رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثانى و الخمسون
بعد نصف ساعة من صمت مفعم بالترقب توقفت السيارة أمام الفيلا التي احتضنتهما هذا المساء كالأم الحنون.
ترجل كارم وسيرين من السيارة يتقدمان بخطى متمهلة نحو الباب وكأن قدميهما تخشيان أن تفسدا اللحظة الآتية وكلا منهما هائم بأفكاره... لكن قبل أن تلامس يد سيرين المقبض تسللت إلى أذنيها أصوات خافتة تشبه همسات مؤامرة عذبة.
تمهل! علينا مفاجأة والدتك... ضع الكعكة هناك... نعم هكذا!
ارتسم على وجه سيرين ابتسامة غير مقصودة كأنها ولدت من رحم الطمأنينة تفتح شرفات الذاكرة لتتدفق الذكريات دفئا... زاك وكوثر... هذان المشاغبان اللذان ادعيا الإرهاق من مجرد الذهاب للمطار كانا يعدان لها مفاجأة عيد ميلاد سرية... كم كانت قلوبهم صاخبة بالحب رغم هدوئهم الظاهري.
قال كارم بنبرة خافتة كأنها تعليق داخلي
يبدو أنهم يستعدون لخيبة أمل صغيرة.
رمقته سيرين بعينيها المتوهجتين ببريق الطفولة وقالت
هل ننتظر قليلا لا أريد أن نفسد المسرحية.
تبادل معها النظرات تلك النظرات التي تسبق دائما قرارا بلا كلمات... ثم همس كمن يخشى أن يفسد النسيم الساكن
بالطبع سيرين.
وقفا هناك على عتبة المساء يستمعان إلى وشوشة الهواء كأن الزمن نفسه توقف ليراقب صمتهما... تنفست سيرين نسمة الليل ثم سألت وهي تتأمل الأفق
كيف حال فاطمة مؤخرا
أجابها كارم بصوت ناعم مبلل بالذكريات فيه من الأنانية في العشق
ما يكفي
هي بخير... لكنها لا تكف عن إلحاحها لعودتك أنت والأولاد... تريد أن تعيد دفء البيت.
تنهدت سيرين والقلق يتسلل إلى عينيها ثم قالت
وأنا أشتاق أيضا... لكن نوح... علينا أن نجد علاجا له أولا لا يمكنني العودة دون أمل.
هز كارم رأسه بإيماءة صادقة كأنه يضع كل ثقته في كلماتها ثم قال
سنعثر على حل لا تقلقي... النهاية قريبة ولكنها ستكون بداية أيضا.
تبادلا صمتا آخر كان أثقل من أي حديث.
وبينما هم كارم بإخراج شيء من معطفه شيء بدا أنه يخبئه كسر ربما رسالة أو هدية أو ذاكرة لم تكتمل قاطعه صوت الباب يفتح على عجل وصرخة زكريا ترقص في الهواء
كوثر! كيف أسقطت الكعكة!
أجابته وهي تتلعثم بحنق
لقد مسحت الأرض! صارت زلقة... لم أقصد! علينا أن نشتري كعكة أخرى فورا!
وعندما خرجا تجمدت خطواتهما فجأة... عينا زاك تلمعان وقلب كوثر يهتز كما لو ارتطم بصدمة غير متوقعة.
أمام الباب... وقف كارم وسيرين كما يقف مشهد مسرحي على حافة التصفيق.
قال زكريا باندهاش طفولي
السيد كارم!
ابتسم كارم وربت على رأسه وكأنه يطمئنه أن كل شيء لا يزال بخير يقول ببشاشة وود
مرحبا أيها البطل.
بينما عقد لسان كوثر للحظة ومن ثم تمالكت نفسها وأخفضت عينيها قليلا قبل أن تهمس
أهلا بك سيد كارم... شكرا لك على رعايتك لسيرين طوال هذه الفترة.
أجابها كارم بلطف لا يخلو من الحزم
هذا واجبي فهي صديقتي...
بل أكثر من ذلك.
شعرت كوثر بارتباك خفيف فأشاحت بوجهها وقالت
تفضل بالدخول... تفضلوا جميعا. ثم جذبت سيرين من يدها وهمست
آسفة... كنا...
قاطعتها سيرين بابتسامة حنونة
سمعت كل شيء عن الكعكة لا بأس الليل طويل والحياة أكبر من قطعة حلوى.
قالت كوثر وهي تحاول إخفاء خيبتها الطفولية
أردنا فقط أن نرسم ابتسامة على وجهك...
ردت سيرين برقة
وقد فعلتم... حتى قبل أن نأكل شيئا.
وبينما جلس كارم في غرفة الجلوس أرسلت كوثر نظرة خفية نحو زكريا. وفهم ذلك الفطن الإشارة على الفور وإن بالغ قليلا في تمثيل التثاؤب
أنا أشعر بالنعاس جدا...
قالت كوثر بمرح مصطنع ثم التفتت إلى كارم وسيرين مضيفة
لقد جهزنا لكما غرفة... تفضلا... تحدثا كما تشاءان... سأرافق زاك.
قال كارم
شكرا جزيلا.
ردت كوثر وهي تبتسم في محاولة منها لإخفاء ارتباكها العاطفي
لا شكر على واجب...
وغادرت كوثر وهي تمسك بيد زاك... تاركة خلفها غرفة بدأت تتثاءب بالاحتمالات.
بعد أن غطى زكريا في نوم هادئ كطفل أتعبه البكاء حتى خمد ومن ثم انسحبت كوثر من الغرفة بخطى حذرة بعدها استدارت نحو سيرين
رتبت لكما غرفة كبيرة.
رمشت سيرين بعينين متفاجئتين وتجمدت الكلمات على لسانها كأن الزمن توقف للحظة عند حدود تلك الجملة متمتمة بدهشة
لنا!
هزت كوثر رأسها في رضا مريب وقالت وقد علت عينيها لمعة لا تخفى
نعم
توقفي نحن..
. نحن مجرد أصدقاء! قالتها سيرين بتوتر كمن يحاول أن يطفئ نيران الاشتباه بيد مرتجفة.
ضحكت كوثر بخفة ثم رفعت كفها كمن يعلن الانسحاب من ساحة المعركة
فهمت فهمت... لن أجادلك... سأذهب إلى فراشي... تصبحين على خير.
واختفت كظل ناعم في العتمة تاركة خلفها الهواء مثقلا بالتلميحات.
أما سيرين فبقيت واقفة في مكانها بين دهشة لا تعرف لها سببا ويقين لا تجرؤ على مواجهته.
شعرت بالعجز... بالعجز الكامل كما لو أن اللحظة خذلتها والمكان ضاق بها.. فعلى ما يبدو أنها ستضطر للنوم على الأريكة الليلة فتنهدت باستسلام قائلة
كارم... لقد كنت على متن الطائرة طوال اليوم... ولا شك أنك مرهق... دعني أريك غرفتك.
ثم نظر إلى عينيها نظرة تحمل في جوفها تاريخا لم يكتب بعد وقال هامسا بصوت عميق هادئ
ألم نتفق على أن أقضي عيد ميلادك معك
على ما يرام.
كانت الدقائق تمر ببطء كأنها تتعمد السخرية من القلوب المترقبة ظل كارم يراقب الوقت بعين لا تغفل يتأمل كل ثانية كأنها قطعة من فسيفساء لحظة كان ينتظرها وداخل قلبه كان ينبض قرار كبير... قرار بالبوح... لكن وقبل أن يفتح فمه وقبل أن يتحول الصمت إلى اعتراف انقطع سحر اللحظة بنغمة هاتف عاجلة... هاتف سيرين.
أسرعت بإخراجه من جيبها وإذا بعينيها تتجمدان للحظة ثم تنكسران بخجل غير مبرر... وهمست بصوت واهن
يجب أن أجيب على هذه المكالمة...
ثم تنهدت
وقد التقطت الهاتف بتردد وعيناها تحدقان في الاسم الظاهر على الشاشة...
ظافر.