لكن هذه المرة مع آخره. تعالت شهقاتها، واستمع لها سلطان، الذي شعر بأن شيئًا ما يؤلمه في قلبه، مما انعكس على ملامح وجهه. رفع رأسه ورآها، عابثة بعيونها الدامعة التي تعكس حكايات لم تُروَ بعد، ورغبة عميقة في أن يُسمع صوتها. اقترب منها سريعًا، نظر لها بأسف وحزن عميق، وبصوت مختنق قال: 
“انتي و واقفه هنا من بدري؟”
أومأت برأسها، والدموع تتساقط منها كالطفلة الصغيرة، غارقة في أعمال الذكريات التي لم تعد قادرة على حملها.  أغلق عينيه بوجع، كأنه يحاول حبس ذلك الشعور الثقيل داخل قلبه، واقترب منها بلطف، محاولًا مسح عبراتها بأصابعه برفق، كما كان يفعل دائمًا. تحدث بحب دفين، كما لو كان يحاول أن يُدخل الأمل في قلبها: “انتوا الاتنين بناتي وغلاوتكم عندي واحدة، انتوا أغلى حاجة عندي في الدنيا يا ترنيم.”
فجأة، ارتمت ترنيم في أحضانه، تمسكت به بقوة، وكأنما كانت تبحث عن ملاذ من كل ما يثقلها، وكانت كلماتها تتقطع بين شهقاتها: 
“انت بتعمل معاها نفس اللي كنت بتعمله معايا يا سلطان. نظراتك ليها نفس نظراتك ليا وأنا في سنها. ليه عملت فيا كده يا سلطان؟ قلبي بيتكوي بسببك، مش قادرة أتحمل أشوفك بتحب حد ولا بتدلع حد غيري. انت كنت ليا لوحدي، ازاي عايزني أستحمل؟ فكرت حد يقسمني فيك؟ أنت بتطلب مني أمسك النار بإيدي ومتألمش، يا سلطان.”
ربت على ظهرها بحنو، محاولًا أن يوصل لها مشاعر الندم التي تعتريه، ونبرة نادمة تملأ صوته كما لو كان يحاول جاهدًا ترميم ما انكسر في قلبيهما: 
“حقك على قلبي يا بنت قلبي.” 
كانت الكلمات تنبعث منه بين الألم والحنان. في تلك اللحظة، سمعوا صوت رنيم، يتساءل ببراءة الطفولة: 
“انتوا بتعملوا أيه؟”
ابتعدت ترنيم سريعا عن حضن سلطان، مستخدمة ظهر يدها لمسح دموعها، قالت بصوت مختنق، محاولة إخفاء كل ما يعصف بمشاعرها: 
“ولا حاجه يا حبيبتي.” 
لكن في أعماقها، كانت الكلمات تدور، كل واحدةٌ تبذل جهدها كي تُقال، والذكريات تحاصرها، مازالت تعيش في ضوء ذلك الحزن الذي لا ينتهي.
مال سلطان بجسده، حاملاً ابنته بين ذراعيه، بينما احتضن ترنيم بالذراع الآخر، وتحدث بتساؤل: 
“أيه رأيكم نخرج إحنا التلاتة سوا؟” 
ابتعدت ترنيم عنه بحزن واعتذرت: 
“لا، أنا مش هقدر، تعبانه. خد مراتك وبنتك، روحوا انتوا.” 
كانت تتحدث وكأنما هناك جدارًا عاطفيًا يرتفع بينها وبين هذا العرض البسيط. شعرت بوجع في قلبها، ليس فقط من التعب الجسدي، بل من الوحدة التي توشحت بها تلك الكلمات. لم تكن ترغب في أن تكون عبئًا عليه، أو سببًا في مزيد من التوتر بينه وبين فريدة.
نظر لها بتوسل، وعينيه مليئتين بالأمل:
“علشان خاطري يا ترنيم، تعالي نخرج إحنا التلاتة.” 
كانت نبرته مفعمة بشعور مشترك يحتاج إلى المشاركة، كمن يحاول جاهدًا إنقاذ لحظة من الغرق في مشاعر الفراق والخذلان. ولكن ترنيم، بحدة الأوضاع، شعرت بأن العزلة هي ما تجمعها مع نفسها حاليًا. وفي اللحظة ذاتها، سمعوا صوت فريدة تقول: 
“خير إن شاء الله، هتخرجنا فين يا معلم سلطان؟” 
كانت تسخر دون أن تدري أنها تخترق جدار الهدوء الذي كان قد نشأ بين الثلاثة.
أغلق عينيه بغضب، ولم يجيب عليها. كان يعلم أن أي رد سيضيف مزيدًا من الكآبة على الأجواء، فاختار الصمت كوسيلة للدفاع. ثم ردت رنيم بطفوله: 
“بابي هيخرجنا أنا وابلة ترنيم بس.” 
رفعت فريدة حاجبيها باستغراب، قائلة:
“والله طيب، ما تيجي على نفسك وخدني معاكم. ده أنا حتى مراتك وأم بنتك.” 
لم تكن تدرك مدى الألم الذي تتسبب فيه، حيث كانت تجربتها المتكررة من نقطة الضعف بمثابة مرآة لبقية المجموعة. كانت صراعاتهم تتداخل بطريقة معقدة، وكأنهم يشد بعضهم البعض نحو دون قصد.
أغلقت ترنيم جفنيها بألم وحزن، ثم تكلمت بصوت خافت: 
“تصبحوا على خير، أنا داخلة أنام.” 
كانت تميل نحو الانسحاب، كما لو أن العزلة ستكون العلاج لما تشعر به من ضعف. 
تكلمت فريدة بسرعة: 
“هو أنا جيت قطعت عليكم اللحظة الحلوة اللي ما بينكم ولا أيه؟” 
نظرت لها ترنيم، وردت بصوت مختنق: 
“لا، بس زي ما بيقولوا كده، إذا حضرت الشياطين، ذهبت الملائكة، علشان كده سايبة المكان ليكي وماشيه.” 
كان لسانها ينطق بقصدية، كأنها تحاول أن تحملها المسؤولية عن تلك الأجواء المشحونة. لكنها أيضًا تعرف أن هذه الكلمات لن تغير شيئًا، فضيقها كان يرافقها كظل.
أنهت كلامها ودخلت شقتهم، ودفعت الباب بقوة خلفها. نظرت فريدة إلى أثرها بغضب، قائلة: 
“عجبك كده؟ ما أنت اللي جايب ليا التهزيق علشان شايفه أنها مهما تقولي جوزي بيفضل ساكت ومش بيجيب حقي.” 
ولكنها كانت تدرك بعمق أنها ليست محقة، فالموقف بأكمله كان عبارة عن صراع داخلي أكبر من أي شخص يتلاعب به.
نظر لها بضيق، وتحرك بأبنته إلى الداخل، تاركًا إياها بمفردها. بعد برهة، نظرت إلى باب شقة ترنيم بغضب ثم تحركت إلى شقة صباح، وكانت أفكارها مشوشة، تفكر في كيفية إصلاح الأشياء. لكن داخل عقلها، كانت تسود حالة من المرارة، وهي تسائل: “كيف يمكن لأحدهم أن يحظى بالحب والتواصل بينما أجد نفسي محاطة بهذا الجدار البارد؟”
            ************************
بغرفة سميه...

وقفت سمية خلف النافذة المغلقة في غرفتها، تنظر إلى حسام الذي يقف كل يوم في انتظار خروجها كما اعتاد. تنهدت بألم، مستشعرة مرارة الفراق، وقررت أن تفتح تلك النافذة العازلة بينهما. فما زالت تكن له مشاعر عميقة داخلها رغم التعقيدات الأخيرة التي مرت بهما. فتحت النافذة ونظرت إليه بنظرة مليئة باللوم والحزن والاحتياج والاشتياق، وظلت صامتة.
تكلم حسام بسعادة، بصوت هامس يحمل لمحة من الأمل:
"أخيراً فتحتي الشباك يا سمية، وحنيتي عليا."
تنهدت بحزن وقالت بتساؤل:
"هو انت إزاي كده يا حسام؟"
نظر إليها باستغراب وأضاف بتساؤل:
"كده إزاي، مش فاهم؟"
أجابته بمرارة وألم:
"يعني اللي يشوف معاملتك ليا في الشركة ويشوف طريقتك دلوقتي، يقول إنك شخص مجنون، عندك انفصام في الشخصية."
ابتسم لها بهدوء وتحدث بتوضيح:
"علشان أنا في الشغل ببقى شخص تاني خالص. قلبي وعقلي في المكان ده، معنديش وقت أفكر في أي حاجة شخصية. الثانية بتفرق معايا يا سمية، وهنا حسام الطبيعي بيفكر في حياته. قلبي بيدق في الثانية، مليون دقة، وكل دقة بتنادي باسمك. دماغي فيها حاجة واحدة بس، هو أنتي يا سمية. بفكر في بكرة معاكي في بيت صغير يجمعنا، و يكون عندنا حتة مني ومنك. ومستني الرضا علشان أجي أكمل نص ديني. تقدري تقولي كلامك صح، أنا عندي انفصام في الشخصية، الصبح شخصية وبليل شخصية تانية. بس الحاجة الوحيدة اللي متأكد منها وعمرها ما هتتغير، لا بليل ولا الصبح، هو حبك يا سمية."
تنهدت بوجع وقالت:
"للأسف، فقد الشغف بعلاقتنا يا حسام. ياريتني ما شتغلت في الشركة وفضلت صورتك زي ما هي في عيني. ياريت."
تكلم سريعاً، بصوت مختنق:
"متبقيش سطحية، يا سمية. شوفي الصورة واضحة وفكري في العوامل اللي بتحكم على الشخص يغير من طريقته وأسلوبه، حتى لو مؤقتاً. كلنا عندنا شخصيات كتير، بس كل شخصية بتخرج في الوقت والمكان المناسب ليها. يعني عندك إنتي، شخصيتك معايا مش زي شخصيتك مع بنت خالتك، مش زي شخصيتك مع أخوكي. كل واحد بتتعاملي معاه بشخصية مختلفة. بس إنتي مش واخدة بالك من ده لأنه أسلوب حياتك، اتعودتي عليه. أنا كده بالظبط، أسلوبي في الشغل غير أسلوبي دلوقتي. مبحسش بنفسي بتعامل إزاي ومع مين، لأن اتعودت أكون كده. علشان كده عايزك تفكري بطريقة ناضجة أكتر من كده."
أومأت برأسها، وقالت بصوت مختنق:
"تصبح على خير يا حسام. نتقابل الصبح بالشخصية التانية اللي أنا مكرهتش في حياتي حد قد ما كرهتها."
أنهت حديثها، وأغلقت النافذة ببطء، ودلفت إلى الداخل. تمددت على سريرها، تفكر في كلمات حسام لها، مستشعرة مزيجاً من المشاعر الجارفة.
           *************************
في صباح يوم جديد، استيقظت ترنيم على صوت سلطان الغاضب وهو يوقظها بصوت مرتفع كالرعد، مما جعل قلبها ينبض بسرعة. عيونها تُدرك من حولها ببطء، وهي تحاول استيعاب الموقف. 
"قوومي يا هاانم، قومي وقوليلي مين ده وكنتوا بتعملوا ايه سوا في مكان زي ده لوحدكم؟" 
كانت كلماته تحمل نبرة من الغضب والتحدي، وكأن حواجز النوم قد انكسرت فجأة لتواجهها بواقع مؤلم.
انتفضت ترنيم من مكانها، ووضعت يدها على جبهتها كما لو كانت تحاول مساعدة عقلها على الاستيقاظ. نظرت إليه بأعين مشوشة من النوم، والتعب يكاد يسيطر على ملامح وجهها. استقامت بجسدها، وسألت بعدم فهم: 
"سلطان!! بتعمل ايه في أوضي؟ ومالك بتزعق كده ليه؟" 
كانت كلماتها تحمل شعورًا من الذهول، بينما كانت تعي لأول مرة أن الأمور قد لا تكون كما تعتقد.
وضع الهاتف أمام عينيها وكأنها تجلس في محكمة تواجه أدلة ضدها، وتحدث بصوت غاضب: 
"ميين ده؟" 
كان صوته يخنق أي محاولة لمغادرة ساحة النقاش. نظرت إلى الشاشة لتجد فيديو لها وهي تقف مع غريب ضرغام، واضح من تعبيرها أنها كانت لحظة عابرة تحولت إلى مأساة، المسافة بينهما كانت منعدمة، وهو ينظر في عينيها ويقوم بتحريك يده على وجنتها بطريقة تُشعل نيران الغيرة في قلب سلطان. حركت رأسها بعدم فهم، وتحدثت بتساءل: 
"جبت الفيديو ده منين؟" 
كانت الكلمات تخرج من فمها وكأنها تتوق إلى الخروج من فوضى هذا اليوم.
رد بغضب شديد، بلهجة صارمة تجعل القلوب ترتعد: 
"أ**، هو ده كل اللي يهمك، جبت الفيديو منين، انطقي بدل ما أكسرك رقبتك دي." 
كان لكل كلمة وقعها، وكأنما يراها تشتت أفكارها بينما تتلاشى أحلامها أمام أعينها. أدركت أن هذا الصباح لن يكون كغيره، بل سيشكل محور تحول كبير في مسار حياتها.
استشاطت غضبًا من طريقة كلامه معها، وضغطت على أسنانها بعناد، وهي تحاول كتم مشاعر الغضب والحزن في آن واحد. اندلعت في روحها نيران التحدي وقوة الشخصية، فقالت بنبرة قوية لم تعتدها في نفسها: 
"وانت مالك! قلتلك دي حياتي وأنا حرة فيها، وملكش حق تتدخل فيها يا سلطان. ميخصكش مين ده ولا كنت بعمل معاه إيه."
ضغط على ذراعها بغضب شديد مما تسبب لها بألم حاد، كأنه يريد أن يفرض سيطرته على جسدها وكيانها. تكلم من بين أسنانه: 
"تررنيم، متخرجنيش عن شعوري وانطقي مين ده وكنتي معاه بتعملي إيه؟"
استقامت بجسدها وتحركت خطوتين بعيداً عن السرير، وعقدت ذراعيها على صدرها، ونظرت له بأعين حزينة ولكن يغلفها التحدي، كأنما تعلن عن استقلالها. ثم أضافت بحنق: 
"وأنا مجيتش سألتك اتعرفت على فريدة إزاي ولا طلبت إيديها من مين، ولا جيت وقلتلك إيه بيحصل ما بينكم وأنتوا لوحدكم. أنا احترمت خصوصياتك، ياريت أنت كمان تحترم رغبتي في أنك متدخلش في حياتي الشخصية. ووقت ما أحس أني محتاجة أقولكم على حاجة، هقولها قدام الكل."
استقام بجسده، وتحرك نحوها بخطوات بطيئة، لكن نظراته كانت توحي بقنبلة وشيكة على الانفجار. كان الصمت بينهما كفيل بخلق توتر شديد في الهواء، تبادلتا فيه نظرات عميقة تعكس عواطف متضاربة. وقف أمامها، أمسكها من شعرها بغضب، وقال: 
"خصوصياتك دي معايا أنا، يا روح أمك، لما تبقي نايمة في حضني. إنما تروحي تقابلي واحد، وتقوليلي خصوصيات والكلام العبيط ده، أنا أقتلك وأدفنك مكانك يا ترنيم. متنسيش انك تربيتي، ومش هقبل بكلمة واحدة تتقال على تربية المعلم سلطان. انطقي مين ده؟"
أغلقت عينيها بألم، وكأنها تحاول أن تهرب من الواقع الموجع الذي تواجهه. تحدثت بصوت مختنق، يحمل في طياته الألم والخيبة: 
"هو ده كل اللي يهمك يا سلطان، الناس متقولش حاجة على تربية المعلم سلطان! لا، متخافش، الناس متقدرش تنطق حرف واحد أصلاً عليا، مش خوف منك، بس أنا أعرف أحافظ على نفسي كويس أوي. مش معنى أن كنت سهلة معاك هكون سهلة مع غيرك. أنت كنت حاله إستثنائية، كنت مستعدة أعمل أي حاجه في سبيل إنك تفضل جنبي، ومتبعدش عني، كنت شايفه كل حاجه بتحصل ما بينا عادي، لأني متعودة على حضنك من وأنا لسه طفله، اللي عشته معاك مستحيل أعيشه مع غيرك يا سلطان، لأن بقيت عبارة عن بواقي لكل حاجة، بواقي مشاعر، بواقي سعادة، بواقي حب، الحاجة الوحيدة اللي متوفرة وبكميات هو الوجع، القهر، والحزن. دول بقى عندي منهم كتير أوي." 
أرخى قبضته عن شعرها، وكأن الألم في لمسة يده قد ذاب بسرعة، ونظر لها بعينيها بتوسل محموم، متحدثًا بصوت مختنق مليء بالخوف من الفقد: 
"أنا بغير عليكي يا ترنيم. مستحيل هقبل بوجود راجل تاني في حياتك. أنا أمحيه من على وش الأرض. انتي بتاعتي أنا، فاهمه." 
أنهى كلامه بتقبيلها بقوة، تحكم بها بذراعيه كما لو كان يعبر عن كل ما لم يقال بالكلمات من قبل، وأرغمها على التمسك به لثوانٍ، قلبها كان يريد الاستسلام لمشاعرها، لكن ذكرياتهما أصبحت عبئاً لا يحتمل. تذكرت زواجه من إمراه أخرى غيرها دفعتة بقوة، وابتعدت عنه، وتحدثت بصراخ، وكأن الكلمات كانت الوسيلة الوحيدة لتحرير نفسها من قيوده: 
"إياك تقرب مني تاني يا سلطان! لا أنت بقيت من حقي ولا أنا بقيت بتاعتك. اطلع بره أوضي يا سلطان، اطلع بره، أرجوك." 
كاد أن يتكلم من بين لهاثه من سيطرة مشاعره عليه، إلا أنها صرخت بغضب أكبر، وكأنها تحاول إبعاد شبح الماضي الذي يهدد بطمس مستقبلها: 
"اطلع بره بقولك!"
تحرك سلطان بغضب شديد إلى الخارج، ووجهه مشحون بالعواطف المتناقضة التي كانت تؤجج صراعاته الداخلية. كان صوته يرتفع داخله، متوعدًا لهذا الشاب الذي ظهر في الفيديو بأن يمحو ذكرى من على وجه هذه الأرض، وكأنه لم يكن يومًا موجود. 
في تلك الأثناء، ارتمت ترنيم على فراشها، قلبها مكسورًا وكأن زجاجًا متناثرًا بوجهها، وظلت تبكي بألم ووجع، تأسرها ذكرياتها القاسية. حركت يدها على شفتيها، كما لو كانت تحاول دفن عطر قبلة سلطان التي لمست بها أملها، لكن تلك اللمسة أصبحت الآن كالنار في قلبها، وهي تتخيل سلطان وهو يقدم بتلك القبلة مع فريدة، مما أشعل نار الغيرة العارمة داخل روحها. 
أخذت تنظر إلى السقف، عينيها مترعتين بالدموع، وظلت تصرخ بقوة، تعبيرًا عن كل مشاعر الخيانة والخذلان التي كانت تعاني منها. كانت جدران الغرفة تهتز من صرخاتها، وكأنها تعبر عن كل الألم الذي لا يمكن أن يُحتمل، وكل تلك الأحلام التي تبددت مثل دخان. شعرت بأن كل شيء من حولها قد ينهار، وكل صوت في المكان يتناغم مع اضطراب قلبها الذي كان ينفجر من شدة الوجع.
         *************************
جلس سلطان على مقعده أمام المقهى بالحارة، كان يجلس هناك وكأن هموم الدنيا قد تجسدت في وجهه، حيث نظرت عينيه إلى الأفق بتوعد، بينما الغضب يسيطر على ملامحه، مما جعل من حوله يشعرون بثقل الأجواء. هتف بأحد رجاله بصوت صاخب، حاملاً في صوته نبرة من الحزم واضحة لكل من سمعه، وعندما أتى الرجل، قال له بأمر حازم: 
“عايزك تعرف كل حاجة عن الشخص اللي في الصورة دي وتكون عندي بالكتير كمان ساعتين فاااهم؟” 
أومأ الرجل رأسه بالطاعة وانطلق سريعاً نحو وجهته، متحملاً مهمة سلطان كما لو كانت محملة بعبء ثقيل من الشكوك والقرارات الصعبة. بعد عدة دقائق، هبطت ترنيم بوجه عابس، واضحاً أن ملامح الحزن قد سلبت منها أي إشراقة، كادت أن تصعد السيارة، ولكن يد سلطان أمسكت بذراعها بغضب، كأنما كانت تلك اليد تعبر عن مشاعر مغمورة من التوتر والقلق، مجبرة إياها على التحرك معه نحو سيارته. واجهته بغضب، قائلة: 
“سيب دراعي يا سلطان، مش هركب معاك العربية.” 
كانت تحاول جاهدة أن تتخلص من جميع القيود التي أحاطت بها، شعوراً بالاختناق بسبب هذه العلاقة المعقدة.
فتح سلطان باب سيارته ودفعها برفق داخلها، ثم أغلق الباب بإحكام، وكأنه يريد حفظ كل تلك المواقف المحمومة في مساحة ضيقة لا تُشعره بفوضى مشاعره. اتجه أمام المقود وتحدث من بين أسنانه، محاولاً احتواء كل تلك العواطف المتزاحمة:
“احمدي ربنا أن خليتك تروحي الشغل أصلاً ومنعتش خروجك.” 
تحدثت ترنيم بصراخ متزايد، تقول: 
“كفايه يا سلطان بقى! كفايه! أنا تعبت شهر بحاله وأنا بتعذب، الأيام كلها شبه بعضها، وأنت عمال توجع فيا أكتر وأكتر. مش مديني فرصة حتى أشم نفسي فيها وأخرج من الحالة دي. ده أنا لو جبل كان اتهد، نفسياً كل يوم في النازل. حياتي بقت عاليها واطيها، بقت كل حاجة ماشية عكس ما أنا عايزة. حرام والله الضرب في الميت حرام.”
كانت تعبر عن ألمها وكأنها تتحدث عن معركة داخلية تحاربها كل يوم، شعور عميق بالعزلة وضعف يعزف على وتر حساس في قلب كل من سمعها.
أدار السيارة وتحرك بها، مردداً: 
“اتأسفت ليكي مليون مره، قلتلك عارف أني غلط. قلتلك الأسباب اللي خلتني أعمل كده. قلتلك أطلق فريدة ونتجوز ونربي أنا وانتي رنيم. رفضي أعمل إيه تاني يا ترنيم، أنا بشر إنسان مش ملاك. مافيش إنسان مبيغلطش، اديني فرصة واحدة أصلح كل حاجة. أنتي بنت قلبي، ومش هقدر أخسرك بأي شكل من الأشكال، لأن أنا ممكن أتقبل الخسارة في أي حاجة إلا خسارتك أنتي."
كانت كلماته تحمل ثقل الاعتذار والحب، وكأنه يحاول أن يصنع من الندم دليلاً على مشاعره، في محاولة يائسة ليعيد بناء الجسور المهدمة بينهما. كان يدرك أن كل لحظة تمر قد تكون فرصة ضائعة، وأن استعادته لتلك اللحظات الجميلة تتطلب منه الإخلاص والإرادة لجعل الأمور أفضل.
أغمضت ترنيم عينيها بشدة، والدموع تتساقط على خديها كالمطر في عاصفة، وعباراتها خرجت بوجع عميق: 
“أنا عايزة أكرهك يا سلطان، عايزة أنساك وأمحيك من حياتي. ممكن تساعدني على كده؟” 
كان صوتها يرتجف وكأن كل كلمة تعبر عن جرح أو انكسار، وكأنها تحاول أن تحمي نفسها من الفاجعة التي ألمت بها.
ابتسم لها بحزن عميق، وتحدث بصوت مختنق كان يحمل كل ثقل مشاعره: 
“طلبك ده معناه موتي يا ترنيم.” 
كأن كلماته كانت سلاحاً يُغمد في صدره، فهو يعرف تماماً أن حبه لها هو ما يجعله على قيد الحياة، وقد تحول هذا الحب إلى عبء ثقيل لا يحتمل. 
ردت بسرعة وبحماسة، وكأنها تشعر بأن حياتها تعتمد على تلك اللحظة: 
“بعد الشر.” كلمة واحدة تحمل رغبة عميقة في المحافظة على وجوده في حياتها، حتى لو كانت تلك الرغبة تعني الألم. 
نظر لها بمحبة، عينيه تنطقان بلغة لا يفهمها سواهما، وسأل بنبرة هادئة حنونة: 
“لسه بتخافي عليا يا ترنيم؟” 
كانت كلماته كعناق، وَمنذ أن بدأت العلاقة بينهما، كان دائماً هو من يحميها، سواء من العالم الخارجي أو من نفسها، مثل طائر يحلق فوق سماء مليئة بالعواصف.
ضغطت على أسنانها، تلعن ضعفها وسرعتها في الرد، وأجابت بصدق: 
“قبل كل حاجة، أنت اللي مربيني وكبرتني لحد ما دخلت الجامعة وبقيت دكتورة يا سلطان، وفضلك عليا مقدرش أنكر ده.” 
في داخلها، كانت تتصارع مع مشاعر الشكر والحب والحنين، وكلما حاولت أن تنسى، كانت الذكريات تأخذها مرة أخرى إلى تلك اللحظات الجميلة التي قضوها سوياً.
وهو ينظر إلى الطريق، أمسك يدها بلطف، مقبلاً إياها، وتحدث بنبرة عاشقة تحمل كل معاني الحب: 
“وانتي بنت قلبي وعمري كله، والدنيا دي كلها متسواش حاجة من غيرك، بحبك يا ترنيم.” 
كانت كلماته بمثابة وعد، وكما لو كان يحاول أن يعود بها إلى اللحظات السعيدة، إلى الوقت الذي لم يكن فيه الألم يجثم على صدريهما.
أبعدت يدها بضيق، ونظرت من خلف زجاج النافذة، وظلت صامتة، فالألم في قلبها كان أعمق من كل الكلمات. كانت تحاول أن تجد مخرجاً من هذا النفق المظلم المليء بالخيبات، لكنها لم تستطع. 
نظر إليها بابتسامة صغيرة، ثم استأنف النظر إلى الطريق. ولكن فجأة، توقفت سيارة أمام سيارته، مما جعله يستفيق من شروده. ضغط على الفرامل بسرعة، وأوقف السيارة في آخر لحظة قبل الاصطدام، والشعور بالخطر يملأ الأجواء.
فتح سلطان باب السيارة بغضب، وخرج منها بسرعة، وكأن كل شيء حوله قد انقلب فجأة. في نفس الوقت، هبط غريب من سيارته بكل هيبة، وبدت عيني ترنيم متسعة بصدمة وخيبة: 
“غريب ضرغام!” 
كان اسمه يمثل أزمة جديدة، وكأن ظهور غريب كان بمثابة عاصفة أخرى في حياتهم المتوترة.
وقف سلطان أمام غريب، عينيه تتطاير شراراً، وأخبره بصوت منخفض لكنه مليء بالتحدي: 
“هو أنت، كويس إنك جيت بنفسك علشان كنت ناوي أوصلك.” 
كانت كلمات سلطان تدل على التوتر والرغبة في حماية ما تبقى من علاقته بترنيم، فهنا، كان في معركة لم يكن مستعدًا لخوضها بعد.
نظر له غريب بنفس تلك النظرة وبنفس النبرة، متحدثاً بجدية: 
“لا، ما أنا قاصد أوصلك يا معلم سلطان، عندي كلام مهم ليك.” 
كانت تلك الجملة بمثابة جرس إنذار، وكأن العالم قد استعد ليشهد حدثاً تقلب فيه الموازين، وتكشف فيه الأسرار المدفونة التي قد تغير كل شيء.
أنهى كلامه وهو ينظر إلى ترنيم التي تجلس على مقعدها مصدومة من تلك المواجهة، فقد كان وقع الكلمات وكأنها رصاصة انطلقت في الهواء. نظرات سلطان قابلة نظرات غريب، وكان يمكن لكل من يراقب أن يدرك أن هناك صراعاً يتشكل بينهما، صراع يحمل على عاتقه شحنات من الغضب والتحدي تكفي لإشعال نار الحرب في أي لحظة. ترجلت ترنيم سريعاً من السيارة، واتجهت نحوهم، وقفت بينهما، عازمة على وضع حد لهذه التوترات المتصاعدة. كانت ترتعش في داخلها، إذ أن قلبها ينفطر من الخوف، ولكنها كانت مصممة على أن تكون الجسر الذي يربط بين هذين العالمين المتعارضين.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1