رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثالث و الخمسون 153 بقلم اسماء حميدة


 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والثالث و الخمسون


انفجرت نغمة الهاتف في صمت اللحظة كرصاصة تشق صدر السكون وتربك ملامح الحلم قبل اكتماله.
وضعت سيرين الهاتف على أذنها وما إن فعلت حتى جاءها صوته...
ذاك الصوت الآمر كأنه صادر عن طقس بارد في قلب شتاء لا يرحم 
اخرجي... خلال الدقيقة القادمة. 
نزلت الكلمات كصفعة ارتجف لها قلبها وتعلقت أنفاسها في سقف الحلق ورددت بشفاه مرتعشة 
أ... أخرج! 
قبضت على الهاتف كما يمسك الغريق بخشبة زلقة وسارعت إلى النافذة بعينين تتوسلان الحقيقة وسط العتمة.
نظرت والليل من حولها بدا ككائن متربص... همست كأنها تكلم الفراغ 
هل... هل أنت هنا 
هذه المرة جاء صوته من الطرف الآخر أقل صخبا لكن أكثر غموضا كفحيح أفعى تعرف مكمن الخوف في القلب 
ماذا تظنين 
ثم انقطعت المكالمة... بلا تحذير بلا وداع.
تجمدت سيرين في مكانها تحدق في شاشة الهاتف التي انسدلت عليها ستارة الصمت وكأنها تحاول قراءة سطر محذوف من القدر.
لحظات من الجمود مضت وهي متصلبة بأرضها ومن ثم التفتت نحو كارم الذي فاضت ملامحه ضيق وغيرة ولكن حالها كان مختلف عنه تماما فالتردد أخذ يغزل خيوطه حول وجهها ثم تمتمت باعتذار مختنق 
أنا آسفة...

يبدو أن هناك أمرا عاجلا... يجب أن أعود. 
كارم الذي ظل يراقبها طوال المكالمة بعين حائرة أراد أن يسأل عما قاله ذاك الظافر وجعلها على هذا النحو... أراد أن يعرف أن يفك شفرة هذا القلق الطارئ لكنه حين رأى وجهها وقد اكتسى بلون الغيم آثر الصمت.
أومأ كارم برأسه وفي عينيه تفهم مؤلم 
حسنا... انتبهي لنفسك. 
التقطت حقيبتها على عجل وغادرت كما تغادر نغمة موسيقى وتر آلة بيد احترافية تاركة خلفها أثرا خفيفا من عطر لا ينسى.
تسمر كارم لوهلة ثم تحرك بخطوات بطيئة محبطة نحو الشرفة كأنه يتتبع صدى رحيلها على الأرصفة... أسند يديه على الحاجز وعيناه تنغرسا في الأفق تبحثا عنها عن ظلها عن إجابة ضاعت بين همس الريح... بدا وجهه الوسيم مشوشا... مزيجا من دهشة غير مفهومة وقلق لم يولد وجرح خفي لا يعرف مصدره.
كان الليل قد أسدل عباءته السوداء الثقيلة على المدينة حين توقفت سيارة كاديلاك سوداء اللون عند بوابة الفيلا بلون باهت كأنها شبح أرسل من العدم ولا يريد أن يندثر... لم تصدر السيارة أي صوت صامتة كالجريمة الكاملة تخفي خلف زجاجها أسرارا أكبر من أن تروى.
اقتربت سيرين ببطء... كل خطوة كانت تثقل صدرها أكثر كأن الهواء من حولها
صار أثقل من اللازم أو أن الزمن أوشك على الانكسار خارقا كل الثوابت.
انخفض زجاج النافذة الجانبية ببطء مربك كما لو أن شيئا شريرا على وشك أن يولد من الداخل.
كان هو.... ظافر... جالسا خلف المقود ملامحه جامدة كصخرة تحجرت منذ قرون والبرودة التي تفوح منه كفيلة بأن تجمد دما في العروق... عيناه لم تومضا فقط كانتا تحدقان بها كأنهما تحاصرانها داخل زنزانة من الأسئلة.
انقطع الصمت حالما قال ظافر بصوت منخفض لكنه نافذ كالسهم 
اصعدي. 
لم يكن أمرا... كان حكما.
وقفت للحظة تتأمل وجهه تتساءل بصمت كيف وصل إلى هنا إلى هذا المكان المعزول المحصن الذي لا تقتحمه سوى الأرواح المدعوة... ومع ذلك لم تسأل... فهي تعلم أنه إذا أراد الوصول فإن الأبواب تفتح من تلقاء نفسها.
فتحت الباب وجلست بجانبه وكل خلية في جسدها تهتف احذري. 
دار المحرك وانطلقت السيارة تشق الطريق بسرعة صامتة تشبه عداد الوقت في قنبلة موقوتة... كانت تغادر الحي الذي تقطنه كوثر... وفي المرآة الجانبية رأت الحشد... رجال الحراسة خاصته يقفون أمام البوابة بوجوه كأنها قوالب رخام لا حياة فيها... فارتعشت روحها خوفا مما هو آت فقد امتلأ الهواء بصوت لا يسمع لكنه يشبه
الخطر وهو يقترب.
يبدو أنك استمتعت كثيرا اليوم... 
قالها ظافر فجأة ببرود يقطع الصدر كزجاج مهشم.
نظرت إليه تفاجئا بنبرة صوته لكنها ردت بصوت خافت كأنها تقيس وزن الحروف قبل أن تنطقها 
لا بأس... كان يوما عاديا. 
رمقها بنظرة جانبية ثم ضغط على دواسة الوقود حتى اهتزت السيارة وكأنها تصرخ تحت قدميه.
وماذا عن كذبك علي أكان ممتعا أيضا 
كانت الكلمات كصفعة على خدها حارقة... لكن عينيها ظلتا ثابتتين تحدقان في الطريق أمامها تحاول أن تبقى هادئة وسط الإعصار.
كذبت! في ماذا كذبت عليك 
سألت بصوت محايد ظاهريا لكنه كان يرتجف داخليا.
في هذه اللحظة داخل تلك السيارة الغارقة في العتمة لم يكن هناك سوى وجهه... ووهج عينيه.... عيناه كانتا محمرتين... ليس من البكاء بل من الجنون.
دينا كانت على حق... أنت كاذبة. 
تفجرت كلماته كصاعقة تمزق سماءها... فاتسعت عيناها ذهولا وجمدت الدهشة ملامحها وأخذ الوجع يسيل في نظراتها دون إذن.
ماذا قلت! 
قالتها كمن سمع لتوه أن السماء سقطت على الأرض.
سمرت سيرين في مقعدها وكأن كلمات ظافر تلك الجملة الأخيرة تحديدا قد تحولت إلى سهم مسموم اخترق صدرها واستقر بين ضلوعها يرفض أن
ينسحب أو يكمل طريقه... لم تستوعب العبارة... أو
 

ربما استوعبتها أكثر مما ينبغي.
دينا كانت على حق... أنت كاذبة... بل الكذب يجري بأوردتك مجرى الدم 
صدى الاسم ارتطم بجدران رأسها وأحدث داخلها دويا أشبه بانفجار صامت... شعرت وكأن أنفاسها تتكسر على أطراف ضلوعها وأن قلبها قد سقط في هاوية لا قرار لها.
رفعت عينيها إليه وقد غمرهما الدمع ليس ضعفا بل غصة... خليط من القهر والتساؤل والخذلان... رمشت بقوة علها تطرد الوجع علها تستفيق من كابوس لم تدخله بإرادتها.
كاذبة! 
قالتها بصوت أشبه بتنفس يائس لا سؤالا.
نظر إليها ظافر وما زال الغضب يضرم عينيه كشعلة وقود لا تنطفئ. بدا وجهه منحوتا من حجر غاضب... عضلات فكه مشدودة يده لا تزال تقبض على ذراعها والهواء داخل السيارة صار خانقا كأن النوافذ سدت بالرعب.
كذبت علي وأخفيت عني... كنت تظنين أني أحمق أني لن أكتشف 
كلماته كانت طلقات لا تخطئ كل واحدة منها تغوص في جسدها العاطفي وتترك نزفا لا يرى لكنه يحس.
سحب يده فجأة كما لو أن ملامستها قد لوثت جلده ثم استدار بعنف ووجهه نحو الزجاج الأمامي يضغط على عجلة القيادة بقوة حتى برزت عروق يديه.
أما هي فكانت لا تزال تحدق فيه والدموع
تقف في مقلتيها كظاهرة احتجاج صامتة.
الضوء الخافت من لوحة القيادة انعكس على وجهه وكشف ما حاول أن يخفيه...
كان مجروحا... جرحه لم يكن غضبا فقط بل خيانة... لم تكن كلماته نابعة من اتهام بل من وجع رجل كان يظن أنه يعرف ثم اكتشف أنه لا يعرف شيئا.
سرت قشعريرة باردة في جسد سيرين تسللت من عنقها حتى قدميها كأن الشك اخترقها هي الأخرى.
ابتلعت غصتها ورفعت صوتها الذي خرج ممزوجا بالانكسار والتمرد 
أخبرني... ماذا تعرف وماذا قالت لك دينا 
كان سؤالها كخيط رفيع تمسك به قبل أن تسقط إلى قاع الظنون.
لم يلتفت إليها... فقط ظل يحدق في طريق لا يراه وكأن ذاكرته تتحكم بالسيارة بدلا عنه... الهواء يزداد برودة وكأن السيارة تحولت إلى ثلاجة من الندم.
أجاب أخيرا بصوت أجش كمن نبش جرحه للتو 
قالت لي ما لم تقوليه... أخبرتني بما أخفيته... هل تعرفين أكثر ما يقتل أن تثق بمن يغرس الخنجر بابتسامة. 
ارتجت أنفاس سيرين وكأن صدرها قد تهشم فجأة وتكاثر الصمت بينهما ككائن ثقيل يجلس بين المقعدين.
رفعت يدها ببطء ومسحت دمعة سقطت دون إذن ثم همست كأنها تكلم نفسها 
لم أكذب... لكنك
لم تسأل. 
كان صوته أقرب إلى حافة الجحيم... خرجت كلماته كأنها تسحب من بئر مظلم عميق تفوح منه رائحة الحريق وهو يقول بصوت مختنق 
لقد رأيتك... رأيتك اليوم بعيني هاتين وهما لا تخطئان. 
همسها في أذنها لم يكن همسا ناعما بل كاللهيب يدس في جوف الروح وهي تشعر بأنفاسه الثقيلة تلفح عنقها وأن فكيه يكادان يتحطمان من شدة ما يضغط بأسنانه 
ثم صمت لحظة كأن الغضب داخله يحتاج لزفير عميق كي لا يحرقه ثم تابع بصوت متهدج بالغيظ لكنه لم يكمل. فق
أمسكتك بالكذب مجددا أليس كذلك لا تستطيعين السيطرة على نفسك... دائما ما تفضحين نفسك بكذب هش لا يصمد أمام عيني. 
كانت أصواته كالسياط لا تضرب جسدها بل كرامتها وكل حرف كان يشطر قلبها نصفين.
لم تعد تسمع سوى طنين مكتوم كأن الدنيا تضيق وتتلاشى من حولها والدموع بدأت تنسدل على خديها كقطرات حبر تسكب على ورق نقي... ومن ثم قالت بشفاه مرتجفة وصوت بالكاد خرج من حنجرتها 
ظافر... أنت... تبالغ. 
كأن كلماتها تلك كانت جازا فوق النار فما إن سمعها حتى انعقدت ملامحه أكثر وزاغ بصره في هيجان لم تره فيه من قبل... رفع يده
وصفعها على خدها بقهر لم يكن مجرد حركة جسدية... بل إعلان حرب.
تجمد الهواء من حولها وبرودة وجهها جعلت ارتجافها يزداد كأن الضربة لم تكن على وجهها بل على قلبها مباشرة.
ثم تمتم هو بنبرة مهددة 
إذا كنت تظنين أن هذه مبالغة... فانتظري لأن ما سيأتي سيجعلك تتوسلين أن أكتفي بهذا. 
وفي حركة فجائية جذبها من مقدمة قميصها بشراسة فانفكت أزراره وتطايرت كأنها حبات خوف تناثرت في الهواء.
ارتدت سيرين إلى الخلف بحدس الدفاع الأخير وصرخت وقد استجمعت بقايا كبريائها ويداها تائهتان تبحث عما يستر ما ظهر منها 
يا لك من حقير! 
لكن ظافر لم يسمع... أو ربما سمع لكنه استلذ بالإهانة كما يستلذ المريض بوجعه حين يصبح الإدمان هو الدواء الوحيد.
كانت السيارة سجنا زجاجيا بلا نوافذ والليل خارجه يراقب بصمت جاف كأن السماء رفضت أن تشهد هذا الانكسار.
ألصقت سيرين وجهها بالنافذة كأنها تبحث عن مهرب عن ضوء عن دليل على أن
العالم ما زال فيه إنصاف.
اقترب منها وعيناه كالشرر وصوته خافت لكنه مرعب يحمل غيرة مشبعة بالمرض 
أليس هذا ما كنت تريدينه دائما! حسنا... الليلة... سأعطيك كل ما
ترغبين به وبالطريقة التي لن تنسينها أبدا.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1