رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والواحد و الخمسون
لم يكن من المعتاد أن يغادر ظافر قاعة الاجتماعات قبل أن يسدل الستار على كل بند في جدول الأعمال لكن هذه المرة... حدث ما لم يكن في الحسبان.
صمت هائل خيم على القاعة كأن أحدهم ضغط على زر لإيقاف الزمن فبهتت العقول وانحبست الأنفاس.
تحت ضغط الحيرة تبعه ماهر بخطوات ثقيلة كأن قدميه غرستا في الأرض.
سيد ظافر! ناداه بتردد وكأن اسمه صار طلسما محرما.
لكن ظافر لم يلتفت بل رفع يده إشارة للصمت كأنه يأمر الأشباح بالانزواء... ومن ثم أخرج هاتفه ظل إصبعاه يرتجفان فوق الشاشة أراد أن يتصل بسيرين أن يسمع صوتها أن يتأكد... لكنها كانت لحظة صراع داخلي كأن كرامته انقلبت عليه... يتمتم بهمس لا يسمع
وإن فعلت هل تظنها ستراها اهتماما أم ستفسرها ضعفا
شد على فكه يضغط زر القفل بحدة
انس الأمر قالها لنفسه بصوت خافت وكأنها طعنة في كبريائه.
طوال اليوم كان القلق يتآكله كحشرة تنهش ورقة قلب خريفية. وها قد حل الليل أخيرا لكن شيئا في داخله لم يهدأ.
لم يتناول عشاؤه لم يجالس أحدا بل أمر سائقه بأن يعيده إلى المنزل.
دخل إلى قصره وساد الظلام كما لو أنه شريك في الألم... لم يشعل الأضواء بل جلس على الأريكة كتمثال من توجس يحدق في اللا شيء بينما هاتفه بين يديه يضيء ثم يخفت... كقلب ينتظر خيانة.... ظل الوقت يمر كسلحفاة مصابة وكل دقيقة تنجلي تصرخ في رأسه.
وفجأة... انبثق نور شاحب من شاشة الهاتف كومضة برق اخترقت عتمة قلبه لا الغرفة.
ارتجفت أصابعه تلقائيا وهو يرفع الجهاز ببطء كأنما يعلم أن ما سيقرأه ليس مجرد كلمات... بل صفعة قدر.
سيدي... السيدة تهامي قد غادرت منزل صديقتها... نعتقد أنها في طريقها إلى المطار.
في تلك اللحظة تجمدت الدماء في عروقه ثم انطلقت تزأر داخل أوردته كقطيع ثيران هائج.
انقبضت حدقتاه على اتساعهما كأن الكون قد ضاق فجأة ليتحول إلى نقطة سوداء واحدة... اسمها سيرين.
وقف كمن صفع بحقيقة لا تحتمل بلكمة خفية في صدره العاري من التوقع... لم يحتج ليفكر... لم يحتج حتى ليتنفس.... كان الخوف أسرع من العقل والحب أسبق من الكرامة.
انطلق نحو الباب وكأن النار التهمت جسده... لم يأخذ معطفا لم يغلق الأنوار..
. فقط قبض على المفاتيح وركض... كأنه يهرب من شبح يعرف اسمه جيدا.
ركب سيارته وانطلقت العجلات على الإسفلت كرصاصة انفلتت من زناد مشحون بالرغبة واليأس.
ضغط على دواسة الوقود بعنف وكأنه يحاول أن يسبق الزمن أن يلحق بها قبل أن تذوب في المدى قبل أن تغلق خلفها بابا لن يفتح ثانية.
فكرة أن تختفي سيرين مجددا... لأربع سنوات أخرى خمس
كانت تلك الفكرة كخنجر عالق في حنجرته منذ سنين الآن فقط أدرك كم كان غصته حقيقية.... كابوس قديم استيقظ فجأة خرج من تابوت حفره بيده ثم أنكره كابوس يشبه الموت لكنه أبطأ... أبطأ كثيرا.
لم تكن سيرين امرأة تمر كغيرها... كانت وطنا وكان فقدها نفيا أبديا... كانت جرحا مفتوحا على شكل أنثى... وكانت الليلة بداية نزيفه من جديد.
رفع الهاتف واتصل بكبير الخدم
تفقد قصر الغابة فورا! افحص إن كان الطفل ما زال هناك! صرخ بصوته المجلجل كقنبلة انشطارية فجرت الأوامر.
في تلك اللحظة كان الخادم الآخر نائما في القصر المعزول يحلم بأشياء عادية قبل أن يجبره صوت الهاتف على النهوض مثل جندي نسي أنه على
الجبهة.
ركض الخادم نحو غرفة نوح وفتح الباب بهدوء كمن يقترب من معجزة فوجد نوح نائما مطمئنا كأنه داخل رحم سماوي لا يعرف شيئا عما يحدث خارجه.
الطفل ما زال هناك يا سيدي قالها كبير الخدم.
تنفس ظافر الصعداء... لم يكن يعلم أن قلبه كان يطفو في حلقه حتى عاد إلى صدره الآن... فما دام نوح هناك... فلن تغادر سيرين... لا يمكنها ذلك.... كما أن قصر الغابة محاط بطوق أمني يشبه شبكة عنكبوت كل من يحاول الخروج يؤكل.
فقال بلهجة قاطعة كالسيف
أبقوا أعينكم مفتوحة... الليلة لا مجال للأخطاء.
أجابه كبير الخدم على الفور
أمر مفهوم سيدي.
ثم بدأ كل من بالقصر المعزول بتفعيل نظام الأمان زرا بعد زر كأنهم على وشك خوض معركة لا تعرف ملامح العدو لكن رائحته كانت تملأ الجو.
وصل ظافر إلى المكان المحدد تتسارع أنفاسه كطبول حرب على وشك الاشتعال... أوقف سيارته على جانب الطريق ثم حدق من خلف الزجاج المظلل يبحث عنها كما يبحث الغريق عن آخر فقاعة نجاة في قاع البحر.
هناك في الطرف الآخر من الواجهة الزجاجية للمطار
لمحها.
سيرين...
كأن الزمن توقف ليمنحه
فرصة تأملها... كانت تنزل من سيارة أجرة بخطى ثابتة ترتدي وشاحا خفيفا يرفرف خلفها كجناح فراشة متمردة... دخلت المطار وكأنها تعرف طريقها إلى المجهول.
في الداخل فتحت حقيبتها الصغيرة تأملت شاشة هاتفها لتفقد الوقت... بقي أكثر من عشر دقائق على موعد هبوط طائرة كارم.
قبل وقت سابق كانت قد خرجت من القصر كمن يهرب من قفص مطلي بالذهب وحرصت على أن تتفقد المرايا الخلفية الزوايا المظلمة انعكاسات الزجاج... لتتأكد أن لا ظل يزحف خلفها... حينها ظنت أن عيون ظافر قد أغلقت للراحة أو ربما نامت خلف الشاشات... لكن ما لم تكن تعرفه... أن ظافر نفسه كان هناك.
وهو الآن يقف في الطابق العلوي مسندا يديه على حاجز زجاجي بارد يراقبها من عل كملك خلع عن عرشه ويرى مملكته تمنح لآخر.
لماذا أنت هنا يا سيرين
دقات الساعة تقترب من الحادية عشرة... رأى وجهها يتجه نحو بوابة الوصول عيناها تتلألآن كأنهما تتوقعان شيئا ثمينا... أو شخصا أثمن.
وبالفعل... ما هي إلا دقائق حتى تدفقت جموع المسافرين خارج البوابة.
كان وسطهم رجل... طويل القامة يحمل في
مشيته ثقة من اعتاد أن تفتح له الأبواب دون أن يطرقها... وجهه وسيم ملامحه ممزوجة بين الرقي والخطر عينيه تلمعان تحت ضوء المطار الباهت ويرتدي حلة أنيقة كأنها صممت خصيصا للهيبة التي تحيطه.
لوحت له سيرين...
وابتسمت.
تلك الابتسامة التي نسي ظافر كيف يبدو ظلها على وجهها لكنها الآن تشرق لرجل آخر.
أسرع كارم نحوها صوته يشي بحنان رجولي لا يعرفه ظافر إلا من الكتب
لماذا أتيت وحدك أين رامي
هزت كتفيها برقة وقالت
كان يرافقني منذ الصباح... فسمحت له بالذهاب إلى الفندق ليستريح قليلا... لم أشأ أن ينام في السيارة مرة أخرى.
عقد كارم حاجبيه باهتمام
سأخصص لك طاقم حماية جديد أكثر تنظيما
قاطعته بنبرة متعبة
لا حاجة إلى ذلك الأمر بات خانقا.
وأشارت برأسها إلى صف الحرس الذين وقفوا خلفه كتماثيل صامتة ففتحت عينيه على ما لم يكن يراه.
أومأ كارم بحنان
لا بأس... أنا عدت الآن لن أتركك وحدك مجددا.
ابتسمت سيرين ابتسامة ناعمة تكاد تسمع موسيقاها ثم قالت
هيا بنا... كوثر
وزاك بانتظارك... لن تصدق كم أصرا على السهر لرؤيتك.
ضحكت وهي تسير بجانبه... ضحكة عفوية لم يرها ظافر منذ زمن بعيد وكأن شيئا ما في قلبه تمزق بصمت كأن وترا قديما انقطع فجأة في منتصف عزف عاطفي حزين.
كان يتوارى خلف الزجاج يتقلص بداخله ألف سؤال.
أكانت تلك هي خطتها منذ البداية
هل رفضت العودة إلى القصر هذه الليلة لأنها ستلقاه
لم يكن بحاجة إلى إجابات كانت كل حركة منها كل التفاتة كل نبض في عينيها وهي تحدث كارم... تقول كل شيء.
وفي داخله كان ظافر يتهاوى لا كالرجل بل كالحب الذي لم يرو كالعاشق الذي وصل متأخرا على قطار لا ينتظر أحدا.
وقف ظافر خلف الزجاج يراها تسلم قلبها لرجل آخر كما يسلم مفتاح المنزل بعد بيعه.. ارتجف الهواء حوله كأن الجدران ضاقت عليه فجأة كأن المطار كله صار تابوتا من ز جاج.
لم يكن يراها فقط... كان يرى خيانته هو لا خيانتها.
خيانته لنفسه.
لرجولته.
ينهر حاله دون صوت
أنت جبان ظافر.. لقد تركتها تهرب من تحت جلدي
شعر بجلده يغلي بدمه يتخثر ثم يغلي مجددا وكأن النيران تصعد من قدميه
وتشعل صدره.
همس بصوت لم يسمعه سواه
كارم... إذن كان هو طوال الوقت.
نظر إلى الأسفل مجددا رأى كارم يربت على ظهرها بلطف كمن يواسي قلبا من الزجاج خشي عليه من الكسر لكنه يعرف كل زاوية هشة فيه.
ضغط ظافر على الحاجز الزجاجي كأنه أراد اختراقه بقبضته أراد أن يكسر المسافة... أو الزمن.
تقهقر خطوة إلى الوراء... ثم أخرى.
نظر إلى يده.
يده التي لم تمسك بها كما ينبغي... التي لم تكتب لها رسالة ولم تحتضن خوفها حين خافت ولم تصفع غروره حين وجب أن يصفعه.
ثم عض على شفته حتى نزف طعم الندم.
لن تأخذها بهذه السهولة سيرين أنا...
صوته كان خافتا متقطعا لكنه حمل بداخله زئير وحش أيقظ من سباته... يجز على أنيابه بغيظ متمتما
لن أتركك له حتى لو احترق هذا العالم من حولي.
كان كمن يقطع عهدا مع الشيطان لا مع نفسه... وفي عينيه اشتعل شيء لم يعرفه من قبل.
شيء لا يشبه الحب.
بل شيء أبعد... وأخطر.
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية
بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة.